بين يدي القضية شكل تنامي الصحوة والحركة الإسلاميتين أحد أهم مباحث علم السياسة، فضلا عن اهتمام السياسيين وأصحاب القرار على امتداد العالم، وظهرت إلى الوجود مفاهيم سياسية منها ما تم إحياؤه من التراث أو التأصيل له من مصادر التشريع الإسلامي، ومنها ماهو إبداعي تجديدي في إطار صلاحية الإسلام ومنظومته السياسية لكل زمان ومكان، وفي إطار الاجتهاد والاستنباط الذي يؤطره قول الرسول صلى الله عليه وسلم >أنتم أعلم بأمور دنياكم<. و كما وعدنا قراءنا الكرام في الحلقة الماضية، حيث أخبرناهم بتوصلنا بمساهمات لبعض القراء والمهتمين بملف قضايا في الميزان، هذه مساهمة لأحد القراء الأوفياء، خالد يايموت، الباحث في القانون الدستوري وعلم السياسة. ويتناول يايموت قضية الدولة الإسلامية وعلاقتها بالشريعة والمجتمع والتحولات، ويجيب، عبر استقراء لآراء كثير من المفكرين والمنظرين للفكر السياسي الإسلامي، انطلاقا من نصوص القرآن والسنة ومبادئ الاجتهاد المتواصل، عن أسئلة ما تزال تفرض نفسها، مثل: هل الدولة الإسلامية إنتاج بشري أم هي وحي سماوي؟ وهل هي مقدسة يحرم الاعتراض عليها وانتقادها ونصحها، أم هي مجال مفتوح للخطأ والغفلة والنسيان والانحراف لا بد من الانتباه الشديد إلى خطورته والقيام بواجب النصح؟ هل هي دولة دينية يعتبر الحاكم فيها خليفة لله يصدر الأحكام باسمه ويستمد القوة والهيبة منه، أم هي دولة مدنية لا تعلو فيها سوى كلمة الأمة والشعب؟ وما معنى الحاكمية التي رددها سيد قطب وغيره، وعلاقتها بالسيادة والتشريع البرلماني؟ لمزيد من التفاصيل ندعوكم لمتابعة هذا المقال، مع تجديد الدعوة للقراء والمهتمين للمشاركة في هذا الموضوع، وكل القضايا المرتبطة بالحركة الإسلامية في المغرب والعالم. أرسلوا مساهماتكم عبر عنوان الجريدة بالبريد العادي، أو بالبريد الإلكتروني عبر بريد رئيس التحرير[email protected] الحركة الإسلامية بين الشريعة والدولة المدنية كيف احتوت التوفيقية الإسلامية المعاصرة خطاب التطرف العلماني والديني؟ اتسمت الأدبيات السياسية للحركة الإسلامية باهتمام كبير بمركزية الدولة ودورها في إنتاج وتصريف السلطة السياسية، وطرحت معها أفكار سياسية تتعلق بكيفية الوصول إلى السلطة. غير أن مشكل النموذج الدولتي الذي يتبناه الإسلاميون يطرح أكثر من سؤال، ليس على المستوى النظري فحسب، بل على صلاحية الإرث التاريخي السياسي الإسلامي المتعلق بهذا الموضوع. وتزداد الحاجة إلى طرق باب هذا الإشكال القديم من جديد، خاصة أمام محاولة بعض الحركات الإسلامية التعامي على هذا الإشكال الجوهري، بالجنوح إلى مقاربة تبسيطية تستدعي نموذج الخلافة الراشدة. ولأن القول بهذا النمودج الأخير لا يقدم أي حل واقعي يلامس جوهر الإشكال، فإن التعرض لفكر الإسلامين المنظرين للدولة وطبيعة العلاقة القائمة بين الدولة والشريعة الإسلامية، ومن تم الحديث عن المسلمات المعرفية التي من خلالها يناقش الإسلاميون التوفيقيون نموذج الدولة، تبقى من المواضيع التي تحتاج إلى أكثر من دراسة. في أن الدولة إنتاج بشري يثير مفهوم الدولة، على الرغم مما راكمه الفكر السياسي من معالم معرفية وتنظيمية دقيقة، نقاشا يصل إلى درجة الإشكالية. ذلك أن البناءات المعرفية ترتبط باللحظات التاريخية، وإفرازاتها الاجتماعية، وبالتالي