1- في هذا الموضوع سأطرح مسألة العلمنة والدين من تحليلات متفلسفي عصرنا، إذ أن هذا التقابل قد يوجد بين العلمنة بالمفهوم الغربي والمسيحية ذات الاختلالات في النصوص دلالة وثبوتا، والأخبار والتواريخ التي تضمنتها، وذلك للأسباب التي تستند على معطيات موضوعية قد تناولها ابن حزم في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" حول التحريف الذي طال الأناجيل والتوراة على حد سواء، ومن هنا فإذا كانت العلمنة ترفض الدين كمحطة علمية يستسيغها العقل ويجد لها تفسيرا علميا موضوعيا، فإنه يخص المسيحية واليهودية أساسا، ومن ثم برز فلاسفة أوروبا بمنطق الرفض للدين ككل و"تعتبره شيئا قديما باليا، وقد سيطر هذا الموقف فترة طويلة من الزمن في أوروبا الغربية وخصوصا في فرنسا، وهيمن على الأوساط الفكرية والثقافية وأوساط الباحثين، وليس فقط على أوساط السياسيين الذين يريدون فصل الكنيسة عن الدولة المحيطة التي فرضها المفكرون الأوربيون، ومن هنا نتج الموقف النضالي أو الصراعي المضاد للكهنوت ولكنه ليس فقط مضادا للكهنوت..."[1]. "" وإذا كانت العلمنة قد تقف متصلبة لا تقبل الرأي الآخر المنبني على أسس عقلية مقبولة ومستدل عليها، فإنها ستكون بدورها قد أرادت أن تنصب نفسها دينا على شكل أسوأ من المسيحية المحرفة والمدجلة لأنها ستصبح استبدادا إنسانيا محضا له صورة استعمارية بغير مبرر ولكن على مستوى نظري وسلوكي قامع! ومن متاهات المتفلسفة في عصرنا أن ينظروا إلى العلمنة كمحكم في قضايا الدين والمجتمع، وبالتالي إسقاطها على فكر المعتزلة وبعض الفلاسفة والمفكرين المسلمين وذلك بالعمل على بتر أفكار شخصيات وتحريف مواقفهم بدعوى أنهم كانوا متحررين فكريا في الساحة الإسلامية، وأن هذا التحرر قد طال حتى التصرف في النص الديني والخروج بمفاهيم مخالفة للمألوف والمعهود في الساحة الفكرية العامة، وما كل هذا إلا ذريعة للإفلات من مقتضيات النص الثابت والسعي نحو التأويلات الوهمية والتي لا تستند على أساس لغوي أو ضرورة عقلية وبالأحرى ذوق روحي توحيدي كابعد مدى في الإدراك. فقد توصف تحليلات ابن خلدون مثلا بأنها ذات نزعة مادية[2] وأنه قد يتوافق مع الطروحات الماركسية في تفسير حركة التاريخ، وذلك بالاستناد على المادية الجدلية في التحليل واستخلاص أوجه الصراع السياسي والطبقي الاجتماعي وما إلى ذلك، مما قد يثار على شكل مقارنة أو اعتبار تأثير أي تأثير ابن خلدون فيمن جاؤوا بعده من الغربيين كما قد نجد في فقرات من مجلة الفكر العربي في عددها الخاص به، يقول كاتب المقال: "ولغرض الموضوعية نفسها فإن كلا من ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي وأوغست كونت في القرن التاسع عشر الميلادي اتبع المنهج نفسه وهو الاستقراء والملاحظة في دراسة المجتمع الإنساني... ولكن المهم أن ابن خلدون كان أول من وجه علم الاجتماع والدراسات الاجتماعية عامة، للتحرر من الآراء الفلسفية والميتافيزيقية والخرافية في تفسير ظواهر المجتمع والجماعة والحضارة، وبعبارة أخرى إن جميع بحوث ابن خلدون تعتمد على الملاحظة العلمية واستقراء التاريخ وهو بذلك يختلف عمن سبقه من العلماء الذين تأثروا بآرائهم ومذاهبهم الفلسفية، وحاولوا أن يخضعوا التاريخ لهذه النظريات والآراء ويحملوها أكثر مما تحتمل حتى تتفق وسنة التطور في مذاهبهم وعقائدهم"[3]. لكن الفرق بين ابن خلدون وأوغست كونت أن الأول يلتزم الدين ويجعل منه المؤسس للمجتمع والضابط له بينما الأخير يرى فيه أنه اختلاق