تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    بورصة البيضاء تنهي التداولات ب "انخفاض"    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    البيت الأبيض يرفض قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت    تحطم طائرة تدريب تابعة للقوات الجوية الملكية بداخل القاعدة الجوية ببنسليمان    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    سلطات القنيطرة تُعلن عن قرار سار لجماهير اتحاد طنجة    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



راشد الغنوشي يكتب عن حيرة الحركة الإسلامية بين الدولة والمجتمع
نشر في التجديد يوم 18 - 08 - 2002

تتمثل الحركة الإسلامية في جملة الجهود الجماعية والفردية التي يقوم عليها عشرات الآلاف من الرجال والنساء المؤمنين برسالة الإسلام في كل أرجاء المعمورة من أجل هداية البشرية إلى الله - سبحانه وتعالى - وتنوير القلوب بنور الهداية الربانية وتوثيق الوشائج بين المسالك الفردية والجماعية، وبين تلك الهداية . على نحو يغدو معه النشاط الإنساني في كل جوانبه ينطلق ببواعث إسلامية متجهة إلى تحقيق مرضاة الله غاية عليا لكل فكر وسلوك، وذلك عبر الكفاح المتواصل الفردي والجماعي ضد اندفاعات النفس صوب الهبوط المعززة بإغراءات شياطين الجن والإنس القائمين عقبة في طريق تجديد الحياة والفكر والسلوك، السياسة والمجتمع والآداب والفنون وإعادة صياغتها بحسب قيم وتعاليم رسالة الإسلام وذلك هو مقتضى الإيمان بعقيدة التوحيد التي ترفض الشرك في كل صوره وتدعو إلى التوحيد سواء على المستوى الفلسفي المتمثل في الإيمان بوحدانية الخلق والخالق، أو في مستوى المرجعية الأخلاقية والتشريعية لسلوك الأفراد والجماعات بالتسليم المطلق بعُلوية مرجعية الوحي عن كل مرجعية أخرى مقياساً للخير والشر والحق والباطل والحُسن والقُبح.
فكل ما زاحم هذه العقيدة ليس سوى ضرب من ضروب التمرد على الله والشرك به.
إن تحقق عقيدة التوحيد على المستوى النظري وعلى المستوى السياسي العملي هو جوهر الرسالة الإسلامية وهو محور الجهد الإصلاحي الذي قام به كل الرسل في بناء شامخ اكتمل بنيانه بالرسول العربي خاتم الأنبياء - عليه وعليهم جميعاً أزكى الصلاة والتسليم - من خلال الإيمان بالله ، واحد مفارق وحاضر في حياة الإنسان حضوراً دائماً ولأن ذلك البناء معرّض ككل بناء لعوامل الهدم والتقادم وكان دور الأنبياءفي القيام على مهمة تجديده قد انتهى ببعثة النبي العربي - عليه الصلاة والسلام - فقد انتقلت المهمة إلى أمة النبي الخاتم ممثلة خاصة في علمائها : (العلماء ورثة الأنبياء). غير أن دور الغالبية العظمى من الأنبياء اقتصر على مهمة الإصلاح العقَدي الفكري والتربوي واستُنفدت جهودهم في هذا الحقل الفسيح ولما يصلوا إلى مرحلة تأسيس حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على أسس من الدين ...
فقد كانت الفلسفات المادية مستحكمة وكانت التقاليد المتولدة عنها فاشية وأنظمة الحكم المستبدة قائمة على حراستها تحول دون كل تجديد وتعرقل عمل الأنبياء ، وتحرض عليهم عامة الناس ، وقد لا تتردد في إلجائهم إلى الهجرة أو الحبس أو حتى القتل ، ( وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللّهُ واللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ) "الأنفال 30" ، ( وقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنّكُم مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنّ فِي مِلّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ ) إبراهيم 13. إن نفراً قليلاً من الرسل تمكنوا من الجمع في عملهم بين مهمة الإصلاح العقائدي والتربوي وبين مهمة الإصلاح السياسي ، فقادوا شعوبهم في حركة تحرر وطني كما فعل موسى - عليه السلام - غير أن المهمة لم تكتمل بسبب ما ظهر في قومه من أخلاق فادحة في المستوى العقائدي والتربوي حنيناً إلى حياة الذل والدّعَة وتقليداً لأمم الشرك ( اجْعَل لّنَا إلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) الأعراف 138، ففارقهم موسى - عليه السلام - ومات حسيراً تاركاً إياهم في التيه.
