مع مرور الأيام والسنين والعقود، إذا لم يتفقد أحدنا عقيدته ومبادئه، ولو كان ذلك أسمى ما يملك المسلم ألا وهو الإيمان بالله، فإن هذه المبادئ والعقيدة والإيمان تبلى ويعلوها الوسخ والأدران أو ما وصفه الله عز وجل بالران. وسخ على وسخ تتطبع معه النفس حتى يصبح عنصرا من عناصرها فلا ينكره الفرد على نفسه ولا على غيره، بل إذا نصحه أحد قد تأخذه العزة بالإثم. فصاحب هذا القلب أو العقل أو الضمير لم يربِّ المناعة ضد هذه الأوساخ بالقدر الكافي. هذه المناعة قد نصطلح عليها بالنفس اللوامة أو البصيرة أو الحكمة، قال الشاعر : لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى تعهدوا قلوبكم بالطاعات إذا لم تقتنع بعدُ فلنستمع إلى هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم: عن ابن عمرو صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله تعالى: أن يجدد الإيمان في قلوبكم". رواه الطبراني والحاكم وصححه الألباني. أما عن تراكم الران فإنه لا يأتي فجأة حتى يبهرك، إنما ينمو كما ينمو الرضيع خطوة خطوة حتى يصبح رجلا أو امرأة، ولهذا نهانا الله عز وجل عن اتباع خطوات الشيطان. وفي الحديث عن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مربدا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه. رواه مسلم. وما بين هذا وهذا قلوب كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى، وقد ورد في تفسير القرطبي عن بكر بن عبدالله: "إن العبد إذا أذنب صار في قلبه كوخزَة الإبرة، ثم صار إذا أذنب ثانيا صار كذلك، ثم إذا كثرت الذنوب صار القلب كالمنخل، أو كالغربال، حتى لا يعي خيرا، ولا يثبت فيه صلاح". كوخزة الإبرة مثلا الأكل والشرب بالشمال، والتثاؤب دون مدافعته أو وضع اليد على الفم، وقلة إن لم نقل عدم إحترام اللباس باليمين والخلع بالشمال... إلى غير ذلك. لا تزكوا أنفسكم وقد يظن أحدهم أنه قدَّم للإسلام الكثير فلا يضره قلة متابعة هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذه الأفعال "البسيطة". فليحذر أحدنا أن يزكي نفسه ولنحذر من الغرور حتى يقول أحدنا أنه أصبح مثل الصفا، لأن الذي يعلم السر وأخفى هو الله عز وجل فقال سبحانه وتعالى: (فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) سورة النجم 32. فإذا ورد في تربية المسلمين عند اتخاذ الإسم ما روت زينب بنت أم سلمة رضي الله عنها قالت : سميتُ بَرَّة ً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: >لا تزكوا أنفسكم فإن الله أعلم بأهل البر منكم<. قالوا: ما نسميها؟ قال: >سموها زينب<. رواه مسلم. فالأحرى بنا أن لا نزكي أنفسنا ونقول أننا وصلنا في العلم منازله، وقد نوهم أنفسنا أننا وصلنا القمة. ولا نتواضع للجلوس مع من هم " أقل" منا علما، ولنسأل الله عز وجل حسن الخاتمة. والذنوب كما نعلم جميعا أقرب ما تكون من العبد وهو بمفرده، ولو كان صالحا في نفسه، فالخواطر والوساوس لا تنتهي. والأجدر بالمسلم - سيما في هذه الأيام - أن يكون قويا في نفسه وقويا بإخوانه. فعن عمر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن". رواه الإمام أحمد وغيره وصححه الألباني. الذكر يشترط استجماع القلوب له والتذكير والتذكر والذكر جماعة له فوائد كثيرة ليس الموضع هنا للتفصيل فيها . وأذكر فقط بأن الذكر سبب لاطمئنان القلب، ونزول السكينة والرحمة على العباد المجتمعين. وعلى قدر السكينة التي حصلت لك في هذه المجالس سيكون شوقك أكبر إلى التزود منها والرجوع إلى مَعينِها والمواظبة على الاغتراف منها وإرشاد الناس إلى قصدها، لأنه في المجالس تتفاوت القلوب والعقول في التحصيل حسب الزمان والمكان- وقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر-. فإذا قصدت مكان الإجتماع ناويا الإستماع والفائدة، وجمعت الشروط اللازمة سترجع وقد امتلأت إيمانا على قدر نيتك ونصبك وجهدك، ثم تضيأ في المجتمع على قدر النور الذي حصلت عليه. أدعوك لتتدبر معي هذه الحادثة ": ... حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، قال فاسمع مني، قال أفعل فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم. حمّ. تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون، بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون، وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه)، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد. ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك رأي عتبة. فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به) ... انتبهوا معي كيف أثرت الآية في عتبة وهو كافر، إنه استجمع العناصر اللازمة للاستماع، ولكن رفقة السوء جعلته يفقد النور الذي أخذه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. في حين نحن معشر المسلمين "الملتزمين" أصبحنا نرجع بنفس الوجه الذي قصدنا به المجلس وربما أقل نورا وسكينة. رغم أننا مسلمون ونؤمن بقول الله عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) سورة الأنفال 2. فهل طرحت على نفسك السؤال لماذا؟ في رأيي والله أعلم، أنه إذا كان الإيمان يخلق في جوف أحدنا، فإن الإيمان بالجلسة التربوية عاد ضعيفا في أعيننا وأذهاننا وقلوبنا. كم مرة كنا نستشهد بالقول التالي: كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "تعال نؤمن ساعة". فقاله ذات يوم لرجل فغضب الرجل فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا رسول الله ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: >يرحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة<. رواه الإمام أحمد. الذكر والمجالسة شفاء داء الفتور مرض فتاك إسمه الفتور، إسمه العزوف عن مجالس الذكر، ليس له دواء إلا ذكر الله مع المؤمنين والجلوس معهم. لأن أمراضك وهفواتك قد لا تراها على نفسك ولو بذلت جهدا لمعرفتها، وفي بعض الأحيان لا تريد أن ينبهك عليها إخوانك إذا كان الران بدأ يستحكم في القلب والعياذ بالله، ولهذا جاء في الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه<. رواه أبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه<. رواه أبو نعيم في الحلية وصححه الألباني. هذا الفتور قد يتبلور في صفات متعددة منها التكبر عن القعود والجلوس مع من يظن المتكبر - وقد تكوَّنَ عنده هذا الكبر في الاشعور- أنه أعلم منهم وفوقهم، وأن الجلوس معهم لا يزيده فائدة وأن له من الأعمال ما هو أولى. أقول لك أخي الكريم أختي الكريمة: كم مرة قرأت الفاتحة في صلواتك؟ فهل وصلت إلى الخشوع المطلوب؟ وكم مرة ختمت القرآن؟ فهل وصلت إلى تدبره؟ وكم رمضان صمت؟ فهل زهدت في شهوات البطن؟ ... صحيح أنه واجب على المسلم أن يحافظ على وقته أكثر مما يحافظ على ماله، ولكن أليس أوجب منه إذا علمنا هذا أن من أفضل وأخير الناس الذي يوَرِّث العلم، ويورث الدعوة إلى الله عز وجل. وهذا يستوجب وقتا وصبرا على المتعلمين. ولهذا أوصى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على مخالطة الناس:(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) سورة الكهف 28. وكثرة مخالطة الناس، ولا سيما إذا كانوا من اللاهين الغافلين الذين لا يذكِّروك بالآخرة يورث قساوة القلب. قد نلحظ هذا فيما روي عن الأغر المزني رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >إنه ليغان -ليغشى - على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة<. رواه مسلم. جاء في شرح النووي: قيل المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه، وقيل سببه اشتغاله بالنظر في مصالح أمته وأمورهم ومحاربة العدو ومداراته وتأليف المؤلفة ونحو ذلك. فيشتغل بذلك من عظيم مقامه فيراه ذنبا بالنسبة إلى عظيم منزلته، وإن كانت هذه الأمور من أعظم الطاعات وأفضل الأعمال، فهي نزول عن عالي درجته ورفيع مقامه من حضوره مع الله تعالى ومشاهدته ومراقبته وفراغه مما سواه فيستغفر لذلك. حتى لا تصبح مجالسنا مجرد طقوس ففي غير حلقات الذكر ومدارسة القرآن والسنة والأخلاق، وتحليل أوضاع المسلمين وواقعهم مع من لا يشاطرك الرأي والفكر، يَقِلُّ إن لم ينعدم ذكر الله على الوجه المطلوب. وهذه المجالس تحبها النفوس لأنها لا تحتاج إلى مجاهدة لمراقبة الأقوال والأفعال، إنما يكثر فيها قول بعضهم في رأيي أو في تقديري كذا وكذا. وهذا أمر طبيعي وقد وقع بحضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ممن بشرهم الله بالجنة، فلا نتطاول على أنفسنا ونزكيها أكثر من المعقول. فعن عبد الله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر يا رسول الله استعمله على قومه؟ فقال عمر: لا تستعمله يا رسول الله، فتكلما عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتفعت أصواتهما فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك ... الحديث رواه الترمذي. وفي هذه اللقاءات التنظيمية قد يفتتح "بتلاوة" آيات بينات من الذكر الحكيم ولكنها فقط نقطة في جدول الأعمال وقد يختم "بالدعاء الصالح"، ولكنه أيضا نقطة في جدول الأعمال ليس إلا. لماذا؟ لأن القرآن "يتلى" وبعضهم يحضر أوراقه ولا يتدبر الآيات، وبعضهم ليس همه في الدعاء إنما في وقت إنهاء اللقاء. لقد كادت قراءة القرآن والدعاء تكون طقوسا. ثم شيئا فشيئا مع طول المدة تقسو القلوب عن مجالس الذكر - لأنها قد أضحت نوادي لمداولة الأفكار والمجاملات-. حتى يظن بعضهم أنه بإمكانه الخوض في كل شيء دون الرجوع إلى أصول التشريع. في حين يحذرنا الله عز وجل من القول بغير علم، ويحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم على أن نقوم على مثل جيفة فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان ذلك المجلس عليهم حسرة يوم القيامة<. رواه أبو داود والحاكم وصححه الألباني. ولا يجب أيضا أن نفهم هذا الحديث على غير وجهه ونتخذه ذريعة للعزلة والكسل. بل إذا خالطت الناس أخذوا من صبرك وسكينتك ورحمتك فوجب عليك أن ترجع إلى رياض الجنة ترتع فيها حتى تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر مع إخوانك وتتزود لمخالطة مقبلة بإخلاص وصدق إن شاء الله. ولنراجع سورة العصر ولنتدبرها جيدا ولتكن لنا أنيسا. وكذلك ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم<. رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح. ليكن نفاقنا مثل نفاق حنظلة ولهذا أنصح نفسي والمتهاونين عن حضور مجالس الذكر، أن نعيد النظر في أنفسنا والإيمان بالله ثم الإيمان بالجلسات التربوية. ولا بأس أيضا أن نعيد النظر في مناهجنا التربوية، لأن الخلل فينا، وليس في حلق الذكر. قال الشاعر: إن الرواة على جهل بما حملوا مثل الجمال عليها يحمل الودع لا الودع ينفعه حمل الجمال له ولا الجمال بحمل الودع تنتفع فعلينا إذا أن نغشى حلقات الذكر بكل شغف وحب حتى يقع لنا مثل ما وقع لحنظلة رضي الله عنه: دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: نافق حنظلة، يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >وما ذاك؟<، قلت: يا رسول الله! نكون عندك، تذكرنا بالنار والجنة. حتى كأنها رأي عين. فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >والذي نفسي بيده! إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم. ولكن، يا حنظلة! ساعة وساعة< ثلاث مرات، رواه مسلم. أرجو من الله عز وجل أن يكون نفاقنا مثل نفاق حنظلة رضي الله عنه، وأن لا يشبه النفاق المتعارف عليه. وأن نحضر إلى جلسات الذكر لأننا نعرف قصدنا وهدفنا من هذا الجلوس، ثم نعمد إلى توريث هذه الجموع إلى من لم يذق طعمها بعد. والله ولي التوفيق. الدكتور محمد علي طاهري جوطي