إن ما وصل إليه الفكر الإسلامي من إنشاء حضارة مشهودة طيلة قرون من الحياة الإسلامية، لم يكن إلا بفعل تلك المنهجية الجديدة القائمة على إحسان الجدل بين تعاليم العقيدة المجردة من جهة، وبين مجالات الواقع من جهة أخرى وهي منهجية متأتية من خصائص البنية العقلية التي صنعتها العقيدة الإسلامية، فيما غيرت من مفاهيم عن علاقة الإنسان بالكون ومكانته فيه، ودوره في عمارته، مرورا في كل ذلك بما أعطى للواقع المحسوس من قيمة جلى في تحقيق الحياة معرفة وسلوكا. "" لقد كانت الثقافات السائدة قبل الإسلام تعتبر الواقع المحسوس موضوعا خسيسا غير كفيل بأن يوصل إلى الحق وإلى الحيز فالثقافة اليونانية كانت تعتبر رأس الفضائل هو التعقل المجرد، والثقافة الهندية والفارسية تعتبران المجاهدة الروحية هي الطريق الوحيد إلى الحق، وفي ذلك نفي للواقع المحسوس، وإسقاط له(1). وحينما طرأ الاضطراب على هذه المنهجية بعد القرن الخامس وسقط الفكر الإسلامي تدريجيا في نفي الأسباب بما ساد من التصوف وفي إسقاط الماضي على المشاكل الراهنية بما ساد من الإعراض عن الحوار المباشر مع الواقع، حينذاك آلت الحضارة الإسلامية إلى الضمور شيئا فشيئا، وعاش المسلمون عهدا من الانحطاط، كانوا فيه في حالة إغفاء حضاري يعيشون على المألوف من ثروة عهد الإزدهار غير متقدمين في واقعهم، لما أصاب الفكر من ارتداد إلى الماضي ونكوص عن محاورة الواقع والمستقبل. وفي الوقت الذي كانت تذبل فيه الحضارة الإسلامية نتيجة هذا الاضطراب المنهجي للفكر كانت تزدهر الحضارة الغربية التي ولدت من منهجية جديدة تقوم على التجربة الحسية وتعتمد الواقع ميدانا أساسيا بل وحيدا للفعل، هزت المجتمع الإنساني ونبهت الفكر الإسلامي من غفوته الطويلة، وقرعته قرعا شديدا منذ ما يقرب من قرنين من الزمن، وكانت أشد قنوات هذا القرع وهذا التنبيه حملات الاستعمار التي أسفرت عن سيطرة سياسية واقتصادية وثقافية من قبل الدول الغربية على الشعوب الإسلامية، ولما أفاق أو استفاق الفكر الإسلامي على هذا الغزو الحضاري انتابته عوامل شتى، كان لكل منها أثر بالغ في تحديد مساره المستقبلي. وهناك عاملان أثرا كثيرا في هذا المجال وهما عامل الانبهار بالفكر الغربي وبالحضارة الغربية والعامل الثاني هو عامل الارتداد إلى الذات، والتأمل في الهوية الإسلامية من حيث إنها أمل الخلاص من هذين العاملين ولدت جل التيارات الفكرية الإسلامية في القرنين الأخيرين وهي تيارات ترجع في معرض تنوعها إلى تيارين رئيسيين لكل منهما ملامح منهجية. التيار الأول: يطلق عليه أو يصطلح عليه بالتيار الأصولي، والتيار الثاني وهو الذي يهمنا هنا، وهو التيار التغريبي الذي نشأ أساسا من الانبهار بالحضارة الغربية ومنجزاتها، فقد استفاق شق من المسلمين من غفوة الانحطاط، مقارنين في عجالة بين حالة الانحطاط التي عليها المسلمون، وحالة الازدهار التي عليها الغرب فحكموا بأن سبيل الخلاص للأمة الإسلامية، إنما