أما داود وسليمان وعلى الرغم من أن حظهما كان أوفر في مجال الجمع بين الإصلاح العقائدي والعمل السياسي؛ إذ قامت لهما دولة في حيز صغير من الأرض إلا أن بني إسرائيل نكصوا عن النهوض بتكاليف حماية تلك الدولة والذود عنها الأمر الذي اضطر سليمان أن يتخلص من خيله وجيشه ( فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسّوقِ والأَعْنَاقِ ) ص 33، وسأل ربه أن يستعيض عنهما بجيش من المَرَدَة والشياطين، وهو تعبير صارخ عن فشل مهمة الجمع بين الإصلاح العقائدي والسياسي معاً، وإيذان بانهيار الدولة والمجتمع معاً والعود إلى التيه.
إن محمداً الرسول العربي وحده - عليه الصلاة والسلام - نموذج متميز بين بقية الأنبياء تحقق له - بفضل الله - النجاح على الصعيدين : صعيد الإصلاح العقَدي والتربوي ، إذ استخرج من أجلاف العرب وحياتهم المتخلفة جماعة منظمة موحدة متحضرة استعدت للانتقال بالمشروع الإسلامي التوحيدي العقائدي من المستوى النظري إلى المستوى العملي، من مستوى الاستضعاف إلى مستوى التمكن من خلال نواة خصيبة صلبة لدولة صغيرة في حجمها، قوية في بنيانها وأهدافها واستعداداتها، تمكنت في زمن قياسي من الإطاحة بالنظام القديم جملة في جزيرة العرب : عقائد وبِنيات اجتماعية وسياسية واتسعت حتى شملت ووحدت لأول مرة شبه جزيرة العرب على أساس عقيدة التوحيد.
مات عنها مؤسس الدعوة وهي تتحفز للانطلاق إلى ما وراء شبه الجزيرة العربية من ممالك الفرس والروم، تسابق جيوشها بشائر ونماذج عدالتها. وتابع خلفاؤه نفس النهج في الجمع بين مهمة الإصلاح العقائدي والسياسي، بين التوحيد والعدالة من خلال إرسائهم لدولة مسخرة لخدمة المجتمع وترسيخ أسس الإيمان والعدالة : ( الَذِينَ إن مّكّنّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصّلاةَ وَآتَوُا الزّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) الحج 41، ( وأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) الشورى15، ( يَا أَيّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ) المائدة 8.
التحول الأموي خطوة كبرى على طريق انفصال الدين عن السياسة
إن ذلك الصّنف من الجيل الموحّد الفريد الذي أسس المجتمع الإسلامي المثالي في المدينة لم تلبث حركة رياح العصر المشبعة بالروح القبلية والإمبراطورية الثيوقراطية المستبدة أن طغت عليه واستوعبته من خلال شعوب بكاملها انضمت إلى المجتمع الإسلامي حاملة بقايا مواريثها القبلية والإمبراطورية فأحدثت تحولاً نوعياً في طبيعة الرأي العام وتركيبة المجتمع فجعل ذلك أنصار النظام القديم الأقدر على التفاعل مع الأوضاع الجديدة والأخذ والعطاء من إحداث انقلاب كبير في طبيعة الدولة وعلاقتها بالدين، الأمر الذي أحدث أول وأخطر انقسام سياسي ومعرفي في تاريخ الإسلام ، تحوّل معه المسلمون من جماعة واحدة إلى أحزاب متفرقة وتحولت دولتهم من دولة في خدمة الدين والمجتمع إلى دولة تتبادل معهما الخدمة وكثيراً ما تفرض سلطانها بالقوة وتنتزع الخدمة من الدين والمجتمع.
