خدعوك فقالوا إن العلمانية هي فصل الدين عن السياسة!. في ندوة أهل العلم التي انعقدت لمناقشة الموضوع في لندن، لم يذكر أحد مسألة الدين والسياسة، وإنما تركزت مناقشاتهم حول مجمل علاقة الدين بالدنيا والحياة، وهل هي قائمة على الانفصال أو الاتصال، الأمر الذي تبدو فيه قضية السياسة مجرد جزئية في المشروع العلماني، الذي يقوم أساساً على تهميش المقدس كحد أدنى، أو إلغائه وإنكاره تماماً كحد أقصى، إن شئت الدقة، فقل: إن الدين في ظل ذلك المشروع إما محال إلى التقاعد، وإما مفصول من الخدمة. أهم ما في ذلك الحوار، أنه دار بين مفكرين وباحثين، وليس بين محترفي السياسة، لذلك لم تكن مناقشاتهم محكومة بحسابات أو تحيزات مسبقة، أو "عقد" من قبيل تلك التي تبرز علي الفور في أي تناول للموضوع بساحاتنا الثقافية العربية، لا سيما إذا ما دار الحوار تحت عنوان مثير مثل: "سقوط العلمانية والتحدي الإسلامي للغرب "، وهو العنوان الذي جرى في ظله حوار ندوة لندن. في لحظة، أدركت أن المناقشات الجارية حول العلمانية في عالمنا العربي تتسم في أغلبها بالتبسيط الشديد، فالكثرة تخوض في الموضوع دون أن تعرف عمقه وأبعاده، وإنما تلوك المصطلح أحياناً من باب المسايرة، وأحياناً من باب المكايدة. والقلة تصدر أصواتاً معرفية تحسبها علما، وهي آخذة من العلم قشوره وبعض مفرداته وعناوين كتبه. كلام أهل العلم الذين اجتمعوا في لندن كان اكثر موضوعية وعمقاً، ومن ثم أكثر جدية ومسؤولية، وللأسف، فإننا سنضطر إلى تركيزه واختصاره، حيث لا يتسع المقام لإثبات كل ما قيل خلال ست جلسات تواصلت على مدى يومين. سنثبت فقط أهم ما قيل حول العلمانية كمفهوم ومشروع، لأن الكلام تطرق إلى أمور أخرى عديدة اتصلت بالموضوع، مثل الحصاد البائس للتجربة العلمانية في التطبيق المغاربي، وطالت الحاصل في السودان والتجربة الإيرانية وولاية الفقيه. سنعرض هنا خلاصة أبرز البحوث، ثم نطالع المناقشات فيما بعد. · البروفيسور جون كين مدير مركز أبحاث الديمقراطية، افتتح الندوة بورقة عنوانها "إعادة التفكير في العلمانية" انطلق فيها من تبني موقف المفكر الأمريكي "توماس بين"، الذي دعا إليه قبل قرنين من الزمان في كتابه "عصر العقل"، وعرف العلمانية بأنه "استيعاب الدين في المجتمع"، وهذا الاستيعاب يتم عبر الإبقاء على فكرة الله لكي تظل مصدراً للأخلاق في المجتمع، مع إلغاء أي دور للأديان فيما عدا ذلك، وقد كان رأي "بين" في المسيحية، وفي الأديان كلها، أنها قوى تسعى إلى تدمير حياة الإنسان، ولم يكن ذلك مستغرباً منه، وهو الذي عاش أجواء الرعب التي خيمت على فرنسا من جراء اضطهاد الكنيسة للفكر والعلم، لذلك، فإنه كان رافضاً للأديان أو كافراً بها بتعبير أدق، لكنه تمسك بفكرة وجود الخالق، لكي لا تنهار القيم والأخلاق. أشار البروفيسور "جون كين" إلى المداولات الفكرية حول مسألة العلمنة، وانتهت إلى أن تلك العلمنة كامنة في المسيحية، باعتبار أنها عقيدة أدت إلى ما أسماه "ماكس فيبر" تحرر العالم من الإيمان وإزالة الإله من حقل المجالات الطبيعية من مختلف مناحي الحياة الأخرى. ذكر أيضاً أن الدعوة بالخالق مع رفض الاعتراف