هو ذلك المنهج الذي أخذ به الغرب، شبرا بشبر ودراعا بدراع، وربما كان من أبرز المؤصلين لهذا التيار رفاعة الطهطاوي فيما كتبه في وصف رحلته إلى فرنسا التي سماها (تخليص الابريز) ثم تدعم بعد ذلك بأعلام من المنظرين: مثل طه حسين الذي أعلن صراحة: "أن مقياس رقي الأفراد والجماعات في الحياة المادية مهما تختلف الطبقات عندنا، إنما هو حظنا من الأخذ بأسباب الحياة المادية الأوروبية... أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، ما يحمد منها وما يعاب"(2). ولازال هذا التيار يقوى وينتشر بالكثير ممن التحقوا بالجامعات الأوروبية وتشربوا الثقافة الغربية على غير معرفة منهم بالثقافة الإسلامية، وهذا من الأسباب الرئيسية للأزمة الفكرية التي أصيبوا بها في نظرتهم إلى الإسلام عموما والقرآن كخطاب إلهي بصفة خاصة، وهي نظرة أو موقف ليس جديدا يتخذه خصوم الإسلام من مستشرقين وغيرهم، فالاتهامات هي نفسها تجتر وتتردد وتنتهي مع فارق في الصيغة والمنهج والأسلوب والهدف واحد، وهو محاولة النيل من القرآن الكريم، وإبطال دعوته عن طريق التشكيك والادعاءات الرخصية، والتأويلات الباطلة المبنية على الظن والحقد أحيانا. من بين الذين تنبوا الطرح السابق ورفعوا لواء الإخلاص له بتفان وإخلاص المفكر العربي الدكتور محمد أركون(3) الذي أصبح ذائع الصيت عند العديد من طلاب وأساتذة الجامعات الغربية العلمانية، ومعتمدا عند عدد من مثقفي اليسار العربي والمؤسسات الاستشراقية، واختيارنا للدكتور أركون له دوافع وأسباب: أولا: مشاركته في إعداد الخطة الشاملة للثقافة العربية: فقد كلف أركون هو ومجموعة من المفكرين والمثقفين العرب في إطار التخطيط للثقافة العربية بإعداد برنامج شامل لإحياء علوم الدين وتجديد الفكر الإسلامي(4)، ويقول أركون في هذا الصدد: "إ مسؤولية المفكر المسلم عظيمة بقدر ما عظم شأن الدين عندنا في السنوات الأخيرة خاصة، وعليه أن يصمد أمام الاندفاعات الإيديولوجية وطلب التشريفات والسلطات حتى يتمكن من إحداث فكر إيجابي منقذ من الانحرافات العقلية والروحية ... وسأتشرف في الأسبوع المقبل بتقديم برنامج كامل لإحياء علوم الدين وتجديد الفكر الإسلامي، وألححت في هذا البرنامج على ضرورة إعادة القراءة لتاريخ الإسلام والتراث العربي، اعتمادا على أصولية ومناهج حديثة تمكن من إلقاء ضوء جديد على التراث وإبداع مواقف فكرية أكثر ارتباطا والتزاما بالفكر العلمي المعاصر(5). ولا نرى أن شروط إحياء علوم الدين، وتجديد فكره قد توفرت في أركون نظرا لما تحمله بعض مقالاته من قدح، ولكون عملية الإحياء بالنسبة له، أو في نظره تقتضي علمنة المجتمع وتخليصه من الإديولوجيات الدينية، والأفكار الأسطورية والتصورات "المخالية" التي صنعها الدين في ذلك المجتمع، فإحياء علوم الدين –حسب مقالات الدكتور أركون- عملية تقتضي إعادة القراءة لكل النصوص الدينية من كتاب وسنة، مضافا إليها جميع التراث