وقد أوشك ذلك الإرث القبلي والإمبراطوري السائد في العصر روحاً عامة له - أن يحدث ذلك الانقلاب مباشرة بعد موت صاحب الدعوة - عليه الصلاة والسلام - فكان المسلمون بين داعٍ إلى (منا أمير ومنكم أمير) وبين داعٍ إلى أن الإمامة إرث مقدس خاص بأسرة النبي - عليه الصلاة والسلام - تتوارثه عنه ، إلى قبائل ثائرة مرتدة ؛ لأنها وإن قبِلت الإسلام دعوة دينية بحت فقد رفضته دولة ونظاماً شاملاً للحياة برفضها أداء الزكاة أو من خلال إصرارها على رفض الزكاة ، وهو ما مثّل أول تمرد لاديني "عَلماني" مسلح في تاريخ الإسلام أوشك أن يجهض المشروع الإسلامي الحضاري في المهد ويحوله إلى نِحلة دينية مسيحية لولا ما وفق الله إليه الصدّيق من وقفة مشهورة حسمت الأمر بهذه المقولة الثورية : " والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة " جاعلاً منها سنداً لحرب شاملة لا هوادة فيها ضد المرتدين عن شمولية الإسلام ، نكوصاً إلى حياة البداوة والتوحش. ولئن نجحت تلك الوقفة المشهودة في إخماد ذلك التمرد والنكوص عن التوحيد والحضارة صوب الشرك والبداوة مفسحاً المجال أمام إقامة النموذج الراشد المشرق عدلاً، وحرية، ومساواة، وتداولاً سلمياً على السلطة
عَبر انتخاب وتفويض حقيقي من الأمة لواحد من خيرة أبنائها من أجل أداء أمانتها تحت رقابتها، إلا أن روح العصر القبلية والإمبراطورية لم تلبث أن زحفت على ذلك النموذج الراشدي ليبقى في ذاكرة الأمة مثالاً هادياً شاهداً على إمكانية تحققه لما جعله مصدراً دائماً للثورة على الظلم والاستبداد، أما ما تحقق في الواقع فمجرد أنموذج وِفاقي بين المثال وروح العصر.
ولقد توزعت النخبة الإسلامية إزاء هذا النموذج الخليط من المثال والواقع، من الجاهلية، والإسلام على جبهتين : جبهة الأحزاب السياسية التي اتخذت من الدولة موقف المعارضة السياسية المسلحة رافضة ما أحدثه الأمويون من انتقال متعسف بالدولة، من دولة الخلافة الشورية إلى (المُلك الكسروي) العَضُوض، مع صبغة إسلامية، وظلت هذه المعارضات السياسية العنيفة للدولة في صراع دموي مرير لا تختفي حتى تعاود الظهور في أشكال جديدة رافضة أن تعطي الولاء لدولة تعتبرها خيانة للنموذج النبوي الراشدي، غير أن ما تجدر ملاحظته أن هذه الأحزاب عندما توفرت لها فرص الظفر بجهاز الدولة لم توفق في إرساء نماذج أفضل بل كثيراً ما كانت تكريساً لتأخر الواقع وإعادة إنتاج للنماذج الفردية السائدة في العصر وذلك على الرغم من التضحيات الجسام المبذولة، بل إن بعض الأحزاب المعارضة للانقلاب الأموي كالحزب الشيعي قادها القمع المسلط عليها ومواريث الحكم الفردي إلى بلورة نماذج لبدائل سياسية أبعد ما تكون عن الشورى وحكم الشعب وأوغل في الفردية مما تعارضه من الأنظمة القائمة من مثل إلغائها الشورى لفائدة الحاكم الفرد الوارث المعصوم وحتى حزب الخوارج وهو الأشد
رفضاً للنظام الوراثي عندما تمكنوا من إقامة دولتهم "الدولة الرستمية" لم يختلفوا عن خصومهم ، إذ إنهم أقاموا نظام أسرة وراثية أخرى ، أما الفريق الآخر من النخبة وهم يمثلون القطاع الأوسع فقد قادهم التأمل في النتائج المدمرة للصراع الدموي على السلطة بين الحكم والمعارضة إلى ترك منازعة السلطة والاكتفاء من الدولة باحترامها الشرائع العامة للإسلام وإفساح المجال بعد ذلك للعلماء أن يقوموا بمهمة الإصلاح الاجتماعي والتربوي ، متفرغين لخدمة المجتمع من خلال توظيف الصدقات في عمارة المساجد ونشر التعليم وتنظيمه استدراكاً لتفريط الحكام والقيام على رعاية المحتاجين وتحصين المجتمع من الآفات الاجتماعية والدفاع عن مصالحه ورفع مظالم الناس إلى الحكام والقيام على هؤلاء بالنصح والإرشاد مقابل توطيد شرعية هؤلاء لدى الجماهير ، وهكذا أسبغ جمهور علماء أهل السنة - وهم غالبية النخبة - على أنظمة الحكم التي أعقبت الخلافة الراشدة ثوب الشرعية على اعتبار أنها حكم الأمر الواقع القائم على الغَلَبَة والقوة، وذلك مقابل احترامها للشريعة وإفساحها مجال الإصلاح الاجتماعي أمام العلماء بنوع من تقاسم السلطة بين الحكام والعلماء، وكانت
القسمة ثمرة لتجارب مريرة من الفتن أقنعت العلماء بقبول دولة الأمر الواقع والتفرغ لإصلاح المجتمع.
