الحضرة الغيوانية دراسة في الموروث الغنائي ل "ناس الغيوان" المقالة رقم 1: "ناس الغيوان وسؤال الهوية" سؤال الهوية من أصعب الأسئلة الوجودية، التي قد يطرحها إنسان على نفسه في فترة من فترات حياته الفكرية، إن أمهله همه اليومي الطاغي، وإن أسعفته الأيام المتلاحقة السريعة، بما تحمله من شحنات عاطفية ووجدانية، وإن كان الإنسان العادي في نظري لا يطرح مثل هذه الأسئلة، لما تحمله من معاناة وألم، وأستحضر هنا كلام الراحل العربي باطما Laarbi batma (1948/1997) الذي يقول: " أتمنى لو كنت خضَّارا أو جزَّارا ولم أكن فنَّانا، لأنَّ الفنان يعاني، ويحترق كشمعة لتضيء لغيرها... " في هذه المحاولة سوف نطرح هذا السؤال الوجودي الشاق، ونعاني على الطريقة الغيوانية "وَاشْ حْنَا هُمَا حْنَا يَا قَلْبِي وْلا محُاَلْ ؟ " يظهر للوهلة الأولى أن هذا السؤال من السهولة بمكان، بحكم الألفة بالحياة اليومية، لكن "ما هو مألوف ليس بالضرورة معروف" على حد تعبير الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل Frédéric Hegel (1770/1831) ، لقد جرت العادة في حقل الفلسفة اعتبار الأسئلة السهلة هي الأصعب في المقاربة، بل إن الأسئلة البديهية شكلت الموضوع الأثير والمفضل للفكر الفلسفي، وهو ما سيظهر إذا ما أعدنا صياغة السؤال الغيواني ليصبح: ما الذي يجعل من الذات هي هي؟ الذات هنا تحمل دلالة ضمير النحن ، بعبارة أخرى، ما الشيء الثابت في الذات الذي يشكل جوهرها وهويتها؟ وإذا ما عدنا إلى السؤال الغيواني سوف نجده موجه للقلب ) يا قلبي ( وهو ما يدفع إلى طرح سؤال آخر: لماذا وجِّهَ الحديث بالضرورة إلى القلب وليس إلى العقل؟ هل لأنه محل الهوية أم أن الأمر يتجاوز ذلك؟ للإجابة على هذه الإشكالات المطروحة أعلاه، جاز لنا كخطوة ميتودولوجية، تعريف مفهوم الهوية، حتى تتسنى لنا مقاربة السؤال الغيواني بالشكل المطلوب، فما دلالة هذا المفهوم؟ يشير مفهوم الهوية Identité لغويا: إلى حقيقة الشيء أو الشخص، أي إلى الصفات الجوهرية التي تميز الشخص عن غيره، وتجعله هو نفسه، المطابق لذاته، وما يزيد هذا القول تأكيدا هو اشتقاق الكلمة الفرنسية Identité من اللفظ اللاتيني Identitas التي تعني "هو نفسه Le même". كما نجد هوية الشيء عند الفيلسوف المسلم أبي نصر الفارابي (870/950) Elfarabi، "هي عينيته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له، وقولنا إنه هو إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد له، الذي لا يقع فيه اشتراك ". أما عند الجرجاني فهي : "الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق"، بعد تحديد دلالة مفهوم الهوية، نكون أمام إشكالية حضرت وما تزال حاضرة بقوة في تاريخ الفلسفة، يمكن التعبير عنها بالتساؤل التالي: إذا كانت الهوية هي حقيقة الشخص المشتملة على صفاته الجوهرية، وإذا كان كل شخص يدرك نفسه بوصفه "أنا"، فكيف تتحدد حقيقة هذه الأنا؟ هل بالرجوع إلى المظهر الخارجي للشخص المتمثل في الجسد وتركيبته البيولوجية أو إلى القناع الذي يتبدى به كل شخص لذاته وللآخرين، أو إلى الأدوار التي ينهض بها داخل المجتمع، أم إلى ما يشكل باطن الذات من وعي وذاكرة وإرادة ومسؤولية أخلاقية، أم أن الفهم الحقيقي لهوية الشخص، لا يمكن أن يتأتى لنا إلا بالنظر إليه كوحدة، تساهم في تكوينها عدة أبعاد متضافرة ومتكاملة فيما بينها؟ وأنا أقرأ لأبي العقلانية الحديثة الفيلسوف والرياضي الفرنسي رونيه ديكارت René Descartes (1596/1650) في كتابه " التأملات" صادفت سؤالا مُهِمًّا وأحببتُ أن أدرجه في هذا الباب، مفاده: " أيُّ شيءٍ أنا إذن؟ " يجيبُ ديكارت نفسه قائلا: " أنا شيءٌ مفكر، وما الشيءُ المفكر؟ إنه شيء يشك، ويفهم، ويتصور، ويثبت، وينفي، ويريد، ويتخيل، ويحس، إنه ليس بالأمر اليسير أن تكون هذه كلها من خصائص طبيعتي... " إذا كان هذا القول يدل على شيء فإنه يدل على قدرتنا على معرفة هوية الشخص، وذلك عن طريق التفكير أو العقل ذي الطبيعة الروحية، والذي هو جوهر النفس، في مقابل الامتداد الذي هو جوهر المادة ، فجميع الأفعال التي يقوم بها الإنسان هي أفعال تفكير، يستطيع بصدد كل منها أن يثبت أنه موجود، موجود كشخص وليس كموضوع خارجي، أو ككائن حيواني، وفي هذا يقول ديكارت "أنا موجود ما دُمتُ أفكر، فقد يحصل أنه متى انقطعت عن التفكير تماما انقطعت عن الوجود بتاتا، لا أسلم بشيء ما لم يكن بالضرورة صحيحا، وإذا فأنا على التدقيق إلا شيء يفكر، أي ذهن أو روح أو فكر أو عقل، وهي أشياء كنتُ أجهل معناها من قبل... " من هنا يعتبر الكوجيطو الديكارتي: Je Pense, Donc Je Suis – Cogito Ergo Sum " أنا أفكر إذن أنا موجود" خير المسالك التي يستطيع بها الإنسان معرفة ماهيته التي هي العقل، وهو جوهر متميز عن البدن. إن ما جاء به ديكارت له قيمته الفكرية والتاريخية، التي لا يستهان بها، حيث أنه أكد على أهمية العقل في تشكيل هوية الشخص، بعيدا عن تأثير الجسد وأهوائه والمجتمع وقهره، وإن كانت الذات التي يقصد ديكارت ليست هي الإنسان، وإنما هي شيء آخر مجرَّد وميتافيزيقي، واع، مفكر وراغب ...في حين أن الإنسان ثنائية (جسد وروح) وجمع هذين المكونين معجزة، لأنها خَرْقٌ لقوانين الطبيعة وخَلْقٌ لحالة الاستثناء في نواميسها، ولا يخرق قوانين الطبيعة إلا خالقها، من هنا أمكن التسليم مع ديكارت بوجود خالق قادر ومُنَزَّه عن كل تشبيه، قد أحاط بكل شيء علما. إذا ما حاولنا إسقاط هذا الكلام على واقعنا المعيش، لتأسيس الذات على الفكر، فسيكون الأمر من الصعوبة بمكان، حيث أن العقل عندنا ينام في راحة تامة، فوق سرير البديهيات واليقينيات، وأشدّ ما يخشاه عقلنا العربي هو الهدم وخلخلة البديهيات، حتى أصبح التفكير عندنا همًّا وعناء، يسبب لكل من يمارسه الصداع، ولنا في المثل المغربي القائل: "ما في الهَمّ غِيرْ لِّي كَايْفْهَمْ"ولنا كذلك في البيت الشعري الذي يقول فيه المتنبي: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم خير دليل، على الدعوة الصريحة إلى ترك التفكير وتعطيل الفكر، والغوص في اليومي وتسليم الدفة له، لأن التفكير حسب رجل الصناعة الأمريكي هنري فورد Henry Ford (1863/1947) هو من "أصعب الأعمال، وهذا هو السبب، في أن القليلين هم الذين يختارونه كعمل" ولأن العقل قادر على أن يصنع من الجحيم نعيما ومن النعيم جحيما، وهو الذي يجعلك بتعبير الشاعر الإنجليزي إدموند سبنسر Edmund Spencer (1552/1599) "سليما أو مريضا تعيسا، أو سعيدا غنيا أو فقيرا" . وبحكم اختيارنا لحقل الفلسفة كمرجعية للتحليل، فإن التفكير الفلسفي هنا ضرورة ملحة، ومن أراد أن يفكر فلسفيا، حسب الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل Edmund Husserl (1859/1938) ، "عليه أن يعود إلى ذاته ولو لمرة واحدة في حياته، وان يعمل على قلب جميع المعارف التي تلقاها سابقا، ويعيد بناءها من جديد... " وهو الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل من جديد، "فأهم شيء ألا نتوقف عن طرح الأسئلة" بتعبير الفيزيائي الألماني ذو الجنسية الأمريكية ألبرت إنشتاين Albert Einstein (1897/1955). ما الذي يشكل أساس الهوية الشخصية إذا لم يكن هو العقل والفكر؟ آلا يمكن أن يكون هو القلب؟ للإجابة عن هذا السؤال، يمكن الاستعانة بما قدَّمه العالم الرياضي والفيلسوف العقلاني الفرنسي: بليز باسكال Blaise Pascal(1623/1662)، الذي بحث بشكل ملفت للانتباه، عما يشكل الهوية الشخصية، مبتدأ بطرح سؤال مباشر مفاده " ما هو الأنا ؟"، وللإجابة عن هذا السؤال، وضع عدة أجوبة، منها العقل والذاكرة، وجودة الحكم، والجمال، ليصل في الأخير إلى استحالة الوصول لحقيقة الأنا الثابتة، لأن فقدان هذه الأشياء لا يفقد الأنا، بل تبقى مستمرة في الوجود، غير أن هذه الأشياء تبقى ضرورية لمعرفة الأنا، وزيادة في توضيح موقفه يتقدم باسكال بمثال الحب قائلا:" إذا كنت محبوبا بسبب سداد رأيي وقوة ذاكرتي، فهل أنا محبوب حقا؟ كلا، لأنني قد أفقد تلك الصفات دون أن أفقد ذاتي. فأين يوجد هذا الأنا إذن، إذا لم يكن لا في الجسم ولا في النفس؟ ثم كيف نحب النفس والجسم دون تلك الصفات التي ليست هي الأنا، لأنها زائلة؟ ." إن الوصول إلى مثل هذه الحقائق )حقيقة الأنا مثلا( يتطلب سلك مسلك آخر غير مسلك العقل، آلا وهو مسلك القلب، وفي هذا يقول باسكال: " نعرف الحقيقة لا بواسطة العقل فقط، ولكن أيضا بواسطة القلب " ويضيف قائلا :" إنما ينبغي على العقل أن يستند لتأسيس خطابه بأكمله على المعارف الصادرة عن القلب " هكذا يدعو باسكال إلى اعتبار القلب هو المرجع للبحث عن الحقائق، خاصة حقيقة الهوية الشخصية، وهذه الإشارة الذكية من باسكال نجدها في السؤال الغيواني، الذي وجه أصلا إلى القلب، )قلب كل من يستمع(، مع العلم أن كل ما يخرج من القلب صادقا، يلامس بالضرورة قلب الآخر، دونما الحاجة إلى الاستدلال العقلاني أو البرهان الرياضي. إن الحديث عن الهوية الشخصية، هو من التعقيد بمكان، نظرا لتداخل عدة عناصر فيها، مما يدعو إلى القول أن الهوية الشخصية هي وحدة متضافرة ومتكاملة الأبعاد، رغم اختلاف مكوناتها، مما يعطي المشروعية للسؤال الغيواني : "واش حنا هما حنا يا قلبي ولا محال " كمحاولة للبحث عن الأنا المغربي الذي كان يشهد آنذاك اهتزازات وارتجاجات، خصوصا مع طغيان الحمولة الثقافية والسوسيولوجية، التي خلفها الاستعمار وراءه، وبروز ظواهر اجتماعية وثقافية مرضية، تطلبت التدخل العاجل لعلاجها. الهوامش: - جميل صليبا: المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى، 1982، الجزء الثاني، ص 529. روني ديكارت: التأملات، ترجمة عثمان أمين، مكتبة الأنكلومصرية، الطبعة الثانية، 1974، ص 101_103 - ديكارت: مرجع سابق، نفس الصفحة. - إدموند هوسرل: تأملات ديكارتية، ترجمة ج. بفر و أ. ليفيناس، نشر فران، 1992، ص 150-152. Blaise Pascal : Pensée, in œuvres, édition Seuil, page 591. - بليز باسكال: خواطر، الفقرة 52، تقديم وترتيب مارسيل غارسان، النادي الفرنسي للكتابي، 1963، ص 22-23. - بليز باسكال: نفس المرجع السابق، ونفس الصفحة. بقلم الاستاذ أحمد منذر.