تأملات في سورة الفاتحة .....2 من العبد العبادة ومن الله الإعانة يتابع الدكتور محمد عز الدين توفيق وقفاته مع سورة الفاتحة بعدما تناول في السابق قوله تعالى( الحمد لله رب العالمين)مبينا رحمة الله الواسعة وعلاقتها بحمده.يقول الخطيب محمد عز الدين توفيق: فالخير كله من الله عز وجل، والشر كله من المخلوقين، فهو سبحانه المحمود على كل حال، ولا يحمد على مكروه سواه، ولو اطلع الخلق على الغيب لوجدوا ما فعل الرب خيرا، فأفعاله حكيمة، وفي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الرفع من الركوع،لبيك وسعديك والخير كله بيدك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك تباركت وتعاليت. ولأن الخير كله من الله تعالى والشر كله من المخلوقين افتتح القرآن الكريم بالحمد لله (في سورة الفاتحة) واختتم بالتعوذ من شر المخلوقين (في سورة الفلق والناس). الحمد لله رب العالمين والعالمون جمع عالم، وعوالم الكون لا تحصى، فالذرة عالم لها سكانها ونشاطها وقوانينها، والخلية عالم لها عملياتها ومكوناتها، والنحلة عالم، والنملة عالم، والدودة عالم، والطير عالم، والأنعام والوحوش والأسماك والأشجار والزروع والبقول والأعشاب عوالم، والجبال والسهول والبحار والوديان عوالم، والإنسان بقبائله وشعوبه وأجناسه وألوانه وأفراد عالم، والسماء بنجومها وشموسها وكواكبها ومجراتها عالم، والملائكة عالم والجن عالم... إن العالمين هي جميع ما خلق الله تعالى، والله رب العالمين، أي أنه خالقها ومالكها والمتصرف فيها، ومهما عظم المربوب وكبر، فإن الرب أعظم وأكبر. وربوبية الله تعالى للعالمين ربوبية حقيقية، فلا يجري في خلقه شيء إلا يعلمه، ولا يقع في ملكه إلا بإذنه. وهي ربوبية عامة لا يشذ عنها شيء في الأرض ولا في السماء. وهي ربوبية دائمة لا تختص بوقت دون وقت، فهو عز وجل رب الدنيا والآخرة، رب ما مضى ورب ما يأتي، رب الأحياء والأموات، رب الإنسان والحيوان والنبات والجماد. هذه العوالم كلها حاضرة في قلب المسلم وهو يتلو قول الله تعالى: (الحمد لله رب العالمين) فما رآه منها بعينه فقد رآه، وما لم يره فهو يصدق به ويراه بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى من عوالم الغيب ما لم ير غيره، وحدث بما رأى حتى يشاركه الناس العلم بتلك العوالم، وتجد هذا الذي رآه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة كما في حديث الإسراء والمعراج، وأحاديث الرؤى التي رآها صلى الله عليه وسلم في منامه وغيرها. وهذا فضلا عن عوالم الغيب التي أخبر بها القرآن الكريم، وبهذا تكون الصلاة معراج المسلم. الرحمان الرحيم: وهذه آية كاملة من آيات السورة، وفيها تكرر اسمان من أسماء الله تعالى سبق ذكرهما في البسملة، ولعل الحكمة من ذلك أن يعلم الإنسان بأن الله تعالى رب العالمين وهو الرحمان الرحيم، فربوبيته لخلقه ربوبية رحمة لا ربوبية طغيان وظلم، كالذي يفعله الإنسان عندما يقدر على أخيه الإنسان، ويملك نوعا من السلطة والربوبية عليه، فيظلم ويتجبر ويطغى، إنه درس لنا عندما يقدر بعضنا على بعض أن يتصرف برحمة، فإن الله تعالى رب العالمين وهو الرحمان الرحيم. والرحمان واسع الرحمة، والرحيم دائمها، فهو رحمان الدنيا رحيم الآخرة، أو هو رحمان لجميع الخلق رحيم بالمومنين له رحمة عامة ورحمة خاصة. فالرحمة العامة وسعت كل شيء، والرحمة الخاصة يكتبها للذين يتقون ويومنون. ملك يوم الدين وسمي يوم القيامة بيوم الدين، لأنه يوم الجزاء على الأعمال فغايته أن يدان كل أحد بأعماله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر قال تعالى: (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين)، وهذا واحد من أسماء هذا اليوم العظيم، ومنها أيضا يوم القيامة ويوم الجمع ويوم التغابن... وكل اسم يخبر عن أمر يقع في ذلك اليوم، فهو يوم البعث أو القيامة ويوم الحشر أو الجمع ويوم الحساب أو يوم الدين، وكما كان سبحانه ربا وملكا في دار الدنيا، فهو الرب والمالك في الدار الآخرة، هو رب العالمين وهو ملك يوم الدين، في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وتصديق ذلك من كتاب الله تعالى قوله: (لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار، اليوم تجزى كل نفس ما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب)، وإذا كان الله تعالى هو عالم الغيب والشهادة رب العالمين وملك يوم الدين، فإن المعقول والمقبول من العبد أن يختار كرسي العبادة، ويلزم مكانه ويعرف قدره فيقف عنده، لذلك جاءت الآية الموالية على لسان العبد يقول فيها: إياك نعبد وإياك نستعين وهذه الآية كما سبقت الإشارة تلخص معاني