في العصر الحديث
لقد اقتنع العلماء بعد فتن قاسية أوشكت أن تطيح بالكِيان الإسلامي جملة، بالتنازل عن السلطة لصالح أصحاب الشوكة والقوة والملك، وكانت المعادلة أو الصفقة التاريخية كالتالي : السياسة للحكام، ولهم الطاعة ما خضعوا لأحكام الشريعة، وللعلماء ضبط أحكام الشريعة والقضاء والتعليم والإشراف على الأوقاف "المورد الغزير والطوعي للإنفاق على حاجات المجتمع"، وتوالت القرون والدول على الأمة وهي محكومة بهذه المعادلة أو التسوية التاريخية بين العلماء والحكام على نحو من توزيع الأعمال والسلطات : يتفرغ الحكام لشؤون الحكم ويتفرغ العلماء لشؤون إصلاح المجتمع دون أن يمنع ذلك من ظهور المعارضات المسلحة هنا وهناك، فتنطلق في الغالب جماعة تربوية وإصلاحية على (مذهب سلب الأنظمة القائمة الشرعية) وسرعان ما تتجاوز مرحلة التثقيف الثوري إلى مرحلة العمل التنظيمي السري الذي ينفجر فجأة في وجه الدولة محاولاً افتكاك الزمام منها، وإذا فشل -وذلك الذي كان غالباً - فالوصف الجاهز له من طرف العلماء هو (الفتنة) وإذا نجح في الاستيلاء على السلطة استحق الولاء والبيعة والشرعية ما احترم معالم الشريعة وذاد عن الأمة.
ظل الأمر كذلك إلى أن اكتملت دورة حضارية لدولة انطلقت في شبه جزيرة العرب موحدة شورية عادلة منفتحة على كل معرفة، مَوّارة بالحركة وانتهت متحجرة غشوماً ومنقسمة متخلفة في (الآستانة) بما أمكن لأعداء الإسلام أن يجهزوا عليها فتفرق الشمل الذي جمعته العقيدة الإسلامية لتحل محلها أنظمة قُطرية صاغها المنتصرون بحسب مصالحهم دون أي أساس آخر معقول له صلة بمصالح أهلها وهويتهم وتراثهم التوحيدي.
تفرقت الجماعة الإسلامية إلى جماعات وانهارت نهائياً معادلة الحكم القائمة على الوفاق التاريخي بين العلماء والحكام، فقامت دول لا يمثل فيها العلماء أساساً من أسس شرعيتها إلى جانب القوة - ولربما تعد الدولة السعودية على نحوٍ ما بقية ذلك النموذج - لقد تمخّضت الدولة القُطرية التي أقامها المحتل لنفسه أو كادت للقوة والتغلب وموالاة الأجنبي متخذة من الدين ومؤسساته وعلمائه مجرد أدوات تُستخدم عند الحاجة، ملحقة بالأجهزة الأمنية للدول.
وفي ظل الدولة القطرية "العلمانية" مضموناً وشكلاً "تركيا" أو إسلامية شكلاً لادينية "علمانية" مضموناً "معظم الدول الإسلامية". وكانت محنة الإسلام وعلمائه عظيمة مع هذه الدولة فاختار بعضهم المعاضدة للحكام جرياً على عادة علماء الإسلام - بوعي أو دون وعي - لما حصل من تحول عميق في طبيعة الدولة عما كانت عليه طوال العصور أو رعاية لمصلحة عامة أو شخصية.
واختار البعض الآخر الخروج إلى صف المعارضة السياسية وذلك من خلال تكوين جمعيات وأحزاب سياسية تبدأ بالاتجاه إلى الشعب تثقيفاً وتوعية بثقافة سياسية دينية لتنتهي إلى جماعة سياسية معارضة سواء أكان ذلك بالوسائل السلمية أم باتخاذ القوة تأسيساً على اعتبار أن الدولة القائمة قد خرجت على أسس الشرعية الإسلامية إذا احتكمت لغير الإسلام في شرائعها وسياساتها. وتقدم كتابات سيد قطب والمودودي والبنا مواداً صالحة لاستخدام القوة سبيلاً للإطاحة بمنكر الدولة اللادينية "العلمانية" وإقامة الحكم الإسلامي، غير أنه مما يجدر ملاحظته أنه لا يلزم عن تكفير الأنظمة القائمة القيام ضدها بالقوة، إذ الاستطاعة أو القدرة وليس مجرد تورط الدولة في المنكر - أياً كان نوعه - أهم الضوابط المتحكمة في تحديد نوع منهج التغيير الذي ينبغي اتباعه، فإذ قد أوجب الإسلام على المسلم العمل على إزالة الظلم، والمنكر فقد أفسح أمامه مجال إعمال التفكير لاختيار أقل الوسائل مؤونة وأنجعها في إزالته مصداقاً للحديث الصحيح : « من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان «.