الديني والثقافي للأمة العربية الإسلامية، ودراسة الدين الإسلامي تبعا لذلك كظاهرة من الظواهر الدينية التي لا تختلف عن ظواهر باقي الديانات كاليهودية والمسيحية(6). ثانيا: تمثيله للأمة الإسلامية في المؤتمرات الثقافية بالغرب، ومقدما وجهة نظره كباحث عربي متشبع بدراسة الدين الإسلامي، ومؤمنا بتعاليمه السامية، وكمثال على اجتهاداته ونضاله في التعريف بالدين الإسلامي، ومشاركته دوليا في دراسة الفكر الإسلامي نكتفي بعرض بعض الفقرات من إحدى محاضراته وتدخلاته أثناء مناقشاتها، وهي تدل دلالة واضحة على نوعية ذلك الاجتهاد، فقد نظم المجمع اليهودي الدولي في سنة 1977 ما بين 27 و29 نونبر بباريز الملتقى الثامن عشر للمثقفين اليهود الناطقين بالفرنسية حول موضوع: "الأمة الإسلامية" وشارك فيه أركون بمحاضرة تحت عنوان: "الإسلام ومشاكل التنمية". ومما جاء في محاضرته التي بدأها بتعظيم شأن اليهود، وأن تاريخ الأديان السماوية تاريخ أسطوري بما فيها الإسلام: "...إذا أردنا فتح ميدان جديد لعمل تضامني ومجهود فكري تكافلي، ليس هناك حسب رأي اتجاه غير تطبيق الفكرة التي تتعدى حدود كل الجماعات بإقصائها جميع الخطب الإيديولوجية، من الكفاية الذاتية، والإعجاب بالذات، والتبرير الشرعي لمختلف إرادة القوة(7) التي يشكل الاصطدام بها تاريخنا الماضي والحاضر والذي هو مجرد تاريخ أسطوري مازال يحكمنا بخطورة إلى اليوم"(8). وينكر كل التفاسير القرآنية بما فيها السنة النبوية المفسرة للقرآن الكريم بقوله: "... إننا لا يمكننا اليوم قبول الإسلاميات الكلاسيكية التي تجمد الإسلام في تعاليم وتعلن حذارى السلطة الدينية قالت كذا، وبالتالي فهو كذلك ولن يتغير، إن الإسلام دين حيوي، لذلك فأنا أتساءل: من هي السلطة الإسلامية التي تستطيع تحديد المعنى لآية من القرآن؟ إن القرآن مفتوح، للقراءة مفتوح للتاريخانية". يريد الدكتور أركون أن يقول كما هو واضح من قوله: إن الأحاديث النبوية المفسرة للقرآن، وما نقل عن الصحابة في هذا الموضوع لا ينبغي التقيد به، وفي هذا إنكار لمهمة النبي عليه السلام وبالتالي إنكار للقرآن الذي يصرح بهذه المهمة: وهي التبيين [وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم] (النحل 43) ويضيف الدكتور محمد أركون في محاضرته أمام المجمع اليهودي كممثل للأمة الإسلامية موضحا أن الإسلام دين سبق أن كانت له تجربة علمانية "...أريد أن أثير انتباهكم إلى فكرة راسخة هي: "كون الإسلام دين يمزج بقوة بين الدنيوي والروحي (الأخروي) ونتيجة لذلك فهو دين مغلق بصفة قطعية على كل فكر توجيه نحو العلمانية ... بل هناك فعلا في الإسلام تجربة علمانية، والتي نسميها كذلك ... إن المحتويات العلمانية التقديرية للفكر الإسلامي التقليدي ستبقى في غير متناولنا مادمنا نريد البقاء مرة أخرى متشبثين بإسلام لا يعدو أن يكون دينا يأمر ويسجن العالم أجمع(9). وينتهي بعد هذا كله إلى أن الإسلام في نظره