البداوة والتحضر(صراع وتنافر) "" إن الغالب على البناء الاجتماعي الوهابي المتمركز خصوصا في نجد والاحساء، والحجاز وعبير، أنه يتألف في مجموعه من عدة قبائل، والقبيلة هي الوحدة الكبرى التي يتألف منها المجتمع الوهابي، وتنطوي تحت القبيلة الأسرة، وبالطبع فإن القبيلة مكونة من أسر ذات ارتباط دموي عريق غالبا ما يكون عاملا على تماسك وتراسخ العلاقات بين الأفراد المنطوية تحت هذه الوحدات الاجتماعية1، وهكذا فالمجتمعات في نجد والحجاز والاحساء وعسير تتألف من نسب عالية من البدو، وتفوق بكثير نسبة الحضر2. ولقد كان سبب نجاح دعوة ابن عبد الوهاب كما يعزيه البعض إلى اعتمادها على هذا العنصر الغالب في البنية الاجتماعية بالمنطقة، ألا وهو عنصر البدو، الذي لا يعرف إلا إخلاصا واحدا وهو الطاعة المطلقة حيث إعلانها3 أو المعاداة التامة والكلية إذا تعذر الاتفاق، فهم بطبيعتهم ليس لهم تحليل جزئي، بل منهجهم هو أخذ الشيء بالكلية سواء اشتمل على عناصر حلوة وأكثرها مرة أو العكس وأيضا تركه كليا وإن اشتمل على خير كثير بالنسبة لما يعتريه من أضرار،وهذا هو مذهب الأعراب في سطحيتهم وعنفهم وليس هو دأب العرب من أهل الحضارة والمدنية، ولقد كان محمد بن عبد الوهاب ذكيا في اعتماده على أهل البدو لنصرة دعوته المتناسبة مع نفسيتهم وغايتهم المحدودة والتي لا ترى في العمران كما يقول ابن خلدون في المقدمة سوى حجر الأثافي والقدر المغلي عليها، ناهيك عن رد فعل لما لقيه من تعنت ورفض أهل الحضر وضعفه عن مجابهتهم، فهو على عكس أستاذه ابن تيمية الذي لجأ إلى أهل المدن، فكان الرد عليه قويا وكانت نتائج دعوته على أرض الواقع محدودة الأثر ولم يتيسر له من الانتصار مثلما حصل لمحمد بن عبد الوهاب 4. وقد نهج محمد بن سعود أسلوبا مناسبا للظروف التي كان عليها أهل البدو آنذاك، وهو توليته لرؤساء القبائل بطريقة وراثية اعتادتها النفوس البدوية في ذلك الوقت، فكان يقر الأمراء القدامى على مناصبهم ولا يعزلهم إلا إذا حدث تمرد من طرف أحدهم آنذاك فيولي أميرا غيره من الأقرباء في النسب وذلك لأنه كان مدركا جيدا أهواء أهل البادية وطبائعهم، وتمسكهم بعاداتهم المتمثلة في عدم الرضوخ لأي أجنبي عنهم، إلا إن كان ذا مكانة عريقة بينهم5 . ولقد كان هؤلاء البدو يمثلون خطرا على الدعوة الوهابية وسمعتها عند المسلمين المجاورين لهم في المراحل الأولى من نضج الحركة، ويتجلى ذلك في الحروب التي كان يقوم بها الأمراء السعوديون بالاعتماد عليهم في خوضها، إذ كان يحصل العجب من تصرفاتهم فيها مما كره الكثير من الناس في الحركة الوهابية وأتباعها، أذكر على سبيل المثال هذا النص التاريخي الذي يحكيه لنا ابن بشر: " ثم بعد أيام سارت الجموع إلى المبرز بقيادة سعود بن عبد العزيز، فكمنوا لهم، فجرت وقعة المحبرس قتل فيها من أهل المبرز مقتلة عظيمة، قيل أن القتلى ينيفون عن المائة رجل وسارت الجنود إلى بلاد ابن بطال فوقع فيها قتال فانهزم أهلها وقتل منهم عدد كثير، وأخذ سعود ما فيها من الأمتعة والطعام والحيوان والأموال ثم ساروا إلى بلدان الشرق فحصل فيها قتال وجلاد وارتجف أهل الشرق، وجميع البوادي الذين مع سعود وغيرهم يدمرون في الاحساء ويصرمون النخيل ويأخذون من الثمر ويبيعونه أحمالا ويأكلون ويطعمون رواحلهم وأقاموا على ذلك أياما"6 . ولقد غالى البدو في بداوتهم وخاصة المتطفلين على العلوم الدينية منهم، إذ اعتبروا أن أهل الحضر ضالون وأن غزوهم ومحاربتهم لازمة ولا ينبغي التأني في أمرها!. وهو الشيء الذي سبب متاعب للملك عبد العزيز الذي عمل جهده في إقناعهم بضرورة الليونة في المواقف اتجاه أهل الحضر 7، ثم إن عبد العزيز حاول إضفاء نوع من التغيير في مظاهر البداوة التي كانت سائدة في عصره بإدخال بعض الأدوات الحديثة للبلاد8 فما كان من هؤلاء البدو الذين يسمون "الإخوان" إلا أن أعلنوا معارضتهم التامة لهذه المشاريع لغية أن قاموا بقطع أسلاك الهاتف التي كان يستعملها في قصره وذلك باعتبارهم لها أنها بدعة، مما اضطر الملك للتراجع عن بعض مخططاته الإصلاحية في البلاد نظرا لقوة التيار البدوي آنذاك، والذي زاد في تأجيجه التحجر المذهبي الذي تقلد أموره أناس لا يتمتعون بالأهلية العلمية اللازمة 9. ولقد استطاع عبد العزيز أن يحدث تغييرا ملموسا في مظاهر البداوة، وذلك بإدخال تعديلات سياسية واقتصادية وفقهية على ما كان سائدا عند البدو آنذاك 10 بالقضاء على النزعة القبلية عندهم وتجميعهم في وحدات زراعية، مع نقل الزعامة من يد الشيوخ القبليين إلى الحكومة المركزية بالرياض- وللتذكير فما زالت المدينة الوحيدة المبرزة كحاضرة متميزة عن سائر الأقاليم السعودية وخارجة عن مراقبة الشيوخ الوهابيين أهل الحل والعقد والتبديع والتكفير، ويتم دخولها بواسطة التأشيرة فيما بلغنا ! - وهذا العمل الذي دعمته حركة الإخوان قد كان يهدف إلى إشعار البدو بمسؤولية المواطنة وغرس حب الاستقرار في نفوسهم11. وإذا كان الملك عبد العزيز أول الأمراء الوهابيين الذين أعلنوا النية في تقليص نسبة البداوة في البلاد ومسايرة المدنية الحديثة وما يتطلبه الزمن من إحداث تغيير في مظاهر الحياة التقليدية وخاصة فيما يتعلق بمسألة الاقتصاد والصناعات والعمران، فإن ذلك لم يكن ذا أثر جد ملحوظ وتعويل بالكامل على احداث التغيير في عادات البدو وتحجرهم. والسبب في ذلك كما رأينا هو معارضة " الإخوان" لكثير من المشاريع التي أزمع عبد العزيز على إحداثها في البلاد، فبقي الأمر بين الأخذ والرد، والتحفظ والتريث، إلى أن تولى الحكم الملك فيصل بن عبد العزيز سنة 1964، والذي أخذ على عاتقه أن يجعل من البلاد دولة عصرية تأخذ بركاب المدنية الحديثة وتسايرها في تطورها تدرجا 12 ودون المساس أو الإخلال بقواعد الشريعة الإسلامية حسب المفهوم الوهابي. وهكذا، فلقد كان تقدير عدد السكان ما بين الستينات والسبعينات يحدد بسبعة ملايين نسمة. ينقسم هؤلاء في الغالب إلى أهل الحاضرة، وأصبح اسم البدو في هذه الفترات لا يطلق على ساكني القرى المستقرة، ولكن اختص به العرب الرحل الذين يعيشون على الرعي. وقد لوحظ من خلال هذه التقديرات اضطراد النقص في عدد أهل البادية بالمعنى العام، بحيث أصبح لا يتجاوز في السبعينات 20% من مجموع سكان البدو وهو عدد جلي في انخفاض نسبة البدو الذين كانوا يشكلون الطبقة الكبرى في المجتمع الوهابي13 ، ويتجلى هذا الانخفاض بوضوح في نسبة البدو بالمجتمع الوهابي في كثرة الأراضي الزراعية المهجورة ونقصان عدد كبير من السكان في كثير من القرى، كما أبان ذلك بعض الباحثين الاجتماعيين وخاصة في المنطقة الجنوبية الغربية، وكما نقل عن خطة التنمية الثانية للمملكة العربية السعودية14 . هكذا، ولقد تطور أهل البدو والحاضرة معا في المجتمع الوهابي تطورا سريعا في مظاهر حياتهم، سواء المنزلية منها أو الاجتماعية والاقتصادية، فاستعملوا السيارات الفخمة والطيارات، وتفننوا في أساليب العمران وهندستها، في حين أنهم كانوا لا يركبون إلا الإبل ولا يقطنون في الغالب إلا في الخيام بالنسبة لأهل البوادي الرحل، وبالتالي اتصلوا بالعالم الخارجي عن طريق المذياع، والتلفزيون ووسائل أخرى إعلامية15...الخ ، رغم أن الكثير من علماء الوهابية مازالوا يرون تحريم الصورة الفوتوغرافية وسياقة المرأة للسيارة! وكل هذا حصل بعدما كان أهل نجد والبدو خصوصا، يعتبرون التقنيات الحديثة والسيارات المتحركة بالوقود رجسا من عمل الشيطان !.16 التعايش المذهبي والطائفي (عنصرية وانتقائية) إن تحديد اتساع هذا الجانب أو انحساره في المجتمع الوهابي ومظاهر التغير فيه ليس بالأمر الهين بالنسبة لمن ينظر من منظور جد بعيد، وذلك لأنه يحتاج في مصداقية الحكم عليه إلى أن يكون بحثا ميدانيا يباشره الباحث على الأرضية التي يوجد فيها هذا المركب الاجتماعي. وبدون هذا الإجراء فسيكون حكمه مجرد استقراء جد ناقص للموضوع والسبب في هذا التلبد الحائل دون إدراك الحقيقة هو ما يبدو في بعض كتابات علماء نجد من تراجع أو تبرؤ مما ينسب إليهم من اتهامات في هذا الجانب. وقبل الشروع في إبداء النظر حول مدى التغير الذي حصل في هذا المجال، لابد من إعطاء نظرة موجزة عن حالة المذاهب الغالبة على الرقعة التي يتواجد فوقها المذهب الوهابي وخاصة في أهم منطقة منها، وهي الإحساء وما جاورها، فرغم أن كل سكان المنطقة يعتبرون مسلمين إلا أنهم يختلفون مذهبا، وأهم تلك المذاهب التي تحتل الصدارة هما : المذهب السلفي ويقصد به الحنابلة، والمذهب الشيعي الذي كان يمثل الأغلبية الساحقة في بعض المناطق دون الأخرى 17. فكما يقول لويمر أن نسبة الشيعة في الهفوف كانت تساوي ثلاثة أسباع 3/7 السكان، وفي القطيف يشكلون الأكثرية الساحقة، ويعزي تكاثر الشيعة في هذه المناطق خصوصا وانحسار نسبتهم في مناطق أخرى عدى اليمن إلى قرب اتصال السكان بإخوانهم في المذهب والمتمركزين في كل من البحرين والعراق وإيران، البلدان المجاورة للإحساء والمجامع الأساسية لأصحاب المذاهب الشيعية.18 هذا ولم تكن علاقة الشيعة في هذه الأقاليم بالوهابيين وحتى العثمانيين، علاقة وطيدة، ذلك أن كلا من الوهابيين والعثمانيين كانوا يأخذون بمذهب السلفية أو أهل السنة. فكانوا ينظرون إلى الشيعة نظرة المرتاب في أمره وولائه، لغاية أن الحكومات الوهابية (السعودية) المتعاقبة كانت تأخذ ضريبة سنوية إضافية من الشيعة وذلك لتمويل الحملات العسكرية بما يلزمها. والسبب في ذلك عدم اعتمادهم عليهم كجنود في حروبهم 19، فكانت هذه الضريبة بمثابة الجزية التي يفرضها المسلمون على الذميين إن صحت المقارنة!. ثم إن هذا التشدد نحو الشيعة لم يكن ليقتصر على هذا الحد بل كان يصل إلى استباحة دمائهم، واعتبارهم من أهل الكفر والمروق، وقد يبين لنا هذا الوضع ابن بشر بقوله: " وسار سعود بالجيوش المنصورة، والخيل العتاق المشهورة، من جميع حاضر نجد وباديها والجنوب والحجاز وتهامة وغير ذلك، وقصدوا أرض كربلاء، ونازل أهل بلد الحسن، وذلك في ذي القعدة فحشد عليها المسلمون وتسوروا جدرانها ودخلوها عنوة، وقتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت، وهدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها على قبر الحسين، وأخذوا ما في القبة وما حولها وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد من الأموال والسلاح، واللباس والفرش والذهب، والفضة والمصاحف الثمينة أو غير ذلك مما يعجز عنه الحصر" 20. ثم يقول في نص آخر : " وفي هذه السنة تمالأ صالح بن النجار وعلي بن سلطان الحبيلي ورجال من رؤساء الاحساء فأجمعوا على نقض عهد الإمام عبد العزيز ومحاربة المسلمين". والذي يلفت النظر في هذين النصين هو استعمال كلمة : - المسلمون- بالنسبة للوهابيين خصوصا، وهذا ما يشير إلى نظرتهم المتشددة للمخالفين وخاصة الشيعة الذين اشتدت النقمة عليهم من طرف الإخوان الوهابيين لغاية أن اعتبروهم كفرة تصريحا. وينبغي لهم أن يبايعوا من جديد على الإسلام وأن يمنعوا من ممارسة شعائرهم الدينية في الحسينيات، ويجب إجبارهم على الصلاة في مساجد السنة، بل أخذوا يتسورون عليهم بيوتهم ويقتلون منهم الكثير في إقليم الإحساء 21. وقد أوردوا فتاوى في الشيعة والرافضة منهم خاصة ما نصها: " وأما الرافضة فأفتينا الإمام أن يلزمهم البيعة على الإسلام، ويمنعهم من إظهار شعائر دينهم الباطل، وعلى الإمام أيضا أن يلزم نائبه على الإحساء، أن يحضرهم عند الشيخ ابن بشر ويبايعوه على دين الله ورسوله وترك دعاء الصالحين من أهل البيت وغيرهم وعلى ترك سائر البدع...! ومن أبى قبول ما ذكر ينفى من بلاد المسلمين "22. وتعتبر المذهبية في مجتمع الإحساء من أهم العوامل في عدم تجانس وتكيف المجتمع هناك! لأن النعرة المذهبية أصبحت منبعا للحزازات والعنصريات مما كان له بالغ الأثر على الكيان الاجتماعي والحركات الاقتصادية في هذه المنطقة 23. ورغم هذا الاضطهاد البارز للشيعة من طرف الوهابيين المعروفين بالإخوان، فقد بقيت خلايا شيعية تعشش في الوسط الوهابي، وإن كانت نسبتها تقل عما كانت عليه قبل، بحيث أنه مازالت توجد مدارس ومساجد خاصة بأصحاب المذهب الشيعي في إقليم الإحساء، تسمى ب"الحسينيات"، إذ تلقى فيها الدروس وتقام بها العوائد الشيعية ويؤخذ الفقه الشيعي 24. وقد تلا الشيعة في هذه المضايقة والتعنت المذهبي أهل التصوف، لكن هؤلاء الأخيرين لم يكن الأمر معهم ليصل إلى درجة العلاقة بالشيعة لأن أغلب العراك الذي كان يقوم مع بعضهم ليس إلا عراكا فكريا كلاميا أكثر منه استفزازا سلطويا أو عسكريا، وذلك لأن طبيعة أهل التصوف لا تدعو إلى التحدي وإشهار الأسلحة في وجه الخصوم ابتداء وبدون مقدمات للدعوة بالتي هي أحسن. كما أنه أيضا حسب ما يظهر لي أن الوهابية تقر التصوف بوجه من الوجوه، بل تثني على أقطابه وتعترف بإمامتهم واستقامتهم وهي بذلك تسير نحوهم على ما سار عليه ابن تيمية من تكفير البعض والاعتراف بولاية البعض الآخر، فنرى ابن عبد الوهاب يصرح فيقول : " ولا ننكر كرامات الأولياء، ونعترف لهم بالحق وأنهم على هدى من ربهم مهما ساروا على الطريقة الشرعية إلا أنهم لا يستحقون شيئا من أنواع العبادات، لا حال الحياة ولا بعد الممات، بل يطلب من أحدهم الدعاء، بل ومن كل مسلم، فقد جاء في الحديث : " دعاء المسلم مستجاب لأخيه" الحديث. وأمر - صلى الله عليه وسلم - عمر وعليا بسؤال الاستغفار من أويس ففعلا 25. كما نرى عبد العزيز بن محمد بن سعود في رسالته : "الدعوة وأصولها" حول موضوع : زيارة قبره صلى الله عليه وسلم والنهي عن اتخاذ القبور مساجد. يقول : " وإذا جاء السفر المشروع لقصد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه دخلت زيارة القبر تبعا لأنها غير مقصودة استقلالا، وحينئذ فالزيارة مشروعة مجمع على استحبابها بشرط عدم فعل محظور عند القبر كما تقدم عن مالك، وما حكاه الغزالي رحمه الله، ومن وافقه من متأخري الفقهاء من زيارة القبر"26 . والملاحظ في هذا النص استعراض اسم أحد أقطاب الصوفية بترحم وهذا ما يطابق اعتراف محمد بن عبد الوهاب بأحوال الصوفية وما يرد عنهم من أخبار كما رأينا الشيء الذي يبين لنا نوعا من التقارب الشكلي والإستدراجي بين الوهابية وأهل التصوف السنيين على الخصوص وليس المبتدعين أو الدخيلين عليه كما يزعمون!. ولئن كان قد أعلن في أول دعوته أنه لا يدعو إلى مذهب صوفي أو غيره 27 فهو بذلك يقصد أنه لا يريد إضافة لقب جديد إلى الساحة الإسلامية، يوهم بخصوصية مذهب دون آخر، والذي كان يتحاشاه قد وقع له ولأتباعه بحيث أصبحوا يلقبون بالوهابيين، وإن كانوا لا يرضون هذا!. وحسب ما يبدو أنه لا زالت كثير من الاستفزازات تصدر من حين لآخر ضد أهل التصوف في آرائهم والتهجم عليها، لحد أن السلطة تتدخل للانتصار لعلمائها ومنظريها ضد من يتبنون المبادىء الصوفية. والغالب على طابع هذا النزاع التعرض لمسائل حيثية ليست ذات عمق جوهري في العقيدة أو الشريعة كما كان الشأن مع الشيعة، كمسألة إحياء ذكرى المولد النبوي، ومناداة الرسول صلى الله عليه وسلم بسيدنا، والتوسل ومفهوم السنة والبدعة...الخ 28 فكان الأولى بالعلماء الوهابيين أن يطووا الصفحة عن مثل هذه المنازعات التي لا يمكن الحكم عليها بصفة قطعية إلا بالإدراك الشامل لمقاصد منتحليها وهو الشيء الذي يرد به عليهم أهل التصوف ومن في اتجاههم. وكيف ينسب الانحراف العقدي إلى رجالات التصوف وهم الذين قد بلغوا الذروة في التنزيه لله كما يقولون، اقتطف نصا من نصوصهم في هذا الأمر وهو حكمة من حكم ابن عطاء الله السكندري يقول فيها عن صفات الله سبحانه وتعالى ما يلي : " كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء، كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء، كيف يتصور أن يحجبه شيء وهوالذي ظهر لكل شيء، كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر قبل وجود كل شيء، كيف يتصور أن يحجبه شيء ولولاه ما كان وجود كل شيء، يا عجبا كيف يظهر الوجود في العدم أم كيف يثبت الحادث مع من له وصف القدم" 29. إن من يصف هؤلاء الصوفية بالقبوريين وعباد الأضرحة لهو من الغباء والإسقاط بعينه وأتحدى كل وهابي ومتسلف أن يثبت باللفظ وحكم الشريعة الظاهر أن أحدا من الأمة ولو كان أميا يعبد صاحب قبر أويؤلهه لحد اعتباره مشركا كالوثنيين،خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد برأ أمته من ظاهرة الشرك المطلق الحسي والوثني أومعاودتها لساحتها حينما قال في الحديث الصحيح" وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها" 30-أي الدنيا- فكان كل تشريك أو تكفير لأهل القبلتين هو بدعة البدع وضلالة الضلال والعياذ بالله.وحتى لو صدر من بعض السفهاء أقوال واعتقادات مخالفة لجوهر التوحيد في الأمة وهذا الناذر جدا فذلك ليس سوى شذوذ أو نوع زندقة قد يحاربها الصوفية والفقهاء والمتكلمون معا وعلى حد سواء وهي لا تمثل في أي مذهب أو طائفة مسلمة سوى نقطة ضالة سوداء سقطت من خارج الإناء في ثنايا اللبن الصافي والمغذي.بحيث قد لا تقدر هذه النقطة السوداء أن تغير حقيقة اللبن وقيمته الغذائية أو تنفر شاربه إلا بالنسبة للموسوسين وأصحاب الأمراض الانعكاسية المترهلة ،أما الأصحاء كما يقول أبو حامد الغزالي فلا ينبغي أن يعافوا من العسل لوجودها في محجمة الحجام. إضافة إلى هذا فمفهوم الشرك قد يعني اعتبار الندية في كل شيء وتسمية المعبود بالإله ،وهذا ما لم يرد ولا ينبغي أن يتصور في أوضع رجل من المسلمين فما بالك بأهل المعرفة والعلم والذكر الكثير بل أقصى ما يذهب إليه العامة من الناس في اعتقادهم برجال التصوف والصالحين ووصفهم لهم أنهم أولياء لله تعالى ومن أحبهم فقد أحبه الله تعالى ،وهذا اعتقاد شريف ومشروع وهو مسلك مضاد لمن عاداهم فقد عاداه الله تعالى كما في الحديث القدسين، وهو مسلك الوهابية في محاربتهم وتهديمهم لأضرحة الأولياء التي هي معالم ورموز في توحيد الأمة ووصل خلفها بسلفها وصلا روحيا وأخلاقيا قد نص عليه القرآن نفسه في سورة الكهف حيث يقول الله تعالى عنهم :"قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا"وفي هذه الآية دلالتان وهما:أ- أن غالبية الناس لهم حب وتعلق بالأولياء ب- أن قرارهم في البناء ليس من مسؤولية هؤلاء الأولياء ،كما أن القرآن لم يعقب بالسلب على هؤلاء المتغلبين الذين أبوا إلا أن يخلدوا ذكرى أهل الكهف لتصبح قبورهم مزارا وعبرة ومعلمة للتفكر والأسوة الحسنة ،وهذا ما لم يرد أن يفهمه الوهابية وبيادقها في البلدان العربية والإسلامية . وحتى ما يتذرع به الوهابية من وصف الصوفية بالقبوريين تعسفا فهذا إسقاط محض وتضليل وقلب للحقيقة ،إذ ليس الصوفية من هم الذين يتمسحون بالقبور وإنما العامة هم من يتمسحون بقبور الصوفية لاعتقادهم فيهم الصلاح والولاية ،والتمسح نفسه أو المناجاة ليست شركا وتقبيل القبر أيضا ليس عبادة وإنما هو تعبير عن المحبة والتقدير ليس إلا ،وإلا فقد نشرك كل من يقبل شخصا أو رسالة أو حتى زوجة بزعم أن هذا شرك وضلال وتمسح ،وهذه سخافة من نموذج سخافة نكتة الطويل اللحية الذي أحرق نفسه بنفسه لغباوته كما رأينا في مقال سابق. وفي هذا مصادرة للنوايا وتضييق على الوجدان والمشاعر مما يعني موت عنصر المحبة في الأمة وتعويضه بالهرج والكراهية الشاملة وهذا ما يحاربه الصوفية في مذهبهم الذوقي والروحي المتسامي حول الحب الإلهي الذي يقتضي محبة خلقه والرفق بهم وتيسير الدين لهم وفتح الأعذار لهم والتواضع في التعامل معهم. ولقد أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" المرء مع من أحب"و"من أحب شيئا أكثر من ذكره"والصوفية قد يعتبرون من أكثر أهل الأمة ذكرا لله تعالى وتوحيدا له باللسان والجنان،وأتحدى أيضا كل وهابي أو متسلف أن يجاري مثل الصوفية ولو أبسطهم في تكرار كلمة "لا إله إلا الله "بالعدد الذي يذكر به الصوفي والمتصوف معا، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال :"جددوا إيمانكم ،قالوا كيف نجدد إيماننا يا رسول الله؟قال :أكثروا من قول :لا إله إلا الله" وأيضا"لكل شيء جلاء وجلاء القلوب ذكر الله"وهذا يكفي للدلالة على أن الصوفية هم السابقون في مجال توحيد الله تعالى وإفراده بالاعتقاد لسانا وجنانا.وهو ما عبر عنه الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه المنقذ من الضلال حيث قال:" وبالجملة ماذا يقول القائلون في طريق طهارتها وهو أول شروطها تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى،ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة استغراق القلب بالكلية بذكر الله،وآخرها الفناء بالكلية في الله،وهذا آخرها بالإضافة إلى مالا يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها وهي على التحقيق أول الطريقة"31 . فالذاكر بالنسبة لغير الذاكر كالحي للميت وهو ما نص عليه الحديث النبوي الشريف المتفق عليه:"مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت".ومن هنا ففي نظرنا أن أموات الصوفية خير من أحياء الوهابية الجامدين وميتي القلوب ومسلوبي الأحوال ،ولقد شبه شيخهم ابن تيمية زعيم السلفية التاريخية من لا حياة روحية له ولا حال يطرأ عليه أو حينما لا يخشع ولا يقشعر جلده أو تدمع عيناه من ذكر الله تعالى بأن هؤلاء فيهم شبه من اليهود لقساوة قلوبهم وصلافة أذهانهم !!!. ومن هنا فإذا ناجى أو خاطب الأحياء من هذه الأمة أمواتهم من نموذج هؤلاء الذاكرين وتواصلوا معهم وهم في قبورهم على شكل توسل أو استئناس فليس في ذلك شرك أو بدعة أو تأليه وإنما هو تواصل واعتراف بفضل السابقين الأحياء في قبورهم على الأحياء في دنياهم وظواهرهم،وقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم قتلى بدر من الكفار وأثبت لهم سمعا ووعيا لما يخاطبهم به ،كما أنه قد ناجى أمه عند قبرها وبكى حتى أبكى معه ألف مقنع بالحديد كما في السيرة النبوية وخاصة كتاب "الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم"لابن كثير،وقد يناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلى عليه ويرد السلام على أمته لأنه حي عند ربه يرزق وذلك من باب التعبير عن الحب والتعلق بالفضيلة التي تتمتع بها روحه واستلهام أنوارها وعبيق عطرها الشجي والزاهر،وهذا ما يشعر به الذاكرون وأحياء القلوب ،أما الجمداء فلا يرون في النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أولياء هذه الأمة وفضلائها سوى اللحد والتراب والقطيعة النهائية ،ناسين أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى لما أراد المعتزلة تعذيبه بسبب فتنة خلق القرآن وحاولوا خلع ثيابه قد امتثل لهذا المصاب إلا أنه رفض خلع صرة صغيرة كانت تحت إبطه فلما استفسر عنها قال بأنها شعيرات لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحتفظ بها تبركا وتواصلا روحيا به صلى الله عليه وسلم،والرسول في حكم الميت روحا وجسدا عند الوهابية فكيف بهذا الإمام الجليل يحتفظ بشعيرات ميت أوليس هذا شركا بحسب المقاييس الجامدة للوهابية وإسقاطاتهم البدعية والشركية حول تواصل الأحياء في الظاهر الدنيوي مع الأحياء في العالم الأخروي الروحي؟ ،ويكفينا في رفض مثل هاته المواقف الروحية والوجدانية موتا معنويا ورثته الوهابية للأمة لقتل روحها ووجدانها ،بل حتى أجسادها بزعم حماية التوحيد وعقيدة السلف المتسلف. ولقد لوحظ أخيرا في الزمن القريب نوع من التخفيف الشكلي والتمويهي في حدة الاستفزازات المذهبية والغلظة في أسلوب الدعوة التي كانت تصدر من بعض فاقدي الأهلية لها، ويظهر هذا الاعتدال عند المسئولين السياسيين بالخصوص، الشيء الذي استنفر بعض مدعي العلم من الوهابيين للتهجم على بعض أولئك المسؤولين أنفسهم 32 واتهامهم بالتقصير في حق الدعوة إلى التوحيد حسب تصورهم!. وكان من أبرز ما صدر في موضوع الدعوة بالتي هي أحسن وعدم الاستفزاز والإكراه للآخرين هو خطاب الملك فهد بمناسبة عرض الميزانية المالية لعام 1404 – 1405 ما مقتطفه : " فمثلا لو جئت إنسانا يسير بجانب المسجد والصلاة تقام فيه فقلت له مثلا الصلاة تقام، لماذا لا تدخل المسجد وتصلي فيه؟ " اللي فيك يخطيك" أو تكلمت كلاما عنيفا، فإنه قد ينفر منك وقد يرد عليك بنفس الأسلوب ويقول كلاما غير لائق، وقد يصل به الأمر أن يرفض دخول المسجد، لكنك لو أمرته بالمعروف وقلت له كلاما لطيفا وبالحسنى كأن تسأله عما إذا كان متوضئا، فإن الصلاة تقام ومن مصلحته أن يدخل المسجد... أصبح التفكير الآن يقيم بالسماع والقراءة والكلمة والإقناع بالمنطق وبالمعقول والتمسك بالعقيدة الإسلامية" 33 التي تعني العقيدة السلفية في المفهوم الوهابي بطبيعة الحال ... ومثل هذه اللهجة ينذر صدورها ممن سبق، وخاصة في العهد الوهابي الأول، الشيء الذي يبين لنا تلون الحزازات المذهبية لدى الأطر المتزعمة للحركة الوهابية في لباسها الفكري والسياسي حاليا، وهي لهجة ذات بعد سياسي في الراجح وتهدف إلى الحيلولة دون حصول الاضطرابات الداخلية التي قد تؤدي إليها الصراعات المذهبية والمجادلات التي باتت لائحة في الأفق الاجتماعي الوهابي، بسبب ما أخذ يظهر من اختراق لحدود الشريعة الإسلامية ظاهريا وللمذهب الحنبلي المتشدد خصوصا من طرف المغتربين والمستلبين من أفراد المجتمع الوهابي الذين تأثروا كثيرا بطغيان المال وزئبقية الحضارة الغربية المغرية وسلوك تجارة القنوات وإعلام الإغراءات. مما تسبب عنه انشطارية في المجتمع : فئة محافظة ومتشددة, وفئة متميعة ومستلبة... ضيق الأفق المذهبي في تكريس الصراع والطائفية قد يأتي إنسان ويقول: إن الحركة الوهابية قد كانت دعوة إلى إصلاح العقيدة لا غير وأنها لا علاقة لها بالماديات والتخطيط لاستغلالها، أو أن الحركة التزمت مذهب السلف ولم تحد عنه قيد أنملة، فلا حاجة لها إذن بالمفكرين ولا أصحاب الكلام، ولا ...الخ. وهذا المبرر صادر فعلا من طرف علماء الحركة34 وقد يبدو موضوعيا إلى حد ما لو صحت النية والمنهج، لأن هذا النوع من الإصلاح هو الأساس في إحداث التغيير الاجتماعي ويدخل ضمن العامل الثقافي في التغير الاجتماعي، لكن يبقى ما هو الأسلوب الذي سلكته الحركة الوهابية في ترسيخ العقيدة في النفوس كما أنه يتساءل ما هو المستوى المنهجي الذي انطلقت منه؟ إن محاربة الوهابية لعلم الكلام والفلسفة والتصوف بهذا المصطلح في رأيي قد أمال الكفة ضدهم من حيث التقييم العلمي الذي يفرض نفسه عليهم. وذلك بالرجوع إلى القرآن والسنة فمثلا حين نسمع قول الله تعالى :"قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق". نفهم مباشرة من هذا الخطاب الحث على طلب العلم والاستدلالات واستعمال العقل استعمالا منظما وممنهجا وهادفا لغاية سامية، هي الكشف عن حقائق الكون وتفسيرها. وبذلك تتجلى لنا معاني القرآن الكريم التي لم ندركها للوهلة الأولى ويتجلى إعجازه سواء لمن ينظر أو من يجرب. إذن، فالقرآن الكريم أعطى لنا الحرية في البحث والتعليم والغوص بالكامل سواء في العلوم النظرية أو التجريبية، لكي تتجلى لنا الآيات ويعضد بعضها بعضا لتطمئن قلوب مريضة، وتسمو أرواح متشوقة إلى إدراك الأسرار التي أودعها الله سبحانه وتعالى في أغوار هذا الوجود، إضافة إلى الحرية في التعبير والإصلاح المتجدد والموافق لروح النص القرآني والحديثي. إن انعكاس منهج الوهابية الفكري على مجتمعها كان انعكاسا واضحا وذلك أنه أصبغ عليها صبغة سطحية وسكونا فكريا، فلا حركة تنطلي بأعراضه. نعم! إن الحركة الوهابية قد حررت عقولا وأزاحت وثنيات وطهرت بقاعا حسب زعمها ولكن عقول من يا ترى تلك التي استطاعت الوهابية أن تصلحها وتطوعها لصالحها، هل عقول الفقهاء المتمذهبين، أم عقول المفكرين المتكلمين والفلاسفة أم عقول العامة البدويين؟ فحسب ما يبدو لي أن العامة البدويين كانوا أصحاب نصيب الأسد في هذه التبعية أما غيرهم فنذر استجابته للحركة الوهابية رغم انزلاق كثير ممن يسمون إعلاميا بالعلماء في منحدرهم وخاصة في فترة ظهور البترول ووفرة الإغراء بالمال والمناصب والشهرة! وسبب هذا الاستنتاج، هو رجوعنا إلى كتابات الوهابيين واستقراؤنا لنصوصهم بحيث نجد أنهم لم يأتوا بجديد ولم ينتجوا فكرا ولا فقها بالمعنى اللازم، وإن صدرت عنهم بعض الفتاوى التي يكاد يبين فيها بعض التفتح المذهبي إلا أنها لم تكن ذات شأن يذكر، فأهم كتبهم تضمنت الكلام عن التوحيد، والذي يسمع بعناوين هذه الكتب قد يتبادر إلى ذهنه أنها تعالج مواضيع أشكل على العلماء حلها أو كانت مجال التدقيق واستخراج معانيها باجتهاد علمي، لكننا حينما نتفحصها نجد أنهم يستتبعون الآيات والأحاديث بعضها ببعض ويردفونها بشروح قصيرة، بحيث لم يخوضوا في تأويل ولا بحث واسع في المدلولات اللغوية أو الإمكانات العقلية والتضادات، بل إنهم أخذوا الآيات على ظواهرها وشرعوا في الاستشهاد بها على مذهبهم في التوحيد وموقفهم من جسمية الروح والتواصل والمحبة كما سبق وبينا معتقدهم باختصار في المقال السابق أورد على سبيل المثال بعض أنواع التأليف عندهم يقول محمد بن عبد الوهاب في إحدى رسائله35: "القاعدة الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركوا زماننا شركهم دائما في الرخاء والشدة، والدليل قوله تعالى: "فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون" سورة العنكبوت: 65 . وهذا الأسلوب في الإسقاط يكاد يطابق حرفيا ما ورد في حق الخوارج كما رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين حيث يقول :"وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله" وقال: "إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين". ولقد كان لهذه المنهجية في الكتابة المتقطعة دور خطير بوضع الأمور في غير محلها، وذلك أنا رأينا كلمة الشرك تطلق على كل من يشتبه في معاملته الروحية حيث اتفق وهو شيء يستلزم الحيطة التامة في إصدار مثل هذه الأحكام كما هو منصوص عليه شرعا وكذلك إضفاء المقارنة بين مشركي الجاهلية وبعض المسلمين لوجود نوع تشابه في بعض المظاهر 36. كما أن الوقوع في الشرك مستبعد عن المسلمين بالنص النبوي وقسمه كما سبق ذكره. هذا وقد تسربت هذه المنهجية إلى العلاقات العامة ودخلت في أوساط التركيبات الاجتماعية وأخذها العامة بمفاهيمها السطحية حتى صار كل من يقف أمام قبر إلا وهو عرضة للرمي بالشرك، وبهذه المناسبة أورد حادثة ذكرها المستشرق الرومانسي "لامرتين" في كتابه: السفر إلى الشرق voyage en orient يحكي فيها مناظرة وقعت بين وهابي ومسيحي حول التوحيد. وبعد إلقاء الأسئلة من طرف الوهابي وإجابة المسيحي له، قال الوهابي ما مترجمه: "- إن الترك قد جعلوا من نبيهم إلها. وصلوا إلى قبره مثل المشركين، لعنة الله على المشركين، ولا يصلح لهم إلا السيف". إلى أن قال: "- كنت أعتقد لحد الآن أن المسيحيين كانوا أكثر الناس أساطير وخرافات لكني الآن مقتنع أنهم أقرب الناس إلى الحق من الترك"37 . وهذه الحكاية وإن كانت لا تخلو من سموم المستشرقين إلا أنها تصور لنا مدى سذاجة هذا الوهابي الذي انخدع بتعمد المسيحي الإجابة المطابقة لعقيدة الوهابية، وهو الشيء الذي يشير إليه "لامرتين" في متخلل الحوار الذي جرى بين الرجلين. كما تبين لنا سرعة الحكم بالكفر على بعض المظاهر التي كانت تبين على بعض الطوائف الإسلامية، وبالتالي كيف استساغ هذا الوهابي أن يفضل المسيحي على إخوانه من الأتراك. وهذه السذاجة والصلف والجمود الفكري قد انعكس على عقيدة الوهابيين أنفسهم وعرضوا أنفسهم لأن ينعتوا بالمشبهة والمجسمة والحشوية وكذلك التقارب بين تصوراتهم وما عليه المسيحيون من تجسيم وتشبيه في بعض القضايا وخاصة الصفات والاستواء على العرش وما إلى ذلك في أخذها على ظاهر مادي يتنافى مع عقيدة التقديس والتنزيه. متأثرين في ذلك وبشكل مشوه ببعض آراء الكرامية وابن تيمية 38. إن هذا السلوك نحو المخالفين في المذهب, وهذه السرعة في التكفير، كانت وراء انعدام التجانس الطائفي في الأقاليم الوهابية، والذي استتبعته حروب دامية تقشعر منها الجلود وتشمئز من الاطلاع على أخبارها النفوس، والذي يقرأ كتب المؤرخين الوهابيين يجد العجب العجاب مما يسيء إلى سمعة الحركة الوهابية ويؤشر على خطرها ونزعتها للعنف، وقد كنت خلال بحثي أتصفح كتابا لابن بشر: "عنوان المجد في تاريخ نجد"، فلم أجد صفحة تقريبا إلا وفيها قتال مرير وكر وفر حتى خيل إلي وأنا أقرأ هذا الكتاب كأنني أتناول كتاب الأساطير الذي يصور لنا حروب "سيف بن ذي يزن" مع العفاريت. فكان الأولى بالعلماء الوهابيين أن يحذفوا هذه الكتب من قائمة المراجع التاريخية عوض أن يساهموا في نشر مثل هذه المهازل التاريخية!.والله الهادي على الصواب. قائمة المصادر والمراجع 1 - عبد الفتاح أبو علية: الإصلاح الاجتماعي في عهد الملك عبد العزيز 1976 ، مطبوعات دار الملك عبد العزيز ص 115 2 - نفس المرجع السابق ص 121 3 - تاريخ الجزيرة العربية: ص 268 4 - عبد المتعال الصعيدي : المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر مكتبة الحماميزي ص 439 5 - تاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 268 6 - عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1 ص 130 7 - المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر ص 569 8 - الأمام محمد بن عبد الوهاب أو انتصار المنهج السلفي ص 186 9 - زعماء الإصلاح في العصر الحديث: ص 20 10 - بعض ملامح التغير الاجتماعي والثقافي في الوطن العربي ص 425 11 - الإصلاح الاجتماعي في عهد الملك عبد العزيز ص 148 12 - Pays et continents. L’Asie I. Pour le compte des éditions. Lidis Henri. PICHERA. 209 13 - إبراهيم عبده، رئيس تحرير الموسوعة الذهبية. سجل العرب طبعة مزيدة ومنقحة، المجلد السادس من مكافحة الحريق إلى اليونسكو ص 957 14 - بعض ملامح التغير الاجتماعي والثقافي في الوطن العربي ص 434 15 - جزيرة العرب في القرن الشرين ص 13 16- عبد الفتاح أبو علية : الإصلاح الاجتماعي في عهد الملك عبد العزيز 1976 مطبوعات دار الملك عبد العزيز ص 38 17- د. محمد خليل هراس : الحركة الوهابية. مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينةالمنورة 1396. ص 44 18- الإصلاح الاجتماعي في عهد الملك عبد العزيز ص 47 19 - نفس المرجع السابق ص 38 - عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1 ص 136 20 - الإصلاح الاجتماعي في عهد الملك عبد العزيز ص 155 21- المجددون في الإسلام من القرن الأول (حتى القرن الرابع عشر) ص 571 22- الإصلاح الاجتماعي ص 122 23 - نفس المرجع السابق ص 65 24 - الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعقيدته السلفية ص 58 25- عبد الحليم الجندي : الإمام محمد بن عبد الوهاب أو انتصار المنهج ص 95 26 - نفس المرجع السابق ص 95 27- يوسف السيد هاشم الرفاعي : الرد المحكم المنيع على منكرات وشبهات ابن منيع – دار الطباعة الحديثة الدارالبيضاء ص 11 28- ابن عباد النفزي : شرح الحكم لابن عطاء الله السكندري شركة مكتبة أحمد بن نبهان وأولاده ج 1 ص 19 29- رواه البخاري في كتاب المغازي 30 - الغزالي:المنقذ من الضلال ص49-50 31 - الرد المحكم المنيع على شبهات ابن منيع ص 13 32- المملكة العربية السعودية وزارة الإعلام الداخلي على طريق التنمية والتطور – عرض لميزانية الدولة للعام المالي 1404 – 1405 ص 37- 33 - الحركة الوهابية ص 64 محمد بن عبد الوهاب : الأصول الثلاثة وأدلتها. مكتبة دار البيان- دمشق ص61 34 - مجموعة التوحيد: تأليف محمد بن عبد الوهاب وابن تيمية المكتبة السلفية، باب الرحمة المدينةالمنورة ط ص 675 35-Le Romantisme français et lIslam-Moeuis Taha Hussein Dar Al maarif liban beirut . 962 p. 170-171 36- علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام. دار المعارف مصر ط 7 – ج1 ص 310