بالديانات المنزلة فشلت في خلق مجتمع متسامح يمكن للبشر فيه أني تعايشوا على الرغم من اختلاف معتقداتهم كما تمنى "توماس بين"، وإنما الذي حدث أن رفض الدين والإلحاح على تقليص دوره وحصر نطاق صلاحياته، أدى إلى إضعافه، ومن ثم نزع عنه قدرته على الدفاع عن وجوده في المجتمع، الأمر الذي انتهى بهزيمة الدين وتراجعه في نهاية المطاف. لاحقاً، أضاف البروفيسور "جون كين" أنه تبين أن الدين لا يمكن أن يجتث نهائياً من حياة الناس، وإنما الذي نجحت العلمنة في تحقيقه هو إخضاعها الدين لنظم مدنية أوجدها البشر صارت لها السلطة العليا والكلمة الأخيرة، غير أن ظهور الأصولية الدينية في الغرب اتخذ أشكالاً عدة، في مقدمتها: بروز الحديث عن "السياسة المسيحية"، والجدل المتجدد حول الدين والإجهاض، ومطالبة (80%) من البريطانيين بتدريس الدين في المدارس، هذه المؤشرات، وغيرها كثير، تثير تساؤلات عدة حول مدى نجاح العلمنة في إقصاء الدين عن الحياة، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في المسألة برمتها، من زاوية مراجعة موقف العلمانية من العلاقة بين الدين والمجتمع. · في ورقة أخرى قدمها عزام التميمي مدير منظمة "ليبرتي" والباحث بمركز أبحاث الديمقراطية، عرض لرحلة الفكرة العلمانية في العالم العربي، وكيف أنها اقترنت بحملة تغريب المجتمعات العربية، وأشار إلى أن رواد العلمانية ورموزها وقعوا في أخطاء جسيمة حينما فرضوا على المجتمعات الإسلامية حلولاً لا علاقة لها بتجربتهم، وإنما هي ثمرة التجربة الأوروبية مع المسيحية، وحين ساووا علماء المسلمين بالمؤسسات الكنسية، فقدموا للأمة العربية دواء لمرض لم تعان منه، ولذلك فإن نتائج العلمنة في العالم العربي اختلفت كثيراً عنها في أوروبا، فبينما تمخضت العلمنة إبان عصر النهضة في أوروبا عن ثورة فكرية وإصلاحات سياسية مهمة، تزعمت العلمنة في بلاد المسلمين نخب مستغربة، تحولت بعد تسلمها للسلطة إلى آلات بطش عوقت مسيرة المجتمع وكرست تخلفه. · البروفيسور "لويس كنتوري" الأستاذ بجامعة جورج تاون وأحد أبرز الخبراء الأمريكيين في شئون الشرق الأوسط أسهم في الحوار بورقة كان موضوعها: "الإسلام والديمقراطية بين الاستغراق (في الذات) والعلمانية " وهو يقدم ورقته قال: إن الليبراليين من أكثر الناس ضيقاً بالنقد، لاعتقادهم أنهم يملكون الحقيقة والمفتاح السحري للتقدم بعد الذي حققه الغرب من إنجازات على ذلك الصعيد، وقد آن الأوان لفك الارتباط بين المصطلحات الثلاثة: الليبرالية والعلمانية والتقدم، فليس صحيحاً أنها متداخلة ومترابطة بحيث يتعلق كل منها بمصير الآخر، وبوجه أخص، فإن تجربة قرنين من الزمان أثبتت في حالات عدة أن العلمانية لا تعني بالضرورة التقدم. قال إنه آن الأوان أيضاً لإدراك أن خطاب التنوير الغربي، المنطلق من العداء للدين، لا يصلح للعالم الإسلامي والعربي، الذي يمثل فيه الدين قيمة عظمى، وتسوده قيم أخرى تعلي من شأن الدولة والجماعة والأسرة، لذلك، فإن المفهوم "الهيجيلي" للكون الذي أصبح يعتبر الإيمان بالغيب من أشكال اغتراب الإنسان ويقيس التطور التاريخي بمقدار اكتمال سيادة الإنسان على مصيره