تصريحات هشام ايت منا تشعل فتيل الصراعات المفتعلة من جديد … !    تأجيل محاكمة عزيز غالي إثر شكاية تتهمه بالمس بالوحدة الترابية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي        الرباط: المنظمة العربية للطيران المدني تعقد اجتماعات مكتبها التنفيذي        28 ناجيا من تحطم طائرة بكازاخستان    مسؤول روسي: المغرب ضمن الدول ال20 المهتمة بالانضمام إلى مجموعة "بريكس"    التوحيد والإصلاح: نثمن تعديل المدونة    بلاغ رسمي من إدارة نادي المغرب أتلتيك تطوان: توضيحات حول تصريحات المدرب عبد العزيز العامري    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    بعد تتويجه بطلا للشتاء.. نهضة بركان بالمحمدية لإنهاء الشطر الأول بطريقة مثالية    الوداد يطرح تذاكر مباراته أمام المغرب الفاسي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية        الريسوني: مقترحات التعديلات الجديدة في مدونة الأسرة قد تُلزم المرأة بدفع المهر للرجل في المستقبل    الحصيلة السنوية للمديرية العامة للأمن الوطني: التحفيز والتأديب الوظيفي آليات الحكامة الرشيدة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    "ميسوجينية" سليمان الريسوني    ترامب عازم على تطبيق الإعدام ضد المغتصبين    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    بنحمزة: الأسرة تحظى بالأهمية في فكر أمير المؤمنين .. وسقف الاجتهاد مُطلق    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ونجح الاتحاد في جمع كل الاشتراكيين! .. اِشهدْ يا وطن، اِشهدْ يا عالم    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    الخيانة الزوجية تسفر عن إعتقال زوج وخليلته متلبسين داخل منزل بوسط الجديدة    إمزورن..لقاء تشاركي مع جمعيات المجتمع المدني نحو إعداد برنامج عمل جماعة    "ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    ‬برادة يدافع عن نتائج "مدارس الريادة"    المخرج شعيب مسعودي يؤطر ورشة إعداد الممثل بالناظور    الاعلان عن الدورة الثانية لمهرجان AZEMM'ART للفنون التشكيلية والموسيقى    العلوم الاجتماعية والفن المعاصر في ندوة بمعهد الفنون الجميلة بتطوان    الدورة العاشرة لمهرجان "بويا" النسائي الدولي للموسيقى في الحسيمة    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : البحاثة محمد الفاسي : مؤرخ الأدب والفنون ومحقق التراث        ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



برهان الخلق القرآني في دحر الإلحاد العلماني
نشر في هسبريس يوم 31 - 05 - 2009


"أَم خُلقوا من غَير شيء أم هُمُ الخالقون"
"تقسيمُ حصرٍ وبُرهانٍ"
تمهيد ذوقي: ""
"كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء" أم "كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء" أم "كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر لكل شيء" أم "كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر قبل وجود كل شيء" أم "كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أظهر من كل شيء" أم "كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الواحد الذي ليس معه شيء" أم "كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أقرب إليك من كل شيء" أم "كيف يتصور أن يحجبه شيء ولولاه ما كان وجود كل شيء" "ياعجبا كيف يظهر الوجود في العدم أم كيف يثبت الحادث مع من له وصف القدم".
الله قل وذر الوجود وما حوى إن كنت مرتادا بلوغ كمال.
فالكل دون الله إن حققته عدم على التفصيل والاجمال.
واعلم بأنك والعوالم كلها لولاه في محو وفي اضمحلال.
من لا وجود لذاته من ذاته فوجوده لولاه عين محال.
والعارفون فنوا بأن لم يشهدوا شيئا سوى المتكبر المتعالي.
ورأوا سواه على الحقيقة هالكا في الحال والماضي والاستقبال
أولا: مسألة وجود الله بين ضرورة الاستدلال وشعور الوجدان
إن مسألة الاستدلال على وجود الله سبحانه وتعالى تتحدد ضرورتها بحسب مستوى الوعي والإدراك عند كل شخص على حدة، وبحسب صفاء أدوات المعرفة عند هذا أو ذاك، وهي كما يقول عباس محمود العقاد "مسألة وعي قبل كل شيء، فالإنسان له وعي يقيني بوجوده الخاص وحقيقته الذاتية، ولا يخلو من وعي يقيني بالوجود الأعظم والحقيقة الكونية، لأنه متصل بهذا الوجود، بل قائم عليه والوعي والعقل لا يتناقضان، وإن كان الوعي أعم من العقل في إدراكه لأنه مستمد من كيان الإنسان كله، ومن ظاهره وباطنه، وما يعيه ولا يعيه، ولكنه يقوم به قياما مجملا محتاجا إلى التفصيل والتفسير" .