فكرة كباقي الأفكار ".. الإسلام موجود في المجتمع، شأنه شأن المسيحية واليهودية الموجودتان في المجتمع كذلك ولابد من الاطلاع على ما يجري في المجتمع والإسلام ليس إلا تعبيرا كباقي التعابير الأخرى التي قلما درست أو لم تدرس بالمرة في مختلف المجتمعات الإسلامية إلا أنه لابد من تمييز التصورات الدينية التي تتحكم فعلا في الضمائر الجماعية". لقد عرضنا بما فيه الكفاية كيفية تمثيل الشعوب الإسلامية دوليا من طرف الدكتور محمد أركون، في المناظرات الدولية، والندوات العالمية، وقدمنا مثالا غنيا عن دفاعه المستميت عن القرآن الكريم، والإسلام دينا وشريعة، ورأينا كيف قدم لأعضاء المجمع اليهودي الفرنسي نظرة شاملة عن الإسلام والعالم الإسلامي فيها كل شيء إلا الإسلام. ثالثا: التكثيف الإعلامي لفرضه كمجدد القرن الحالي: ويتعلق الأمر بالدعاية التي تخصه بها بعض الجرائد والمجلات العربية إضافة إلى المجلات الغربية والاستشراقية وسعيها الحثيث لتقديم أركون كمفكر إسلامي مثالي، أو إن شئت فقل: كمجدد للقرن الحالي ونحن لا نعيب على بعض هذه المجلات تعريفها بفكر ومشروع أركون ونشرها لمقالااته ومحاضراته، ولكن نعيب على أكثرها الإقدام على ذلك دون معرفتها للفكر الذي تنشره، او الاطلاع على المشروع الذي تشيد به بتوسع، فقد اكتفى أصحابها غالبا إما بالترجمة الحرفية لمقالات أركون، وإما بالاستجوابات السطحية التي يحاول من خلالها المحاور أن يتعلم أكثر من أن يناقش الضيف المحاور، وفيما يلي نشير إلى أهم المجالات العربية التي اهتمت وتهتم في نشر الفكر الأركوني مع أهم الآراء المنشورة فيها تجاه الإسلام، والخطاب الإلهي بصفة خاصة وهو بيت القصيد. * مجلة "الثقافة الجديدة" الصادرة بالمغرب، كان آخره ما نشرت لأركون مقدمته لترجمة معاني القرآن الفرنسية التي قام بها المستشرقان "ببرشتاين كازيميرسكي" سنة 1840 والتي عنوانها المؤلف "كيف نقرأ القرآن" وعنوانها المترجم(10). "الوحي – الحقيقة- التاريخ، نحو قراءة جديدة للقرآن". لقد أشاد المترجم حين تقديمه لمقال أركون بالنفع الذي سيعود به مشروع إعادة القراءة للقرآن على الفكر الإسلامي وثقافة المجتمعات الإسلامية، بل إن المجلة لم تكتف بترجمة ونشر نص يفتى فيه على كتاب الله جهلا به وكيدا له، ولكن تجاوزت ذلك بادعائها على لسان المترجم أن مشروع أركون المقترح له ما يبرره من وجهة نظر إسلامية حينما قال: "إن إعادة القراءة للقرآن بمنظور جديد ضمن مراجعة التراث والتاريخ الإسلاميين، وفق منهج معاصر مستفيد من تقدم العلوم الإنسانية وهذه القراءة لها ما يبررها سواء من الوجهة الإسلامية أو من الوجهة التاريخية(11). إن استعمال العلوم الإنسانية اتخذ ستارا ليوهم القارئ بأن القرآن الكريم ليس إلا جزءا من التراث العربي الإسلامي بصفة خاصة والتراث الإنساني بصفة عامة، ومن تم فينبغي دراسته لا بكونه وحيا سماويا منزلا، وقانونا ربانيا مرسلا، ولكن بكونه تراثا