كيفية تثبيت تطبيق الهاتف المحمول MelBet: سهولة التثبيت والعديد من الخيارات    والي بنك المغرب يعلن الانتهاء من إعداد مشروع قانون "العملات الرقمية"    "هيئة تحرير الشام" تخطط للمستقبل    8 قتلى في حادثتين بالحوز ومراكش    27 قتيلا و2502 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع المنصرم    فينيسيوس أفضل لاعب في العالم وأنشيلوتي أحسن مدرب    قطاع الطيران... انطلاق أشغال بناء المصنع الجديد لتريلبورغ    بنك المغرب يخفض سعر فائدته الرئيسي إلى 2,5 في المائة    جوائز "الأفضل" للفيفا.. البرازيلي فينيسيوس يتوج بلقب عام 2024    تشييع رسمي لجثمان شهيد الواجب بمسقط رأسه في أبي الجعد    المغرب والسعودية يوقعان بالرياض مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في مجالات التحول الرقمي الحكومي    القنيطرة.. افتتاح معرض لإشاعة ثقافة التهادي بمنتوجات الصناعة التقليدية    الرباط.. انعقاد اجتماع لجنة تتبع مصيدة الأخطبوط    إحصاء 2024: الدارجة تستعمل أكثر من الريفية في الناظور    صحيفة 'لوفيغارو': المغرب يتموقع كوجهة رئيسية للسياحة العالمية    العام الثقافي 'قطر-المغرب 2024': الأميرة للا حسناء وسعادة الشيخة سارة تترأسان بالدوحة عرضا لفن التبوريدة        رسمياً.. المغرب يصوت لأول مرة بالأمم المتحدة على وقف تنفيذ عقوبة الإعدام    المغرب "شريك أساسي وموثوق" للاتحاد الأوروبي (مفوضة أوروبية)    مجلس الشيوخ الشيلي يدعم مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية (سيناتور شيلي)    كلمة الأستاذ إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، خلال اجتماع اللجنة الإفريقية للأممية الاشتراكية    فيفا ينظم بيع تذاكر كأس العالم للأندية‬    بنعلي: رفع القدرة التخزينية للمواد البترولية ب 1,8 مليون متر مكعب في أفق 2030    ردود فعل غاضبة من نشطاء الحركة الأمازيغية تُشكك في نتائج بنموسى حول نسبة الناطقين بالأمازيغية    84% من المغاربة يتوفرون على هاتف شخصي و70 % يستعملون الأنترنيت في الحواضر حسب الإحصاء العام    لماذا لا تريد موريتانيا تصفية نزاع الصحراء المفتعل؟    الأميرة للا حسناء تترأس عرض التبوريدة    دفاع الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال يؤكد أن وضعه الصحي في خطر    النظام الأساسي لموظفي إدارة السجون على طاولة مجلس الحكومة    تحقيق قضائي لتحديد دوافع انتحار ضابط شرطة في الدار البيضاء    ارتفاع معدل البطالة بالمغرب إلى 21% مع تسجيل ضعف في نسبة مشاركة النساء بسوق الشغل    مراكش.. توقيع اتفاقية لإحداث مكتب للاتحاد الدولي لكرة القدم في إفريقيا بالمغرب    كنزي كسّاب من عالم الجمال إلى عالم التمثيل    حاتم عمور يطلب من جمهوره عدم التصويت له في "عراق أواردز"        ضابط شرطة يضع حدّاً لحياته داخل منزله بالبيضاء..والأمن يفتح تحقيقاً    ألمانيا تتجه لانتخابات مبكرة بعد سحب الثقة من شولتس    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    السينما الإسبانية تُودّع أيقونتها ماريسا باريديس عن 78 عامًا    سرطان المرارة .. مرض نادر يُشخّص في المراحل المتقدمة    كيوسك الثلاثاء | حملة توظيف جديدة للعاملات المغربيات بقطاع الفواكه الحمراء بإسبانيا    زلزال عنيف يضرب أرخبيل فانواتو بالمحيط الهادي    شوارع المغرب في 2024.. لا صوت يعلو الدعم لغزة    الصين تعارض زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية على المنتجات الصينية    ماكرون سيعلن الحداد الوطني بعد إعصار شيدو المدمر في أرخبيل مايوت    السفير الدهر: الجزائر تعيش أزمة هوية .. وغياب سردية وطنية يحفز اللصوصية    أفضل لاعب بإفريقيا يحزن المغاربة    لماذا لا يستطيع التابع أن يتحرر؟    عن العُرس الرّيفي والتطريّة والفارس المغوار    علماء يكتشفون فصيلة "خارقة" من البشر لا يحتاجون للنوم لساعات طويلة    بريطاني أدمن "المراهنات الرياضية" بسبب تناول دواء    دراسة: الاكتئاب مرتبط بأمراض القلب عند النساء    باحثون يابانيون يختبرون عقارا رائدا يجعل الأسنان تنمو من جديد    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



براهين الوجود وحقيقة اللانهاية في الفكر الإسلامي
نشر في هسبريس يوم 04 - 07 - 2009

المطلب الأول: المذهبية والبرهانية في مناهج الأدلة الكلامية ""
تمهيد حول التصورات واقترانها بالتصديقات.
مسألة البرهانية عند أي مبحث من المباحث العلمية تعد المطلب الأقصى من معرفة وتقرير الحقائق كثوابت بديهية يستجيب لها كل عاقل ذي حس وبصيرة سليمة.
لكنه رغم بديهية البرهان المستنتج من دراسة ما وقوة المحاجة به فإنه قد يفيد التصور والتصديق عند البعض دون البعض الآخر وقد يفيد التصور ولا يحقق التصديق عند البعض دون البعض أيضا. بل ربما قد لا يفيد التصور وقد يفيد التصديق أو قد يفيد التصديق ولا يفيد التصور لدى البعض من الناس دون الآخرين.
ولهذا فإن البرهان لا يؤسس الإلزام بالتصور والتصديق بصورة عامة ما لم تتوفر المؤهلات اللازمة لتلقي المعرفة المبرهن عنها بصورة جلية من حيث مطابقة موضوعية البرهان للاستعداد الذاتي لتقبله على وجهه الكامل تصورا وتصديقا وتطبيقا.
ولا نجد هذه المراعاة لبرهانية الخطاب أو الأدلة وأحوال المبرهن له بصورتها الكاملة والدقيقة ومؤسسة على علم نفس البرهنة إلا في القرآن الكريم والحديث والسيرة النبوية، وتتجلى هذه المراعاة في قول الله تعالى "إن الذين كفروا سواء عليهم آنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم" . "إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون" . ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون".
ولهذا فحينما تطرح الأدلة البرهانية المؤسسة على البديهيات الحسية والعقلية والوجدانية والتاريخية.....إلخ، فليس من الضروري أن يقترن هذا البرهان بالتصديقات من كل الأشخاص الذين تلزمهم الحجة بوجه من الوجوه لأنه ليس كل الناس لهم رؤية موضوعية مجردة إلى الحق، إذ الغالب على طبع الإنسان المتعود على الذاتية والأنانية الميل إلى الهوى وتغليب نداء الغريزة الشهوية أو الغضبية على غريزته الناطقة العقلية وتطلعاتها الروحية التي تؤسس جوهر كيانه وسر وجوده.
وبما أن علم الكلام عند المسلمين كما سبق وبينا متخصص بالدرجة الأولى في "الحجاج عن العقائد عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الإعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد". فإن المتكلمين بهذا الاعتبار يتفقون جميعا على نقطة البداية ونهاية الغاية في دراساتهم وأبحاثهم مهما اختلفوا في تفاريعهم ومناهجهم، وذلك لأنهم لم يؤسسوا أفكارهم أو أبحاثهم على الهواء أو على الصفر كما هو الشأن عند الفلاسفة، بل اعتمدوا في تأسيس علمهم مصدرا محوريا وثابتا لتحديد مناهجهم ومعارفهم منه البداية وإليه النهاية "وأن إلى ربك المنتهى" .وهذا المصدر هو القرآن الكريم ثم الحديث النبوي الصحيح المبين والمحدد العلمي والسمعي لبعض معاني القرآن الكريم التي تتسامى على معاني اللغة العادية إلى اللغة الخاصة ذات الطابع الديني والغيبي بصفة أخص.
أولا: الطرق الرسمية في المنهجية الاستدلالية عند المتكلمين.
من المقرر في تاريخ الفكر الإسلامي أن المتكلمين مثلوا أسلوبا متميزا في الاستدلال يختلف في صياغته واستعمالاته عما كان يسلكه السلف الصالح بمعناه المذهبي والتاريخي. كما أنه يختلف من جهة أخرى من حيث التأسيس والتفريع عما سلكه الفلاسفة المسلمون في دراستهم العقدية، وبسبب هذا التميز الذي برز على مناهج المتكلمين كان طبيعيا أن يتعرضوا لانتقادات واستفسارات تتخذ في بعض الأحيان صورا موضوعية محضة ومرة أخرى تغلب عليها خلفيات مذهبية خاصة إما ذات ادعاء أصولي سلفي تاريخي بالدرجة الأولى كما سبق وعرضنا له، و إما ذات تأثرات وتقليدات أجنبية أو ذاتية فلسفية محتكرة للبرهانية في زعمها!
فطرق الاستدلال عند المتكلمين تنوعت بحسب مدارسهم وبحسب التطور المنهجي والاستدلالي الذي عرفته الساحة الكلامية غير أنها تركزت بالدرجة الأولى حول طريقتين أولهما مؤسسة للثانية وأشمل منها حضورا في مباحث المتكلمين.
أما الطريقة الأولى فهي مؤلفة من مقدمات ساعية إلى بيان "أن العالم حادث"، مع "إبطال القول بقدمه". وقد سلك عامة المتكلمين "طريقة الإثبات بإثبات الأعراض أولا وإثبات حدوثها ثانيا وبيان استحالة خلو الجواهر عنها ثالثا وبيان استحالة حوادث لا أول لها رابعا. ويترتب على هذه الأصول أن ما لا يسبقه الحوادث فهو حادث، وقد أوردوا هذه الطريقة في كتبهم أحسن إيراد" ويمكن ترتيب هذه الطريقة الاستدلالية على مقدمات مصاغة كالتالي، "أولا أن الجواهر لا تنفك من الأعراض. أي لا تخلو منها، ثانيا: أن الأعراض حادثة، ثالثا: ما لا ينفك عن الحوادث حادث، أي ما لا تخلو منه الحوادث هو حادث" فتكون النتيجة "كل حادث فلحدوثه سبب" .
وأما الطريقة الثانية فهي التي استنبطها أبو المعالي الجويني في رسالته المعروفة بالنظامية ومبناها على مقدمتين: إحداهما أن العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه حتى يكون من الجائز مثلا أصغر مما هو وأكبر مما هو أو بشكل آخر غير الشكل الذي هو عليه أو عدد أجسامه غير العدد الذي هو عليه. أو تكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها. حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق وفي النار إلى أسفل وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية و في الغربية أن تكون شرقية.
والمقدمة الثانية: أن الجائز محدث وله محدث أي فاعل صيره بإحدى الجائزين أولى منه بالآخر" .
وهذه الطريقة الاستدلالية تتكامل والطريقة الأولى عند البرهنة كما سنرى، لأن نقطة البداية والغاية واحدة كما سبق وقلنا. غير أن الطريقتين ستعرفان جدلا سواء فيما يتعلق بجزئيات المقدمات التي انبنت عليها أو على مستوى الأحكام الكلية المؤسسة لهيكلة الطريقتين الاستدلاليتين.
أ) دليل الحدوث بين موضوعية الطرح وخلفيات الاعتراض.
فيما يخص الطريقة الأولى للاستدلال عند المتكلمين، فإن الخلاف سيتمركز حول مسألة الجوهر، الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ، باعتباره قاعدة رئيسية في إثبات حدوث الأجسام والعالم بينما سيعترض عليه بعض المعتزلة كالنظام مثلا وكذلك ابن حزم الظاهري في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" الذي ذهب إلى القول بأن كل جزء إلا وهو قابل لكي يتجزأ إلى ما لا نهاية مهما دق وصغر . بينما ذهب ابن رشد إلى التشكيك في وجود الجزء الذي لا يتجزأ باعتباره أن الكم المتصل غير قابل لكي يصبح كما منفصلا، ظانا أن بنيته مؤسسة بالاتصال وليس بالتركيب الجزئي، المؤدي إلى التجزؤ النهائي الذي تنحل إليه العناصر .
غير أن الأشاعرة يذهبون إلى أن كل موجود إما متحيز أو غير متحيز وأن كل متحيز. إن لم يكن فيه ائتلاف فنسميه جوهرا فردا وإن ائتلف إلى غيره سميناه جسما".
وهكذا ينبني عندهم حدوث العالم على القول ابتداء بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث والأجسام محدثة بحدوثه" وهذا الخلاف بين المذهبين في الحقيقة ليس سوى خلاف شكلي قبل أن يكون جوهريا وهو قائم حول اعتبار الإمكان الذهني أو الإمكان الواقعي، إذ أن القول بالانقسام الذري إلى ما لا نهاية قول بالإمكان الذهني والتجويز العقلي لا غير، وقد يمكن إقراره بالتأسيس على قاعدة عقدية هي الإيمان بقدرة الله سبحانه وتعالى على تشطير الذرة إلى ما لانهاية. بينما القول بالجزء الذي لا يتجزأ يؤسس مبدأ الذرة وتأليف الكون منها وهذا واقع وملاحظ، بل إن العلم الحديث يؤكده ويؤيده، ومن هنا فإن مذهب الأشاعرة في هذا الموضوع هو ذو أسس علمية مستنبطة من القرآن الكريم الذي نص في عدة آيات على أن لكل كم متصل أو منفصل نهاية صغرى يؤول إليها ويتأسس عليها بنيانه وكيانه المتكامل، إما بالتركيب أو بالإضافة كما في قوله تعالى "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره".
ورغم هذا الخلاف حول الجزء الذي لا يتجزأ أو يتجزأ إلى ما لا نهاية فإن المتكلمين متفقون على أن الجواهر أو الأجسام حادثة. لكن الأشاعرة بصفة خاصة وباعتبارهم أبرز فرقة كلامية تدرج ضمن فرق أهل السنة من الناحية العقدية سيؤسسون هذا الحدوث بالتركيز على الجزء الذي لا يتجزأ، لأنه من جهة يؤلف أجساما ومن جهة فإن الأجسام تظهر عليها بوضوح تام علامات الحدوث حسا وعقلا، وهم بهذا التركيز ضربوا عصفورين بحجر واحد، وهو إثبات الحدوث بتركيب الأجزاء وإثبات حدوث الأجزاء بحدوث الأجسام التي تنطق بتركيبها الجوهري وأعراضها الملازمة لها شاهدة بحدوثها مهما عظمت أو صغرت. وعلى هذا المبدأ تأسست طريقة الاستدلال الأولى عند الأشاعرة منبنية على المقدمات الثلاث كما رأينا. وقد اعترض ابن رشد بصفة خاصة وحادة على هذا المنهج الاستدلالي وبدعوى متكلفة نوعا ما، وذلك بقوله من جهة أن هذه الطريقة في الاستدلال ليست بالطريقة الشرعية ومن جهة أخرى ليست بالطريقة البرهانية. كما أنها ليست صالحة للجمهور لغموضها-حسب ادعائه- واعتياصها وهذه المبررات لرخص هذا المنهج الكلامي غامضة في خلفياتها وغاياتها، فمن حيث القول بأنها ليست الطريقة الشرعية، فإن الشرع ليس فيه ما يمنع النظر واستنباط المناهج وصياغة المفاهيم والأساليب الاستدلالية كل حسب اجتهاده مادام لم يتعارض مع النص و الغاية الإسلامية، ولهذا فالاعتماد على دليل الحدوث كمنهج للاستدلال على وجود الله سبحانه وتعالى منهج شرعي أي محمود شرعا، مادام أنه يسعى إلى غاية شريفة ويقوم بوظيفة جهادية على المستوى العقدي، وعند هذا الموضوع يمكن إقحام ابن تيمية ومن سار على أسلوبه في رفض دليل الحدوث عند المتكلمين لأنه سواء الاتجاه الرشدي أو التيمي في رفضهما لمنهج المتكلمين القائم على حدوث الأعراض والجواهر والأحياز، لا بد وأن له خلفية مذهبية عقدية معينة يخشى عليها أن تنهد إن هو أقر بمقدمات هذا الدليل.
فابن رشد يريد أن يقحم التصور اليوناني وصلته بالخالق في التصور الإسلامي كتوفيق متكلف واضح وصريح لا يقبل التأويل، بحيث يذهب إلى الدفاع عن موقف الفلاسفة حول العالم، محاولا جهده تبرير قولهم بقدم العالم رغم افتقاره إلى الخالق في تصورهم بتبريرات ملتوية وعويصة لا يقرها الشرع ولا يشهد لها العقل الصريح كما ذهب إلى اعتبار الأخطاء العقدية في حكم الاجتهاد الذي يؤجر عليه صاحبه ولو أخطأ فيه. والسبب في ذلك كله هو مذهبيته المتكلفة للتوفيق بين الدين والفلسفة اليونانية وخاصة الأرسطية منها توفيقا كليا يكاد يجعل التقرير الديني الإلهي يتطابق والنظر الإنساني القاصر تطابقا متكافئا. وهذا فيه إسراف واغترار بالفكر الإنساني الذي لا يكاد ينسلخ من التناقض في الحكم على ذاته المحدثة، فكيف بدعوى استيعابه لقضايا عالم الغيب والشهادة بالجملة والتفصيل، وعند هذا الاعتراض لا أناقش ابن رشد في معتقده الخاص لأن هذا ليس من غرضي في هذا المبحث، ولكن قصدي هو تحديد الصور البرهانية لدليل الحدوث عند المتكلمين ومساهمتهم بالتأسيس البرهاني للمباحث العقدية.
أما ابن تيمية فهو بدوره يرفض بعض أسس دليل الحدوث عند المتكلمين بدافع مذهبي، وذلك لإقرار مفهوم الاستواء على العرش أوصفات النزول والمشي أو غير ذلك من الصفات التي صرح بها النص القرآني أو الحديثي على وجه المجاز أو المتشابه حسب الاعتبارات، بينما يذهب ابن تيمية إلى اعتباره على ظاهره حسب مذهبه في التأويل، ولهذا السبب يرفض دليل الحدوث بقوله: "وكذلك قوله – أي الكلامي لو كان في جهة لكان جسما وكل جسم محدث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث فهو محدث لم يذكر عليه دليلا. وغايته ما تقدم أنه لو كان في جهة لكان جسما وكل جسم محدث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وكل هذه المقدمات فيها نزاع!" .
إذن فالاعتراضات ليست علمية محضة، وإنما هي ذات خلفيات مذهبية تمثل النزاعات الخاصة في التصور العقدي، وتبدو المغالطة في هذه الاعتراضات وخاصة عند ابن رشد حينما يصرح بأن طريقة المتكلمين ليست بالطريقة البرهانية حسب مفهومه، ناسيا أن علم الكلام نشأ من أجل الدفاع عن الجمهور في عقيدته، ولهذا فلو تعلق الأمر بالجمهور فإنه مبدئيا مؤمن جملة ولا يحتاج إلى استدلال أو تفصيل متشعب قد لا يفهمه، ومن هنا فالخطاب الكلامي لم يكن خطابا من أجل الجمهور، وإنما كان من أجل فئة من الناس إما متشككة في عقائدها أو مشككة للجمهور في عقائدهم، فكان واجب الرد بحسب نوعية التشويش المثار على المستوى الداخلي أو الخارجي.
أما دعوى سلب البرهانية من المنهج الكلامي واستدلالات المتكلمين فهي محاولة لتحجير البرهنة في ضيق الحلبة الفلسفية المؤسسة على المنطق اليوناني بقياساته وتقنياته المحدودة، وهذا ما لا يتفق عليه الفلاسفة أنفسهم، إذ لو كان البرهان من اختصاصهم لما تناقضوا فيما بينهم تناقضا صارخا أظهرهم على صورة المتهافتين كما وصفهم أبو حامد الغزالي، بيد أن المتكلمين كانت مواقفهم الجوهرية موحدة، ونظرهم في الأصول متطابقا، وإن هم اختلفوا فلم يكن سوى اختلاف شكلي وليس جوهريا على نمط الاختلاف الذي حدث كما عرضنا حول الجوهر الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ أو يتجزأ إلى ما لا نهاية، ولا ينبغي أن يعتبر ما نحا إليه بعض الحشوية أو المتطرفة العقليين في بعض المسائل الكلامية من آراء شاذة والشاذ لا يقاس عليه.
وهذه المواقف الموحدة التي اشتهرت عند المتكلمين سرها التوحيد والإيمان الأساسي الذي أنار لهم السبيل لاكتشاف المناهج والبراهين المرسخة له في قلوبهم وعقولهم، ولهذا فكيفما كان طرحهم وطرق استدلالهم فإنه في النهاية يعود إلى البرهان الأصلي، وهو القرآن الكريم والسنة النبوية محور التدبر والاستدلال.
ولهذا الارتباط العقدي بالقرآن والحديث النبوي تنوعت طرق الاستدلال عند المتكلمين بالإضافة إلى الطرق الرئيسية التي سبقت إليها الإشارة باعتبارها مسلكا خاصا له ظرفيته ومبرراته التاريخية والزمانية والمكانية.
ب) منهج التجويز العقلي وأبعاده الاستدلالية والمعرفية:
وبنفس الخلفية سيسلك ابن رشد اعتراضه على الطريقة الاستدلالية الثانية والتي استنبطها أبو المعالي الجويني كما مر بنا، وذلك في مقدمتين مضطربتين مضادتين للطريقة المعروضة عند المتكلمين الأشاعرة، إذ في المقدمة الأولى اعتبر أنها "خطبية قد تصلح لإقناع الجميع، ومن جهة أنها كاذبة ومبطلة للحكمة. وفي المقدمة الثانية وهي القائلة إن الجائز محدث فهي مقدمة غير بينة بنفسها وقد اختلف العلماء (في نظره) فأجاز أفلاطون أن يكون شيء جائز ازليا ومنعه أرسطو، وهو مطلب عويص ولن نبين حقيقته إلا لأهل صناعة البرهان" .
وخلفية الاعتراض هنا واضحة بدليل اعتبار المقدمة خطبية، بمعنى أنها لا تتوفر على شروط البرهان بالتحديد المنطقي اليوناني، بل إن التناقض في اعتبارها خطبية مع الإقرار بأنها برهانية قد صدر في نفس الجملة الاعتراضية التي صرح بها وهي أن المقدمة قد تصلح لا لإقناع الجميع، والجميع يعني كلية شاملة للمخاطبين يدخل في حكمهم أهل الخطابة والجدل والبرهان، وهذا ما يعني أنها بديهية مؤسسة للبرهان وليس أنها كاذبة كما يزعم ابن رشد، ثم إنه برر وصفه للمقدمة بالكاذبة بدعوى أنها مبطلة للحكمة، وهذه الدعوى متناقضة في نفسها، ومناقضة للمقصد الذي رام إليه المتكلمون باختيارهم لهذا المنهج الاستدلالي، وذلك لأن صلاحها لا قناع الجميع لا يجتمع مع كذبها في موافقة الحقيقة للاشتراك العام لدى العقول في أحكام البداهة، وهذا تناقض ذاتي لا مفر منه يسقط فيه ابن رشد!
والمناقضة الثانية للمقصد من هذه المقدمة، هو أن المتكلمين لم يبطلوا أصلا مبدأ الحكمة في خلق الكائنات ولم يصرحوا أبدا أن الجائز في تصورهم وأذهانهم أولى وأحسن من الواقع الموجود فعلا. كما أن التصريح والتضمين في مباحثهم كلها تنحو إلى تفضيل الموجود على المعدوم ولو كان معلوما حسب بعض الاتجاهات التي ترى أن المعدوم معلوم. ونعلم جيدا كيف صاغ بعض المتكلمين حكمة الوجود المرئي بقولهم: "ليس في الإمكان أبدع مما كان" أو "نقصان الكون عين كماله" بدليل أنه لولا اعوجاج القوس لما صلح للرمي، وهذا تصور عام عند المتكلمين ولهذا فالقول بإمكان أن يكون العالم على مقابل ما هو عليه الآن هو قول معقول يفتح المجال للإبداع والارتقاء والتطور والتبدل. كما هو منصوص عليه في القرآن الكريم "يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار". إذ لو كانت الأرض أو السموات كاملة بذاتها لما تبدلت أو تغيرت ولكن فتح المجال لتبدلها وتغيرها يدل بداهة على وجود المرجح المؤدي إلى هذا التبديل وتفضيل صورة على صورة كيفما كان وضع هذا التبديل أو التغيير وعلى الشكل الذي أمكن تشكيله، فإن حكمته تتجلى في قصد الحكيم منه لا في حكمنا على حكمته مادام الممكن موجودا ويؤدي وظيفته التي خلقه الله من أجلها. ورغم هذا التصور المجوز لإمكان خلق العالم على صورة غير التي هو عليها الآن فإن رأي المتكلمين حول هذا التجويز مقيد بالمقدمة الثانية وهي أن الجائز محدث وله محدث أي فاعل صيره بإحدى الجائزين أولى منه بالآخر، وعند هذا القيد أثبتوا الحكمة من وجود الأولى دون الأدنى.
فالأولى هو الموجود والواقع، والأدنى هو المتخيل أو المتوقع أو المعدوم المعلوم، والمحدد لوجود الأولى دون الأدنى هو الذي أضفى الحكمة على هذا الموجود. ومن ثم كان القول بالجواز الذهني لتصور الواقع على غير ما هو عليه، مؤديا بالضرورة والبداهة العقلية إلى تأكيد وجوب وجود المرجع للواقع على المتوقع أو المتخيل، وأن الواقع حادث بفعل التخصيص دون سائر الإمكانات، وكل حادث فلحدوثه سبب، إذن فالعالم له سبب في حدوثه.
وهذه القاعدة الاستدلالية عند المتكلمين لها بعد مهم جدا وهو إزالة كل توهم حول إمكانية استقلالية الكون بالتسيير الذاتي وحتمية التفاعل الطبيعي، وذلك بإقرار نقصه الذاتي ووضع مبدأ الحتمية في مجموع الاحتمال المتوقع. وهو ما يشهد به الحس والعقل وتؤكده التجارب العلمية الدالة على عدم وجود ضرورة لزومية بين العناصر الكونية في تفاعلها إلا ما تأسس بالعادة والتأليف المتكرر. وهذا ما حدا بالغزالي إلى رفض المذهب الطبيعي الذي كان يتبناه الفلاسفة اليونانيون رغم اعتقادهم في العلة الأولى لوجود الكون، فكانت قاعدته المشهورة والمتلخصة في هذا النص: الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وبين ما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لاثبات الآخر ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجودا أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر. مثل الري والشرب والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهل، وهلم جرا إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف. فإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه بخلقها على التساوق لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفوت بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة وإدامة الحياة مع جز الرقبة وهلم جرا. إلى جميع المقترنات" .
وهذا النص في الواقع يمثل دفاعا عن طريقة المتكلمين هاته، وهو مع ذلك لا يلغي الحكمة أو يبطلها كما زعم ابن رشد، لأن الحكمة تتجلى في الوظيفة وأداء المهمة، وقدرة الله لا نهاية لها، بحيث يمكن أن يخلق الكون على غير صورته التي هو عليها ويكون حكيما. وخلقه له فيه حكمة. ولهذا فالقول بإمكان وجود العالم على مقابل ما هو عليه لا يعني أنه بإمكانه تصور ما هو أجمل من الكون الذي خلقه الله سبحانه وتعالى فهذا في حقنا مستحيل ومستبعد، ومهما توسع خيال الإنسان فهو لا يتخيل سوى تأليف بين عناصر الواقع ولا يستطيع أن يتخطى عالم المحسوس إلا برواسبه.ولهذا فنجد الخيالات العلمية سواء منها القصصية أو السينمائية المشخصة حينما تريد أن تتصور كائنات أخرى غير الكائنات الأرضية فإنها لا تتصورها إلا مشوهة وأدنى مما عليه الكائنات الأرضية الملموسة والمشاهدة وذلك لأن الواقع هو الأصل، والخيال هو الفرع والفرع يكون دائما أدنى وأقل من الأصل.
ثانيا: المناهج التدعيمية وتوسيع الآفاق الاستدلالية.
إن الغالب على مباحث المتكلمين في استدلالاتهم هو توظيف القواعد المعرفية المؤسسة عليها الطريقتان، وقد تعتبر من خصوصيات المنهج الكلامي وخاصة عند المعتزلة والأشاعرة بصورة أخص، لكنه ورغم ذلك لم تخل مباحث المتكلمين من عرض طرق أخرى متنوعة ومستقلة بأساليبها غير هاتين الطريقتين الرئيسيتين، وإن كانت تصبو نحو هدف واحد وهو الاستدلال على وجود الخالق سبحانه وتعالى، وهذه الطرق تتميز بالسرعة في العرض والحسم البرهاني. وهي في استعراضها ترجع أصولها إلى الكتاب والسنة وكذلك إلى وقائع واستنتاجات فردية استنتجها بعض العلماء دون الآخرين ولم تؤسس منهجا مركبا من مقدمات، وذلك من باب الإقرار بأن القرآن الكريم هو أصل البراهين وأن دلائله فيها الغنية لكل مستبصر طالب للحق بصدق ونية صحيحة، ومن باب -أيضا فيما يخص الاستنتاجات الفردية لبعض العلماء- أن الدلائل قد تكون قطعية وقد تكون إقناعية، والاستكثار من الدلائل الإقناعية قد ينتهي إلى إفادة القطع، وذلك لأن الدليل الاقناعي الواحد قد يفيد الظن فإذا انضم إليه دليل ثان قوي الظن، وكلما سمع دليلا آخر ازداد الظن قوة، وقد ينتهي بالآخرة إلى حصول الجزم واليقين. فيثبت أن الجدل قد يقوم مقام البرهان في إفادة اليقين وأولى المواضيع برعاية الاحتياط فيه والمبالغة في التقرير وإزالة الشكوك والشبهات "معرفة الإله المدبر الحكيم" .
أ) ففيما يخص الأدلة الأولى المستنبطة من القرآن الكريم نجد مثلا فخر الدين الرازي يقول في كتابه "المطالب العالية من العلم الإلهي" . "واعلم أن هذا النوع من البحث بحر لا ساحل له وليس في شئ من الكتب بيان هذا النوع من الدلائل كما في القرآن، فإنه مملوء من هذا النوع من البيان. قال الله تعالى: "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخربين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون" (البقرة آية 164) فهذه الآية مشتملة على ثمانية أنواع من الدلائل. فالثلاثة الأولى من الدلائل الفلكية وهي قوله تعالى: "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار" والخمسة الباقية من الدلائل هي دلائل عالم العناصر وهي قوله تعالى. "والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" ثم ذكر بعده دلائل النبات فقال: "وما أنزل من السماء من ماء فأحيا به الأرض" ثم ذكر بعده دلائل الآثار العلوية وذكر فيها نوعين: الرياح والسحاب فقال: "وتصريف الرياح لآيات لقوم يعقلون" .ونختم هذه الفصول بخاتمة عظيمة النفع وهي الدلائل التي ذكرها الحكماء والمتكلمون وإن كانت كاملة قوية إلا أن هذه الطريقة المذكورة في القرآن عندي: أنها أقرب إلى الحق والصواب، وذلك لأن تلك الدلائل دقيقة وبسبب ما فيها من الدقة انفتحت أبواب الشبهات وكثرت السؤالات.
وأما الطريقة الواردة في القرآن فحاصله راجع إلى طريق واحد وهو المنع من التعمق والاحتراز عن فتح باب القيل والقال وحمل الفهم والعقل على الاستكثار من دلائل العالم الأعلى والأسفل، ومن ترك التعصب وجرب مثل تجربتي علم أن الحق ماذكرته" .
ب) أما استدلالات آحاد العلماء ذات الطابع البرهاني أو الاقناعي المفيد للبرهان على كل حال فنجد لدى الرازي أيضا شواهد من هذا النوع إضافة إلى البحث الكلامي المذهبي والجماعي. أذكر من بينها دلائل لأصحاب الرياضات والمكاشفات وغيرهم من أصحاب العقول النيرة:
1) فمن دلائل أصحاب الرياضات (الصوفية) أنهم قالوا إن أصحاب الشكوك والشبهات وإن اجتهدوا في تقرير الخيالات الباطلة وتأكيد الشبهات الفاسدة في نفي الإله المدبر، إلا أنه إذا نزلت بهم حادثة مؤلمة وواقعة مهيبة فإنهم يجدون من صريح عقولهم وقلوبهم التضرع وإظهار الخضوع لإله العالم، والطلب منه أن يخلصهم من تلك البلية ويخرجهم من تلك المحنة، ووجدان هذه الحالة، كالأمر المعلوم بالضرورة بالاستقراء والاعتبار، ثم بعد الخلاص من تلك البلية ربما عادوا إلى تقرير تلك الشبهات وإيراد الخيالات، وإليه الإشارة في القرآن بقوله، "فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون" وهذا يدل على أن جميع العقول "السليمة" مقرة بوجود الإله الحكيم" .
2) ومن دلائل أهل العقول السليمة رغم عدم التخصص في العلوم الدقيقة أعرض طريقتين:
الطريق الأول: قال بعضهم: رعاية الاحتياط في كل شئ أولى من إهمال الاحتياط. فنقول: القول بإثبات الإله المختار للمكلف أقرب إلى الاحتياط من القول بنفيه، فكان الذهاب إلى هذا القول أولى. أما بيان أنه أحوط، فتقريره أن نقول: هذا العالم إما أن يكون له إله وإما أن لا يكون فإن لم يكن كان القول بإثباته مضرا فثبت أن القول بإله العالم أقرب إلى الاحتياط. ثم نقول: إله العالم إما أن يكون فاعلا مختارا أو لا يكون فإن لم يكن فاعلا مختارا كان إثبات الفاعل المختار غير مضر، أما إن كان فاعلا مختارا كان نفيه مضرا، أما إن كان فاعلا مختارا كان نفيه مضرا. فكان إثبات الفاعل أبعد عن الضر وأقرب إلى الاحتياط.
ثم نقول: "هذا الإله الفاعل المختار إما أن يقال إنه كلف العباد وأمرهم ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وإما أن يقال: إنه ليس كذلك فإن لم يكن كذلك لم يلزم من القول بكونه آمرا ناهيا ضروريا وإن كان كذلك كان إنكار كونه آمرا ناهيا ضرر وإن كان كذلك كان إنكار كونه أمرا ناهيا أعظم المضار، فثبت بما ذكرنا أن الاعتراف بأن لهذا العالم إلها وأن ذلك الإله فاعل مختار وأنه آمر ناهي أبعد عن الخوف وأقرب إلى الاحتياط وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون المصير إلى هذا المذهب والاعتقاد أحوط لأن عند استيلاء الخوف الشديد يكون الأخذ بالجانب الأحوط متعينا" .
وهذه الطريقة الاستدلالية قد وظفها الإمام علي في رده على بعض المتسائلين عن قضايا العقيدة حيث قال له "إن كان الأمر على مازعمت تخلصنا جميعا وإن كان الأمر كما قلت فقد هلكت ونجوت" ، كما نجد تعبيرا شعريا عن هذا النوع من الاستدلال بالأحوط صاغه أبو العلاء المعري في هذين البيتين:
قال المنجم والطبيب كلاهما لا بعث بعد الموت قلت إليكما.
إن صح قولكما فلست بنادم أو صح قولي فالخسار عليكما .
وهذا النوع من الاستدلال قد نص عليه القرآن الكريم في عدة آيات نجد من بينهما قوله تعالى: "وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله" .
وهذا يؤسس قاعدة ثابتة وهي أن الإنسان العاقل ينبغي له أن يكون مؤمنا، وهو منهج العقلاء وطالبي النجاة ومقتضى الفطرة الإنسانية المتطلعة إلى ضمان السعادة في الحال والاستقبال.
3) أما الطريق الثاني: فقد كان بعض العقلاء يقول: إن لطمة واحدة تضرب على وجه صبي تظهر أن لهذا العالم إلها. وأن هذا الإله أمر بعض عباده بأشياء ونهاهم عن أشياء، وأن ذلك الإله أعد للمطيعين ثوابا وللمذنبين عقابا، وأنه بعث إلى الخلق رسلا مبشرين ومنذرين، وهذه هي الأربعة التي هي أشرف المطالب وأعز المقاصد.
أما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الأول وهو إثبات الإله تعالى فنقول: ذلك الصبي إذا أحس بتلك اللطمة في الحال يصيح ويقول من الذي ضربني ومن الذي لطم وجهي؟ ولو أن أهل الدنيا يجتمعون عليه ويقولون إن هذه اللطمة حصلت بنفسها من غير فاعل فإنه لا يقبل هذا القول ولا يؤثر فيه هذا الكلام، وهذا يدل على أن صريح العقل يستبعد حدوث تلك اللطمة من غير فاعل. فحدوث جملة الحوادث في عالم الأفلاك وعالم العناصر كيف يعقل حدوثها بلا محدث وفاعل؟ فصار هذا الاعتبار من أدل الدلائل على دلالة حدوث هذا العالم، وعلى وجود الصانع المدبر، وأما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الثاني وهو كون الإله تعالى موصوفا بالأمر والنهي والتكليف. فنقول: إن ذلك الصبي إذا عرف أن ذلك الذي لطمه هو فلان فإنه في الحال يقول لم ضربتني وبأي سبب آذيتني؟ وهذا يدل على أن صريح عقله حكم بأن الخلق ما تركوا مهملين معطلين، بل التكاليف عليهم لازمة والمطالبات عليهم متوجهة، ولما حكم صريح عقل ذلك الصبي بأن تلك اللطمة الواحدة لا يجوز خلوها عن التكاليف والأمر والنهي، فأفعال كل الخلائق مع كثرة ما فيها من المصالح والمفاسد أولى بأن لا يجوز خلوها من التكاليف. وأما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الثالث وهو حصول ذات الثواب والعقاب فنقول: إن ذلك الصبي إذا عرف أن ذلك الإنسان لطمه بغير سبب فإنه يطلب منه القصاص فإن عجز عن استيفائه استغاث بمن يعينه على تحصيل ذلك المطلوب، وهذا يدل على أن صريح عقله حكم بأن هذه اللطمة لا يمكن إخلاؤها عن الجزاء أو القصاص. فكيف يمكن إخلاء أفعال كل الخلق عن القصاص؟ وأما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الرابع وهو بعثة الأنبياء عليهم السلام فهو أن الصبي إذا قرر أنه لا بد من القصاص فعند ذلك يطلب إنسانا يبين له ذلك القصاص بحيث يكون خاليا عن الزيادة والنقصان. وهذا يدل على أنه تقرر في عقله أنه لا بد في الخلق من إنسان يبين لهم مقادير المرغبات ومقادير الزواجر وذلك الإنسان ليس إلا الرسول، فظهر بهذا البيان أن هذه اللطمة الواحدة كافية في إثبات هذه المطالب الأربعة الشريفة العالية" .
ج) إن إيراد هذه الطرق الاستدلالية والبراهين بجانب دليل الحدوث الرسمي عند المتكلمين يؤكد بوضوح تام أن علم الكلام ليس ذلك العلم الضيق الذي كانت تتحكم في مباحثه تلك القواعد المعرفية الضيقة أو المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار الخاصة، مثل التشبت بإثبات الجوهر الفرد والخلاء وأن العرض لا يقام بالعرض ......إلخ. مع جعل هذه المقدمات من المسائل الواجب اعتقادها حصرا واعتمادا على القاعدة التي نادى بها أبوبكر الباقلاني وهي "بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول" .
بل سيعرف علم الكلام تحديدا وتطورا منهجيا وتوسعا معرفيا يهدف إلى التأسيس البرهاني بكل صوره وأساليبه، وسيصبح وسيلة هجومية بعد أن كان أداة دفاعية. وبعد ما كان المتكلمون يقتصرون في أغلب مباحثهم على قياس التمثيل أورد الغائب إلى الشاهد ومعناه "أن يوجد حكم في جزئي معين فينقل حكمه إلى جزئي آخر يشابهه بوجه ما" سيصبح بالإضافة إلى اعتماد أدلة الفطرة والوجدان مدعما بمنهج يتحدد في التمهيد لإدخال المنطق اليوناني بعد تنقيته من الرواسب المادية إلى دائرة البحوث الكلامية من طرف أبي المعالي الجويني، بعد ذلك سيقرره أبو حامد الغزالي بصفة رسمية في مباحث علم الكلام، بعدما أزيلت منه شوائب الفلسفة اليونانية واعتبر مجرد قانون ومعيار للأدلة تسبر به كباقي المعايير التي كانوا يستعملونها. ومن هنا خالفوا قول البقلاني "بأن بطلان الدليل مؤدن ببطلان المدلول".فكانت هذه طريقة المتأخرين وهي مباينة نوعا ما لطريقة المتقدمين، وتميزت بالرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم. فكان أول من كتب في طريقة الكلام على هذا النحو أبو حامد الغزالي الذي صاغ موازين للمعرفة جعلها مناهج للأدلة مع الإبقاء على المقدمات العقلية التي أسس عليها الأشاعرة مباحثهم قبله، وأهم هذه الموازين أو المقاييس هي:
أولا: ميزان التعاند أو السبر والتقسيم وهو أن يحصر الأمر في قسمين ثم يبطل أحدهما فيلزم منه ثبوت الثاني: كقولنا العالم إما حادث وإما قديم، ومحال أن يكون قديما، فيلزم منه لا محالة أن يكون حادثا وهذا اللازم هو المطلوب، وهو علم مقصود استفدناه من علمين آخرين: أحدهما قولنا: العالم إما قديم أو حادث فإن الحكم بهذا الانحصار علم. والثاني قولنا: ومحال أن يكون قديما. فإن هذا علم آخر والثالث وهو اللازم منهما وهو المطلوب بأنه حادث.
الثاني: ميزان التعادل أو قياس الشمول: وهو أن ترتب أصلين على وجه آخر مثل قولنا كل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وهو أصل، والعالم لا يخلو عن الحوادث فهو أصل آخر، فيلزم منه صحة دعوانا وهو أن العالم حادث وهو المطلوب.
الثالث: ميزان التلازم (أو البرهان بالخلف): وهو أن لا نتعرض لثبوت دعوانا بل ندعي استحالة دعوى الخصم بأن نبين أنه مفض إلى المحال، وما يفضي إلى المحال فهو محال لا محالة .
أما المصادر التي يتبين عن طريقها لزوم الأصل المثبت فهي كالتالي:
1) العقل المحض 2)الحسيات 3)التواتر 4)أن يكون الأصل مثبتا بقياس آخر يستند بدرجة واحدة أو درجات كثيرة إما إلى الحسيات أو إلى العقليات أو المتواترات 5)السمعيات 6)أن يكون الأصل مأخوذا من معتقدات الخصم ومسلماته.
وبتوظيف القواعد الملتزمة عند المتقدمين والتطوير المنهجي عند المتأخرين سيتعضد منهج البحث في دليل الحدوث، وسيأخذ أبعادا تشمل الحصر العنصري والعددي والزمني والمكاني والجوهري والعرضي، كما ستدخل ورقة النهاية واللانهاية في ساحة البحث الكلامي كمحدد رياضي دقيق لطبيعة الوجود، وعامل حاسم في تقرير حدوث العالم وافتقاره إلى محدث أحدثه وخلقه، واحد في وجوده وذاته وصفاته وأفعاله. وكل هذه العمليات والاستنتاجات سيجدون لها أصلا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما يعني التزام المتكلمين بالاستدلال على العقائد الإيمانية والحجاج عنها بالأدلة العقلية.
المطلب الثاني:دليل الحدوث والتصور العقلي للنهاية الكونية
وكاستعراض سريع لنماذج المباحث الكلامية المعتمدة على دليل الحدوث سأعرض لموضوعين رئيسيين في الموضوع وهما: تحديد عناصر الوجود وطبيعة كل موجود، سواء كان مرئيا أو غير مرئي، وذلك باستعمال قياس الغائب على الشاهد أو قياس التمثيل وقياس الشمول...إلخ، والموضوع الثاني مفهوم النهاية واللانهاية وتطبيقاتها على الموجودات بالاستدلال على حدوثها وافتقارها إلى محدث.
أولا) الموجودات وارتباطها سببا أو مسببا بالحدوث:
وينبني هذا البحث على القاعدة المنهجية الرئيسية في مباحث المتكلمين وهي: الجواهر لا تخلو عن الأعراض= الأعراض حادثة= مالا ينفك عن الحوادث فهو حادث= كل حادث فلحدوثه سبب.
ولتحديد حدوث الجواهر من خلال أعراضها يلجأ إلى تقسيم الموجودات سبرا وتقسيما إلى التصورات التالية وهي: أن كل موجود إما متحيز -أي يأخذ مكانا معينا لاستقرار وجوده- وإما غير متحيز. وأن المتحيز إما أن يكون جزء لا يتجزأ – أي جزء أحاديا مستقلا ببنيته وذريا – وإما أن يكون مؤتلفا إلى غيره ومركبا فيسمى جسما أو نسيجا. وأن غير المتحيز إما أن يستدعي وجوده جسما يقوم به ويسمى أعراضا وإما أن لا يستدعيه وهو الله سبحانه وتعالى.
والأعراض هي ما يظهر على الجواهر ويعكس ماهيتها وقيمتها الوجودية من حيث الاختلاف والتركيب والحركة والسكون ...إلخ. وقد حصر الفلاسفة أنواعا من الأعراض المتعلقة بالجواهر في تسعة أنواع، مع وجود الاعتراض عليها من طرف بعض العلماء وخاصة ابن تيمية ومن سار على أسلوبه. فمرة يعبر عنها بالمحمولات والموضوعات، ومرة بالصور والماهيات ......إلخ. لكن لها نفس المعنى والغاية وهي بالتحديد تعني، الكم والكيف والإضافة إلى الجوهر يجمعها البيتان التاليان وهو ما يعرف بالمقولات العشر:
زيد الطويل الأسود بن مالك في داره بالأمس كان يتكي
في يده سيف نضاه فانتضى فهذه عشر مقولات سواء
وعند التحديد المنهجي للعناصر الرئيسية للوجود المرئي يرتكز البحث في ثلاثة عناصر أولية وهي الجسم والعرض والحيز.
فعلاقة الجسم بالعرض لازمة ذاتية، إذ لا يمكن تصور جسم دون عرض ولا عرض دون جسم، فلا طول لزيد إلا بوجود زيد، فلا زيد إلا ويحده طوله الخاص به. وهكذا باقي سائر الأعراض في نسبتها إلى جواهرها. فالعرض يكون مختصا بمحله، وليس شيئا زائدا على ذات المحل، ونظرا لهذا اللزوم الذاتي في ارتباط الجسم بالعرض فإن القول بانتقال الأعراض عن الجواهر يبقى مفض إلى المحال، أما علاقة الجسم بالحيز فهي غير لازمة ذاتية لأنه يمكن تصور حيز لا وجود فيه لزيد كما أنه لا يمكن تصور زيد دون حيز، إذ تحيز حيز لازم لزيد ليس ضرورة لازمة لزيد، وإذا كان الأمر على هذه الحالة، فإن كل جسم أو متحيز لا يخلو عن الحوادث، وهذه الحوادث تدرك مشاهدة وتفترض عقلا، فأما المشاهدة فتحكم جزما بأن العالم كله من أجسام وأعراض وحيز لا يخلو عن حوادث، بل قد تتغير الذرة من طبيعتها الأصلية إلى طبيعة مركبة أو الهواء أو معدن من المعادن، بل إن انشطار الذرة دليل على حدوث العالم حدوثا جوهريا وعرضيا لازما، وكذلك اتحاد الذرات بعضها مع بعض من أجل تكوين جزيء للمادة المركبة يتم بواحدة من طريقتين مختلفتين أو بكليهما معا. الطريقة الأولى تسمى رابطة التكافؤ الكهربائي وفيها تعطي إحدى الذرات واحدا من إلكتروناتها إلى الذرة الثانية فتمتلئ من جراء ذلك طبقتاهما الخارجيتان كل واحدة بثمانية إلكترونات، أما الطريقة الثانية فإنها تسمى رابطة التكافؤ الكيميائي وفيها تتقاسم الذرتان إلكترونا واحدا يكمل الطبقة الخارجية لكل منهما، ومن الواضح أن الروابط الكيميائية بين الذرات، تمثل طاقة كامنة مختزنة فيها وتضاف إلى طاقة الجزيئات الحركية فتشكل ما يسمى الطاقة الكيميائية للمادة.
وهذه التحولات الذرية وانقساماتها هي تغيرات جوهرية قبل أن تكون عرضية، وهذا ما يخدم دليل الحدوث عند المتكلمين فيما ذهبوا إليه من الاستدلال على حدوث الجواهر بحدوث الأعراض، مع أن الاستدلال كان كافيا بملاحظة ظواهر الأشياء الموجودة مرئيا وبالعين المجردة كوجود الإنسان وتوالده ووفاته وتحلله إلى رفات، وحركة الطقس والزلازل، وما يتجدد من علمه في كل عصر من أحوال الكواكب وأجرامها التي تضمها المجموعة الشمسية وغيرها من وقوع انفجارات في بعضها وحدوث الشهب بين السماء والأرض ..إلخ.
لكن المتكلمين في ضبطهم العقلي وأحكامهم الكلية رأوا أن يحصروا هذه الحوادث في قاعدتين ثابتتين لا يخلو منهما أي أحد من الموجودات الممكنات وهما: الحركة والسكون. وهما حادثان. فأما الحركة فحدوثها محسوس، وإن فرض جوهر ساكن كالأرض ففرض حركته ليس محال، بل يعلم جوازه بالضرورة . وهنا تندمج طريقتا المتكلمين في تحديد حدوث العالم وهي الطريقة العامة والطريقة التي ركز عليها أبو المعالي الجويني، وهذا دليل على التكامل المعرفي في منهج المتكلمين الاستدلالي، وإذا وقع ذلك الجائز كان حادثا وكان معدما للسكون. فيكون السكون أيضا قبله حادثا، وإذا افترض كمون في الحركة في ذات الجوهر وعدم ظهوره ثم ظهرت فإن هذا الافتراض بدوره يفضي بالضرورة إلى القول بحدوث الجواهر لأن الظهور بعد الكمون هو دليل الحدوث، وإذا كان العالم لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان عرضان من أعراض الكون، والعرض لازم ذاتي للجوهر لزم بالضرورة أن العالم حادث لأن كل مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث حسب القاعدة المعتمدة في تأسيس المنهج الاستدلالي.
ثانيا) النهاية واللانهاية والحصر الذاتي والعددي للموجودات:
وهذه الطريقة نتاج للبحث في حدوث العالم، ومعطى رئيسي من معطيات دليل الحدوث، وتقوم على القول بأن العالم ثابت حدوثه بتعيين نقطة البداية والأوائل والحدود العددية والنوعية للكائنات المكونة منها. وتعتمد الأسلوب الرياضي الحاسم في إثبات حدوث العالم، لأنها مبنية على الإحصاء وتحليل العدد أو الكم المنفصل.
وتتخلص هذه الطريقة في مقابلة مفهوم النهاية واللانهاية وتطبيق هذا المفهوم على عناصر الوجود المرئي والممكن بصفة عامة. ومن بين تطبيقاتها نجد مثلا:
أ- اللانهاية وأولية البنية الكونية: وتتأسس على اعتبار أن الكون مركب من أجزاء متناهية ذات أوائل – أي بدايات. عليها تركبت وتأسست بنيته – هو شيء ليس سوى أجزائه تلك، لأن المركب ينحل إلى أجزائه والأجزاء تؤلف المركب. وهي متناهية، أي ذات أوائل جوهرية أو عرضية، فالجمل كلها بلا شك متناهية فيلزم بهذه القاعدة أن العالم كله متناه ذو أول لأنه مركب على أجزاء متناهية ويستبعد أن يكون لا نهاية له مادام أنه تحددت أجزاؤه من كله. وهذه الأولية تضم الجواهر والأعراض فيكون العالم محدثا بالضرورة وذلك لوجوده في الزمان الذي هو عرض لازم لجوهر العالم.
ب- اللانهاية والإحصاء العددي للكائنات:
ويتلخص هذا الدليل في الحكم الرياضي ضرورة بأن كل موجود بالفعل يؤلف كلية الكون فقد حصره العدد وأحصته الطبيعة، ومعنى هذا أنه يدخل في حكم الجنس الكوني العام أو النوع الخاص الذي يحدد طبيعته. لأن المحصى بالعدد ينحصر في عدده وتتحدد طبيعته بدخوله في حكم العدد، والذي يعني التأليف المؤسس بالأوائل المتناهية في تحديد عددها وتحديد طبيعتها، إذ ما لا نهاية له فلا إحصاء له ولا حصر، ويترتب على هذا أن:
- كل محصور بالعدد محصور بالطبيعة.
- كل مركب من أشياء فهو تلك الأشياء التي ركب منها.
- ما لا نهاية له فلا بعدله.
- العالم فيه تركيب وبعد، فله نهاية.
- النهاية لها بداية = البداية حادثة = العالم حادث= كل حادث فلحدوثه سبب.
وهنا ينبغي التمييز بين اللانهاية العقلية واللانهاية الرياضية العددية كما هو معمول به في الجبر. لأن اللانهاية العقلية هي معنى واقعي وحكم بديهي لا يقبل البداية والنهاية. بينما اللانهاية الرياضية هي معنى اصطلاحي فني له بدايته إما من جهة السلب أو الإيجاب كما أنها خاضعة للإضافة وبهذا تدخل في حكم الافتراض الوهمي لا الحكم العقلي البديهي.
ج) اللانهاية وقبول الزيادة والنقصان في الزمان والمكان:
والقاعدة هنا أن ما لا نهاية له فلا سبيل إلى معنى الزيادة فيه، إذ معنى الزيادة هو أن تضيف إلى النهاية شيئا من جنسه ليكتمل به. بينما اللانهاية تتناقض مع هذه الإضافات التي هي ليست بحاجة إليها ابتداء أو انتهاء.
ومن المجالات التي تقبل الزيادة والنقصان في أجزاء العالم المؤسسة لكلياته نجد مثلا:
-أجناس الكائنات العضوية والنباتية والجامدة وغيرها.
-دورات الأفلاك والمجموعات الشمسية والمجرات.
-امتداد الزمن واستمراريته في الزيادة المطردة.
إذ لا شك في أن الزمان من كان في أوله إلى سنة الهجرة النبوية جزء للزمان مذ كان إلى وقتنا هذا ، والزمان مذ كان إلى وقتنا هذا كل للزمان مذ كان وقت الهجرة ولما بعده إلى وقتنا هذا. وتجزؤ الزمان إلى جزء وكل وحسابنا له مع إدراك الزيادة في امتداده دليل على وجود أول له واستبعاد بديهي للانهاية في امتداداته ودوراته، والزمان لا ينفصل عن المكان، والمكان يؤول إلى أوائل تحتها أجناس وأنواع متفاوتة فيما بينها عددا ووجودا زمانيا وحيزا مكانيا. إذن فالعالم بكل ما فيه آيل إلى النهاية وكل نهاية لها بداية، إذن فالعالم حادث، وكل حادث فلحدوثه سبب.
د) اللانهاية ومراجعة الزمن الماضي.
وهذا البرهان مطابق ومكمل للذي سبقه، وينبني على القول بأن الماضي عند وصوله إلينا قد خضع للعدد في دوراته، وهذه الدورات نهايتها عند وقتها الحاضر وبدايتها استئناف للزمن المستقبل.
وفي تحديد البداية والنهاية كدليل على الحدوث يعمد إلى حصر نوع العدد الذي تتم عليه الدورات: فيقال إن دورات الفلك إن لم تكن متناهية فهي إما شفع وإما وتر أي أنها تتم على دورات مترادفة ازدواجية أو دورات أحادية انفرادية، وإما لا شفع ولا وتر، وإما شفع ووتر في آن واحد، وهذه الأقسام الأربعة محال، فالمفضي إليها محال، إذ يستحيل عدد لا شفع ولا وتر أوشفع ووتر، فإن الشفع هو الذي ينقسم إلى متساويين كالعشرة مثلا والوتر هو أحد الذي لا ينقسم إلى متساويين كالتسعة، وكل عدد مركب من آحاد إما أن ينقسم بمتساويين أو لا ينقسم بمتساويين، وإما أن يتصف بالانقسام وعدم الانقسام أو ينفك عنهما جميعا فهو محال.
وباطل أن يكون شفعا لأن الشفع إنما لا يكون وترا لأنه يعوزه واحد فإذا انصاف إليه واحد صار وترا فكيف احتاج الذي لا يتناهى إلى واحد وهو أصغر الأعداد وأدلها على نهايتها. ومحال أن يكون العدد النوعي للدورات وترا لأن الوتر يصير شفعا بواحد فيبقى وترا لأنه ينقصه ذلك الواحد، فكيف يحتاج الذي لا يتناهى إلى واحد واللانهاية لا تحتاج إلى زيادة أو نقصان.
وإذا كان العدد موجودا ومقررا في دورات الفلك أو الزمن باعتبار الماضي والحاضر والمستقبل، فإن إحصاءنا لها بديهي وواقعي، إذ كل محصى وكل محصور بالطبيعة فله أوائل ينتهي إليها، وأوائله دليل حدوثه، فالعالم بالضرورة حادث في دوراته وهي أعراضه، والجواهر لا تنفك عن الأعراض. إذن: فالعالم حادث وكل حادث فلحدوثه سبب.
ه- اللانهاية والعد العكسي للتسلسل الزمني والمكاني:
وهذا البرهان من أجمل البراهين المحددة لمفهوم العدد والحصر الطبيعي للأشياء والزمن، لأن كل معدود أو محصور بالطبيعة مرتبط ببعضه ارتباطا تركيبيا بالإضافة، إذ لو لم تكن طبيعة ارتباط عناصر الكون على هذا الوجه لما أمكن تحليل عناصره كيميائيا ورياضيا أو تمييزا بصريا مجردا لعناصر عن أخرى. وبما أن العالم فيه أشياء معدودة جنسيا أو نوعيا، فإن إمكانية عدها دليل على وجود أوائل لها سواء كانت هذه الأوائل تتعلق بالجواهر أو الأعراض.
فلا سبيل إلى وجود ثان إلا بعد أول ولا إلى وجود ثالث إلا بعد ثان وهكذا أبدا بحيث يمكن صياغة هذا المعنى رياضيا مثلا:1-2-3 وعند العد العكسي نحسب ابتداء منتهى العدد 3-2-1 وقبل العدد الواحد يوجد الصفر (0) الذي هو النهاية الحتمية للأعداد. والصفر لا ينتج عددا بنفسه إلا بتصرف رياضي يحدد بداية العدد الأول وحدوثه إما على سبيل الإيجاب أو السلب أو عن طريق الإيجاب والسلب معا كما هو معمول به في الجبر، إذ يمكن من خلال العدد السلبي إنتاج العدد الإيجابي كما يمكن مقابلة الإيجابي بالسلبي فيصير العدد جملة إما إيجابا وإما سلبا بحسب مستوى المقابلة بين الإيجابية والسلبية. والإيجاب إحداث على وجه الإيجاد، والسلب إحداث على وجه الإعدام، فيترتب عن هذا التصور العددي حدوث العالم ضرورة وأن له بداية وأوائل ونهاية. ولو لم يكن لأجزاء العالم أول لم يكن ثان ولو لم يكن ثان لم يكن ثالث، ولو كان الأمر هكذا لم يكن عدد ولا معدود، وفي وجودنا جميع الأشياء التي في العالم معدودة. فيجب عند العد العكسي لها أنها ثالث بعد ثان وثان بعد أول. وفي نتيجة هذا وجود أول ضرورة، وهكذا يتبين وجود أول للعالم كونا وزمانا وعددا وإحصاء، فيكون محدثا وكل محدث فلحدوثه سبب وهذه الأنواع من البراهين الرياضية الحصرية قد أشار الله سبحانه وتعالى إليها في كتابه العزيز حيث قال: "وكل شئ عنده بمقدار" و "يزيد في الخلق ما يشاء" و "أحصى كل شئ عددا" . صدق الله العظيم.
جامعة القرويين - كلية أصول الدين
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.