القرآن الكريم وما نزل من أجله، فهي تبين الفرق بين العبد والرب، فالعبد يعبد لأنه مربوب مخلوق ضعيف، والرب يعينه لأنه قوي قادر، فمن العبد العبادة ومن الله الإعانة. فأما عبادة الله تعالى فهي غاية الحب له مع غاية الذل له، فلها جانب باطن محله القلب وهو المحبة، ولها جانب ظاهر محله الجوارح وهو الخضوع. وأما الاستعانة بالله فهي الثقة به والاعتماد عليه، فلها كذلك جانب يتصل بالقلب وهو الثقة بالله، وجانب ظاهر هو التوكل عليه والاعتماد في كل أمر عليه. وقد جمع الله تعالى بين العبادة والاستعانة في مواضع عدة مثل قوله سبحانه: (ولله غيب السماوات والأرض إليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وماربك بغافل عما تعملون) (هود/123). إن قول المسلم إياك نعبد وإياك نستعين كقوله: أشهد أن لا إله إلا الله، لأن لا إله إلا الله معناها: أن الله تعالى واحد لاشريك له في أسمائه وصفاته وفي ربوبيته وألوهيته. وقدمت الآية العبادة على الاستعانة (إياك نعبد وإياك نستعين) لأن العبادة حق الله، والإعانة حق في العبد، والعبادة غاية والاستعانة وسيلة لها وفرع عنها، فإن العبد لا يقوم بحق العبادة إلا بمعونة الله وتوفيقه، فهو يستعين بالله على عبادته، وفي الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. وفي هذه الآية الكريمة أيضا إثبات مشيئة الإنسان ومشيئة الله، وهو دين الرسل، فإياك نعبد: إثبات مشيئة العبد، وإياك نستعين: إثبات مشيئة الله، كما قال في الآية الأخرى (لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين). وقد تحولت السورة في هذه الآية من صيغة الغائب إلى صيغة المخاطب لمعاني عديدة منها: أن يكون شطر من السورة خطابا من الله تعالى لعباده، وشطر ثان مناجاة منهم له. فعندما يقرأ المسلم هذه الآية يتعهد أن يلزم مقام العبادة ولا يحيد عنه. مقام العبودية أفضل المقامات إن أفضل مقام يكون فيه الإنسان هو مقام العبودية لله تعالى، فعندما يقول إياك نعبد، فهو يرتفع إلى المقام الذي وصف الله به عباده المقربين من الملائكة والمرسلين، إلا أن القول لا يكفي ولابد أن يصدقه العمل، ولهذا جاء في الحديث القدسي: >يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمان الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجدني عبدي، وإذا قال: إياك نعبد، وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل< رواه مسلم وغيره. (إياك نعبد): لأن العبادة حق الله علينا (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). (إياك نعبد): لأن العبادة طريق الشكر، (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) (إياك نعبد): لأن عبادة الله تحررنا من عبادة من سواه، (قل أفغير الله تامروني أعبد أيها الجاهلون). (إياك نعبد): لأن عبادة الله طريق محبته (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) جزء من حديث قدسي رواه البخاري وغيره. (إياك نعبد): لأن عبادة الله تعالى تعطي لحياتنا معنى، وتحدد هدفنا في الحياة (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون). (إياك نعبد): لأن عبادة الله تعالى تبارك أعمالنا، وتمحو سيئاتنا وترفع درجاتنا، وتسلكنا في أهل الجنة (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون)، (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي). إياك نعبد وإياك نستعين وعبادة الله تعالى منازل ومقامات، وقد ألف ابن القيم رحمه الله كتاب مدارج السالكين شرح فيه كتاب منازل السائرين إلى مقامات، إياك نعبد وإياك نستعين للهروي والأنصاري، وخصص مقدمة مطولة بسط فيها بعض معاني سورة الفاتحة وهذه الآية منها، وبين أن جميع مقامات الإيمان التي توصل إلى الله تعالى هي منازل ينزل بها السائر إلى الله تعالى، ويستعين بها على بلوغ مرضاته تعالى، كما بين أن لكل جارحة من جوارح الإنسان حظها من العبودية لله تعالى، فللقلب عبوديته، وللسان عبوديته، وللأنف عبوديته، وللعينين والأذنيين واليدين والرجلين، وللفم والفرج، ولا يكون العبد متحققا بمقام العبودية حتى يكون عابدا لله تعالى بما تفعله جوارحه كلها. (إياك نعبد): بما تراه عيوننا وما تسمعه آذاننا، وبما تفعله أيدينا وأرجلنا، وما تنطقه ألسنتنا وما تأكله أفواهنا وما تشمه أنوفنا... فالموقف جليل وفي كل مرة يتلو المسلم الآية فهو يجدد العهد أمام ربه، وذلك قوله تعالى في الحديث القدسي، فإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى: (ذاك بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل) والذي يسأله العبد بعد هذا التعهد هو الهداية. الدكتور عز الدين توفيق يتبع