ومسألة وجود الله هي المسألة الرئيسية التي يتلازم في إثباتها الشعور الوجداني والحكم العقلي والحسي تلازما ذاتيا لا ينبغي إسقاط أحدها على حساب الآخر، إلا أن الأسبقية تكون فيها للشعور الوجداني أو الوعي كما عبر عنها العقاد، لأن الشعور أقرب في استنتاجاته إلى الصواب من مقدمات العقل وحدوده ومعطيات الحس وتلوناته.
ولهذا فإذا كان بعض الملحدين لم يستطيعوا أن يدركوا وجود الله تعالى بوجداناتهم وعقولهم وحواسهم، فليس هذا العمى عن الإدراك سببه غياب وجوده تعالى، وإنما التغييب سببه آفة أصابت أدوات الإدراك وتوظيفاتها في غير محلها مما يقلب أحكامها ولا يضعها حسب متعلقاتها، كمثال المريض بالصفراء الذي تنقلب عنده حلاوة العسل مرارة، كما يقول الشاعر:
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرابه الماء الزلالا.
وليس من حق الخفافيش والوطاويط أن تنكر وجود الشمس بسبب أنها لا تدركها أبصارها بل إن الخفافيش لو سألناها عن الشمس لأقرت بوجودها رغم أنها لا تراها، لأنها تحس آثار حرارتها بأداة غير أداة الإبصار، وبذلك تكون الخفافيش أو الوطاويط أسلم حكما وعقلا من الملحدين الذي لم يستفيدوا لا من عقولهم ولا مشاعرهم ولا أحاسيسهم.
ولقد كان الكلام في وجود الله عند الفلاسفة الأقدمين من قبيل الكلام في مباحث العلوم وتفسير الظواهر الطبيعية، فأرسطو مثلا لم يثبت وجود الله ليقنع به منكرا يدين بالكفر والإلحاد، ولكنه أثبته لأن تفسيره لظواهر الكون لا يتم بغير هذا الاثبات، فليس وجود الله عند أرسطو وأمثاله مسألة غيبية يختلف الأمر فيها بين الإثبات والنفي كاختلاف الهدى والضلال، ولكنها حقيقة عقلية كالحقائق الهندسية يتم بها تصور الحركات والأشكال في الأفلاك والسموات" .
والقرآن الكريم حينما تطرق لمسألة وجود الله فقد عرض لها بصورة كاملة، لأنه كلام الله الهادي لكل الخلق أجمعين، ولهذا فقد جمع في مخاطبته للمكلفين بكل أصنافهم بين خطاب الوجدان والعقل والحواس معا، وذلك باعتبار مستويات الناس الإدراكية وتفاوتاتهم المعرفية، فكان التقرير وكان البرهان، وكان مرة بالدعوة إلى النظر في العالم الخارجي ومرة بالنظر في العالم الداخلي أو النفسي كما في قوله تعالى، "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق".
ثانيا: تلازم اليقيني والبرهاني في الخطاب القرآني.
وإذا كان العقل لا يستقل بحكمه ويحتاج في إصداره إلى ما يعطيه إياه الشعور والحواس ويمده به من مكتسبات، فإنه بهذا الاحتياج يكون الأحوط له هو الاثبات لا النفي والإيمان لا الكفر، إذ أن الحواس لا تتعدى جزئياتها المحدودة، وهذه الجزئيات عليها ينبني حكم العقل فيقيس من خلالها ما غاب عنه، فالبصر مثلا "يدرك الألوان والمتلونات والأشخاص على حد معلوم من القرب والبعد، فالذي يدرك منه على ميل غير الذي يدرك منه على ميلين، والذي يدرك منه على عشرين باعا غير الذي يدرك على ميل، والذي يدرك منه ويده في يده يقابله غير الذي يدرك منه على عشرين باعا، فالذي يدرك منه على ميلين شخص لا يدري هل هو إنسان أو شجرة وعلى ميل يعرف أنه إنسان وعلى عشرين باعا أنه أبيض أو أسود وعلى المقابلة أزرق أو أكحل، وهكذا سائر الحواس في مدركاتها من القرب والبعد".
ولكن رغم هذا التفاوت في الإدراكات الحسية عند الإنسان بحسب القرب والبعد، واليقظة والغفلة، فإن الأحكام العقلية تظل ثابتة ومحايدة لا تصدر إلا بحسب المعطيات الحسية المتوفرة لديها وهذه الثوابت هي التي استقر عليها العقلاء والمفكرون وعبروا عنها بالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، وهذا العلم يؤسس مبدأ عدم التناقض في الحكم على القضايا، وهو يدخل في إطار العلم الضروري عند الإنسان والذي يتحصل عليه منذ طفولته إدراكا أو إجراء، وقد قسمت هذه الأحكام العقلية بحسب تعلقها بالمعلومات ومطابقتها لها، وهي حكم الجواز يقابل الجائز، وحكم الاستحالة يقابل المستحيل وحكم الوجوب يقابل الواجب، وليس وراء هذه الأحكام العقلية حكم رابع.