تخضع المفاهيم طبقا لعلم تاريخ الأفكار والتاريخ الاجتماعي المقارن إلى التغير في الدلالة بتغير أحوال الاجتماع السياسي. الدولة إنتاج بشري يدرسه علم السياسة اليوم في دائرة حدود السلطة والأمة، والإطار الجغرافي (هذا يعني أن مفهوم الدولة القومية الذي يجعل للدولة مرتكزات ثلاثة هي، السلطة السياسية /السيادة، والأرض، والسكان، ما يزال صامدا رغم موجة العولمة). فطبيعة هذا الكيان اصطناعية، بشرية وديناميكية، لا تتوقف عن التطور والتشكل، كما أنها تحيل دائما إلى بنية وذهنية المجتمع التي تصيغ السلطة، ومن ثم قد يؤخذ بالدين أو العرف، أو غيرهما كأساس للانسجام والتفاعل الاجتماعي والسياسي. إن البناء الأنتروبولوجي للثقافة السياسية يعتبر، حسب التجربة التاريخية، أحد عوامل الحسم في تشكل الدولة وطبيعة النظام السياسي، لذلك يشار إليها في الأدبيات السياسية بمؤسسة المؤسسات، بكلمة أخرى >هي مؤسسة تنجزها الأمة فتنجح فيها أو تفشل، وقد تفرض على الأمة فتكون دائمة الفشل إلا حينما تستطيع هذه الأمة أن تجد مخرجا تعبر به عن نفسها< وبما أن المجتمعات المعاصرة خاضعة للتطور الاجتماعي، فإنه من الطبيعي، حسب وجهة نظر علم الاجتماع السياسي أن توجد هناك أنماط مختلفة من النظام السياسي تلعب المشروعية عاملا حاسما في ثباتها. مما تقدم أعلاه، يمكن الحديث، حسب التيار التوفيقي الإسلامي المعاصر، عن أبعاد معرفية بمثابة مسلمات لكل نظام دولتي تسبق قيامه وتؤطره بمفاهيمها. المسلمة الأولى الدولة ليست ركنا من أركان الدين: ذلك أن قيام الدولة يدخل في إطار التدابير الإنسانية التي تقوم بها الأمة لتحقيق العمران البشري، ولم يفصل الوحي (القرآن أو السنة) في كيفية بناء الدولة، غير أن القول بهذا التقرير الذي يجعل قيام الدولة خارج أركان الدين، لا يعني مطلقا أن الطرفين الدين والدولة منفصلان أو أن العلاقة بينهما منتفية، كما يقول بذلك التيار العلماني العربي. فالقرآن الذي لم يفرض إقامة الدولة، فرض من الحقوق والواجبات الدينية على المجتمع المسلم ما لا يمكن إنجازه خارج الدولة. >إن الدولة في الإسلام، يقول محمد عمارة، بطابعها المدني تتميز عن طبيعة الدين<، وإن برأها من الكهانة والثيوقراطية، إلا أنه لا يقطع الصلات بينها وبين الدين على النحو الذي يقول به العلمانيون، فهي واجبة بنظر الإسلام، وضرورة شرعية، لأن في تخلفها تخلف الواجبات التي فرضها الدين. من هنا فاتصال الدين بالدولة يرجع في أحد زواياه إلى وجود نصوص دينية داخلة في إطار الحق والواجب الديني المتوقف على وجود السلطة السياسية الغالبية في الجماعة بتعبير كمال أبو المجد، وحينما نتفكر في بعض الآيات مثل قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة)، فأخذ الزكاة هنا لا يتحقق إلا مع وجود سلطة سياسية، وهذا ما يطلق عليه الأصوليون، أي علماء أصول الفقه، >إقامة الدولة ثابتة بالاقتضاء<,4 فالدولة إذن جزء من رسالة الإسلام وتنظيم السلطات، وإقامة المؤسسات التي تصلح حال الأمة، وتحفظ الحقوق والواجبات بالعدل جزء من الشريعة. إن القول إن الإسلام دين ودولة يمكن أن يفهم انطلاقا من أمرين اثنين متلازمين: الأول: أن الإسلام لم يضع تصورا نصيا من القرآن أو السنة للدولة. الثاني: أنه لم يقم الإسلام كدين وينتشر إلا بالدولة، والتجربة