وصناعة فردوسه المنشود على الأرض، هذه الرؤية المادية لا تصلح للتطبيق على الحالة الإسلامية خاصة، ولابد من العثور على بديل لها عند التعامل مع الإسلام. في رأيه أنه لا العلمانية ولا الليبرالية ولا الماركسية تصلح أساساً لإنهاض العالم الإسلامي، فكل منها يصطدم أو يتناقض مع تركيبة المجتمع الإسلامي، الذي لا مفر من الاعتراف بأنه يمثل ثقافة مغايرة تماماً لتلك السائدة في المجتمع الغربي. أخيراً، قال أنه من خلال دراساته المطولة لتجارب العالم الإسلامي والمشروعات الفكرية السائدة فيه، وجد أن فكرة "التكافلية" هي الأنسب للتعبير عن مشروع المجتمع الإسلامي، وهي صيغة تعلي من شأن الدين، وتغلب مصلحة الجماعة، وتحفظ للأخلاق والقيم السامية مكانتها، الأمر الذي يجعلها أكثر نفعاً وأفضل أداء من العلمانية أو الليبرالية، وهو يرى أن ثمة مشروعات فكرية إسلامية تبلورت في العالم العربي تعتمد على ذلك النهج التكافلي المنطلق من قاعدة الإسلام، وفي رأيه أنها مشروعات واعدة، تمثل فكراً تقدمياً قادراً على إنهاض الأمة وتلبية أشواقها. · "ريتشارد وبستر" مؤلف كتاب "التاريخ المختصر للتجديف: الليبرالية ورقابة المطبوعات والآيات الشيطانية"، عرض ورقة حول حرية التعبير وتقاليد التجديف في المسيحية، وقد تطرق في ورقته لما ورد في كتابه بالتفصيل من انتقاد حاد لموقف الليبراليين الغربيين الذين استماتوا في الدفاع عن سلمان رشدي باسم الدفاع عن حرية التعبير، وأكد في هذا الصدد أن المنطلق العلماني لموقفهم ذلك، إنما هو تعبير عن حقد دفين على الإسلام، وأيضاً من تفسير مشوه لمقصود "حرية التعبير" وهذه الحرية الأخيرة حسب ما قرره معجم "ويبستر" مفهوم مسيحي في الأصل، وبصورة أدي، هي فكرة بروتستانتية بل فكرة تطهرية (بيوريتانية)، أجازت لمن كان بيوريتانياً حرية الكلمة، بينما حرمت ذلك الحق على كل من خالفه في المذهب، حتى من داخل المنظومة المسيحية ذاتها، وقد منع من هذا الحق كل من لم يعتقد بالحرية كما فهمها منتسبو هذه الطائفة المتطرفة من البروتستانت، الذين أجازوا لأنفسهم التجديف، وتفننوا في السخرية بالإسلام والتشكيك بالنبوة والقرآن. أكد الباحث أن الصورة البشعة التي قدمها سلمان رشدي في آياته الشيطانية لبيت النبوة، لا تختلف قيد أنملة عن الصورة التي حاول ترسيخها قساوسة المسيحية في القرون الوسطى، وبينما دافع العلمانيون والليبراليون عن حق سلمان رشدي باسم العلمانية والحرية في أن يقول ما يريد، فإنهم تناسوا أن حرية التعبير بالشكل الذي نسبوه إلى العلمانية إنما هي إرث مسيحي نشأ وترعرع داخل الأديرة والكنائس. حين تحدث عن العلمانية، قال إنها تختزن القيم الدينية في الضمير، دونما حاجة إلى كنيسة أو قسس أو حتى إله، الأمر الذي أدى إلى هزيمة الدين ممثلاً بقيمه الأساسية في الواقع، كما هو الحاصل في الغرب بدرجات متفاوتة. · الدكتور "نيلوفر تموله" أستاذة علم الاجتماع بجامعة اليوسبور في استطنبول، قدمت ورقة أجابت فيها عن السؤال التالي: هل يمكن أن تتحقق الديمقراطية دون العلمانية؟، ومما لاحظته أن التلازم بين الديمقراطية والعلمانية في العالم الغربي لم يتحقق في العالم الإسلامي، حيث دخلت العلمانية في صدام مباشر بجميع الدول الإسلامية التي طبقت فيها برامج التحديث، واتخذت من التجربة التركية نموذجاً يؤيد رأيها في أن النخب المستغربة باشرت تقويض الديمقراطية باسم العلمانية، خشية أن تؤدي سيادة الشعب إلى سيادة الإسلام، ولذلك كانت العلمنة ذريعة احتمت بها وتعللت أنظمة فاشستية قمعية، خشيت من أن تؤدي الديمقراطية إلى الاختيار الحر للجماهير الذي كان سيؤدي إلى اختيار الإسلام نظاماً للحياة، وهو ما حدث في الجزائر حين ألغيت الديمقراطية باسم العلمنة وتذرعاً بالخشية على الديمقراطية الملغاة. لم تكن الدكتورة تمولة ناقدة للعلمانية كقيمة ومشروع، وإنما انصب نقدها على توظيفها في ضرب الديمقراطية وحماية الفاشية، وظل خطابها داعياً إلى ضرورة التلازم بين العلمانية والديمقراطية، ومحذراً من التطرف العلماني الذي يبدي استعداداً دائماً للانقضاض على الديمقراطية، وضربت مثلاً لذلك التطرف بالتيار الكمالي في تركيا، الذي استفزه فوز حزب الرفاه الإسلامي في الانتخابات البلدية الأخيرة، فأصبح يخوض صراعه على السلطة، ليس ضد النخب الإسلامية فحسب، وإنما أيضاً ضد عامة الجماهير. · "محاولة تحطيم العلمانية والتحدي الغربي للبوسنة"، كان ذلك عنوان ورقة الدكتور "توماز ماستناك" أستاذ العلوم السياسية بأكاديمية سلوفينيا، وصاحب كتاب "المجتمع المدني تحت الحكم الشيوعي وما قبله"، وقد قرر في مستهل بحثه أن التهديد أو التحدي الحقيقي الذي يواجه الغرب ليس مصدره الإسلام كما يروج البعض، ولكنه يكمن في الفاشية بالدرجة الأولى، دليل ذلك ما يحدث في البوسنة من جرائم. في هذا الصدد، قال إن ديمقراطية أوروبا لا تشكل صمام أمان ضد الفاشية، بل يمكن كما حدث في صربيا أن تؤدي الديمقراطية إلى وصول نظام فاشستي إلى الحكم، والفاشية سياسياً تؤدي إلى تقويض نظام الدولة، وهي في هذه الصفة تشترك مع الليبرالية الديمقراطية التي ينصب اهتمامها على حصر السلطة، ولذلك لا يتورع الديمقراطيون الليبراليون عن إقرار العنف وسيلة لذلك. · ورقة الدكتور "عبد الوهاب المسيري" الأستاذ غير المتفرغ بجامعة عين شمس عن "العلمانية" أثارت صدى قوياً داخل الندوة، خصوصاً أنه يعد الآن أحد أهم الدارسين العرب للموضوع، بحكم اشتغاله منذ عقدين من الزمان بإعداد موسوعته التي يجري طبعها الآن عن "اليهود والصهيونية - نموذج تفسيري جديد "، وقد أوصلته دراسته عن اليهودية - التي يعتبرها وظيفة وليست ديناً فقط - إلى التعمق في أصول وفلسفة العلمانية كما سنلاحظ تواً. ذكر الدكتور المسيري في ورقته أن تعريف العلمانية بأنها فصل للدين عن الدولة هو تعريف قاصر وساذج، لأنه يحصر العلمنة في قطاع ما يسمى " بالحياة العامة" وفي المجالات السياسية والاقتصادية وحسب، وكأن حياة الإنسان الخاصة وأحلامه وأسلوب حياته تظل بمعزل عن عمليات العلمنة، لكن من المعروف لدى الجميع أن مؤسسات الدولة وصناعات الترفيه واللذة في المجتمعات الحديثة قد تغلغلت في حياة الإنسان الخاصة، ووصلت إلى أعماقه ولا وعيه، وأصبحت تؤثر في رغباته وأحلامه وشهواته ورؤيته لذاته، بشكل ليس له نظير في التاريخ، ومن ثم، فنحن في حاجة إلى نموذج أكثر تفسيرية وتركيبة للعلمانية، يتجنب تستطيح الأطروحات الشائعة. وقد عرف العلمانية بأنها فصل كل المطلقات الأخلاقية والمعرفية والإنسانية عن الدنيا، بحيث تصبح كل الأمور نسبية، والتعبير الفلسفي لذلك هو: أن العلمانية تعني أن العالم مكتف بذاته، وأنه يحوي داخله كل ما هو ضروري لإدراكه والإفادة منه، وأن عقل الإنسان قادر على فهم كامل للطبيعة، وعلى تحقيق السيطرة التامة عليها، وهو قادر وحده على إدارة العالم وتأسيس نظمه المعرفية والأخلاقية، وليس بحاجة إلى أي شئ آخر خارج النظام الطبيعي المادي، وفي هذه الحالة تصبح مرجعية الإنسان كامنة في ذاته. لذلك بدأ بالمشروع العلماني بالنزعة الإنسانية (الهيومانية) التي تضع الإنسان في مركز الكون، وهذه الأطروحة تؤدي إلى نتيجتين: أولاهما: اختزال الإنسان ورده إلى القوانين المادية الطبيعية، ففي إطار المرجعية الكامنة، يصبح الإنسان جزءاً من الطبيعة والمادة، لا يتجاوزهما، بحيث إن ما يسري على الطبيعة يسري عليه، مما يعني فقدانه لمركزيته وإنسانيته، ونزع القداسة عنه تماماً. النتيجة الثانية: أن الهيومانية الغربية حين وضعت الإنسان في مركز الكون، فإنها فصلته عملياً عن أي مطلقات أخلاقية أو إنسانية، وعملياً، فإنه وضعت الإنسان الأبيض في مركز الكون، وبدلاً من غزو الطبيعة لصالح الإنسان، اتجهت الممارسة إلى غزو الطبيعة وبقية شعوب الأرض لصالح الإنسان الغربي، وهو أمر غير مستغرب، إذ ليس هناك ما يلزم الإنسان الطبيعي - مرجعيته ذاته - بأن يؤمن بمطلقات مثل الإنسانية جمعاء، وماذا في قوانين الطبيعة يلزمه بأن يتجاوز مصلحته الخاصة الضيقة، وألا يحول الآخر بدوره إلى مادة "تستعمل" لصالحه؟!. خلصت الورقة إلى أنه إذا كانت العلمانية هي النظرية، فإن "الإمبريالية" كانت نموذج الممارسة، التي أخذت شكلين: شكل الدولة العلمانية القوية التي رشدت الإنسان الغربي وأسلوب حياته (في إطار المرجعية المادية الكامنة فيه)، وحولته إلى مادة نافعة للدولة. حشدت تلك الدولة الرشيدة الطاقات الإمبريالية للإنسان الغربي، وجيشت الجيوش وقامت بغزو العالم، وحولته إلى مادة نافعة توظف لصالح الإنسان الغربي. من هذه الزاوية، اعتبر الدكتور النازية إحدى التجليات البارزة في تاريخ العلمانية الغربية، فالمجتمع النازي هو الذي قام بتحويل الجميع إلى وسائل، في إطار النفعية العقلانية المادية، ولم يتردد في إبادة كل العناصر غير النافعة من أمثال المعوقين والعجزة والغجر واليهود وجرحى الطعام الذين صنفوا على أنهم مستهلكون للطعام غير منتجين. المشروع الصهيوني اعتبره تجلياً آخر، لذات الرؤية النفعية المادية، إذ هو مشروع قام على تحويل فائض أوروبا البشري اليهودي غير النافع، إلى عنصر نافع، عن طريق نقله إلى فلسطين، حيث يتحول إلى عنصر استيطاني نافع يقوم على خدمة الحضارة الغربية (مركز الكون في المنظومة العلمانية الإمبريالية)، وفي هذه الحالة فلا بأس من نقل العرب من فلسطين باعتبارهم عنصراً غير نافع للحضارة الغربية. هذه الأفكار والأطروحات كانت محوراً لمناقشات عميقة وجادة، نعرض خلاصتها في حديث آخر. بقلم: فهمي هويدي