وهذه الأحكام إذا تطابقت مع معلوماتها أعطت العلم الضروري الذي ينبغي أن تتفق عليه جميع عقول البشر، وأن الخلاف لا يقع إلا إذا أسقط الحكم على غير المعلوم المطابق والمقتضي له، ولهذا فأغلب الاختلافات الفكرية بين الناس ليس مصدرها الحكم العقلي من حيث هو حكم ثابت، وإنما مصدرها وضع الحكم العقلي في غير محله ومتعلقه المحكوم عليه، وهذا راجع كما قلت إلى استعداد الأشخاص ومستويات اهتماماتهم وإدراكاتهم الكلية أو الجزئية للموضوع: "فمن الناس من يكون في سرعة التصور وجودته في غاية يباين بها غيره مباينة كثيرة وحينئذ فيتصور الطرفين (في قضية ما) تصورا تاما بحيث يتبين بذلك التصور التام اللوازم التي لا تتبين لمن لم يتصوره، وكون الوسط الذي هو الدليل قد يفتقر إليه في بعض القضايا بعض الناس دون البعض أمر بين فإن كثيرا من الناس تكون عنده القضية حسية أو مجربة أو برهانية أو متواترة، وغيره إنما عرفها بالنظر والاستدلال، ولهذا كثير من الناس لا يحتاج في ثبوت المحمول للموضوع إلى دليل بنفسه بل لغيره، ويبين ذلك لغيره بأدلة هو غني عنها حتى يضرب له أمثالا" .
والقرآن الكريم حينما خاطب الناس وبرهن على خطابه كان برهانه يشمل كل الاستعدادات والفطر، فهو قد خاطب العالم وغير العالم، وخاطب صاحب الحكمة والجدلي والخطابي، ولكنه في نفس الوقت جمع بين هذه الفئات جمعا متساويا في خطاب واحد، يستفيد منه كل واحد، بحسب استعداده وضرورته، وإذا كان العرف عند المناطقة والفلاسفة يقتضي "أن الجدلي ماسلم والمخاطب مقدماته والخطابي ما كانت مقدماته مشهورة بين الناس والبرهاني ما كانت مقدماته معلومة، فإن كثيرا من المقدمات تكون مع كونها خطابية أو جدلية يقينية برهانية، بل وكذلك مع كونها شعرية هي من جهة التيقن بها تسمى برهانية ومن جهة شهرتها عند عموم الناس وقبولها لهم تسمى خطابية ومن جهة تسليم الشخص المعين لها تسمى جدلية" .
وقد تضمن القرآن الكريم في كل آية من آياته وطرق استدلالاته عرض اليقينيات لا غير، إذ مصدر القرآن العلم الإلهي، وهذا العلم لا يحتمل التسليم الجدلي ولا التقليد الخطابي كتأسيس معرفي، وإنما هو علم يقيني صاغه العليم الخبير الذي "أحاط بكل شيء علما". فجاء مرة من حيث المنهج على صورة تقرير خطابي ومرة على شكل جدل إقناعي، ومرة على هيئة تقسيم وحصر برهاني، وكل هذه الصور الدلالية كما يقول ابن رشد: "إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين: أحدهما أن تكون يقينية والثاني أن تكون بسيطة غير مركبة، أعني قليلة المقدمات فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول" .
ولهذا كما يذهب إليه ابن تيمية "قد أخطأ المتكلم في ظنه أن طريقة القرآن توافق طريقته من وجوه منها: أن إثبات الصانع في القرآن بنفس آياته التي يستلزم العلم بها العلم به كاستلزام العلم بالشعاع العلم بالشمس من غير احتياج إلى قياس كلي يقال فيه: وكل محدث فلا بد له من محدث أو كل ممكن فلا بد له من مرجح أو كل حركة فلا بد لها من علة غائية أو فاعلية، ومن غير احتياج إلى أن يقال سبب الافتقار إلى الصانع هل هو الحدوث فقط كما يقول المعتزلة؟ أو الإمكان كما يقوله الجمهور؟ حتى يرتبوا عليه أن الثاني حال باقية مفتقر إلى الصانع على القول الثاني الصحيح دون الأول" .
وإنه لوصف دقيق هذا الذي وصف به ابن تيمية البرهان في القرآن، إذ مثل له بالشمس وهو يتوافق جدا مع تعبير ابن رشد السابق والذي يرى فيه أن المقدمات أقرب ما تكون إلى النتائج في القرآن الكريم، وفي نظري أن هذا التمثيل بالشمس له بعد آخر وهو أن الشمس لها طابع توليدي ذاتي للشعاع والطاقة، وذلك من خلال فرضية الاندماج الذري (أو بروتون بروتون) كما يتخيله الفلكيون والفيزيائيون ، وإذا كانت الشمس الحسية تتعرض بتوليداتها هاته المفترضة إلى نوع من الذبول والانتقاصات إلا أن الشمس القرآنية على العكس من ذلك فهي كلما تقدم الزمن ازداد شعاعها، وتولدت عنها طاقات معرفية وإدراكات يقينية يتحصل عليها كل متعرض لها صادق في تعرضه.
فالقرآن في حد ذاته برهان، وهو بهذه الصفة الخطاب الوحيد الذي يضمن النتائج الصحيحة في كل ما يعرضه من استدلالات. لأن مقدماته وطريقة عرضها بسيطة وفطرية، ولهذا فعلى أية صيغة طرح أدلته أدت هذه الأدلة إلى التصور الصحيح والتصديق اليقيني الجازم. وليس ضروريا بأن يعرض قضاياه بطريقة ضيقة على شكل حدود وأقيسة مفتعلة حتى يمكن أن تسمى قضاياه برهانية، إذ اعتبار البرهانية وعدم اعتباره كما قلنا رهين بالاستعداد الشخصي، فما يعتبر برهانا في نظر هذا قد لا يعتبر كذلك في نظر ذاك، وقد تكون المسألة برهانية مائة بالمائة غير أنها لا تؤدي إلى الاقتناع عند بعض الأشخاص نظرا لضعف استعدادهم أو لمرض نفسي حال دون الاعتراف بالحقيقة والإقرار بها كما في قول الله تعالى "ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون". وقوله: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا".
ومسألة إثبات وجود الله هي المسألة التي تعددت عنها البراهين، ولهذا فالطرق البرهانية على هذا الاثبات جد متنوعة، ولا ينبغي أن يسلك في هذه المسألة طريقا واحدا مقيدا ويقول الشخص "لا يوصل إلى مطلوب إلا بهذا الطريق: ولا يكون الأمر كما قاله في النفي وإن كان مصيبا في صحة ذلك الطريق، فإن المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج يسر الله على عقول الناس معرفة أدلته، فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وإعلام النبوة وأدلتها كثيرة جدا وطرق الناس في معرفتها كثيرة" ولهذا كانت طريقة القرآن في الاستدلال تصلح للعامي كما للعالم ويستفيد منها السريع الذكاء وبطيئه، كل له مشربه وكل له تحمله اللهم إلا من كان من المعرضين المريضين.
ثالثا: برهان الخلق في القرآن بين حصر العقل والشعور.
إن هذا الاسترسال في الحديث عن البرهانية وواقعها في القرآن الكريم كان ضروريا للشروع في تفسير الآيات الكريمات الواردة في سورة الطور من قول الله تعالى: "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون" . وهذه الآيات قد حملت كل عناصر البرهان سواء المتفق عليها بديهة أو حسا أو وجدانا، ووردت على صورة تقسيم وحصر برهاني لم يسبق له مثيل في تاريخ البرهنة. ونظرا لوقع هذه الآيات الكريمات في النفوس فإن بعض الصحابة رضي الله عنهم سيدركون بفطرتهم عظمة هذه الآيات من حيث حسمها البرهاني، وسيعبرون عن هذا الإدراك بأسلوب ذوقي ينم عن شعور وشفافية وجدانية قابلة لإدراك الحقائق عند أدنى ملامسة، فقد روى البخاري عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون" كاد قلبي أن يطير!.
نعم! كاد قلبه أن يطير، وحق له ذلك مادام له صفاء فطري وإحساس نقي بالبرهان وشروطه الموضوعية، إذ أن هذه الآيات قد جمعت الأحكام العقلية بكل أنواعها وتضمنت المعلوم بكل مراتبه وبالتالي عرضت لتقسيم هذه الأحكام بحسب متعلقاتها من المعلومات، ومن ثم كان هذا التقسيم حاصرا ومتضمنا النتيجة في حد ذاته كما عبر عنه ابن تيمية بقوله "فإن هذا التقسيم حاصر، يقول: أم خلقوا من غير خالق خلقهم؟ فهذا ممتنع في بدائه العقول، أم خلقوا أنفسهم فهذا أشد امتناعا، فعلم أن لهم خالقا خلقهم، وهو سبحانه ذكر الدليل بصيغة استفهام الانكار ليبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية في النفوس لا يمكن لأحد إنكارها، فلا يمكن صحيح الفطرة أن يدعي وجود حادث بدون محدث ولا يمكنه أن يقول هذا أحدث نفسه" .
والخلق المقصود هنا له مفهوم إبداعي وليس مجرد اختراعي حسب اللفظ الوضعي، بحيث أنه مؤسس على غير مثال سبق كما أن دلالته من القرآن تنفي عنه أن يكون مجرد تشكيل من مادة هيولانية قديمة كما ورد في زعم فلاسفة اليونان ومن تأثر بهم، وهذا المعنى الإبداعي يمكن استخلاصه من خلال قول الله تعالى: "يزيد في الخلق ما يشاء"، بحيث أن الزيادة قد تكون في جوهر وعرض وبالتالي زيادة في مادة وصورة أو مبنى ومعنى، وهذا مبدأ وبديهة ينفي قدم المادة وأعراضها أو اعتبار الخلق مجرد تشكيل لها، ومن هنا فسنجد تفطنا لغويا وذوقيا عند بعض العارفين في صياغة المصطلح العقدي كما بينا ضوابطه على سبيل التصريف أو التفسير وذلك فيما يخص كلمة الاختراع ووصف الخالق سبحانه به، إذ يقول محيي الدين بن العربي الحاتمي في هذا الصدد: "سألني وارد الوقت عن إطلاق الاختراع على الحق تعالى فقلت له، علم الحق بنفسه عين علمه بالعالم إذ لم يزل العالم مشهودا له تعالى وإن اتصف بالعدم ولم يكن العالم مشهودا لنفسه إذ لم يكن موجودا وهذا بحر هلك فيه الناظرون الذين عدموا الكشف وبنسبة لم تزل موجودة، فعلمه لم يزل موجودا وعلمه بنفسه علمه بالعالم فعلمه بالعالم لم يزل موجودا فعلم العالم في حال عدمه وأوجده على صورته في علمه... وعلى هذا لا يصح في العالم الاختراع ولكن يطلق عليه الاختراع بوجه ما لا من جهة ما تعطيه حقيقة الاختراع فإن ذلك يؤدي إلى نقص في الجناب الإلهي، فالاختراع لا يصح إلا في حق العبد، وذلك أن المخترع على الحقيقة لا يكون مخترعا إلا حتى يخترع مثال ما يريد إبرازه في الوجود نفسه أولا، ثم بعد ذلك تبرزه القوة العملية إلى الوجود الحسي على شكل ما يعلم له مثل ومتى لم يخترع الشيء في نفسه أولا، وإلا فليس بمخترع حقيقة..."
ولتحديد عناصر البرهان في هذه الآيات المعجزات سأكتفي بالتركيز على محتوى الآيتين الأولتين الواردتين في بداية التقسيم الحصري الذي نحن بصدد دراسته والخاص بالبرهنة على وجود الله تعالى بصفة رئيسية، وسأقسم هذه العناصر بحسب تقسيمها في الآيتين وهي:
أ) برهان الخلق في القرآن بين حصر العاقل والمعقول:
إن الخطاب في الآية الأولى موجه إلى الإنسان باعتباره ذاتا واعية وباعتباره موضوعا لهذا الوعي وهذا الإدراك ومادة برهانية يتلازم فيها الموضوعي والذاتي تلازما ضروريا وبديهيا. إذ الإنسان يعتبر أرقى المخلوقات في هذا الكون المرئي وهو المحمل بأمانة التكليف دون وقبل سائر المخلوقات، وهذا الخطاب قد ضرب على ثلاثة مصادر للبرهان وهي: البديهة العقلية والشعور الوجداني، والإحساس الجسماني، وقد جمع هذه الأبعاد كلها في الجملة الأولى من الآية الأولى وهي قول الله تعالى "أم خلقوا من غير شئ " إذ أن هذا الاستفهام الإنكاري طرح الإحساس والشعور معا، في كلمة أو جملة واحدة وهي "أم خلقوا" لأنه لا إنسان يستطيع أن ينكر هذه الحقيقة الملازمة لوجدان الإنسان ولإحساسه الجسماني بذاته وبغيره منذ كان عدما ثم صار نطفة فجنينا فطفلا إلى أن أصبح كهلا... إلخ..
فمن حيث وجدانه فإن إنيته لا يمكن أن تدعي قدما أو سرمدية لا على مستوى الجنس البشري ككل ولا على مستواه الفردي، إذ امتداد التكاثر عبر التناسل بالعودة إلى التراوج الأولى الذي ترتب عنه هذا التكاثر وهو الشيء نفسه الذي ينطبق على مبدأ النطفة التي منها يتألف جسم الجنين بالتزاوج والانقسام!
وأما من حيث حسه فإن الإنسان لا يثبت ولا يستقر على حال أو عرض لا يتغير ولا يتأرجح بين القوة والضعف والصحة والمرض، والفرح والسرور، والمشي والوقوف... إلخ ومن هذا الإحساس والشعور الوجداني، يتأكد له برهانيا وبدون حدود ولا وسائط صورية أنه مخلوق، وإذ قد تأكد لديه مباشرة أنه مخلوق فيكون بداهة أن هذا الخلق لا يتم إلا بسبب. إذ طبيعة تعقل الإنسان وحكمه الثابت بالبداهة والفطرة تستلزم الاعتراف بأن التغير والانتقال من عدم إلى وجود لا يمكن أن يتم من ذات العدم إلا بسبب مرجح للوجود على العدم، إذ أن العدم ليس شيئا موجودا، ومن هنا كان خطاب البداهة في الاستفهام الإنكاري "أم خلقوا من غير شيء" لأن العدم لا ينتج سوى العدم والسالب إذا أضيف إلى السالب لا ينتج إلا السالب، وبما أن الموجب قد نتج فلا بد وأن هذا الناتج كان بفعل أصل الإيجاب (أو الإيجاد الحقيقي) وليس السالب. وكلمة "من غير شيء". تشمل معنيين: أحدهما من غير خالق الذي هو المقتضى الضروري الذي لا يتم الخلق إلا به، والثاني: من غير مادة أو وسيلة عامة مخلوقة ويحتوي جنس المخلوقات مما يعني اشتراك الإنسان وباقي الكائنات في بنية واحدة منها يتألف الكون كله، وهذا المعنى صحيح من وجه ووارد، إذ أن الإنسان مخلوق على ظاهره وباطنه، أي جسم وروح، وجسمية الإنسان مصنوعة من طين، وهذا يعني في أحد شقيه المتلازمين أنه يمثل جزء من الكون المادي الظاهري، وحتى لو وقفنا مع المعنى الثاني المفهوم من الآية بالدرجة الأولى فإن المعنى الأول يبقى على حاله من القوة والإلحاح لأنه يكون من الضروري افتقار عملية الخلق إلى الخالق، لأن المسألة هنا متعلقة بالتصرف والتدبير الإرادي الحكيم، والكون المادي ليس له خاصية التصرف ولا الإرادة، بل هو جماد وصم لا يعي ذاته ولا غيره.
بعد تبيين هذه الحقيقة الفطرية والمتمثلة بداهة في استحالة وجود شيء من غير سبب وامتناع الانتقال من العدم إلى الوجود إلا بواسطة موجد، فإن الخطاب بعد ذلك سينتقل باستفهام إنكاري آخر للتدليل على عجز الذات عن خلق نفسها مع البرهنة واعتراف الإنسان ضرورة بحدوثه وذلك في قول الله تعالى: "أم هم الخالقون؟" وعند هذا الدليل تتبين الاستحالة المركبة، والمترتبة من عجز العجز عن الخلق. فإذا كان العدم لا يعطي وجودا فإن الموجود من العدم لا يمكن أن يكسب وجود ذاته بذاته، فإذن يبقى أنه وجد بموجد وأن خلق الذات للذات بمثابة الوجود من لا شيء أو من غير سبب، أي أن الأدنى يوجد الأعلى والأدنى هنا هو العدم، والأعلى هو الوجود، وهذه مناقضة لا تقرها بديهة الأطفال بله العقلاء من الرجال!
إذن فالآية الأولى تضمنت المعلوم بكل مراتبه والأحكام العقلية بكل أقسامها ومتعلقاتها، إذ الخلق يدخل في حكم الجواز والخلق بدون سبب يدخل في حكم الاستحالة وبما أن الخلق موجود فبالضرورة أنه يوجد خالق وهذا يدخل في حكم الوجوب.
ب) برهان الخلق في القرآن بين تعجيز الواعي والصم من الكائنات:
بعد هذا الخطاب المركز على الإنسان باعتباره ذاتا وموضوعا وباعتباره الكائن الذي يعي ذاته وغيره. والذي تجتمع في إمداداته المعرفية أدوات البديهة العقلية والوجدان والحس التي بواسطتها يدرك مباشرة وبسرعة أكثر من غيره أنه مخلوق من عدم وأنه قد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا"
وانتقالا من هذا التركيز الوجيز والشامل لكل عناصر الوجود وأحكام العقل من خلال النظر في الإنسان سيتوجه الخطاب إليه من جديد لتأسيس مبدأ تعجيزي آخر يقتسمه هذه المرة مع باقي الكائنات الأخرى في أوسع مظاهرها واستقطابها لنظر الإنسان وانبهاره، إنه التركيز على السموات والأرض موضوعا لا ذاتا مخاطبة، والتي قد تكبر في صدور بعض الناس حتى يتوهموا أنها هي التي أوجدتهم وأبدعتهم، فجاء الخطاب استفهاما إنكاريا ورفضا لأي دور للسماوات والأرض في الخلق والإبداع ويتجلى ذلك في قول الله تعالى: "أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون". وقد أتى الخطاب هنا مباشرة واقتضاء للتأكيد على أن هذه السموات والأرض مخلوقة مثلها مثل الإنسان، غير أنها دونه مرتبة ووجودا، ولهذا فإن القرآن قد اعتبرها عاجزة شكلا وجوهرا بحيث قد تنزه خطاب الله عن أن يضفي عليها صورة العاقل والمدرك الواعي في هذا البرهان، ولهذا لم يرد التقسيم الحصري بصيغة أم خلقتهم السموات والأرض؟ لأنه لو ورد الخطاب على هذه الصورة لكان مخالفا للبديهة والفطرة ومقتضيات الحس والوجدان. وهذا المنحى في الخطاب الإلهي بمثابة تكريم للإنسان حتى لا يقارن في هذا المقام بالسموات والأرض، ويدخل في حكم الجماد والصم من الأحياء، لأن السموات والأرض تخضع إلى قوانين جبرية ثابتة ليس من طبيعتها التشكيل أو الابتكار أو التبديل أو التغيير إلا في حدود قانونها الذي خلقها الله عليه، بل هي المعرضة أصلا للتغير والحدوث في كل وقت وحين جبرا ودون أن تكون لها إرادة. فالجرم الثقيل مثلا لا يعرف سوى النزول إلى أسفل والغاز لا يعرف سوى الصعود إلى أعلى، والكواكب لا تعرف سوى الدوران حول نفسها أو غيرها وهكذا كل جزئ في هذا العالم مهمته المحدودة في غايتها وبعدها، وهذه الكائنات الجامدات المتركبة منها السموات والأرض بفقدها للإرادة الحرة والوعي تكون أقل درجة من الإنسان، ولهذا فلا يمكنها أن تخلقه بصفته أكثر حيوية وحرية وتطلعا من السموات والأرض، بل إنه يرصد الأرض والسموات ويقدر أبعادها ويحكم على مسافاتها ويحلل عناصرها ويسخرها لصالحه كما أنه يحتويها بتصوره ويحصي أجزاءها قياسا وحسابا عدديا.
والتموضع الظاهري للسموات والأرض يكفي لإدراك أنها مخلوقة بمجرد الحس البسيط، ولهذا فالاستنتاج على أنها مخلوقة لا يحتاج إلى قياس ودوران حول تنقيح العلة من المعلول أو مراقبة التغيرات والحوادث كأعراض دالة بالضرورة على خلق الكون، إذ يكفي إدراك هذا الخلق بمجرد تقيد الأجرام في أحيازها وأماكنها وخضوعها قسرا لقانون لا تدور إلا في إطاره، والبداهة تقول إذا كانت هذه الكواكب فمن مكوكبها، وقد بين الله سبحانه وتعالى خضوع الكون كله للسير القسري، ولابداعه وخلقه بقوله: "والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون"
ومن هنا فحينما عرض الله تعالى على السموات والأرض مسألة التكليف أو الطاعة حسب ما ذهب إليه المفسرون، كان جوابها هو كما يحكيه الله تعالى في قوله: إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" سورة الأحزاب آية 72.
وهذا يعني من حيث الظاهر أن السموات والأرض لها إدراك خاص بها وأنها مع هذا الإدراك ذات إرادة محدودة في القبول أو الرفض لهذا العرض لكنها فضلت أن تختار جانب الإعفاء من التكليف، مع الخضوع بالطاعة المطلقة على سبيل التسخير واختيار عدم الاختيار.
كما قال الله تعالى في حقها "ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا: أتينا طائعين..." سورة فصلت آية10.
وقد كان بإمكان الإنسان أن يكون له نفس الوضع لكنه لخصوصية جعلها الله فيه وهي فوق السموات والأرض، "ونفخنا فيه من روحنا" فضل حمل الأمانة، فكان خطاب التكليف موجها إليه كما أن له القدرة للاستدلال بنفسه وبالسموات والأرض على خالقه سبحانه وتعالى.
بالإضافة إلى هذا الاستنتاج الذي قد يصل إليه كل ذي عقل سليم بمجرد الرؤية الحسية البسيطة، فإن القرآن سيدلل على خلق السموات والأرض تدليلا برهانيا آخر يخاطب به صنفا من الملحدين الذين لا يقرون إلا بالرؤية الحسية الثخينة، وهذا البرهان مفصل بحسب تموضعه في سياقه بالنسبة إلى البرهان الذي نحن بصدده وهو يمثل عين غايته واستنتاجه، إذ القرآن يفسر بعضه بعضا ويتجلى ذلك في قول الله تعالى: "أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي. أفلا يومنون، وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون، وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون. وهو الذي خلق الليل الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون"
وفي هذه الآية يبين لنا الله سبحانه وتعالى طبيعة وبنية الكون الأولى حينما خلقها الله سبحانه وتعالى على شكل كتلة واحدة متراصة بالرتق ثم بعد ذلك فتقها وحللها إلى عناصر متنوعة أعراضها مع أنها واحدة في جوهرها عبر عنها بالرتق ثم وأن هذا الحدث لم يكن ذاتيا وإنما هو من عمل خالق متحكم في مادة هذا الكون ومتقلد لزمام أموره. بحيث له كامل التصرف في تغيير أو تثبيت طبيعته ومظاهره. ومن البداهة أن وهمية التغير الذاتي عند الكائنات الصم (الجمادات والسوائل) مقابلة لوهمية الخلق الذاتي، إذ أن كلا من الوهمين مستحيل على كل حال وإذا كان الكائن العاقل الواعي بذاته وبغيره يمكن له أن يتصرف بحرية محدودة ويغير بعض أعراض ذاته وأعراض غيره، فإن الكائن الصم (أو الجامد) لا يستطيع إحداث هذا التغيير إلا بواسطة ذات خارجية غير ذاته تتميز بالتعقل والقصد، وإذا كان العجز موجودا عن مجرد التغيير العرضي فما بالك بالتغيير الجوهري والخلق من عدم إلى وجود، إذ فاقد الشيء لا يعطيه، ورغم وجود الحياة في الكون الجامد أو الصم فليس معناه أن الكون حي بذاته، وإنما الحياة بدورها مخلوقة، ومن عظمة الخالق سبحانه وتعالى أنه جعل من الماء ذي الأصل الجامد والسيولة المركبة، والذي لا يشعر بذاته ولا بغيره وسيلة لحياة غيره، وهذا هو الخلق المركب وهو الذي نصت عليه الآية السابقة في قول الله تعالى "ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي". فالتلازم بين الخلق والحياة ضروري وبما أن الإنسان عاجز عن خلق ذاته أو خلق غيره رغم أنه يتصف بالحياة فإن الكون المادي الجامد يكون أعجز عن وهب غيره الحياة لافتقاره إليها بذاته من حيث أصله وتركيبه المبدئي، ومن هنا كان خطاب الله تعالى صريحا في المسألة وبرهانيا كأعلى نموذج في البرهانية حينما قال: "أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الله لغفور رحيم، والله يعلم م ما تسرون وما تعلنون، والذين يدعون من دون الله لايخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون" .
وياله من تعبير معجز وبياني بليغ حينما ربط الله سبحانه وتعالى بين العجز عن الخلق وبين الحياة والموت والشعور، إذ الخلق من خصوصيات الحي بذاته لا بغيره. وإذا كان الإنسان الذي اكتسب كما وضحنا حياته بغيره وأدرك بالضرورة البديهية والحسية والوجدانية الشعورية أنه مخلوق من عدم مع الاعتراف باستحالة خلقه من غير سبب وبعجزه عن خلق ذاته بذاته، فإنه بالضرورة أيضا يكون من الواجب عليه الاعتراف بأن الجماد الميت الذي لا يشعر بذاته ولا بغيره لا يمكن أن ينتج حياة ولا شعورا وبالتالي لا يمكن أن يخلق، بل هو مخلوق مهما عظمت مساحته وتلألأت أنواره وأشعته.
فالكون قد حدث في بنيته الأولى تغيير تميز بالفتق والتحلل إلى عناصر وأعراض وهذا التغير قد أعقبته ومازالت تعقبه تغيرات الواحدة تلو الأخرى، وعند الإقرار بحدوث هذه التغيرات يكون قد ثبت أن الكون لا يملك التحكم في ذاته وبدايته بذاته، وحيث أنه لا يملك التحكم في ذاته وبدايته بذاته فإن هذا التغير الطارئ عليه لا بد وأنه مؤثر غير ذاته، إذ لا يعقل أن يطرأ عليه تغيير بدون مغير مع فقدان خاصية الحياة والشعور والإرادة... إلخ، وإذ أن الكون قابل للتغير فهو مخلوق ممكن الوجود، وبما أنه مخلوق فإنه لا يستطيع أن يخلق نفسه بنفسه، فكان بالضرورة والبديهة العقلية والوجدانية والحسية محتاجا إلى خالق، وهكذا تتحد الكائنات سواء منها العاقلة أو غيرها في صفة واحدة وهي الافتقار إلى الخالق سبحانه وتعالى.
يقول الله تعالى: "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون" صدق الله العظيم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.