التاريخية للرسول (ص) كرسول وقائد سياسي، ومرحلة ما أطلق عليه الخلافة الراشدة (دامت حوالي ثلاثين سنة)، أثبتت أن الأمرين غير متعارضين لسبب رئيسي، هو أن بناء الدولة لا يستند على نص شرعي ديني، بل على إنتاجات التجربة البشرية المؤطرة بالمرجعية الدينية، وحيث أن المرجعية العليا تركت المجال واسعا للتدخل البشري في إقامة الدولة، فإن إبعاد الدين عن المجال السياسي لا يمكن أن يتم إلا بالإرادة الجماعية التي أنشأت الدولة، إذ لا يمكن لمجموعة بشرية لا ترتضي مرجعية معينة أن تؤسس عليها اجتماعها السياسي في إطار دولتي. من جهة أخرى تقرر الأطروحة التوفيقية القائلة بمدنية الدولة، >أن الإسلام لا يعرف نظاما سياسيا واحدا يفرضه على الناس، وإنما يعرف قيما ملزمة لجميع الأنظمة< لقد كان من الطبيعي أن يلتزم الفكر السياسي التوفيقي المعاصر بما استقر عليه الفقه السياسي السني منذ القديم، من >أن الإسلام في نظامه السياسي لم يعن بشكل الدولة خلافة أو إمامة، وإنما عني بقيم ومبادئ تقوم عليها الدولة، وعلى رأسها الشورى والعدل<. هذا البعد للدولة المدنية يعتبر أسا معرفيا، قبل أن يحول إلى التطبيق عبر آليات الدولة، فهو حسب المقالة التوفيقية سابق عن الدولة لأنه مرجعيتها، والسبب المباشر الداعي إلى قيامها، ويمكن التأكيد على أن هذا التمثل الذهني يحول الدولة من مفهوم رمزي إلى وظيفة لحراسة الدين وإعمار الدنيا، أي دولة المصلحة العامة. والصالح العام في ظل هذه الدولة المدينة الإسلامية، ليس زمنيا أو دنيويا بحتا يلغي دور الدين في تحقيق الصالح العام، كما هو معروف في الدولة العلمانية، وإنما هو يؤدي حتميا إلى إقامة الدين، ومصالح الناس الثابتة والسابقة على الدولة . وتفقد الحكومة شرعية وجودها بإسقاط إقامة الدين، أو رعاية مصالح المجتمع. ومن ثم فإن إقامة الدولة بتعبير أستاذ العلوم السياسية بجامعة همبردج، عبد الوهاب الأفندي، هو الفرض الجماعي الذي يقع على عاتق الأمة للدفاع عن نفسها وعن الدين المسلمة الثانية الدولة داخلة في النظرية السياسية، ولها خصائص تستقيها من الثقافة السياسية، والتعامل السياسي مع الواقع له أساس اتصالي مع المدركات والمفاهيم الخاصة يتلك الثقافة السياسية. >فالدولة بعبارة أخرى تظل أساس علاقة بين المواطن وبين التعبيرات المجردة عن المفهوم الوظيفي للدعوة الإسلامية< . من ناحية موازية فالدولة، حسب أستاذ العلوم السياسية حامد ربيع، تعبير معنوي يقوم على أساس الوحدة المعنوية للجماعة الإسلامية. وطبقا للخبرة التاريخية وما يفرضه التكامل الاجتماعي والسياسي، فقد بقي مفهوم الوحدة كما هو مبثوث في دراسات علم السياسية أحد أهم >المفاهيم الثابتة في جميع النماذج السياسية المتطورة< . لذلك كانت الدولة الإسلامية الأولى في عهد الرسول (ص) بسيطة في تكوينها، وفي بناء جهاز الحكم وآليات الضبط الاجتماعي رغم بروز الشق القانوني فيها بقوة من خلال نظام الشريعة، أي نصوص القرآن والسنة التي تتحدث عن العلاقات الاجتماعية أو من خلال وثيقة المدينة الدستور الذي نظم العلاقة مع غير المسلمين، واعترف لهم بحق المواطنة في إطار سلطة سياسية موحدة. غير أن تأكيد الإسلام على قيام الدولة لا يعني بحال من الأحوال، أنها تحمل سمات الحكومة الدينية المعروفة في التاريخ الأوروبي، التي