تأملات في سورة الفاتحة نصف الفاتحة ثناء على الله والآخر دعاء ومسألة يقف اليوم الدكتور محمد عز الدين توفيق في تدبره لسورة الفاتحة مع الجزء الأخير منها، والمتعلق بالدعاء الذي تتضمنه الفاتحة، مجليا آيات النفس والمجتمع في التعامل مع الحق المنزل من الله عز وجل. واصفا هذا الدعاء بأنه دعاء عظيم اختاره الله تعالى ليكون في أعظم سورة، وليتلى في أفضل هيئة وهي هيئة الصلاة، وليكون مسبوقا بالثناء على الله والتوسل إليه بأسمائه وعبادته. ويضيف إنه دعاء عظيم ولذلك استأثر بنصف السورة وكان النصف الأول ثناء بين يديه فنصف الفاتحة ثناء على الله ونصفها الآخر دعاء ومسألة. معاني ومقاصد (اهدنا الصراط المستقيم) (إياك نعبد وإياك نستعين) تقابل شهادة أن لا إله إلا الله، و(اهدنا الصراط المستقيم) تقابل شهادة أن محمدا رسول الله، والإسلام قام على هاتين الشهادتين، ففي الأولى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي الثانية عبادته لما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي الأولى الإخلاص له سبحانه، وفي الثانية تجريد المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الصراط المستقيم هو الإسلام، أو هو القرآن، وقد جاءت الآية الخاتمة للسورة في صورة دعاء، وقد اختاره الله تعالى لندعو به، وفي ذلك عدة معاني ومقاصد: نعمة الهداية أولا: أنه دعاء جامع متضمن لسائر الأدعية التي يمكن الدعاء بها في هذا المقام، فالعبد إذا رزق الهداية فقد أوتي أسباب الإجابة وموجبات العناية، فمع الهداية يكون الحفظ والتيسير والحماية والعناية وغير ذلك. ثانيا: إن نعمة الهداية هي أعظم نعمة على الإطلاق، بل هي التي تجعل النعم الدنيوية نعما على الحقيقة، وبدونها تكون نعم الدنيا نقمة وبلاء، لأنها تجر على صاحبها حسابا وعقابا يوم القيامة، فلا بد من نعمة الهداية لتصير نعمة الصحة والمال والولد والعلم وغيرها نعما في حق صاحبها، وماذا يفعل الإنسان بالدنيا وما فيها إذا كان يوم القيامة من أصحاب النار، ولهذا جاء في الحديث القدسي تقديم طلب الهداية على طلب الطعام والشراب والكساء... يقول تعالى: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم)، فالعبد إلى الهداية أحوج منه إلى الطعام والشراب، وهو بحاجة إليها بعدد أنفاس عمره. ثالثا: إن المسلم بحاجة إلى الهداية حتى الممات، فهو يسألها من ربه في هذه السورة بعدد الركعات التي يصلي، وبعدد المرات التي يتلو فيها سورة الفاتحة، ومن عرف قيمة الهداية وعرف سنة الله تعالى في منحها وسلبها لا يرى تكرار دعائها كثيرا، ولو كان في اليوم الواحد عشرات المرات، فهو بين أجلين، أجل مضى لا يدري ما الله فاعل فيه، وأجل يأتي لا يدري ما الله قاض فيه، وإذا كان من المهتدين في وقت مضى، فإنه لا يدري ما يكون عليه حاله في وقت يأتي، فهو يسأل الهداية ويجدد سؤالها حتى يموت عليها، ويكون آخر كلامه لا إله إلا الله. رابعا: إن الهداية إلى الإسلام إجمالا لا تعني الهداية إلى الحق في المواقف المتجددة والتصرفات اليومية، ولا بد من هداية تفصيلية يعرف بها المسلم وجه الحق في ما يعرض له وما يختلف فيه الناس، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في التهجد... "اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" رواه مسلم وغيره. مراتب الهداية والهداية أربع مراتب: أ هداية إلهام، وهي إرشاد كل مخلوق لما خلق له، وإلهامه الدور الذي عليه أن يقوم به، وهذه الهداية تشمل الإنسان وغيره، وبها ينتظم الجانب اللاإرادي في الإنسان ويسير، فالقلب مهدي لما خلق له والمعدة والدم والرئة والدماغ والجلد والنطفة والعلقة والمضغة والوليد والرضيع... قال تعالى: (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى). ب وهداية بيان: وهذه عامة للجن والإنس، لأنهم عقلاء مكلفون مسؤولون عن اعتقاداتهم وأعمالهم. فقد بين الله تعالى الحق والباطل فأرسل الرسل وأنزل الكتب حتى يكون الناس على بينة من أمرهم (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)، وبهذا المعنى الثاني كان محمد صلى الله عليه وسلم هاديا ومبشرا ونذيرا، قال تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) (الشورى/25) ج وهداية توفيق: وبها ينتفع العبد بهداية البيان، فينشرح صدره وينفتح قلبه، فهذه الهداية توفيق إلهي وفضل رباني، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، يعلم من يستحق شرف تبليغها ومن يستحق شرف اتباعها. وإذا كانت هداية البيان شرطا في الهداية، فلا يعذب أحد حتى تقوم عليه الحجة، إلا أنها شرط غير موجب، فقد تصل ولا يستجيب القلب وهداية التوفيق موجبة فلا تعارض بين قول الله تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) وقوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) فالأولى هداية البيان والثانية هداية التوفيق. د وهداية جزاء: وهي هداية أهل الجنة إلى الجنة وهداية أهل النار إلى النار، فمن وفقه الله في الدنيا فهداه إلى طريق الجنة وعمل بعمل أهلها هداه إليها يوم القيامة، ومن لم يوفقه في الدنيا فعمل بعمل أهل النار هداه إليها يوم القيامة، قال تعالى: (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم) وقال سبحانه: (فاهدوهم إلى صراط الجحيم)... وواضح أن قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) يشير إلى المرتبة الثانية والثالثة، أي هداية البيان وهداية التوفيق، فأما هداية الإلهام فهي حاصلة قبل الدعاء، لأنها هداية عامة لسائر الخلق، وأما هداية الجزاء فنتيجة، فيكون معنى قولنا اهدنا الصراط المستقيم: أي بين لنا الطريق المستقيم ووفقنا للسير فيه واختياره على غيره. الناس والحق ثلاثة أصناف والناس تجاه الحق المنزل ثلاثة أصناف: صنف عرفوا الحق واتبعوه وهم المنعم عليهم. وصنف عرفوا الحق وجحدوه وهم المغضوب عليهم. وصنف جهلوا الحق فأخطأوه وهم الضالون فهذا الدعاء يرسم في القلب مشهدا لثلاثة أصناف من الناس: (صراط الذين أنعمت عليهم) والذين أنعم الله عليهم هم النبيئون والصديقون والشهداء والصالحون، هذه الصفوة المختارة من أنبياء الله ورسله من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام وأصحابهم وأتباعهم وأنصارهم من الصديقين والشهداء والصالحين..هذه الشجرة الطيبة التي تمتد بجذورها إلى بداية البشرية، وتمتد بفروعها إلى كل زمان ومكان، فتجعل كل مسلم فرعا من فروعها وغصنا من أغصانها. إن قراءة هذه الآية الكريمة تملأ القلب أنسا وسكينة وتطرد عنه الوحشة والغربة، وتشعره أنه ليس وحده، بل هو امتداد لهؤلاء المهتدين، وإذا ثبت على نهجهم في الدنيا ألحقه الله بهم في الآخرة (ومن يطع الله والرسول فأولائك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا ذلك الفضل من الله). (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ما رواه عدي بن حاتم "اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون". وإنما كان اليهود أمة الغضب لأنهم يعلمون الحق ويجحدونه، وكان النصارى أمة الضلال لأنهم أرادوا الخير فلم يسلكوا طريقه، فعند النصارى فساد العلم وعند اليهود فساد القصد، وهما منشأ الباطل في الأرض كما قال تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى)، فيلحق باليهود والنصارى من شابههم، كما قال بعض السلف: من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى، ليس بمعنى أنهم صاروا يهودا أو نصارى، ولكن صارت فيهم بعض خصالهم. وهذه الآية أصل في النهي عن مشابهة المشركين وأهل الكتاب في المعتقدات والتصرفات، مما هو خاص بهم وشعار لهم، وأول ذلك مشابهتهم في جحود الحق ورفض الإذعان له والتكبر على دين الله وشرعه، والابتداع والزيادة فيه أو الحذف منه اتباعا للأهواء والشهوات. وكما رسمت الآية الكريمة مشهدا للمنعم عليهم، رسمت المشهد المقابل، وهو مشهد المغضوب عليهم والضالين، فيراهما القلب جميعا فيقول آمين وتخرج من الأعماق، فمن لا يريد صحبة آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وزكرياء ويحيى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، ومن لا يريد صحبة أتباعهم من الأخيار والأبرار والأطهار من كل صديق وشهيد وصالح؟ ومن يريد صحبة الكفار والفجار من أمثال فرعون وهامان وقارون وأبي جهل وأبي لهب، وأمثالهم ممن غضب الله عليهم وأضلهم على علم وختم على أسماعهم وجعل على أبصارهم غشاوة. إنه دعاء عظيم، ولذلك استأثر بنصف السورة وكان النصف الأول ثناء بين يديه، فنصف الفاتحة ثناء على الله ونصفها الآخر دعاء ومسألة. ولأنه دعاء عظيم اختاره الله تعالى ليكون في أعظم سورة، وليتلى في أفضل هيئة، وهي هيئة الصلاة وليكون مسبوقا بالثناء على الله والتوسل إليه بأسمائه وعبادته. فإذا فرغ القارئ من النصف الذي لربه (الثناء) والذي لنفسه (الدعاء) وإنه ليسمع ربه يقول له: حمدني عبدي، أثنى علي عبدي، مجدني عبدي، هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فيقول آمين ومعناها استجب يا رب. انتهى الدكتور محمد عز الدين توفيق خطيب مسجد عقبة بن نافع بالدار البيضاء