ولقد انتهت اليوم معظم الأحزاب الإسلامية إلى الإعراض عن نهج القوة في التغيير والبحث بدلاًً من ذلك عن كل فرص التغيير بالوسائل السياسية السلمية وذلك من خلال تكوين الأحزاب والهيئات الملتزمة بالقانون أو الاندراج فيما هو موجود منها، ولقد تضافرت جهود الطائفة الأولى "الإسلام الرسمي" مع جهود الطائفة الثانية "الإسلام المعارض" في دفع فكرة الإصلاح الإسلامي في الأمة أشواطاً بعيدة فتغلغلت في كل المستويات الاجتماعية، وغدت تمثل أوسع تيار ثقافي وسياسي في العالم الإسلامي يطالب بالتغيير السياسي في اتجاه إرساء أنظمة ديمقراطية شورية إسلامية بديلاً عن الأنظمة اللادينية "العلمانية" المستبدة كما يطالب هذا التيار بالتغيير الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بإعادة تأسيس كل النشاط الاجتماعي على أسس الإسلام من خلال دعم سلطة المجتمع وقوة بنيانه مما يحقق له قدراً واسعاً من الاستقلال عن الدولة وتقليل الحاجة إليها واقتداراً على مقاومة عسفها أو التقليل من شرورها وآثارها السلبية على الجماعة عندما يصيبها الفساد، بما يعيد صياغة الدولة ويسخرها في خدمة الدين والمجتمع ويدعم استقلال البلاد ووحدة الأمة ومساهمتها في السلم العالمي
على أسس عادلة والدفاع عن صورة الإسلام وأقلياته في العالم في مواجهة الهجمة الغربية الصهيونية الجديدة.
الإشكال لا يزال قائماً
إن مناهج التغيير في الفكر الإسلامي لم ترسُ سفينتها بعد على مرسى واحد ولا يتعلق الأمر بمجرد الاختلاف حول مدى شرعية وجدوى استخدام القوى أداة للتغيير ولا في الموقف من الدول القائمة حول مدى شرعيتها السياسية الإسلامية وإنما يتجاوز الأمر هذا النطاق. إنه في الوقت الذي حققت فيه فكرة الحزب الإسلامي انتشاراً واسعاً حتى لا يكاد يخلو بلد إسلامي من حزب إسلامي أو أكثر فإن هذه الفكرة لا تزال تتعرض لانتقادات شديدة صادرة من جهات مختلفة. ونحن هنا بصدد موضوع بحثنا حول (حيرة الحركة الإسلامية بين الدولة والمجتمع) لا يهمنا كثيراً أن نتعرض للموقف الإسلامي المعاصر الرافض لفكرة الحزب الإسلامي أصلاً، ناهيك عن تعدد الأحزاب على اعتبار أن الفكرة - بزعمهم - غربية في أصلها ولا تتساوق مع الفكر الإسلامي التوحيدي الذي يؤمن بمركزية الأمة محوراً للعمل السياسي وللولاء وليس الحزب، والغريب أن هذا النقد تشترك فيه الجماعات السلفية الجهادية الرافضة لفكرة التعدد وكذلك بعض الدول التي قامت على أساس الفكرة الإسلامية الحديثة كالجمهورية الإسلامية في إيران والسودان، وإن مالت هاتان التجربتان أخيراً - اقتناعاً أو استجابة لضغوط الواقع
- إلى الاعتراف بنوع من التعدد.
ويشارك بعض الإسلاميين في الحملة ضد حرية تكوين الأحزاب فريق العلماء الملتصقين بالسلطة فضلاً عن الدولة الثورية اللادينية "العلمانية"، وإنما الذي يهم بحثنا هذا أن نتعرض للفكرة التي رسخها فكر (الإمام البنا)، وظلت أصداؤها تتردد لدى تلاميذه، كما لدى فريق من علماء الإسلام معاضد للأنظمة القائمة مدافع عن شرعيتها ذابّاً عنها بلسانه وقلمه بأشد ما تذُب عنها جيوشها بسيفها.
وخلاصة هذه الفكرة كما عبر عنها الإمام (الشهيد) أن الحركة الإسلامية - والإخوان المسلمون نموذجهم - هي أكبر من حزب سياسي. إنهم جماعة فوق الأحزاب جميعها "انظر رسائل الإمام (الشهيد)" ، أما عند الأستاذ سيد دُسوقي - أحد مفكري هذا الاتجاه - فالحركة الإسلامية ينبغي أن تكون حركة إصلاحية ينصب عملها أساساً على شحذ الفاعلية الاجتماعية وتهيئة الإنسان المتحفّز للبناء والمحتشد للخير والحامل للقيم القرآنية في جنبات نفسه والمتدرب على تحويل هذه القيم إلى نظم فاعلة في الحياة. إن الحركة الإسلامية - حسب هذا التصور - حركة إصلاحية عالمية تصرف أبصار الناس تجاه القبلة الربانية وتضع أيديهم على المصحف ليستخرجوا كنوز القيم في كل مجالات الحياة وليبدعوا حولهم نظم حياتهم وليس حركة سياسية تنفيذية.
إن من واجب الحركة الإسلامية أن تضخ في المجتمع خريجيها ممن يملكون ملكات في توجهات أخرى ولا تحبسهم في صفوفها "ملاحظات حول دور الحركة الإسلامية وما يخرج عنها من جماعات حضارية ، ورقة غير منشورة".
إن الحركة الإسلامية - حسب هذا التصور - أشبه ما تكون بالمدرسة الحضارية التي تقوم بتخريج أجيال صالحة تنبت في سائر شرايين المجتمع وخلاياه لتقوم بمهمة النهوض الإسلامي، ويصبح الحزب السياسي في هذه الحالة كالمؤسسة الاقتصادية والقضائية والعسكرية جزءاً من جسم أمة الإسلام، منه بمثابة الروح والعقل والدم والأنفاس.
ولقد دافع عن هذا المنهج في تصور مهمة الحركة الإسلامية صديقنا المرحوم (محمد عبد الحليم أبو شقة) صاحب دار القلم ومؤلف "موسوعة تحرير المرأة في عصر الرسالة"، فتصور أن الحركة الإسلامية جملة من التنظيمات المتوازية المستقلة بعضها عن بعض يقوم كل منها على النهوض بقطاع من قطاعات المجتمع مثل قطاع العمل النقابي والثقافي والسياسي والاقتصادي، ويكون الحزب السياسي في مثل هذه الحالة ليس إلا تعبيراً عن الجهد الإصلاحي في حقل معين، أما قيادة الحركة الإسلامية فينبغي أن تكون ذات طابع روحي فكري توجيهي تربوي، توجه كل القطاعات على حد سواء بما تملكه من نفوذ فكري روحي، فهي أرفع من أن تزاحم حزباً من الأحزاب على موقع أو منصب ويشغلها ذلك عن مهمتها الرئيسية في الدعوة إلى الله وتوجيه الراعي والرعية دون أن تحصر نفسها وتتحيز إلى حزب محدد وتنشغل بالعاجل عن الآجل وبالجزئي عن الكلي "من محاضرة ألقاها الفقيد بتونس صائفة 1985 غير منشورة".
ولقد عبر عن هذه الفكرة بجلاء أحد أبرز العلماء المسلمين المعاصرين هو (الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي) في كتابه المثير للجدل الكثير "الجهاد في الإسلام"، حيث انصبّ بنقد صارم لاذع للجماعات الإسلامية السياسية التي انصرفت عن الإصلاح الإسلامي المتمثل في دعوة التائهين والجانحين والفاسقين والواقعين في شباك الغزو الفكري، انصرفت إلى أنشطة حركية خاصة بها، لا علاقة لها بالدعوة إلى الله وإنما هي دعوة إلى نصرة حزب يسعى إلى سدّة الحكم فهو أبعد ما يكون عن الاهتمام بإصلاح القلوب وإقناع العقول وتهذيب النفوس. همه محصور في أن يقنع الناس بضرورة إبلاغه إلى سدة الحكم والقيادة. إن هؤلاء الدعاة (يتحولون إلى حزب مزاحم منافس في نظر الآخرين...
وهكذا يجعل الإسلاميون من أنفسهم خصوماً وأنداداً لتلك الأحزاب والفئات الأخرى فكيف وبأي دافع تتهيأ منهم النفوس للإصغاء إلى دعوة هؤلاء الإسلاميين الذين ينافسونهم ويسابقونهم إلى عواطف الجماهير سعياً منهم إلى الحكم).