ادعت القداسة، وكانت رمزا للتسلط والقهر. مضمون هذا الموقف يحيلنا إلى مصدر شرعية السلطة، وحسب أستاذ القانون الدستوري كمال أبو المجد >فإن رضاء الشعب هو مصدر شرعية السلطة في المجتمع الإسلامي< . فالحكومة بهذا المعنى مدنية، ولا مانع في أن يشارك غير المسلمين في عضويتها. >فالنزاع بين ما يسمى بالحكومة الدينية والحكومة العلمانية، حينما نعمق النظر ونستحضر الرؤية الفقهية، نجده كما يقول محمد مهدي شمس الدين نزاع أشباح< ,15 مادامت الإرادة الشعبية هي التي تصنع الشرعية السياسية للسلطة. المسلمة الثالثة إن الإجتماع السياسي الإسلامي القائم على التصور المدني للدولة، >يجعل مكان الشريعة هو المجتمع المدني وليس الدولة< .18 فأن يعيش الفرد المسلم داخل الدولة لا يتطلب الأمر، حسب الدكتور وجيه كوثراني أن تكون الدولة دولة دينية. من جهته يذهب أحمد الريسوني إلى كون الشريعة، إنما تطبق من خلال المجتمع المدني ولا صلة للدولة بذلك إلا في الاستثناء، والذي لا يتعدى في أحسن الأحوال عشر هذه الشريعة، وهذا يعني أن هناك تضخيما لدور الدولة على حساب الأصل، أي الأمة التي تعد مصدر السلطة . وإذا أردنا أن نجمل القول في هذه القضية، ودون الدخول في نقاشات ذات طبيعة إيديولوجية أفرزها تنامي الحركات الإسلامية اجتماعيا وسياسيا في الدولة العربية القطرية. فإننا نؤكد أن الطرح التوفيقي الإسلامي، يجعل من الأحكام الشرعية ( أي الشريعة) >تندرج في إطار الوظيفة الاجتماعية للمسلمين<، وهذا يعني أنه في إطار الاجتماع الإسلامي >فإنه لا يتصور بحقها إمكانية التطبيق إلا بسلطة قادرة وحكيمة<، وعندما نتحدث عن تطبيق الشريعة فإن الأمر يحتاج بالضرورة إلى السلطة باعتبارها حسب حسن جابر >طريقا للتطبيق ويدرجها في إطار المقدمة الوجودية< وانطلاقا من كون الدولة صناعة بشرية في إطار الدفاع عن المصلحة، فإن وجود السلطة التي توصل إلى تطبيق الشريعة أو بالتعبير الدقيق تطبيق ذلك الجزء الذي يحتاج إلى الدولة، يؤدي حسب التطور التاريخي إلى التغير في شكل النظام السياسي، لأن >الوصول إلى الغاية تملي شروطها على المقدمة، فتفرض عليها المرونة والحكمة< وبما أن في الدين ثابتا ومتغيرا، فإن التنافي بين الدولة والدين يتبين وهمه , خاصة أن الدولة، حسب أستاذ العلوم السياسية لؤي صافي، وإن أطلقت على نفسها الدولة الإسلامية، فإن نشاطات الدولة تنحصر في المجال التشريعي والقضائي في دائرة من الأحكام، يطلق عليها اسم الأحكام السياسية، >بينما تبقى الأحكام المتعلقة بالنشاطات التربوية والتبادلية في إطار سلطة الأمة< , وبذلك يشكل الدين قيم ومثل المجتمع العليا، ولا تجسده الدولة إلا في الإطار السياسي المتعلق بالسلطة وتحقيق المصلحة العامة للمجتمع، أي الأمة، وبهذا الشكل فقط تعطي الأمة شرعيتها للدولة، ويمنع الديني والزمني من الاستفراد بالسلطة. ويظهر المجتمع أقوى من الدولة بمؤسساته المدنية / الأهلية، باعتباره المنشئ الحقيقي للسلطة، ومانح الشرعية ونازعها في إطار القواعد الدستورية المنظمة للسلطة السياسية، أي ما يطلق عليه سليم العوا النظام التعاقدي. إن الدعوة إلى تطبيق الشريعة هي في الأصل دعوة إلى تحقيق العدل، والشريعة في الأساس، حسب المفكر الإسلامي فهمي هويدي، >مجموعة من القيم الحضارية والأخلاقية والعملية، قبل أن تكون مجموعة من القوانين<. مسألة تطبيقها كما أشرنا أعلاه لا تحتاج في جزئها الأكبر إلى الدولة. وإنما إلى جهود الأمة المجتمع وتمسكها بالدين، ولأن الأمر كذلك >فإن تطبيق الشريعة ينبغي أن يفهم بحسبانه إقامة العدل بجميع صوره في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وإذا ما اقترن تطبيق الشريعة بظلم من أي نوع، في أي من تلك المجالات، فذلك يعني بشكل مباشر تغييب جوهر الشريعة ومقصودها< . يتفرع عن ذلك إلزامية النظر إلى الواقع الاجتماعي، فاختلاف الأوضاع الاجتماعية والتاريخية لا يبقي النص القانوني نقصد هنا الشريعة وغيرها في حالة الجمود، فالثابت تاريخيا أن أحوال الاجتماع السياسي تتغير وبالتالي تظهر قدرة الإبداع البشري لتسد الفراغ، وتضمن استمرار التجربة الإنسانية، والمجتمع العربي الإسلامي لا يتميز في هذا عن غيره من المجتمعات، لذلك تتفاعل الشريعة الإسلامية مع العصر لينتج العقل الإسلامي في كل زمان إنتاجاته الخاصة بمحيطه الاجتماعي، وهو مما ينسب إلى (الفقه)، وليس للنص ولا للحكم المنزل (أي الشريعة). هذه الثنائية مكنت الشريعة من السيادة من داخل ظروف تاريخية وسياسية، وجغرافية متباينة، ومن داخل مجال عريض ومتنوع برزت حركة فقهية وفكرية لاءمت ووفقت بين الأحكام الكاملة دينيا للشريعة، وبين أوضاع تلك المجتمعات، الشيء الذي حافظ على وحدة الأصول والكليات أصول وكليات الشريعة رغم التنوع الهائل في الفروع أي في الفقه. إن دائرة التمييز بين الشريعة التي هي نصوص مقدسة (القرآن والسنة)، والفقه الذي يعتبر إنتاجا بشريا مسنودا إلى الشريعة، يؤدي بنا حسب الفكر السياسي التوفيقي الإسلامي المعاصر إلى تأكيد الخاصيتين التاليتين: 1 أن الشريعة إنجاز إلهي. 2 إن الفقه إنتاج بشري لا يخرج عن الشريعة ومقاصدها. ولنا أن نتساءل حول هذين الاعتبارين، ألا يعتبر الاجتهاد كإعمال للعقل في نص شرعي تشريعا بذاته؟. حسب الخبرة التاريخية، فإن الفقه تكيف مع القواعد الاجتماعية والأعراف السائدة، وهو ما مكنه من التطور، >وليس هناك ما يمنع من اغتناء فقه الشريعة بالعديد من نماذج الحاضر مما أنتجته تجارب حضارات أخرى< , وليس هناك ما يمنع أن تصبح الآراء الفقهية صادرة عن مؤسسات متخصصة في ذلك، أو أن يصدر البرلمان تشريعات تدور في مقاصد الشريعة المرتبطة بما هو إنساني. المسلمة الرابعة: فمن خلال دراسته للحاكمية يخلص أستاذ العلوم السياسية هشام أحمد جعفر إلى تظميمها لأداتين: الأولى سياسية، وهو ما سماه بالحكم بالمعنى السياسي، ويدور حول الأفعال بحيث يكون الناس بها أي الحاكمية أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، >فهذه الأداة تتأسس على الحاكمية بمكوناتها وتهدف إلى تحقيق مضمونها بما يجسد حضور عقيدة الإسلام وشريعته وأخلاقه في واقع الحياة غير معزول عن الدنيا< . والثانية تتعلق بسلطة القضاء، ولا يسعنا هنا إلا أن نشير أن تطور الأنظمة الدستورية المعاصرة يجعل في النهاية من القضاء سلطة من داخل السلطة السياسية للدولة. بعد انتقاده لبعض الآراء في الفكر الإسلامي السياسي المعاصر يطرح محمد عمارة الحاكمية من زاويتها السياسية، انطلاقا من اعتبار حق الله يعني في المجال السياسي حق المجتمع، وحكم الله وسلطانه يعني في السياسة حكم الأمة وسلطانها، ومن ثم ينته ومن معه من التيار التوفيقي الإسلامي إلى خلاصة تقول: أن ليس هناك >تناقضا هنا بين أن يكون الحكم لله، وبين أن تكون السلطة السياسية والحكم في المجتمع الإسلامي لجماهير المسلمين<. إذا أردنا أن نتحدث بلغة الفقه الدستوري، فإن الحاكمية، يقول المفكر الإسلامي سليم العوا، هي السيادة، وهذه الأخيرة لله سبحانه وتعالى، وهو من منح للإنسان حق الحاكمية على مصيره الاجتماعي انطلاقا من الحرية المقررة في الدين نفسه. لقد اتخذ مفهوم الحاكمية بعدا إطلاقيا غير مميز بين الأحكام العبادية المحضة، والدنيوية عند كل من سيد قطب وأبي الأعلى المودودي، وبذلك يكون قطب خاصة قد وسع من مفهوم الحاكمية ليمس كل مجالات حياة البشر، ويقول إن التشريع لله، وإن عقيدة الإسلام وشريعته كلها متناسقة في شؤون الدين والدنيا. والملاحظ أن هذه المسلمات مقررة عند المسلمين منذ الجيل الأول للإسلام، غير أن جديد سيد قطب تمثل أساسا في نظام المفاصلة بين من يقول بالحكم لله، وبين سائر البشر. من جهة أخرى وصل مفهوم الحاكمية عند سيد قطب إلى القول إن أي خضوع لقانون غير الشريعة داخل في إطار الشرك، ووجه من وجوه الجاهلية، >لذلك اعتبر أن دعوته إنما هي لإنشاء الدين إنشاء. فهي دعوة لاعتناق عقيدة الإسلام، حتى لو كان هؤلاء الناس يدعون أنفسهم مسلمون<. من جهته يعتبر عبد الوهاب الأفندي، في موضوع السيادة/الحاكمية لله، أن الترجمة العملية لهذا المفهوم هي السيادة للشرع أو القانون<. أما الدكتور حسن الترابي، فيقدم تصورا توفيقيا يذهب إلى تفسير الحاكمية لله في المجال السياسي، تفسيرا جديدا يرتبط أولا بإرادة الأمة، وثانيا بالدولة، ويمكن تلخيص رأي الترابي في ما يلي: 1 الدولة وممارستها السياسية تحول إلى مشرع، أي إلى رافد من روافد الشريعة / القانون، ويدل على ذلك تاريخيا اعتبار علماء الأمة الممارسة السياسية لدولة الخلافة الراشدة بمثابة سوابق قانونية. 2 إن الإجماع الذي يعتبر مصدرا من مصادر التشريع، لم يعد مقبولا أن يكون في المجال السياسي هو إجماع القلة، فإجماع علماء الدين المتخصصين في المجال الديني المحض يعتبر إجماعا، أما اليوم، فإن الإجماع في السياسة هو الرأي العام، أي جمهور المسلمين، لا رأي قلة من المتخصصين، النتيجة إذن أن الرأي العام هو الحاكم في شؤون الأمة، ومنها القرارات التي تلزم الدولة. 3 إن الاختيارات التي تختارها الأمة تصبح جزءا من الشريعة، وهذا يعني أن الأمة تشرع لمصالحها، المتحولة عبر الزمان والمكان. فإذا كانت القاعدة أن التشريع لإرادة الله >فإن للأمة مشاركة فعالة في ذلك<. هكذا يمكننا أن نتجاوز المفهوم الستاتيكي والجامد للشريعة، ويتدخل العقل البشري الجمعي لتدبير أمور الحياة السياسية... التي تركتها الشريعة منطقة عفو وفراغ في كثير من أمورها، لما تتسم به من دينامية لم يكن من شأن الشريعة متابعتها نظرا لتوقف الوحي. ومن ثم يمكن القول إن ما يشرعه المجتمع عبر مؤسساته كالبرلمان... في موضوع معين، هو بمثابة شريعة (سياسية على الأقل)، مالم يرد فيه نص في الشريعة الإسلامية. تنبيه من هيأة التحرير: نظرا لضيق الحيز، فقد استغنينا في هذا الموضوع عن الهوامش والإحالات، فمعذرة للقراد ولكاتب المقال. بقلم خالد يايموت: باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة