أولا: الذكر وسلامة الفكر وحياة القلوب: "" إن هذه الوظيفة التوحيدية للذكر وخاصة عند الصوفية قد تتسم ببعد استدلالي واضح وقطعي فيه البرهنة على وجود الله ووحدانيته. برهنة وجدانية وذوقية آيلة إلى صياغة وترتيب عقلي ضروري يدخل عند استنباط أحكامه منها في باب البديهيات المتأسسة على مبدأ «كل حادث فلحدوثه سبب». وهذا الحدوث قد يخص الجانب الوجداني والشعوري قبل الجانب الكوني والحسي لأنه يرصد تفاعل القلوب مع ذكر الله وتأثرها به بحسب نوعية توجهاتها واعتقاداتها. وهو ما أمكن فهمه من آية التأسي في ربطها الذكر الموصوف بالكثرة برجاء الله واليوم الآخر في قول الله تعالى :"لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا". كعنوان وعلامة رئيسية على مستوى الإيمان عند الأشخاص، وبالتالي كشرط موصوف مقابل الحصول على الأسوة الموصوفة. والمتمثلة في تقليد وإتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم قمة المعارج الإيمانية وأعلى مستوياتها على سائر المخلوقات. وللدلالة تفصيلا على هذا البعد الذي يمثله الذكر فإننا حينما نستقرىء الآيات القرآنية لتحديد علاقة الذكر بالإيمان نجد القرآن الكريم يصنف الناس بصورة جملية إلى ثلاثة أصناف لا رابع لهم وهم : إما ذاكرون لله تعالى سعداء به قد وصفهم بالمطمئنين والراضين والمرضيين والمؤمنين حقا ،وهذا هو حال الصوفية والمفردين ومن لا يشقى بهم جليسهم كما نجد نموذجا لهذا الوصف في قوله تعالى : «الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب، الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب»[1]. وإما منافقون لا يستقرون على عقيدة ولا يستحثهم للعمل باعث إيماني ولا خشوع ،بل يعادون أهل الذكر وكل ولي لله تعالى حسدا من عند أنفسهم، وصفهم الله تعالى بقوله تأكيدا : «إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا»[2]. أو كفار ملحدون قد أعمى الله بصيرتهم كلية وختم على قلوبهم وعلى سمعهم وأبصارهم غشاوة بظلمهم لأنفسهم وطغيانهم على فطرتهم فتحول الماء الزلال في ذوقهم زقوما مرا لفساد حواسهم واختلال تصوراتهم وقلوبهم فكان حالهم كما وصفهم الله تعالى بقوله : « وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لايؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون»[3]. وقوله : « وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لايؤمنون بالآخرة حجابا مستورا، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا، وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا»[4]. إن هذا التصنيف الثلاثي لعلاقة القلوب بذكر الله تعالى قد يؤسس في كل شطر منه صورة استدلالية وبرهانية ذات استنتاج وجداني دال على وجود الله سبحانه وتعالى. كما أنه يمثل المرتع الخصب والميداني للاستبطان النفسي الموضوعي ومراقبة الذات وتوحيد قواها وخلفيات انفعالاتها. بالإضافة إلى هذا فإنه من خلاله يتحقق قول الله تعالى « سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد»[5]. 1) صنف المطمئنة قلوبهم بذكر الله: فالاطمئنان عند الصنف الأول يحصل بسبب الاكتفاء والثقة التي تكتسبها القلوب عن طريق إشباعها بالغذاء الخاص بها. وذلك لوجود فقر ذاتي لديها إلى الله تعالى. وانطباع فطري على عقيدة التوحيد كانت قد اكتسبته في عالم الذر، كما نجد تقريرا عنه في قول الله تعالى: «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى! شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون»[6]. وهذه الفطرة لما تعرضت للاغفال المفتعل كما دل عليه النص القرآني بسبب التهميش والصرف الذاتي لها عن تحقيق وظيفتها الأصلية تحت ضغط الشهوات وتمويه الشبهات نتج عنه انحصار واقتصار على مستويات دونية من اللذات الجسدية والنفسية المتمثلة في الأنانية وعزة النفس وما إلى ذلك من الحجب المؤدية إلى الانطوائية والتطلع الدائري التمركزي على نمط دوران الحمار حول الرحى. وهذا ما أدى بالانسانية في أغلب حالاتها إلى نسيان الميثاق الذي أقرت به في عالم الذر عند إشهاد العدالة . مما استوجب وسيلة فعالة للتذكير به ورفع الحجب الحائلة دون ذلك. فكان ذكر الله هو الركن الأساسي المحقق لتلك العودة إلى الفطرة الأصيلة. لأن الذكر هو التذكر ذاته. وهو ضد النسيان. وما عملية تكرار الذكر سوى إعادة التذكر الروحي في عالم الذر الذي يعني العودة إلى الفطرة الأصلية والحفاظ على رسوخها وريادتها لسائر الفطر والغرائز على نحو ما كانت عليه في ذلك العالم التجريدي حيث لا زمان ولا مكان ولا أجرام. وإنما خطاب الله الواحد القهار في إشهاده للأرواح مجردة على توحيده وإقرارها بذلك عقيدة وعبودية لا ركوع فيها ولا سجود وإنما هي خطاب بين إله واحد أحد ليس كمثله شيء ومألوهين مأخوذين في قبضته يتصرف فيهم كيف يشاء، أي أن أول عبادة في الوجود هي ذكر قولي تم مباشرة بين رب العالمين وأرواح عباده. ولهذا الخطاب المباشر الذي تحقق بالذكر المجرد كان جزاء الذاكر أن يقابل بذكر المذكور. -أي يصير الذاكر مذكورا- مصداقا لقول الله تعالى: «فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولاتكفرون»، وكما في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» الحديث[7]. وذكر الله لعباده ينبغي أن يفهم بمعنى الاحاطة والمعية المعنوية وبتعويض الفقر بالغنى، أي غنى النفس بواسطة الامداد الروحي المفيد للاطمئنان « كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك». وإذا كان المدد عاما فالذاكر له خصوصيته في الاستمداد من العطاء الالهي للنصوص الدالة على ذلك، وللواقع التجريبي الذي يعيشه الذاكرون الله تعالى والمتمثل في الأحوال والمواجيد الطارئة عليهم عند ذكر الله تعالى بالصفة والشروط الواردة في آية الأسوة. فالاطمئنان هو قمة الأحوال ومنتهاها كما تدل على ذلك عدة آيات قرآنية وأحاديث نبوية. كما أنه يأتي بعد المرور بأحوال ممهدة له كوجل القلوب، وقشعريرة الجلد، والخر بالبكاء، وانشراح الصدر والصعق عند رؤية آية كونية أو سماع آية قرآنية. وكنموذج على هذا التلازم بين الاطمئنان والأحوال وذكر الله تعالى، نجد مثلا قول الله تعالى، « إنما المومنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون»[8]. وقوله تعالى : « الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشعون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله». وهذه الأحوال الناتجة عن الذكر تعتبر دليلا قويا على أن الذاكر قد وصل إلى مستوى المباشرة الإيمانية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللهم ارزقني إيمانا يباشر قلبي» أي أن الإيمان لم يعد يقتصر على مجرد التصور الذهني والاعتقاد القلبي الصامت. وإنما أصبح خطابا نورانيا محركا للقلوب والأجساد. وبالتالي مؤسسا للثقة الكاملة والاطمئنان كنتيجة قطعية دالة على صحة الإيمان ورسوخه في قلب المؤمن. والحال في مصطلح الصوفية هو « معنى يرد على القلب من غير تعمد منهم ولا اجتلاب ولا اكتساب لهم من طرب أو حزن أو قبض أو شوق أو انزعاج أو هيبة أو احتياج »[9] وقد يراد بالحال الوجد الناتج عن المعنى الوارد على القلب. أي أن الوجد هو ما يجده الذاكر من حلاوة وذوق تلك الأحوال الواردة عليه، ولهذا فالتلازم بين الحال والوجد تلازم ذاتي لايمكن فصلهما عن بعضهما بسهولة. لأنه إذا وجد الحال ترتب عنه وجد. وإذا وجد وجد دل على الحال. إلا أن الحال يختص بالوجد الباطني. والوجد يختص بالحال الظاهري، ولهذا أمكن استدعاء الوجد اختيارا[10] للحصول على الحال الظاهري وهو ما يسمى بالتواجد. وهو درجة أقل من الوجد الذي له سبب وارد على القلب وهو الحال الباطني. وكلاهما مشروع ومطلوب كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم : « ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» أو كما قال. إن هذه الظواهر القلبية الجسدية المترتبة عن ذكر الله تعالى قد كانت تطرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك على أصحابه بصور متفاوتة. ففيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كانت تعرض له أحوال ومواجيد على رأسها البكاء. وتصبب العرق في اليوم أو الليلة الباردة خاصة عند نزول الوحي، وتبدل أسارير وجهه من حالة إلى حالة عند ورود بشارة أو نذارة أو غير ذلك مما له علاقة بأحوال القلوب والإيمان والتقوى. حتى أنه كان توصف أسارير وجهه مرة بفلق الصبح ومرة بالبدر في كماله... إلخ. كما نجد صورا من هذه الأحوال وتفاعل القلوب معها عند ذكر الله أوسماع آية قرآنية عند الصحابة كأبي بكر الذي كان لايستطيع إمامة المسلمين في الصلاة في بعض الأحوال لرقة قلبه وغلبة البكاء عليه حتى كان يسمع له أزيز، ونفس الشيء عن حال عمر ذي الخطين السوداوين من كثرة البكاء بل إنه سقط طريح الفراش لوجد أصابه حتى ظن البعض أنه مريض. وكذلك حال عثمان وعلي رضي الله عنهما. وكنموذج مقرب لمفهوم الحال المؤدي إلى الوجد الذي لايدخل في حكم البكاء فقط نجد هذا الحديث الذي رواه البخاري عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: « أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون، أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون» كاد قلبي أن يطير» رواه الشيخان. فطيران القلب عند سماع الآية بالنسبة إلى هذا الصحابي لايمكن وصفه إلا بالإيمان المباشر للقلب. ولهذا فكانت هذه الحالة التي طرأت عليه عند سماع الآية الكريمة سببا قويا وجدانيا دعاه إلى التصديق والإيمان بالله وبرسوله، لأنه مبدئيا لايمكن أن يحدث حادث إلا ولحدوثه سبب وهذا الحادث هو طروء الحال على القلب عند سماع الآية. والآية هي كلام الله تعالى. إذن فالمستمع قد باشر كلام الله قلبه، فاهتز عند هذه المباشرة وكاد أن يطير، ولربما تحرك ظاهره لهذا الأثر الباطني ضرورة. ومن هنا يأتي الحكم العقلي لصياغة هذه البرهنة الوجدانية وهي أنه لو لم يكن للكلام صلة وغذاء للقلب لما تفاعل معه، لكن الكلام باشر القلب وحركه : إذن فالقلب له فقر وإقرار مباشر بالكلام لصلة ما. وهذا له ارتباط بآية الذر وتأسيس الفطرة الأولى عند الإنسان . وحسب هذا الاستنتاج فكلما ورد الحال على القلب وجدا إلا وكان بالنسبة إلى الذاكر دليلا قويا مباشرا على وجود الله سبحانه وتعالى لأنه يمثل تعاملا وجدانيا مع الله تعالى وتكيفا ذاتيا مع الكلام الذي يكرره ذكرا أو تلاوة. ولهذا كان الذاكر الواجد لايحتاج إلى الحجج أو البراهين إلا اكتفاء بما باشره قلبه من النص القرآني والحديثي وما أعطاه له الذكر من المواجيد والأحوال التي ترد عليه بحسب استعداد قلبه وقوة توجهه إلى الله تعالى ورجائه وظنه به. فالوجد أو الحال الذي يعبر عنه الصوفية ليس سوى مباشرة الإيمان للقلب كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، وبما أن المباشرة حاضرة فإن الاستدلال بالوسائط الكونية تبقى بعد ذلك ثانوية مادام الذاكر مطمئنا إلى مذكوره يعيش قربه بقلبه ويتحرك قلبه بل جسده عند ذكره. كما عبر الجنيد عن هذا الايقان الوجداني بالذكر في قوله : حاضر في القلب يعمره لست أنساه فأذكره. فهو مولاي ومعتمدي ونصيبي منه أوفره[11] ويقول الشبلي : ذكرتك لا أني نسيتك لمحة وأيسر ما في الذكر ذكر لساني وكدت بلا وجد أموت من الهوى وهام على القلب بالخفقان. فلما أراني الوجد أنك حاضري شهدتك موجودا بكل مكان فخاطبت موجودا بغير تكلم ولاحظت معلوما بغير عيان. وقال آخر : ما أن ذكرتك إلا هم يزجرني قلبي وسرى وروحي عند ذكراكا حتى كأن رقيبا منك يهتف بي إياك ويحك والتذكر إياكا[12] وعند ذكر الأحوال والمواجيد المترتبة عن الذكر وبعدها التوحيدي كمعيار إيماني وأداة استدلالية، يطرح جدل مفتعل من طرف بعض الفئات الإسلامية الفاقدة لهذا النموذج أو العنصر من التفاعل مع النص سماعا أو مع العبادات ممارسة وخاصة ذكر الله تعالى. ويتلخص هذا الجدل في رفض البعض من المتقدمين وهم قلة والبعض من المتأخرين المعاصرين وهم كثرة لبعض صور الأحوال الطارئة على بعض الذاكرين الله بالأسلوب الشرعي والمؤسس على آية الأسوة. وهذا الرفض ينصب إما على الصعق أو التأوه أو اضطراب الأعضاء أو الصياح والتلفظ بألفاظ غير مفهومة إلى غير ذلك من الأحوال التي يكثر وجودها بصفة خاصة عند الصوفية المركزيين - أي الذين تجمعهم طريقة ما، إما تحقيقية أو وراثية- وأقصد بالتحقيقية أي المنتمية إلى شيخ محقق حي ومؤهل للتلقين الروحي وصياغة الأوراد، كما أن الوراثية هي عبارة عن طريقة موروثة عن شيخ كان محققا في زمانه. ولم يبق لدى أتباعه سوى المنهج الظاهري، لكنهم يفتقدون الأستاذ المربي الروحي والمؤهل لتلقين الأحوال والوجد الباطني الحقيقي، بحيث يغلب على هؤلاء ظاهرة التواجد دون الوجد والحال. وهذا الرفض يتأسس لديهم إما على أسلوب الإفراط أو التفريط كما سبق وعبرنا . ففيما يخص أسلوب الإفراط فإن البعض ممن يعتمدونه ربما قد لايستسيغون الأحوال والمواجيد بصورة كلية، وحتى إذا سلموا ببعضها فإنهم يحصرونهافي حال واحد لايكاد يتعداه وهو البكاء، ولكن في حدود تصورهم الذاتي له، لكنهم إذا تطرقوا إلى موضوع الصياح والاضطراب البدني والصعق والعمارة... إلخ، فإنهم إما أن ينسبوها إلى افتعالات ومحاولات ذات خلفية أنانية للتظاهر والرياء وإما أن يسقطوا على أصحابها صفات مرضية هستيرية ذات خلفية عصبية أو نفسية وما إلى ذلك. ولكننا نرى الذاكرين الصوفية في هذه الحالة « ينطقون أو يتلفظون بنظريات ميتافيزيقية وفيزيقية وأخلاقية - حسب تعبير علي سامي النشار- بل « إن كثيرا من أرق الشعر الصوفي قد انطلق من الصوفية وهم في حالة الشطح أو الفناء أو خلع العذار بينما يفترض في أصحاب حالة الصرع عدم القدرة على الانتاج الفني أو الخلقي أو الابداع الروحي أو الجمالي»[13]. وهذا الموقف موضوعي بالنظر إلى الآثار الروحية والفكرية والسلوكية التي يؤسسها الذكر كما سبق واستدللنا على ذلك من خلال تفسيرنا لآية الأسوة وشرط تحصيلها. كما أن الاعتراض على الأحوال بمجرد هذه الادعاءات والأقوال الظنية لحد التوهم قد يجعل أصحابه عرضة للاشتباه في إيمانهم والتزامهم بالنصوص الإسلامية. وذلك إما أن المعترضين يطعنون في نجاعة الوسيلة المؤدية إلى تلك الأحوال كأداة إيجابية محضة كما دل عليها النص وإما أنهم ينظرون إلى تلك الوسيلة كما سبق وعبرنا نظرة مادية سطحية لا أثر لها مضبوطا سوى ما تعطيه الرياضات البدنية حسب درجات وظائفها المحدودة بالاعتدال أو الافراط أو التفريط. وهذا التصور يتنافى مع موضوع الذكر وفعاليته إذ لا مجال للقول بالإفراط في الذكر. لأنه أصلا مطلوب بصفة التكثير ولا حد له، مادامت الإرادة صحيحة ومخلصة، بل الإفراط أو التفريط لايكون إلا عند تغييب الذكر عن اللسان والوجدان وهو ما دلت عليه الآية في قول الله تعالى : « واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولاتطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا»[14]. وهذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة عن موضوع الذكر كما يروى عن ابن عباس في قول الله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا». «إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإن الله تعالى لم يجعل له حدا ينتهي إليه. ولم يعذر أحد في تركه إلا مغلوبا على تركه فقال : « اذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم» بالليل والنهار في البر والبحر وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة والسر والعلانية وعلى كل حال«[15]. وعلى هذا فالحال الناتج عن الاكثار من ذكر الله تعالى لايمكن اعتباره حالا مرضيا كيفما كانت أعراضه اللهم إلا ما كان من الذاكر الذي لايلتزم الشروط الواردة في آية الأسوة، وهي إخلاص التوجه إلى الله تعالى وسلامة النية والإرادة قصد الائتساء روحيا وظاهريا برسول الله صلى الله عليه وسلم كنموذج أعلى لاخلاص العبودية لله تعالى. ولتحقيق هذا الائتساء بعناصره الظاهرية والباطنية ينبغي أن يكون تسلسليا وراثيا كما أشرنا إلى ذلك، أي مأخوذا بالسند الروحي المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. مصداقا لقوله : « طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن رأى من رآني وآمن بي وطوبى لمن رأى من رأى من رآني وآمن بي. طوبى لهم وحسن مآب». وكذلك الحديث الذي مر بنا عن أبي سعيد الخدري حول تسلسل الصحبة. وعند هذا ينبغي التمييز بين الذكر كوسيلة للسلوك إلى الله تعالى بقطع المراحل والعقبات لغاية واحدة وهي معرفة الله تعالى معرفة قرب وحضور واستمداد، وبين الذكر كوسيلة جزائية غايتها جمع الحسنات ومحو السيئات والحفظ من الأذى وتحقيق الأغراض ذات التعلق بالمخلوقات كيفما كان نوعها وإن كان المرجو لتحقيقها هو الله تعالى. فالذكر المفيد للحال هو المراد منه الغاية الأولى لأنه تعامل مع المذكور كمطلوب لذاته ابتداء وانتهاء «وأن إلى ربك المنتهى». ولهذا المعنى كان الذكر شرطا لاخلاص العبودية وكان أيضا معيارا للقوة الايمانية لأنه سلوكي وتعبدي جزائي في آن واحد، وسلوكيته تتجلى في الأحوال الباطنية الناتجة عنه وفعاليته في تحصيل القرب من الله تعالى لحد الوجد والصعق والخوف والرجاء والمحبة وما إلى ذلك من الأحوال والمقامات المؤدي إليها ذكر الله تعالى. ولهذه الأحوال كما قلنا كان الذكر وسيلة استدلالية وميزانا روحيا يزن به الذاكر مستوى قربه أو بعده عن الله تعالى بحسب الحال الوارد عليه. ما بين حالة القبض والبسط والرضى والاطمئنان وما إلى ذلك مما اختص بالاصطلاح عليه الصوفية بالدرجة الأولى حتى أن بعضهم عبر من خلال هذا الميزان بقوله « حسنات الأبرار سيئات المقربين». وهذا ما لا يدرك معناه إلا أهل الأذواق والمواجيد والأحوال الذين ذاقوا حلاوة العطاء ومرارة السلب، فأدركوا بقلوبهم أن معطيهم وسالبهم واحد فكان تذرعهم إليه روحيا ب «اللهم احفظنا من السلب بعد العطاء». 2) الحال بين مشروعية الوسيلة والغاية: ولكي لا يتشعب بنا الحديث عن الأحوال أكثر مما يقتضيه الاعتراض الافراطي، نعالج مواقف بعض أساليب أصحاب التفريط في نفس الموضوع رغم وجود قواسم مشتركة بين هؤلاء وأولئك في اعتراضاتهم على أحوال الذاكرين ومواجيدهم، ويتلخص اعتراض هؤلاء الأخيرين في الادعاء بأن بعض الأحوال الطارئة على الذاكرين الله تعالى ليست من السنة وأن السلف الصالح لم يحصل لديهم مثلها. ولهذا فإنها تدخل في حكم البدعة، وذلك بدعوى الالتزام بالسلفية والتقيد بظاهر النص وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته. وهذه كما قلنا كلمات حق أريد بها تضييق مجالاته، غير أن الاعتراض على هذه التضييقات في هذه المرة سيكون بواسطة أبرز رواد هذا الأسلوب والذي سبق واعترضنا عليه في مواقفه من الذكر بالاسم المفرد. فحينما نطالع فتاوى ابن تيمية حول موضوع الأحوال نجده أكثر موضوعية وانضباطا فتويا مما مضى، وقد أودع فتاواه الخاصة في كتاب علم السلوم وكتاب التصوف (ج10 و11). فذهب في كتاب السلوك إلى تقسيم موضوعي يحدد من خلاله الذي يسلم له حاله والذي لا يسلم له حاله : فالذي يسلم له حاله يشترط أن لا يكون سببه بمحرم وأنه مغلوب عليه[16]، وأما الذي لا يسلم إليه حاله فمثله أن يعرف منه أنه عاقل يتوله ليسقط عنه اللوم... أو يعرف منه أنه يتواجد ويتساكر في وجده ليظن به خيرا ويرفع عنه الملام فيما يقع من الأمور المنكرة، أو يعرف منه أن الحق قد تبين له وأنه متبع لهواه، أو يعرف منه تجويز الانحراف عن موجب الشريعة المحمدية وأنه قد يتفوه بما يخالفها...»[17]. بل قد ذهب إلى الاعتراض على المعترضين ومحددا موقفه منهم في كتاب التصوف حيث يقول : « المنكرون -أي لأهل الأحوال- لهم مأخذان: منهم من ظن ذلك تكلفا وتصنعا. يذكر عن محمد بن سيرين أنه قال: ما بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن إلا أن يقرأ على أحدهم وهو على حائط فإن خر فهو صادق. ومنهم من أنكر ذلك لأنه رآه بدعة مخالفا لما عرف من هدي الصحابة كما نقل عن أسماء وابنها عبد الله. والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه وإن كان حال الثابت أكمل منه ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا فقال: قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد فما رأيت أعقل منه، ونحو هذا وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة وبالجملة فهذا كثير ممن لايستراب في صدقه!!!»[18]. وهذا النص تضمن اعتراضين في صورتين مختلفتين : أما الاعتراض الأول فإنه يسلم بوجود الحال لكنه يخضع هذا التسليم إلى التجربة وتحري الصدق فيه. وهذا يعني أن الحال واقع مشاهدكما عبر عنه ابن تيمية في آخر النص بقوله : « وبالجملة فهذا كثير ممن لايستراب في صدقه» أي أصبح متواترا. تواتر أخبار ومعاينة. ولهذا فالواقع لايمكن إقصاؤه إذا ثبت أنه غير متكلف، إذ كيف يمكن رفض العطاس رغم غلبته على العاطس، كما أنه لا يجوز رفض الحال لأنه غلب على صاحبه ولكن يمكن اختباره من حيث أنه صادق أو كاذب في حاله. إذن فالمسألة تعالج من منظور أخلاقي وليس من حيث هي واقع ومشاهد. كما أنه ينظر إليه من حيث باعثه هل هو مشروع أم ليس بمشروع، فإذا كان الباعث مشروعا فالحال المترتب عنه ينبغي أن يكون مشروعا. لأنه إذا كانت الوسيلة مشروعة وهي ذكر الله تعالى والغاية مشروعة وهي إرادة وجه الله تعالى، فما بين الوسيلة والغاية لايكون إلا مشروعا. لأن الحسن إذا قابله الحسن أو الجميل لايكون إلا حسنا، والنتاج لايكون إلا بحسب أصله ووسيلة سقيه و« البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لايخرج إلا نكدا». فذكر الله إذن هو المصدر في الأحوال، والتكليف يهم النية والأعمال وليس الأحوال إذ الأحوال غير اختيارية وهي تكون وسطا بين النية والعمل. ولهذا فالغاية تحدد الوسيلة لا أن الغاية تبرر الوسيلة في هذا الميدان. إذ الغاية في ذكر الله تعالى ليست كسائر الغايات وإنما لها خصوصيتها التوحيدية التي لايقبل سواها. فكانت الأحوال بهذا توصيلا بين الموظف للوسيلة وغايته، ودليلا على صحة الإيمان ورسوخه. وأما الاعتراض الثاني فهو الذي يريد أصحابه أن يضيقوا خناق الأحوال والتحكم في المشاعر. وتقييد الانفعالات، وهذا إسقاط وتحجر لاتقبله سعة الإسلام بل طبيعة القلوب واستعداداتها وتحملاتها المختلفة. كما أن نقل هذا الإنكار عن أسماء وابنها غير محددة صحته أو ظروفه. 3) خروج الأحوال عن دائرة التكليف والتقليد: فالسلفية يمكن أن تنطبق على الأقوال والأفعال وعلى جنس الأحوال كتكاليف ومطالب لأنها قابلة للتقليد والتحديد، أما الأحوال النوعية الخاصة فإنها لاتقبل التقليد، إذ لو قبلت التقليد لكانت مصطنعة ومتكلفة وهذا يدخل في حكم الذي لايسلم له حاله كما يرى ابن تيمية. نعم ! قد تتحد المشاعر والأذواق كما سبق وعبرنا مرارا لكن التفاعل مع هذه المشاعر ذاتيا هو الذي لايمكن ضبطه وحصره في صورة معينة مقننة كالاقتصار على التسليم بحال البكاء وحده مثلا. وانفلات الأحوال عن دائرة الحصر السلفي أو التقييد الزماني والمكاني والجماعي بالامكان اعتبار أنه يدخل ضمن الأعراض وحدوثها وتجددها مع الزمن والمكان والحيز وما إلى ذلك، وكذلك من حيث دلالتها على حدوث الجواهر. كما تدل الأحوال على إيمان القلوب، إذ أن الأعراض تتفاوت وتختلف مظاهرها بحسب تعلقها بالأجرام صغرا وكبرا، سرعة وبطء، حركة وسكونا... إلى غير ذلك. ورغم أن الأجسام تتحد كلها في صفة الحدوث، إلا أن الأعراض الدالة عليه تختلف من جرم أو جسم لآخر. وبحسب هذا القياس يمكن القول بأن أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بالضرورة أن تكون على نفس مستوى أحوال أصحابه وأحوال صحابته ليس بالضرورة أن تكون على نفس المستوى فيما بينهم وأنفسهم أو فيما بينهم وبين التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وذلك لتفاوت استعدادات القلوب وقوة إيمانها زيادة ونقصانا، بل قد يقع التفاوت بين استعداد القلب الواحد من حيث قوة تفاعله أو ضعفه مع الواردات ومعانيها وصياغتها بالأحوال أو المواجيد. إذ رب شخص قرأ آية قرآنية فبكى واعتبر وخشع قلبه في فترة ما لكنه قد قرأ نفس الآية في فترة أخرى فلا يجد ذلك الشعور ولا يحدث لديه خشوع بحال وهذا ملاحظ ومجرب عند الممارسين لتلاوة القرآن الكريم والمواظبين عليها. ولهذا فليس من السلفية أو الأصولية بمكان أن ندعي إمكانية تقليد أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم تقليدا كليا سواء الباطنية أو الظاهرة لأنه إذا ادعينا ذلك فنكون قد قارنا بين مستوانا الإيماني وبين مستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بين فرع وهو نحن المسلمين وبين أصل وهو النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشتان مابين الأصل والفرع من التفاوت بل لا وجود للفرع إلا بوجود الأصل، بحيث لا مجال للمقارنة هنا، لأنها ستوقعنا في خطأ تقديري وخلل روحي من أبرز مظاهره غياب التسليم المعرفي و التذبذب في الاعتراف بالتفوق الروحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكإلزام بالخلف أو اقتضاء المخالفة يمكن عكس الاعتراض على أصحاب الادعاء في الزامهم أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وإلزامهم كل الأحوال الواردة في القرآن الكريم من بينها اقشعرار الجلد، وصعق موسى، والخر للأذقان بالبكاء. والتي يلاحظ أنهم لايجدون منها لا ظاهرا ولا باطنا إلا ما نذر أو شذو الشاذ لايقاس عليه وخاصة في عصرنا الذي أصبح الحال فيه منكرا بعد ما كان معرفا. ودليلا على قوة الإيمان وصدقه. ولهذا التفاوت الذي يطبع حالة الحال أو الوجد قسناه بالأعراض وتغيراتها مع الزمان والمكان والاستعداد والتحملات. لأنها مثال مناسب للدلالة على أنها لا تخضع للتقنين العيني كما أنها تستند في إثبات جنسها على أصول شرعية تفيد إمكانية ورودها على شتى الهيئات والحركات بحسب استعداد الذاكرين الله تعالى وبحسب استمداداتهم الروحية. وهذا ما لخصه ابن تيمية بصورة موضوعية بقوله : « فهذه الأحوال التي يقترن بها الغشي أو الموت أو الجنون أو السكر أو الفناء حتى لايشعر بنفسه ونحو ذلك، إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره. وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم ونحو ذلك من الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه الله أو فعل مايكرهه الله، ولكن من لم يزل عقله مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه فهو أفضل منهم وهذه حال الصحابة رضي الله عنهم وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه أسرى به إلى السماء وأراه الله ما أراه وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله، فحاله أفضل من حال موسى صلى الله عليه وسلم. الذي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل وحال موسى حال جليلة علية فاضلة . لكن حال (سيدنا) محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأعلى وأفضل» فالحال إذن من ثمرة الذكر وهو دليل على كمال الإيمان وقوته. وإذا كان الأمر كذلك فالذكر يبقى معيارا قطعيا للقوة الإيمانية. وميزانا استدلاليا يرتكز عليه علم التوحيد في حججه وبراهينه. ثانيا: الوجد والحال في حقل النشيد والسماع: 1)- السند الصوفي في السماع نصا وفقها: وقد يندرج في مجال الحال والوجد كجالب أو مهيء موضوع السماع، وهو تناغم الخطاب لإيصاله إلى السمع على صورة جمالية وذوقية فنية وروحية، وقد يكون قرآنا يتلى أو قصائد ومنظومات شعرية ونثرية لها ابعاد روحية ومعاني توحيدية وخاصة في باب السماع الصوفي، وفيه يقول أبو القاسم القشيري مفسرا قول الله تعالى: «فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه» :"اللام في قوله" القول" تقتضي التعميم والاستغراق والدليل عليه أنه مدحهم بإتباع الأحسن. وقال تعالى: "«فهم في روضة يحبرون». جاء في التفسير أنه السماع. واعلم أن سماع الأشعار بالألحان الطيبة والنغم المستلذة إذا لم يعتقد المستمع محظورا ولم يسمع على مذموم في الشرع ولم يَنْجَر في زمام هواه، ولم ينخرط في ذلك لهوه مباح في الجملة. ولا خلاف أن الاشعار أنشدت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه سمعها ولم ينكر عليهم في إنشادها. فإذا جاز استماعها بغير الألحان الطيبة، فلا يتغير الحكم بأن يسمع بالألحان، هذا ظاهر من الأمر، ثم يوجب للمستمع توفر الرغبة على الطاعات وتذكر ما أعد الله تعالى لعباده المتقين من الدرجات ويحمله على متحرز من الزلات ويؤدي إلى قلبه في الحال صفاء الواردات مستحب في الدين ومختار في الشرع، وقد جرى على لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو قريب من الشعر وإن لم يقصد أن يكون شعرا. أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار قال: حدثنا الحرث بن ابي أسامة قال حدثنا ابو النضر قال: حدثنا شعبة عن حميد قال، سمعت أنسا يقول: كانت الأنصار يحفرون الخندق فجعلوا يقولون: نحن اللذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا ابدا فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجرة ليس هذا اللفظ منه صلى الله عليه وسلم على وزن شعر لكنه قريب منه، وقد سمع السلف والأكابر الأبيات بالألحان فمن قال بإباحته من السلف: مالك ابن أنس، وأهل الحجاز كلهم يبيحون الغناء وأما الحداء فإجماع منهم على إجازته"[19] ويقول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: "ونقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة الحذاء، وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلاف فيه، ومانعه محجوج بالأحاديث الصحيحة، ويلتحق بالحداء هنا الحجيج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد ونظيره ما يحرض أهل الجهاد على القتال، ومنه غناء المرأة لتسكين الولد في المهد".[20] وعند قول ابن حجر" وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلاف فيه" كأنه يشير إلى موقف ابن تيمية المتشدد في هذا الباب والمخالف لمذهب السلف بزعم السلفية. بحيث يرى حسب دعواه أن لا سماع كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مشروعا سوى القرآن الكريم، وبشكل فردي غير جماعي، إذ كما يقول: «كان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا رجلا منهم أن يقرأ وهم يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون» وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فجعل يستمع لقراءته، وقال: «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير داود» وقال: «مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك، فقال: لو علمت أنك تسمعني لحبرته لك تحبيرا» أي لحسنته لك تحسينا... ولم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلا هذا؛ لا بالحجاز ولا باليمن ولا بالشام ولا بمصر والعراق وخراسان والمغرب، وإنما حدث السماع المبتدع بعد ذلك..."[21] وفي كلام ابن تيمية هذا إسقاط وتكلف وتضييق ومخالفة لمقتضيات ونصوص شرعية والأقوال السابقة لعلماء الأمة السنيين من أهل الفقه والحديث والتصوف والسلوك. إذ فيما يخص قراءة القرآن جماعة فإن ظاهر الخطاب يفيده كما نجده في قول الله تعالى: «وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا، قل أفأنبئكم بشر من ذلكم، النار وعدها الله الذين كفروا، وبيس المصير[22]». كذلك قوله تعالى: «فاقرأوا ما تيسر من القرآن، علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرأوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا».[23] أما في الحديث فنجد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه»[24] وايضا «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعر بين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار» الحديث[25] فالحديثان بعبارتهما ومعانيهما قد يدلان على جواز بل استحباب قراءة القرآن جماعة بالأمر والندب والتقرير النبوي. إذ في الحديث الأول يكون شرط الاجتماع على القرآن الكريم للتلاوة هو ائتلاف القلوب، وهو يحتمل إما أن يكون معناه الحفظ وإما الانسجام الذي يعطيه الذكر وتعارف الأرواح. فبحسب المعنى الأول يكون لابد من إتباع صيغة معينة يؤم بها مستظهر لكتاب الله تعالى تسير بحسب قراءته الجماعة في الوقف والإمالة والمد وغيرها مما هو معروف في علم التجويد، وذلك حتى لا يختل نظام القراءة. وأما الحديث الثاني فالمعنى فيه غالب على اعتبار الصوت الجماعي ونستشفه من قول النبي صلى الله عليه وسلم «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن» وهذه العبارة أكثر دلالة على القراءة الجماعية منها على القراءة الفردية، خاصة وأنهم لم يكونوا كلهم مجودين أو متغنين بالقرآن على نمط أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. ومن هنا فالقول بأن قراءة القرآن جماعة بدعة سلبية يعد مغالاة في غير مصلحة الدين، لأنه لا يميز بين ماهو موحد للأمة وما هو مشتت لها حينما لا تأتلف القلوب على قراءة القرآن. وعلى فرض أن قراءة القرآن لم تكن جماعية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حسب دعوى ابن تيمية رغم النصوص وظواهرها المفيدة للعكس كما مر بنا، فإن القراءة الجماعية تبقى مشروعة، خاصة وأن القرآن في المرحلة الأولى لم يكن بعد قد جمع في مصحف واحد، لكنه بعدما جمع يكون من الأسهل الاجتماع على قراءته وذلك بعدما رسم بعلامات الوقف وما إلى ذلك مما سهل ضبط القراءة الجماعية وكان من اجتهاد علماء الأمة الذين هم ورثة الأنبياء. ولا أريد أن اطيل في هذا الباب، إذ يكفيني أن قراءة القرآن جماعة لها بعدها التوحيدي لظواهر الأشخاص وقلوبهم كما نص عليه الحديث النبوي، إذ كان طرحنا لهذا الموضوع في هذا الباب مجرد تنبيه على أن ابن تيمية فتح بابا للذريعة دخله من جاء بعده فشوشوا على المسلمين اجتماعاتهم على ذكر الله وقراءة القرآن واستظهاره بالطريقة الجماعية وفي زمن قل الاهتمام بالكتاتيب القرآنية وقل حفظة القرآن ومعلموه، إذ القراءة الجماعية تكون تذكيرية وتشجيعية، وسماع القرآن يكون موعظة ورحمة سواء كان فرديا أو جماعيا كما تروي السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في المسجد فقال: يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية من سورة كذا»[26] 2) السماع بين المشروعية وتضييق مدعي السلفية: