في هذا المقال نتحدث عن القراءة المغربية وخصوصيتها، وعن روادها المتألقين الذين أفادوا وأجادوا في هذا المجال، مخلفين تراثا كبيرا شاهدا على تميز المغاربة في تعاملهم مع القران الكريم حفظا وتلاوتا وروايتا ورسما. فالمغرب كان دائما متميزا عن المشرق في كل شيء، في خصوصية المذهب فقها ومعتقدا، وهندسة و بناء المآذن والمساجد، وفي طريقة قراءتهم الجماعية على رواية الإمام ورش عن نافع.. وطريقة تحفيظ القران التي تعتمد على السماع من الشيخ مباشرة لأن الشيخ يحفظ القرءان الكريم برسمه وشكله وضبطه وأنصاصه، تم القراءة عليه من طريق اللوح سماعا وكتابة وعرضا. يقول الدكتور عبد الهادي حميتو: "تفوق المغاربة في حفظ القرآن والعناية البالغة بعلوم القراءة، وإحراز قصب السبق في مضمار الرسم والضبط والمعرفة بوجوه القراءات وطرقها حتى قيل: "إن علم القراءات هو الميدان الوحيد الذي سيطر عليه المغاربة سيطرة تامة .. حيث يلاحظ بجلاء استيلاء أئمة القراء في المغرب على الأمد الأقصى في تحقيق القراءات وتحرير الروايات والطرق، والرحلة في طلبها إلى الآفاق، والعكوف عليها بالدرس والتصنيف والتأليف، وتقريبها من الطلاب والمتعلمين بالبسط والتيسير والتعريف نظما ونثرا ". لكن الملاحظ والمتتبع لمسار القراء المغاربة وخاصة الرواد منهم ، يجد ندرة في الكتابة التي تعرف بحياتهم ومسارهم ومناقبهم وبخدمتهم لكتاب الله عز وجل حفظا وتعليما، مدارسة ومذاكرة، تدبرا وتفهما، عناية وتطبيقا، دعما ومساندة . من بين هؤلاء العمالقة الشيخ عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن البشير بنموسى الهمساسي الحسناوي السلاوي، المولود يوم 28 غشت 1908م بمدينة سلا المغربية في بيت علم حيت كان ابوه العلامة أحمد بنموسى فقيها ومحدثا . بدأ الشيخ عبد الرحمن بنموسى رحلته مع القران الكريم منذ وقت مبكر جدا حيث حفظه في سن صغيرة بكتاب الفقيه محمد بريطل ثم كتاب الفقيه محمد بوشعراء تم انتقل الى حفظ الجرومية و لامية الأفعال و رسالة ابن أبي زيد القيرواني على يد الشيخ عبد الهادي أطوبي كما تتلمذ على مجموعة من الشيوخ كالسيد أحمد بن عبد النبي والشيخين أبي شعيب الدكالي ومحمد بن العربي العلوي. كانت المساجد في مدينة سلا المكان الطبيعي لانطلاق هذه الموهبة الجديد التي تفردت بالقراءة المغربية ترتيلا ورسما ورواية في إطار فيني جميل جمع بين حسن الصوت ودقت الأداء ، فقد كان صوته الشجي يسبح بأرواح المستمعين فوق السموات العلا ، يأخذ الألباب ويدخل إلى القلوب بدون استئذان الأذان حتى أصبح علامة و قدوة لأهل المغرب وما والاه في قراءة القران الكريم ، وإمامهم في تلاوته وتأدية حروفه عبر الأزمان . عرف عن الشيخ منذ صغره حبه للقران الكريم ومدحه لرسول صلى اله عليه وسلم وتواضعه الشديد وجديته وبساطة عيشه وهمته العالية في الحفظ والتعليم ، وحباه الله بصوت وأداء جميل وتميزه بقراءته على رواية الإمام ورش عن نافع، وعلى الوقف الذي وضعه الإمام الهبطي الصماتي، محافظا على خصائص القراءة المغربية المتميزة بمقاماتها ونغماتها الفنية ذات الطابع الأندلسي . مارس الشيخ عبد الرحمن بنموسى في بداية حياته التجارة زمانا تم " الكتابة الشرعية بمحكمة الاستئناف وفي المجلس الأعلى كما تشرف بإلقاء الدروس ببعض المساجد والزوايا بمدينة سلا وكان مشفعا بالمسجد الأعظم"، وكان يجوب المساجد والزوايا يقرأ القران الكريم في كل مناسبة ويمدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحفظ الأشعار الصوفية ومختلف المتون والنصوص اللغوية والدينية، إلى جانب العديد من المقرئين والمداحين حتى أصبح علم هذه الكوكبة، وفارس تلك الحلبة. "ويرجع الفضل.. في اكتشاف هذه الموهبة النادرة والصوت الرخيم - وإخراجها إلى الناس- إلى .. المغفور له محمد الخامس وذلك سنة 1936 ..حينما استمع إلى ترتيله و أعجب به وأثنى عليه وطالب معاودة الاستماع إليه، ومنذ هذا التاريخ تبوأ المقرئ لدى محمد الخامس تم الحسن الثاني المكانة العظمى فقربه منه وأدناه وجعله مشفعه وإمامه وأستاذا لأنجاله الأمراء ، فأصبح الفقيه هو القارئ الرسمي في افتتاح المؤتمرات العربية والإسلامية التي تعقد في بلادنا وفي افتتاح دورات مجلس النواب وفي جميع الاحتفالات الرسمية التي كان يترأسها الملك "، فبدأ الناس يتعرفون على صوته من خلال أثير الإذاعة الوطنية ، ثم تعرفوا على صورته عبر التلفزة المغربية في بداية الستينيات التي كان يفتتحها ويختم إرسالها بآيات من القران الكريم . ينتمي صوت الشيخ عبد الرحمان بن موسى" إلى طبقة " تينور tenor " وهي من الأصوات الحادة التي تكون مساحتها مساحة واسعة، تمكنه من أداء الأنغام سواء كانت في حالة القرار أو الجواب بشكل فيه كثير من الراحة والتعبير والزخرفة ... فقراءته هي عبارة عن توليفة متجانسة ومتناسقة من المقامات المغربية الأصيلة التي استقاها من احتكاكه بالمديح والسماع ،حتى اشتهر بقراءته بمقامين اثنين "مقام رمل الماية ومقام السيكا الذي كان بارعا فيهما ويؤتيها حقهما ويشد الأسماع إليه عندما يقرأ بهما". "كان المقرئ الفقيه بنموسى من المؤسسين لجمعية هواة الموسيقى الأندلسية بمعية شخصيات مرموقة كالمرحوم علال الفاسي والمرحوم محمد الفاسي والمرحوم الحاج أحمد بلافريج وقاسم الزهيري وغيرهم في يناير 1958 ، كما كان له شرف المشاركة في عدة لجن وطنية ومحلية لمباريات حفظ وتجويد القرآن الكريم وكذا جمعيات فن المديح والسماع" ، وظل على هذا النهج حتى توفي - رحمه الله - يوم الاثنين 17 شوال 1417ه الموافق ل 24 فبراير 1997 عن سن تناهز التاسعة والثمانين . [email protected]