وكان الشيخ البوطي - باعتباره عضواً في (الجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة في سوريا) - قد عُرض عليه يوماً أن ينشئ ويترأس كتلة إسلامية داخل الجبهة فرفض رفضاً قاطعاً على اعتبار أن ذلك إقرار منه أن الإسلام قد تقاسم مع أعضاء الجبهة النفوذ والسلطان في القطر ومعنى ذلك أنه قد فاز بنصيب الخمس أو السدس وأن علاقة الإسلام مع بقية أعضاء الجبهة قد غدت علاقة تنافس سياسي، وهذا تقليص لسلطان الإسلام ثم تحجيم له بل سعي للقضاء عليه. بينما الأمر عندهم: (إن الإسلام في الواقع الملموس هو القدر المشترك الذي يجب أن يجمع بين أعضاء هذه الجبهة تماماً كالهوية المشتركة، فإذا كان الإسلام يؤلف بينهم جميعاً ، كما يؤلف المِعصم الواحد بين الأصابع الخمس المتعددة فمن ذا الذي يرضى أن يرجِع ثم يرجع إلى الوراء ، فيجعل من هذا المِعصم الجامع إصبعاً مجاورة أخرى. من ذا الذي يرضى أن يحيل القدر المشترك إلى ند وقسيم. أما الآن وأنا البعيد عن مزاحمتهم على المطامع والمغانم القريب من مشاعرهم الإيمانية وفطرتهم الإسلامية فإن بوسعي أن أحاور فيهم هذا القدر المشترك دون أن يكون بيني وبينهم أي فجوة فاصلة أو جسور مقطعة ولكن أي خير من حواري معهم
ودعوتي إياهم عندما أجدني أجلس منهم مجلس الند من الند والجاذب معهم القضايا مجاذبة المتربص الذي يسعى إلى تطفيف أرباحه على حساب الآخرين بل لن يكون هناك وقت للدعوة والتعريف بحقائق الإسلام في غمار هذه المنافسات.. "الجهاد في الإسلام ص 65، 66، 67"
طموح قديم متجدد
على مر العصور ظلت فكرة (العالِم الخليفة) حية كالجمرة التي قد يعلوها الرماد حيناً ثم لا تلبث أن تتأجج وتضرم بنارها ما خمد من فعالية الإسلام وثوراته المتجددة ضد مخططات تهميشه وحصره في زاوية أو مسجد ملحق من ملحقات سلطان دنيوي جاهل. لقد كان ذلك انجذاباً متجدداً صوب النموذج النبوي والراشدي الذي التحم فيه السلطان بالقرآن، والمسجد بقصر الحكومة بل كان المسجد هو محور الحياة في جميع شعبها. فكان المسجد - أبداً - مركز التفجير لثورات متتالية تعارض تهميشه وتحويله إلى مؤسسة تابعة لحاكم جاهل أو فاسق يفرض على المسجد إرادته ويعين إمامه وقد يحوله إلى مجرد أداة لخدمته وتبرير سياسته والدعاء له وامتهانه إلى درجة كتابة الخطبة التي يلقيها يوم الجمعة بديلاً عنه كما هو الحال اليوم في بلاد كتونس وأشباهها. ولقد استقرت تجرِبة الإسلام في علاقة العالِم بالسلطان كما تقدم على نحو من تقاسم السلطان: الدولة مجال سلطة الحاكم والمجتمع مجال سلطة العالم. ولم يخلُ هذا الوصف العام من استثناءات ؛ إذ ظلت الفرق الإسلامية غير السنية تمثل بشكل عام المعارضة الرافضة التي لا تتردد في اللجوء إلى السلاح لافتكاك الحكم، كما أن أهل السنة
- وهم حزب الأغلبية الحاكمة - لم يخلُ صفهم من معارضات مسلحة أو معارضات سلمية، وحتى على مستوى التنظير فقد طمح علماء من السنة إلى إحلال العالِم في الدولة مكان المرشد الأعلى الذي يقوم منه مقام السلطة التنفيذية، ظهر مثل هذا التنظير لدى إمام معتبر من أئمة أهل السنة هو الإمام الجُويني، كما ظهر لدى مؤسس أكبر دولة في المغرب الإسلامي "دولة الموحدين" وهو الإمام المهدي بن تومرت.
ولعل الإمام الخميني في عصرنا هو مَن أحيا فكرة الجويني وركّبها في إطار دولة شيعية حديثة يكون على رأسها أكبر الفقهاء وتكون الدولة بمثابة الجهاز التنفيذي لتوجيهاته. غير أن الإشكالية الرئيسية تظل متمثلة في أن الإسلام إذا كان ديناً توحيدياً لم يميز بين الديني والدنيوي، فهل يلزم من ذلك أن تكون دولته شمولية وأن تكون الأحزاب العاملة في إطار المجتمع الإسلامي لإصلاحه أحزاباً شمولية ؟، أم أن شمولية الإسلام لا تعني شمولية الدولة ولا شمولية الحزب أو الأحزاب، وذلك إذا علمنا أن ختم النبوة وانقضاء الوحي قد نقل مسؤولية الدعوة وإنفاذها وفهمها إلى الأمة كلها، الأمر الذي منع قيام كنيسة تحتكر النطق باسم السماء ، كما منع قيام الحكم المطلق - ظل الله في الأرض - كما حصل في أوروبا في العصر الوسيط ، إذ الاستخلاف عن الله للأمة ، فلا أحد معصوم من الخطأ ولا أحد فوق المساءلة، وهذا الوضع يجعل مركزية الاهتمام ومحور الحركة التاريخية والمسؤولية لا يدور حول الدولة وإنما حول الأمة، الأمر الذي يجعل مهمة التفرغ لإصلاحها وتعليمها حتى تنهض بمسؤوليتها كاملة في القيام على أمانة الإسلام والقوامة على الحكام - مهمة ذات أولوية
بالقياس إلى أي مهمة أخرى، وإن الإسلام أوجب على أهله أن يقيموا فيهم دولة، تقيم ميزان العدل بينهم إنفاذاً لأحكام الله ودفاعاً عن أمته غير أن هذه المهمة على علو منزلتها لا ترقى إلى مهمة إصلاح المجتمع ودعم مؤسساته وتقوية جانبه حتى يكون جديراً بالقوامة على حكامه وأمرهم ونهيهم ومساءلتهم وعزلهم عند الاقتضاء، الأمر الذي يرجع عند التعارض بين مهمات الدعوة إصلاحاً للناس وبين مهمات السياسة إصلاحاً للحكم ترجيح المهمة الأولى، ومهما ظهر أن الحكام يحُولون بين العلماء وبين أداء وظائفهم في إصلاح المجتمع فلن يعالَج الأمر بالتفرغ لمعارضة الحكام والتحريض عليهم والثورة ضدهم؛ لأن ذلك ليس من شأنه غير إضعاف الدولة والمجتمع معاً وإنما النجاة في الصبر والمصابرة والمناصحة واهتبال الفرص للاتصال بالناس والمرابطة معهم، فإن مهمة محمد - عليه الصلاة والسلام - كداعٍ مبتعَث فاقت مهمته كحاكم ( واصْبِرْ نَفْسَكََ مَعَ الَذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم ) الكهف 28.
الخلاصة
إن خطر انزلاق الدعوة الإسلامية إلى مجرد حزب سياسي يتميز بالإسلام ويغدو قسيماً للأحزاب الأخرى منافساً لها على استمالة الرأي العام يظل وارداً، وكذا شبهة احتكار الإسلام من طرف حزب سياسي وتكفير الأحزاب الأخرى كلها تظل محتملة الوقوع، فضلاً عن خطر الانصراف والانحياز إلى جانب مهمة إصلاح الدولة عن المهمة الرئيسية للأنبياء والمرسلين ألا وهي إصلاح النفوس وربطها بوشائج الإيمان بالله والدار الآخرة لتوثيق روابط المحبة والألفة وإصلاح ذات بين الناس ودعم مؤسسات المجتمع الأهلي. كل ذلك يفرض على الأحزاب الإسلامية أن تكون على وعي بهذه الأخطار.
ومن مقتضيات ذلك :
- أن تحرص على أن تقدم للناس برامجها الإصلاحية بديلاً عن التلويح بشعارات الإسلام في حملاتها الانتخابية.
- أن تتجنب كل شبهة لاحتكار الإسلام والتلويح بسيف التكفير.
- أن تتجنب نهج الأحزاب الشيوعية الشمولية فلا تجعل الحزب الإسلامي يكاد يحتوي كل نشاط اجتماعي منظم كالنشاط النقابي والثقافي والمسجدي والاقتصادي، بل يحسن أن يتخفف من كل ذلك وأن يهتم فقط بالنشاط السياسي وحسب، كسائر الأحزاب السياسية تاركاً للمجتمع المدني أن ينظم نفسه، دافعاً نخبة كبيرة من أهل الكفاءات الدعوية والعلمية إلى الاستقلال عنه والتفرغ لإصلاح المجتمع، معتبرين أن إصلاح المجتمع وتوجيه الدعوة إلى كل الأحزاب على حد سواء أسمى مهام العمل الإسلامي، ( ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَا إلَى اللّهِ وعَمِلَ صَالِحاً وقَالَ إنّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ ) فصلت 33 .
راشد الغنوشي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.