ثقافيا ساهمت في بلورته حضارة شعوب خلت، وفكر مجتمعات مضت، تراثا ناتجا عن صراعات ثقافية وفكرية وسياسية لتلك الشعوب والمجتمعات كتعبير عن خلاصة ونتيجة لذلك الصراع، وآذان بانتقال الأمة من عصر الطوطمية، والآلهة المتعددة إلى عصر التوحيد، وبهذا الشكل نكون قد ورثنا القرآن الكريم عن السلف كما ورثنا المعلقات والمقامات يؤخذ منه ويرد، ويعارض وينقذ... وفي نفس المجلة ص 34 يقول: ".. القرآن مدعاة للنفور بعرضه غير المنظم" واستخدامه غير المعتاد للخطاب ووفرة إيحاءاته الأسطورية التاريخية الجغرافية وكذلك بتكراره وانعدام ترابطه، باختصار بمجموعة كاملة من الرموز التي لم تعد تجد –البتة – دعائم ملموسة سواء في طرق تفكيرنا أو في محيطنا الطبيعي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي" وفي نفس الصفحة وبعدمانتساءل عن كيفية قراءة القرآن انتهى إلى القول "يمكننا أن نخطط لتحليل المفاهيم واختزال كلام الله في وثيقة لا غير تفكك من طرف فقيه اللغة... إن أسئلة من هذا القبيل سبق طرحها في المحافل اليهودية والمسيحية بخصوص الإنجيل والعهد الجديد". * ومن المجلات التي اهتمت بأركون ووضحت منهجيته في تحليل النص القرآني مجلة مواقف "التي تصدر في بيروت، نشرت في عددها 40 شتاء 1981 بحثا حول الإسلام التاريخية والتقدم. ومما جاء في هذا المقال "أن معالجة التاريخية بشكل جدي (بالمعنى الفلسفي) يعني القبول بتطبيق القرارات المنهجية والابستمولوجية على القرآن وعلى ما كنت قد سميته بالتراث الإسلامي الكلي ... إن تأمل التاريخية أو التفكير حولها من خلال الظاهرة القرآنية ومجموعة الظروف التاريخية عمل يأخذ أهمية قصوى لتدشينه. إننا لن نتجمد كما فعل التاريخيون عند مشكلة صحة النص المشكل في ظل الخليفة عثمان ... إلا إذا وضحنا المفهومات المفتاحية: الدوغماتية – مسألة المرور من مرحلة الفكر الأسطوري إلى مرحلة الفكر التاريخي(12). وفي صفحة 30 من المجلة المشار إليها مثال واضح لمنهج أركون في تأويل النص القرآني، لنستمع إلى ما يقوله في الآية الكريمة: [ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق موعظة وذكرى للمومنين] (هود 119). "إن هذه الآية تحيل إلى نوع من الاستخدام الأسطوري للتاريخ واستخدام تاريخي للأسطورة. إن تأثير هذه القصص على وعي سامعي القرآن مختلف حسب طريقة التلقي أي أنه إما أن يلقى عن طريق الوعي الأسطوري الدوغمائي، وإما أن يتلقى عن طريق الوعي التاريخي، مهما يكن من أمر فإن مهمة التحليل التاريخي لا تتركز في الكشف عن المؤثرات التي أتت من مصدر موثوق وصحيح وبالتالي إدانة الأخطاء والتشويهات والإلغاءات والإضافات التي يمكن ان توجد في النسخة القرآنية. وحول قوله تعالى: [ما نثبت به فؤادك] يقول الدكتور أركون: "... وإذا ما استخدما اللغة البسيكولوجية الألسنة فإنه يمكن القول بان هذا التثبيت للقلب هو ما يدعى بنظام الذات أي شبكة الإدراك الحسي وحل رموز الواقع، او تركيبها، هذه الشبكة هي نفسها الخطاب القرآني(13). ويضيف قائلا حول كلمة "الحق" الواردة في الآية الكريمة "هذا المفهوم قد فسر بشكل أحادي وثابت وذلك بمعنى الواقعي الحقيقي أي الله يتبدى هو نفسه من خلال كلامه .. إنه يكشف نفسه (أو يكتشف نفسه) في القصص القرآني عن طريق الممارسة التي يجربها على الأشخاص وسير الأحداث، يبدو التاريخ من قبل الله عندئذ كمحل لتظاهرات النماذج الكينونية أو نماذج السلوك البشري، إنه يفيد في أسطورة التاريخ العادي للبشر(14). ويختم حديثه عن الموعظة والذكرى الواردة في الآية الكريمة "يفترض هذان المفهومان وجود زمن منسجم وجامد، هو زمن القيم الخالدة، ذلك أن القصة توجه اندفاعة القلب وحماسته نحو معان ماضية"(15). وعمدته في هذه القراءة الجديدة أو التفسير الجديد هو "هايدجر" حيث نقل تصور هايدجر وآراءه حول القصة أو الحكاية وأسقطها على القرآن: أي فهم القرآن بفهم أجنبي عن القرآن وأهل لسانه، وفي هذه المواقف يكون الإنسان إمعة(16) وليس له أي مجهود أو ابتكار أو استنتاج وبالتالي ليست لآرائه مصداقية كذلك من أهم المجلات الحديثة التي اهتمت بالمفكر أركون مجلة "الوحدة" وهي مجلة فكرية ثقافية شهرية تصدر عن المجلس القومي للثقافة العربية الذي أنشئ على إثر انعقاد مؤتمر مواجهة الغزو الثقافي الإمبريالي الصهيوني للأمة العربية بتونس سنة 1984(17) هذه المجلة وجدت في شخص الدكتور أركون ضالتها ومفتي ديارها الذي كانت تبحث عنه، ولذلك فهي لم تتردد منذ ميلادها في التعريف به تحاوره وتنشر له، وتتبنى منهجه ومذهبه(18). وفي عددها 13 أكتوبر 1985 نشرت ضمن ملف خاص عن "تجدد الفكر الديني" بحثا نشر له بطهران سنة 1977 وعنوانه: "نحو إعادة توحيد الوعي العربي الإسلامي" هذا البحث قام بترجمته هاشم صالح وأعيد نشره في الفصل الرابع لكتاب أركون "تاريخية الفكر العربي الإسلامي منشورات مركز الإنماء القومي الطبعة الأولى 1986 خلاصة القول فيه انه يرتكز على تضخم مقصود لمجادلة سنية – شيعية بين أحد العلماء السنيين الشيخ أبي زهرة من خلال كتابيه: "الإمام الصادق" و"أصول المذهب الجعفري" الصادر سنة 1955 وأحد علماء الشيعة اللبنانية السيد حسين يوسف مكي العاملي من خلال كتابه: "عقيدة الشيعة في الإمام الصادق وسائر الأئمة" الصادر سنة 1963. وكتاب السيد العالمي هذا هو رد على كتابي الشيخ أبي زهرة المذكورين. وقد حاول أركون أن يبدو في بحثه هذا كالدارس الذي أراد تجاوز الخلاف المذهبي السني الشيعي. ويهمنا هنا الفرضيات التي انطلق منها وهي كما يلي: "...إن القرآن هو عبارة عن مجموعة من الدلالات ونص مفتوح على كافة المعاني ولا يمكن لأي تفسير أو تأويل أن يغلقه أو يستفده بشكل نهائي. إن القرآن في مرحلة النطق الأولى بهذه الدلالات، نجده يتكلم عن الدين المثالي الذي يتجاوز التاريخ، إما في مرحلة الدلالات المحيئة أو المجسدة في عقيدة ثيولوجية أو تشريعية أو فلسفية أو سياسية أو أخلاقية، فإن القرآن يصبح نوعا من الأسطورة أو الإيديولوجيا الممزوجة قليلا أو كثيرا بمعنى من التعالي. لا توجد في الوقت الراهن أية مشروعية روحية أو أي معيار موضوعي أو أي مؤلف ضخم ومتميز يتيح لنا أن نحدد بشكل معصوم الإسلام الصحيح(19). فأركون من خلال بحثه هذا ككل يبدو وكأنه يقول لنا: نعم للإسلام المثالي الذي يتخطى التاريخ ولكن أين هو الإسلام الصحيح؟ هل هو عند السنة أم عند الشيعة أم الظاهرية أم... "علينا إذا أردنا الحقيقة أن نقصي كل هذه المذاهب ونتخلص من الطوائف، ونترفع عن الإيمان بعبارات نصية ترجع لعهود ماضية، ونقبل على نقد كل ما وردنا نقدا شاملا يهتم فيه بالسؤال أكثر من الاهتمام بالإجابة، ونبدأ ذلك بتمسكنا بالعلمنة علمنة تتحرر من الدين لتبحث في الدين" هذه الأسئلة أو التساؤلات عن الإسلام الصحيح وأين هو، والتشكيك فيه وفي أسسه ومحاولة إبعاد الناس عنه قرأناها في أعمال المستشرقين القدامى الذين كانوا يشككون في الإسلام من خلال كتاباتهم، وكانوا في المقابل يبشرون بالمسيحية ممهدين بذلك للاستعمار. فالدكتور أركون في تحليقه حول هذه المواضيع وتناوله لها ليس أصيلا فيها، ومبتكرا إياها، وإنما هو مجددا لها من حيث الصياغة والأسلوب كما هو الشأن بالنسبة للمصطلحات السابقة حول القرآن، ولعله اعتبر مجددا من هذه الزاوية، وفي الحقيقة هذا ليس تجديدا وإنما هو دليل واضح على قمة الأزمة الفكرية التي أصيب بها أمثال الدكتور أركون. ومما يؤكد قراءته الجديدة للقرآن بمنظار غربي أو بوجهة نظر غربية إلحاحه على توظيف وإقحام العلوم اللسانية الحديثة في فهم القرآن وتفسيره بها، وتطبيقها عليه. ومما قاله في هذا الموضوع: "السميائية تمكننا من قراءة موضوعية لنصوص يصعب علينا أن نقراها.. وإذا احترمنا القواعد السميائية في القراءة عندئذ نكشف مجالا جديدا، ونتمتع بحرية جديدة لنطرح الأسئلة القديمة على وجهة جديدة وهذه هي الوظائف المهمة لعلم السميائية وعلم اللسانيات خاصة في قراءة نصوص هامة كنصوص القرآن والحديث..." (20). خاتمة إن بعض الناس الذين يقعون في شبهات وأخطاء بعد دراسة القرآن يعزى ضلالهم إلى أن قراءتهم للقرآن تكون دون سابق إلمام بالقواعد اللازمة لفهمه فصادفوا المباحث المختلفة المتنوعة متناثرة في صفحاته، ولم يظهر لهم مغزى كثير من آياته، وكثيرا ما قد فهم القرآن بأساليبه التعبيرية، وأنماطه البيبانية إلى معان غير مقصودة، كما وقعوا في ضروب من سوء الفهم لكثير من الآيات لأنهم ما عرفوا أسباب نزولها(21). ويرجع أبو الأعلى المودودي قصور بعض المفكرين في قراءتهم الجديدة للقرآن إلى عدم معرفة قواعد أصول دراسة القرآن. وأنه يظن حين قراءته للقرآن أنه يطالع "كتابا" موضوعه الدين ويكون في تصوره للكتاب وللدين على ما يكون في أذهان عامة الناس من تصور للدين وللكتاب بيد أنه حين يواجه في هذا الكتاب ما يختلف عن تصوره الذهني يجد نفسه لا تأنس إليه ويضل يتيه بين دفتي الكتاب لعجزه عن معرفة نقطة الانطلاق في بحثه(22). وهذا ما نجده واضحا عند أصحاب التفكير المادي، فهم عندما يعجزون عن فهم القرآن يلجئون إلى محاربته من خلال دراساتهم وقراءتهم له بغير علم ولا معرفة، إذا استثنينا ما تلقوه من علوم ومعارف من مصادر غير إسلامية، حول الإسلام بصفة عامة وحول مصادره الأصلية؛ (القرآن والحديث) بصفة خاصة. لأنه يصعب على الإنسان الذي تربى على مصطلحات وأفكار الثقافات الأجنبية، وشاب عليها أن يتحرر منها، لأنه تعود أن ينطلق منها، ويفكر من خلالها ويحاول أن يسقط هذه الثقافة على الإسلام وحضارته، ودراسة مفكريه أي أنه يحكم من خلال ضوابط وخصوصية نمط حضاري، على نمط آخر يختلف عنه اختلافا جذريا، وهذا على القطع يقود إلى الخطأ في النتائج(23) وهذا ما رأيناه عند الدكتور محمد أركون في قراءته الجديدة للقرآن الكريم الذي اخترناه كنموذج. وفقنا الله إلى ما فيه الخير، وإلى المنهج السديد والسليم والسلام عليكم ورحمة الله. الهوامش 1/ انظر تجديد الفكر الديني في الإسلام للمفكر الإسلامي محمد اقبال ص 164. 2/ مستقبل الثقافة في مصر – طه حسين ص 45. 3/ للتعريف بالدكتور محمد أركون ومؤلفاته ونشاطه الفكري نحيل القارئ الكريم إلى تصفح مجلة "الهدى" عدد 14 يوليوز 1986. 4/ تفاصيل هذا البرنامج يوجد في المجلة العربية للثقافة التي تصدرها المنظمة العربية للتربية والعلوم العدد العاشر مارس 1986 وانظر تفاصيل أخرى في هامش مجلة الهدى ص 62. 5/ مجلة الهدى، وقد نقله محمد بريش عن المجلة المشار إليها. 6/ المرجع السابق ص 43 بتصرف. 7/ التبرير الشرعي لمختلف إرادات القوى بالنسبة للإسلام هي النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تدعو وتحت على الجهاد والرباط في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (هامش صفحة 63) من المرجع السابق. 8/ ترجمة السيد بريش عن كتاب "الأمة الإسلامية" الذي ضم أعمال المؤتمر للمجمع اليهودي انظر هامش 62 من المجلة المشار إليها. 9/ "المجلة الإسلامية" نقلا عن مجلة الهدى ص 45. 10/ كمال عبد اللطيف أستاذ بكلية الآداب بالرباط في شعبة الفلسفة. 11/ انظر مجلة "الثقافة الجديدة" عدد 26-27 ص 32. 12/ انظر بخصوص هذه المصطلحات، وما يقصده من "الدوغمائية حيث يعتمد على "ديكونشى" في فهمه لها وينقل عنه. انظر المجلة اللبنانية" مواقف ع 40 شتاء 1981 بيروت ص 23 وما بعدها. 13/ مجلة مواقف ص 30. 14/ نفس المرجع والصفحة. 15/ نفسه ص 32. 16/ أنظر ص 32 وما بعدها في المرجع نفسه. 17/ أنظر تفاصيل هذا المؤتمر في العدد الثالث من مجلة الوحدة دجنبر 1984 ص52. 18/ أنظر نفس العدد ص 117 ومع بعدها في محور "الغزو الثقافي. 19/ مجلة الوحدة عدد 13 ص 49. 22/ المشروع ص 181. 23/ أبو الأعلى المودودي "المفاهيم الإسلامية لفهم القرآن" تعريب خليل أحمد الحامدي الطبعة 2 الكويت. 24/ نفس المرجع ص 12. *كلية الآداب - الجديدة