اجتماعي صدر من المجتمع نفسه وصيغ بحسب هواه وتوجهه وهنا الفرق الكبير بين الرجلين حيث لا مجال للمقارنة الجوهرية وعلى مستوى البناء العقدي. أما عن نظرية الصراع فيقول كاتب المقال: "إن تركيز ابن خلدون على دراسة المجتمع في حالتي السكون والتغير قد ساهم كثيرا في إثراء الحوار والجدل القائم الآن بين "نظرية الصراع" و"نظرية البناء الوظيفي" في تفسير التغير الاجتماعي، وربما يمكن القول بأن ابن خلدون أقرب من حيث آراؤه وتفسيراته للتغير الاجتماعي إلى "نظرية الصراع" منه إلى "نظرية البناء الوظيفي" والمهم في آراء ابن خلدون هذه أنه توصل إلى قانون اجتماعي هام يقره أصحاب نظرية الصراع ونظرية الوظيفة على السواء، وهو أن الظواهر الاجتماعية ذات طبيعة دينامية وأن الأنظمة الاجتماعية هي دائما في حالة تفاعل فيما بينها..."[4]. وهذه المقارنة وهم وإسقاط مؤدي إلى بطالة فكرية تنم عن تقليد غوغائي غير متناسب لا مع الماركسية أو أيدولوجية الصراع وخلفياتها العقدية والمبنية على الإلحاد وإقصاء الدين من الضبط الاجتماعي ولا مع تحليلات ابن خلدون وأبنيتها المستندة أساسا على الدين الذي منه صاغ فلسفته الاجتماعية ونظريته حول العمران وتطوره ومراحل التاريخ ودوريته. ونفس الشيء قد يحدث فيما يخص ابن رشد ولكن على شكل أوسع ومركز ذي خلفيات استلابية إلى أقصى حد، كما يرد الدكتور طه عبد الرحمن مستنكرا هذه الظاهرة (الرشدية) المتكلفة "وما فتئت أعجب لهذه الفتنة الفكرية الكبرى التي التبس فيها الحق بالباطل حتى كأن من ورائها دجاجلة لا أهل تفكير، ومن ورائها دهاقنة لا أهل تنوير، ولولا علمي السابق بابن رشد فيلسوفا ومتكلما وفقيها لكنت أحد ضحايا هذه الفتنة، كما كانت الكثرة الكاثرة من الجمهور، لأن الإنسان مفطور على التصديق بما ينقل إليه لأول مرة، ولا ينبعث منه الشك في المنقول إليه أو الاعتراض عليه إلا بعد حين، فلما اندفعت في تبين ما زعموا في هذا الرجل ونسبوا إليه من الصفات الهائلة لم تقنعني تبريراتهم ولا أرضتني تأويلاتهم، إما لأن فهم بعضهم لما جاء في نصوصه غير صحيح، وإما لأن فهم بعضهم للصفات المنسوبة إليه غير واضح". ثم يضيف: "والأدهى في دعوة ابن رشد إلى التقليد في المجال الفلسفي هو أنه يدعونا إلى تقليد من يعود فكره إلى التاريخ السحيق" إذ تفصله عن أرسطو خمسة عشر قرنا، كأن الفترة الحضارية التي عاشها المسلمون لم تكن قط، أو كأن عطاءها الفلسفي لا يعتبر كليا، وفي هذا ظلم وتضليل. ولما كان ابن رشد قد وضع أصول التقليد في الفلسفة وبدا ابرز مشرع له حتى لم يضاهه في ذلك، لا سابق ولا لاحق، أمد المحدثين بمشروعية هذا التقليد وسهل عليهم طريق ممارسته، فإذن لا عجب أن تهافتوا على الفكر الغربي الحديث ينقلون ويجترون كما تهافت هو على أرسطو، يشرح ويفسر، معتقدين أنهم دخلوا عصر الحداثة من بابه الواسع، وهم لم يفعلوا إلا أن ازدادوا بعدا عنها، فهل يعقل أن تنال الحداثة من غير توفر على القدرة والإبداع"[5]. 2- فالبطالة تبدو مركبة ومتراكمة عند متفلسفة عصرنا وذلك لأنها تنبني على التبعية المزدوجة والتقليد الأعمى للحداثي والماضي في آن واحد ودون تقديم بديل يصحح ما مضى تنقيحا وانتقاء موضوعيا أو يوجه ما هو حاضرا وحديثا فيصلحه ويزكيه، وإنما هي فلسفة المضاربات والمزايدات والمراهنات ليس على المطلوب الصحيح والحق وإنما على المرغوب بالإيعاز والتآمر والتقليد المصطنع، أي أنه ليس تقليدا سليما وتعبيرا عاديا عن العجز في الاجتهاد، كما يقول بعض علمائنا "من قلد عالما لقي الله سالما" ولكن التقليد عند المتفلسفة لعبة ومناورة لاستدراج الأغمار والغوغاء من متعاطي الفلسفة والمتزيين برداء الثقافة والمعاصرة فيكون مثالهم وما يصبون إليه "كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه". ومع الأسف فقد تحول السراب في أوهام كثير من متفلسفة عصرنا إلى تيار مائي جارف ومهلك، انقلبت من خلاله الأنظار والمفاهيم وتلونت الصيغ والتعبيرات وفخمت الاشكالات والطروحات واستعملت مصطلحات أضخم من عصرها، بل أصبح العقل ومفهومه مادة زئبقية لا يكاد يستقر تعريفه على حال، وهو الشيء الذي استغله البعض من معاصرينا في باب تبرير الإقصاء لما لا يخدم مصلحتهم الايديولوجية ويتعارض مع انجرافاتهم النفسية ورغباتهم الذاتية في الانسلاخ عن القيود الدينية التي تضبط العقل ضبطا وتوجهه إلى ما فيه صلاحه. لكن الإباء والرفض لهذا القيد الذهبي الضامن للسلامة والصحة قد جعل البعض يثور على ذاته ويسعى إلى حتفه بظلفه كما يقال: فأصبح العقل لا يوصف بالبرهان في وهم العميان إلا إذا ابتعد عن القرآن، وإلا فإنه قد لا يحمل سوى صفة البيان والتي في بعدها تخفي مكرا ومناورة لا علاقة لها بالحكمة وطلب الحق، بل تبين عن هوس المميز بين مصادر البرهان بغير بيان، إذ الارتباط بالنص القرآني والحديثي هو عين البرهان ولبه بالنسبة للمعتقد فيه وغير المعتقد به إذا أنصف وسلم بمبادئ الحوار العقلي السليم، لأنه قد كان من المفروض منهجيا أن ينظر في النص ذاته، حرفا حرفا وجملة جملة وآية آية، فتدرس بتأن وروية وتدبر عميق، حينئذ يمكن القول بأن هذا الكلام برهاني أم غيره، إما بياني أو جدلي أو حتى عرفاني، أما أن يوصف الملتزم بالنص ومضمونه بأنه بياني على زعم أنه دون مستوى البرهاني لمجرد الالتزام، فهذا هوس ومكر فكري وبطالة تسعى إلى إلغاء العمل بالنصوص الإلهية والنبوية على وجه التعسف والاستنقاص بغير برهان ولا بيان!. فابن رشد الفيلسوف الذي يسعى إلى التستر وراءه كثير من مخضرمي المتفلسفة في عصرنا يبين ويستنتج كدفاع عن قوة النص الديني وخاصة القرآن الكريم بأن أدلته: "إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين: أحدهما أن تكون يقينية والثاني أن تكون بسيطة غير مركبة، أعني قليلة المقدمات، فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول"[6]. وإذا كان هذا هو رأي ابن رشد حول البرهان القرآني وأدلته فإنه يلزم اتباعه من طرف متفلسفة عصرنا على هذا المنوال، لأن ابن رشد يدخل ضمنا وصراحة في تعريف البيانيين عند الجابري الذين "يصدرون في رؤاهم وطريقة تفكيرهم عن الحقل المعرفي الذي بلورته وكرسته العلوم العربية الإسلامية الاستدلالية الخالصة نعني بها –كما يقول- النحو والفقه والكلام والبلاغة وبالأخص منهم أولئك الذين ساهموا في تقنين هذا الحقل المعرفي، تحديده وحصر اقسامه وضبط آليات التفكير داخله والإفصاح عن نوع الرؤية التي يحملها عن العالم، إنهم بكلمة واحدة علماء البيان..."[7]. فلماذا إذن لم يتفطن ابن رشد أنه ليس برهانيا حينما كان يستنبطه من القرآن ويدلل على أنه أقوى من المتكلمين والحشوية والمتصوفة ومعهم الفلاسفة؟ أين كانت برهانية ابن رشد حينما كان يؤسس لعلم الخلاف العالي في الفقه من خلال بداية المجتهد ونهاية المقتصد؟ ربما كان مغفلا في هذا الاتجاه حسب إسقاطات بعض المتفلسفة، أو ربما كان يدرالرماد على العيون[8] لتوهيم الجمهور أنه بياني، بينما في الواقع هو برهاني متستر، لأن معنى البرهاني في نظر هؤلاء هو أن يكون بعيدا عن النص وأن يكون مقلدا للفلسفة اليونانية لا للدين، إذ كما يقول الجابري أيضا في تعريف البرهان: "وواضح أننا لا نستعمل الكلمة هنا بمعناها الاصطلاحي المنطقي ولا بمعناها العام، بل إننا نضعها علما على نظام معرفي متميز بمنهج خاص في التفكير وبتقرير رؤية معينة للعالم لا تعتمد سلطة معرفية أخرى غير ذلك المنهج، نظام معرفي احتل مواقع له في الثقافة العربية الإسلامية خلال العصور الوسطى، إلى جانب النظام البياني والنظام المعرفي وهو يرجع أساسا إن لم نقل كليا إلى أرسطو". هكذا إذن ينحصر البرهان في أرسطو، وكأن هذا الأخير هو الإنسان الوحيد المفكر في العالم القديم والحديث، وكأنه أسطورة البرهان وهو شيخه الذي لا يراجع على نمط تمشيخ المتسلفة وحسب توهم متفلسفة عصرنا، ومن هنا فكل ما يخالف منهج أرسطو في المنطقيات أو النظريات العقلية فهو ليس ببرهاني، وكل ما له ارتباط بالنص الديني والاستنتاج السليم وهو ما يكذبه ابن رشد شيخ البرهانيين المتفلسفة كما مر بنا من نص حول طبيعة البرهان في القرآن وتفوقه على منهج أرسطو وغيره من تصورات الإنسان. أو ليست هذه المواقف تمثل بطالة فكرية متفلسفة كان وبالها على مجتمعنا أكثر من وبال البطالة المهنية والأعمال المادية؟ أو لم تكن هذه الإحالة البرهانية على أرسطو احتكارا يخدم خرافة التفوق العقلي الجوهري للأوروبيين أو الغربيين على باقي شعوب العالم، وهو ما قد يمكن تفنيده من خلال تحليلات ابن خلدون حول تقدم العلوم وتأخرها؟ إن هذا النمط من الإسقاط والاحتكار البرهاني الذي يلصق بابن رشد قد يذهب بالبعض إلى اعتبار أن أوربا لم تعرف نهضتها المادية إلا بعد أن توصلت بالشروحات الرشدية للكتب الأرسطية، وهذه أيضا مغالطة على نفس نموذج البرهان، إذ ابن رشد لم يكن يمثل سوى ذرة من أفكار وحضارة توالت عليها القرون وتطورت حسبها الأحوال وتغير الزمان. وما تواجد أو ذكر ابن رشد في هذه السلسلة التاريخية والحضارية إلا كحلقة صغيرة فيها لا يمكن أن تكون هي المحددة للتاريخ أو المؤثرة في الحضارة ككل، فقد سبقه عدة مفكرين وباحثين، ومتفلسفين ودارسين لا يكاد يحصون عددا ومددا، وكل واحد منهم ساهم في بناء المجتمع والعمران على مستويات فكرية ومادية وروحية. 2- ومن البطالة الفكرية أن ينسب النهوض الحضاري أو الانحدار إلى شخص بعينه أو جيل أو حتى أجيال محدودة، لأن التقدم والتأخر له عدة أسباب وله عمر كعمر الإنسان، ولا يستقل فرد في المجتمع بالمن المطلق عند تحقق إنجاز قد يبدو فيه كأنه المؤسس له أولا وآخرا كما نجد هذا الوعي الدقيق عند ابن عربي الحاتمي يقول عنه "من غيرة الله أن تكون لمخلوق على مخلوق منة لتكون المنة لله، ما خلق مخلوقا إلا وجعل لمخلوق عليه يدا بوجه ما، فإن أراد الفخر مخلوق على مخلوق بما كان منه إليه نكس رأسه ما كان من مخلوق آخر إليه، فالعارفون مثل الأنبياء والرسل والكمل من العلماء بالله لا يخطر لهم ذلك لمعرفتهم بحقائق الأمور وما ربط الله به العالم وما يستحقه جلاله مما ينبغي أن يفرد به ولا يشارك فيه، فنصب الأسباب وأوقف الأمور بعضها على بعض وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار عندما ذكر أن الله قد هداهم به، قال: لو شئتم أن تقولوا لقلتم وجدناك طريدا فأويناك، وضعيفا فنصرناك، الحديث، فذكر ما كان منهم في حقه، وكان الله قادرا على نصره من غير سبب ولكن فعل ما تقتضيه الحكمة لما جبل عليه من خلقه الله على صورته فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم "وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم" فهذا فخر ويد ومنة يتعرض فيها علة ومرض، لكن عصم الله نبيه من ذلك فجعل سبحانه في مقابلة هذه العلة دواء كما هي دواء لما هو لها دواء فقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه" أمر بذلك، وإن تصور في الجواز العقلي أن يمتن بصلاته علينا منعته من ذلك صلاتنا عليه أن يذكر هذا مع كونه السيد الأعظم، ولكن لم يترك له سبحانه المنة على خلقه ليكون هو سبحانه المنعم الممتن على عباده بجميع ما هم فيه وما يكون منهم في حق الله من الوفاء بعهوده ..."[9] ومن هنا فالمرافق الاجتماعية مترابطة متشابكة ابتداء من الفرد وتعاون أعضائه إلى الأسرة إلى المجتمع المحلي والوطني وبالتالي الحضاري الإنساني عموما، وهذا ما يمكن استخلاصه من خلال مقدمة ابن خلدون التي كان فيها يفلسف التاريخ بموضوعية علمية ويرصد أحوال الأمم والمجتمعات وأسباب تقدمها الفكري والمادي والاقتصادي والسياسي وما إلى ذلك، بحيث يرتبط التعليم بالصناعة والفلاحة والفن والسياسة، بل إنه يرى على عكس دعاوي المتفلسفة أن الفلسفة كما سبق وبينا تكون بطالة وغير ذات جدوى في البناء الحضاري العام والالتزام الأخلاقي والديني وذلك إذا تجاوزت حدودها وأصبحت تهيم في السديم ولم تميز بين المحدث والقديم. وعلى ذكر ابن خلدون في هذا المقام ينبغي أن أشير إلى أن غالبية متفلسفة عصرنا يستغلون مقدمته في توسيع دائرة استطراداتهم واجتراراتهم للطروحات المادية سواء منها الشيوعية أو الاشتراكية وكذا الرأسمالية كما سبق وبينا[10]، ولكن حينما يجدون ما يوافق أهواءهم في بعض جزئيات تحليلاته مع إسقاط مفاهيمهم الخاصة عليها، والوقوف عند ويل للمصلين، فمن ثم يصفون آراءه بأنها تمثل عبقرية وفكرا تقدميا وتحليلا موضوعيا وفلسفيا للتاريخ والعمران. غير أنهم حينما يصلون إلى ما لا يوافقهم ولا يتناسب مع تفلسفاتهم يلغون هذا الحكم ويصفون المعترف به كأنه غبي وخرافي أو أنه ليس ببرهاني وربما ليس بيانيا حتى، كما هو الموقف من التصوف عند الجابري حينما يعرف العرفان كميدان بأنه "نظام معرفي ومنهج في اكتساب المعرفة ورؤية للعالم، وأيضا موقف منه انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية من الثقافات التي كانت سائدة قبل الإسلام في الشرق الأدنى وبكيفية خاصة في مصر وسورية وفلسطين والعراق ... "وهو في جانب منه موقف من العالم، موقف نفسي وفكري ووجودي، لا بل موقف عام من العالم يشمل الحياة والسلوك والمصير، والطابع العام الذي يسم هذا الموقف هو الانزواء والهروب من العالم والتشكي من وضعية الإنسان فيه وبالتالي الجنوح إلى تضخيم الفردية والذاتية، تضخيم العارف لأناه"[11]. "إن موقف العرفاني كان دائما موقف هروب من عالم الواقع إلى عالم العقل المستقيل، كلما اشتدت وطأة الواقع على الفرد الذي لا يعرف كيف يتجاوز فرديته ويجعل قضيتة الشخصية قضية جماعية وإن لزم الأمر قضية إنسانية"[12]. هكذا إذن تعمم الأحكام وتسقط المفاهيم الغليظة المغالطة، على نمط المتسلف وأسوأ منه لأن المتفلسف لا يظهر سوى الجانب السلبي النابع من الرؤية المسبقة والأحكام الجاهزة والمخطط المطبوخ لإقصاء الحقيقة، أخطاء متراكمة معبرة عن بطالة فكرية واضحة فيها دعوى الاقتباس والتأثر، وهي دعاوي ومزاعم المستشرقين الغربيين فيما يتعلق بكل إنتاج إسلامي، وفيها تصوير غير سليم للمسلك العرفاني في رؤيته للعالم ومعايشته للمجتمع ونظره إلى نفسه والتي من أهم أساسياته هو التواضع والتسليم لا التكبر والتضخيم. وبعدها القول بالعقل المستقيل وإهمال الواقع ومتطلبات المجتمع وبالتالي الاستسلام للسلبية وعدم اعتبار قوانين الوجود والسنن الكونية، وكل هذه الدعاوي بطالية وباطلة، بل إنها صادرة عن نوع من العقل المتقاعس الذي قد استولت عليه الأوهام والهواجس فكان في الحقيقة هو نفسه المستقيل لكنه يأبى إلا أن يسقط حاله ونعته على من لم يستطع أن يلاحقه في سلوكه وذوقه وعرفانه!!! فهذا النوع من التوجه في التحليل والإسقاط المتفلسف هو الذي حول الفلسفة إلى مصطلح ولعب بالألفاظ من أجل البروز على مستوى الجماهير وكذلك السلطة، شأنهم كالمتعالمين الذين سبق أن عرضنا لأوصافهم وتحريفهم لمفهوم العلم ووظيفته. ومن ثم غلب على الساحة الاصطلاح الفلسفي الفارغ من المحتوى بدل الفلسفة بمفهومها السليم العامر وطلب الحكمة ومحبتها وبالتالي موافقتها وخدمتها لأحكام الدين الحق حينما يصفو العقل وينصف. إذ أصل وضع الشريعة في العالم وسببها كما يقول محيي الدين بن عربي: "طلب صلاح العالم ومعرفة ما جهل من الله مما لا يقبله العقل أي لا يستقل به العقل من حيث نظره فنزلت بهذه المعرفة الكتب المنزلة ونطقت بها ألسنة الرسل والأنبياء عليهم السلام فعلمت العقلاء عند ذلك أنها نقصها من العلم بالله أمور تممتها لهم الرسل، ولا اعني بالعقلاء المتكلمين اليوم في الحكمة وإنما أعني بالعقلاء من كان على طريقتهم من الشغل بنفسه والرياضات والمجاهدات والخلوات والتهيء لواردات ما يأتيهم في قلوبهم عند صفائها من العالم العلوي الموحى في السموات العلى، فهؤلاء أعني بالعقلاء، فإن أصحاب اللقلقة والكلام والجدل الذين استعملوا أفكارهم في مواد الألفاظ التي صدرت عن الأوائل وغابوا عن الأمر الذي أخذها عنه أولئك الرجال، وأما أمثال هؤلاء الذين عندنا اليوم لا قدر لهم عند كل عاقل، فإنهم يستهزئون بالدين ويستخفون بعباد الله ولا يعظم عندهم إلا من هو معهم على مدرجتهم قد استولى على قلوبهم حب الدنيا وطلب الجاه والرياسة، فأذلهم الله كما أذلوا العلم وحقرهم وصغرهم وألجاهم إلى أبواب الملوك والولاة من الجهال، فأذلتهم الملوك والولاة، فأمثال هؤلاء لا يعتبر قولهم، فإن قلوبهم قد ختم الله عليها وأصمهم وأعمى أبصارهم مع الدعوى العريضة أنهم أفضل العالم عند نفوسهم"[13] وهذا تصوير رائع ودقيق للبطالة الفكرية عند هؤلاء المتفلسفة الذين تطفلوا على الفكر والحكمة وحولوها إلى ميدان للارتزاق والانزلاق، بل إلى الزندقة والمروق، لا يختلفون من حيث الهدف النفسي مع من يسمون أنفسهم بالعلماء والفقهاء من غير استحقاق، رغم أنهم ليس لهم من العلم إلا الإسم، وليس لهم من شكله إلا الرسم، فاغتر بهم العامة والجمهور كما غرروا أيضا بالخاصة من الحكام والولاة، وبالتالي استفتوا فأفتوا بغير علم وبرزوا بغير حكمة ولا حلم، فكانت الطامة والبلية الكبرى التي ابتلي بها المسلمون وتقاعس بسببها عن الجهاد والمجاهدة الحكام والمحكومون! وهنا كما يقال: استوى الماء والخشب وتآكلت النار والحطب واختلط الحابل بالنابل واحترق القدر ولم يعد تنفع معه توابل! لأن فساد العلماء والحكماء مؤشر بفساد العامة والأمراء، طالما أن هؤلاء الأخيرين لم يتفطنوا لخطر فساد أولئك ولم يلجأوا إلى الاستنصاح بأهل الصلاح لترميم ما تم هدمه، وأي هدم أخطر على الناس من هدم القلوب وتحريف العقول وتبريد المشاعر والإحساسات وقتل الوجدانات وتزييف السلوكات!؟ ولقد كان القرآن ومايزال ملقنا ضربة استباقية لكل أفاك مريض العقل والوجدان والسلوك ،وذلك عندما بين نوعية الناعقين يغر علم والآخذين في تناول النصوص القرآنية حتى الحديثية من غير ضوابط التفسير الصحيح والتأويل الموضوعي الذي يعصم عن الخطأ ويستبعد الإسقاط والتوهم في تناول النصوص التي قد تبدو متشابهة أو أن ظاهرها قد يحتمل الشيء وغيره،لكن حقيقتها هي أنها عين الصواب ولب الواقع والعلم نافع. يقول الله تعالى:"هو الذي نزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات،فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله،وما يعلم تأويله إلا الله ،والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب،ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب"سورة آل عمران آية7-8. بحيث أن هذه الآية قد مثلت معجزة واقعية في وصف هؤلاء الزائغين المعاصرين والقدامى ممن يتطاولون على النص القرآني بالتحريف والتأويل والتشكيك في جمع نصوصه أو ترتيبها ،من منطلق البلادة والتخلف الفكري والقصور عن إدراك حقيقة البرهان أو من منطلق الزيغ والمرض النفسي والسلوكي وخلفيات التدمير العشوائي وأوهام النيل من بنية النص وتغييره،ولكن هيهات هيهات:"بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ"صدق الله العظيم. بحيث لو فرضنا جدلا واستدراجا، وهذا أبعد عن كل تصور سليم ومنصف، أن الأمة لم تقم بحماية القرآن الكريم في الأرض فإنه مع ذلك له ضمانة الحفظ من السماء غيبا وبأسباب ظاهرة وباطنة لا يدركها زائغوا الأبصار، والبصائر ومسيلمة الكذاب وأحفاده،بل لايستوعبها عريضو القفا من متفلسفة عصرنا ومتعلمنيهم .وهذا أيضا من معجزة القرآن وبنيته الدالة على حماية نصه وترتيبه آية آية وسورة سورة.وهو ما يدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :"إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر". عن حذيفة بن اليمان قال: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت اسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، ثم قلت: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت يا رسول الله صفهم لنا، فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"[14]. ولنا عودة إن شاء الله تعالى حول موضوع التأويل وضوابط التعامل الموضوعي مع النص الديني وخاصة القرآني الكريم. المصادر والمراجع [1] محمد أركون: العلمنة والدين، بحوث اجتماعية، دار الساقي، ط1 – 1990 – ص 73. [2] طيب تيزيني: من التراث إلى الثورة دار ابن خلدون، ط1 – 1976 – ص 53. [3] مجلة الفكر العربي: ابن خلدون والمعرفة، العدد 16 السنة الثانية، 1980 [4] مجلة الفكر العربي، عدد 16، ص 109. [5] الدكتور طه عبد الرحمن: حوارات من أجل المستقبل، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، ص 90-91. [6] ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ص 59. [7] محمد عابد الجابري: بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي، ط2، ص 13. [8] طيب تيزيني: من التراث إلى الثورة، دار ابن خلدون، بيروت، ط1 ج1، ص 52. [9] ابن عربي: الفتوحات المكية، ج1 ص 540. [10] طيب تيزيني: من التراث إلى الثورة، ص 55-56. [11] الجابري: بنية العقل العربي، ص 253-255 [12] الجابري: بنية العقل العربي، ص 259. [13] ابن عربي: الفتوحات المكية، ج1 ص 325. [14] رواه البخاري في كتاب: "بدء الخلق" باب علامات النبوة في الإسلام. [email protected]