ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوسطية في الإطار الحزبي، بقلم محمد يتيم
نشر في التجديد يوم 16 - 07 - 2004

شكل موضوع المشاركة السياسية للحركات الإسلامية في العابلم العربي والإسلامي مجالا خصبا لعدة كتابات ومحاضرات ومناظرات، بين محرم للعمليات الانتخابية باعتبارها حسب زعم أصحاب هذا الرأي نتيجة لبدعة الديموقراطية التي ظهرت في الغرب، ويعتبرون أن الأجهزة التشريعية التي تفرزها هذه الانتخابات هي أصنام تشرع من دون الله، كما يرون في العمل بهذه التشريعات حكما بغير ما أنزل الله، يترتب عنه تكفير وتفسيق من يعمل به ويساهم فيه.
وفي المقابل يرى فريق آخر أن السياسة الشرعية هي مجال واسع للاجتهاد والإبداع في إطار شمولية الإسلام، ويقتدون في ذلك بمبدإ المخالطة والصبر على أذى الناس، ويعملون في اجتهاداتهم السياسية على ضوء الفكر المقاصدي القائم على الترجيح والموازنة بين مصلحة ومصلحة وبين مفسدة ومفسدة، وكذا بين جانب المصالح وجانب المفاسد. ومن ثم يقرر هذا الفريق الأخير أن المشاركة السياسية محمودة ومرغوب فيها، بل وواجبة كلما أدت إلى دفع درء المفاسد أو جلب المصالح، وكلما حققت مكاسب للإسلام، مهما كان هامشها ضيقا في إطار سنة التدافع الحضاري.
وقد عقد منتدى الوسطية للفكر والثقافة بمدينة عمان بالأردن المؤتمرالأول للمنتدى أيام 26 27 28 يونيو ,2004 قدمت خلاله عدة بحوث من لدن عدد من الشخصيات العلمية والفكرية والسياسية من العالم الإسلامي. وقد شارك الأستاذ محمد يتيم، نائب رئيس حركة التوحيد والإصلاح وعضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، ببحثين، الأول تحت عنوان في العلاقة بين جماعة المسلمين وغير المسلمين، والثاني بعنوان الوسطية في الإطار الحزبي. ويؤكد محمد يتيم، النائب البرلماني في فريق العدالة والتنمية، في العرض الثاني الذي ننشره في ملف هذا الأسبوع من ركن قضايا في الميزان، أن الوسطية في الإسلام >ليست وصفة جاهزة أو خاصية مكتسبة، بل هي جهاد واجتهاد متواصلان<. ويوضح يتيم منطلقات ومقومات تنزيل الوسطية من خلال تجربة حزب العدالة والتنمية بالمغرب.
كما يلفت الموضوع الذي بين أيدينا النظر إلى منطلقات ومقومات تنزيل الوسطية، ليخلص للتأكيد على أن انخراط بعض الإسلاميين في صناعة القرار السياسي من خلال البوابة الحزبية ساهم إلى جانب القرار الراشد للدولة المغربية في حصول استقرار سياسي جدير بالتأمل.
الوسطية في الإسلام: تعريف
الوسطية من مميزات أمة الرسالة، فهي التي تؤهلها لأداء الشهادة على الآخرين وأن يشهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)
والوسط لغة يرتبط بمعاني الخير والعدل والنصفة والجودة والرفعة، وذهب غير واحد من المفسرين في تفسير قوله تعالى: (قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون) أن كلمة أوسط تعني: أعدلهم وأعقلهم وأمثلهم، يقول صاحب التحرير والتنوير الشيخ الطاهر بن عاشور: >فالوسط هو العدل والخيار<.
والوسطية ترتبط كذلك بمعنى الاستقامة على الدين وعلى النهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم دون إفراط وتفريط، كما ترتبط بمعاني حرية الإرادة والفاعلية والاستقلالية كما في قوله تعالى: (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير، هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم).
وفي الحديث عن عبد الله بن جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطا وخط خطين عن يمينه وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده على الخط الأوسط فقال: هذه سبيل الله ثم تلا هذه الآية: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).
الوسطية إذن منهج في فهم الدين والعمل به يقوم على نبذ الغلو في الدين والتزيد فيه بالتشديد على النفس أو التشديد على الآخرين، كما يقوم على نبذ التفريط والتضييع لعقيدة التوحيد وأحكام الشريعة وآداب الإسلام وأخلاقه وأنظمته. فذلك كله مفض بصاحبه إلى الخسران والندامة غدا بين يدي لقاء الله، كما ورد في قوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها)، وفي قوله تعالى: (أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الخاسرين).
والوسطية بهذا المعنى، الذي يفيد التوازن والتزام القاعدة، التي يقررها الحديث النبوي الشريف: >لا إفراط ولا تفريط<، لا تعني الهروب من الموقف الصعب إلى الموقف السهل، ولا العكس ، وليست هي انعدام الموقف الواضح المحدد من المشكلات، بل هي تعبير عن خاصية التوازن في جميع الأمور والمواقع: توازن بين الروح والجسد، وبين الدنيا والآخرة، وبين الدين والدولة، وبين الذات والموضوع وبين الفرد والمجموع وبين الفكر والواقع وبين المادية والمثالية وبين المقاصد والوسائل، وبين الثابت والمتغير والقديم والجديد، وبين العقل والنقل وبين الحق والقوة وبين الاجتهاد والتقليد وبين الدين والعلم إلى آخر هذه الثنائيات...
ومن الواضح أن الوسطية بما هي خاصية للإسلام عقيدة وشريعة ونظاما ليست وصفة جاهزة أو خاصية مكتسبة بإطلاق للأمة أو لهذه الجماعة أو تلك، بل هي موضوع اجتهاد وجهاد متواصلين للعمل باستمرار وفق القاعدة الذهبية التي أشار إليها الحديث النبوي الشريف: >لا إفراط ولا تفريط<، وهو السر في جعلها مطلبا ودعاء نردده في سورة الفاتحة كلما صلينا عندما نقول: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين).
الوسطية إذن هي خاصية الأمة الإسلامية كما أخرجها الله وكما أرادها أن تكون، وهي مقصد وهدف وجب على هذه الأمة أن تتحقق به من خلال جهاد واجتهاد دائمين، جهاد علمي وفكري، وتربوي وثقافي وجهاد عملي على مستوى آخر، مما يقتضي أن يقوم في الأمة باستمرار مجددون عدول ينفون عن الإسلام غلو الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين.
الوسطية في المجال الحزبي
وللوسطية مظاهر وتجليات في العقيدة والعبادة والأخلاق والنظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وفي السلوك الفردي والجماعي.
وأريد من خلال هذا العرض إبراز تجربة ومحاولة للعمل وتنزيل خاصية الوسطية في المجال الحزبي من خلال مثال حزب العدالة والتنمية في المغرب، وأبادر لأقول إن تنزيل الوسطية في المجال الحزبي يتأسس على ثقافة شرعية قائمة على مقومين أساسيين:
1 فقه عميق للشريعة: يستحضر القواعد الأصولية لضبط مفهوم الوسطية حتى لا يتحول إلى تفريط وتسيب وتصالح مع الواقع الفاسد بدعوى تجنب الغلو والتطرف. وذلك لا يتم فقط بمجرد استحضار النصوص الجزئية متفرقة متناثرة، مفصولة بعضها عن بعض، بل وجب رد فروعها إلى أصولها وجزئياتها إلى كلياتها ومتشابهاتها إلى محكماتها وظنياتها إلى قطعياتها حتى يتألف منها جميعا نسيج واحد مرتبط بعضه ببعض، متصلة لحمته بسداه ومبدؤه بمنتهاه.
ويمكن تقسيم الفقه اللازم من أجل جعل ممارسة الوسطية ممارسة حية في الواقع السياسي الحزبي في أربعة أنواع من الفقه:
أ فقه الأولويات: فالاختلال على هذا المستوى يؤدي في نظرة المسلمين لأمور الدنيا أو أمور الدين إلى تقديم ما حقه التأخير وتأخير ما حقه التقديم، بينما يعلمنا صاحب الرسالة عليه أزكى الصلوات أن الأعمال درجات، وأن القضايا مستويات.
ب فقه الموازنات: وقوام هذا الفقه الموازنة بين أقدار المصالح والمفاسد، فإذا حدث تعارض بين المصالح والمفاسد وجبت الموازنة بحيث يكون درء المفسدة مقدما على جلب المصلحة وبحيث تكون الموازنة بين خير الخيرين من أجل تحصيل أعظمهما وتفويت أدناهما وبين شر الشرين من أجل تحصيل أدناهما وتفويت أعظمهما.
ج فقه المقاصد: وقوام هذا الفقه النظر في علل الحكم وتجنب النظرة الظاهرية في نهج النصوص، فالقرآن جاء بالأحكام معللة سواء تعلق الأمر بالعبادات أو بالمعاملات، ومن ثم وجب البحث دوما عن مقصود الشرع من الحكم الذي ساقه. وقد حددها الأصوليون في خمسة أو ستة أصول وهي: حفظ النفس والعقل والدين والعرض والنسل والمال ومنهم من زاد على ذلك ومن نقص.
د فقه النصوص: وهو فقه يقوم على التمييز بين الظني والقطعي، وبين المحكم والمتشابه، وبين ما يحتمل تفسيرات عدة، وما لا يحتمل إلا تفسرا واحدا، والتمييز في السنة بين ما هو للتشريع وما ليس للتشريع، وما هو للتشريع الدائم والتشريع المؤقت.
ه فقه المآلات: إذ لا يكفي معرفة الحكم الشرعي واستخراجه (تنقيح المناط)، بل لا بد من استحضار مآلات هذا الحكم في الواقع وهل يحقق مقصود الشارع من تنزيله أم يترتب عليه عكس مقصوده (تحقيق المناط).
2 فقه عميق للواقع: وفقه الواقع هو الفقه الذي يمكن من تنزيل الأحكام الشرعية ومقاصدها مراعاة لأولويات واستحضارا للمقاصد وللمآلات ومراعاة أيضا للموازنة بين المصالح والمفاسد.
ويشمل هذا الفقه على المستوى السياسي اليوم عدة أنواع من الفقه منها:
الفقه بالتاريخ السياسي الإسلامي: لأخذ العبر بأسباب السقوط والنهوض وأسباب الفتن السياسية ودروسها وعبرها.
الفقه بالتاريخ السياسي الإسلامي المعاصر: ونقصد بالأساس دراسة التجارب السياسية الإسلامية المعاصرة والاعتبار بأسباب الإخفاق والنهوض، والوقوف عند عوامل وأسباب الانتكاس وعوامل النجاح في التجارب الحركية والسياسية والحزبية المعاصرة.
دراسة الخصوصيات التاريخية والسياسية لكل بلد على حدة ولطبيعة نظامه السياسي من حيث قابليته للانفتاح السياسي أو من حيث انغلاقه وطبيعته الشمولية، لما لذلك كله من أثر في إنجاح تجربة الوسطية في المجال الحزبي أو في مواجهتها والوقوف ضدها، ودراسة مراكز القوى المناهضة للوجود السياسي للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية ومعرفتها وتحديد آليات اشتغالها وتحريضها.
دراسة الواقع الجيوسياسي الإقليمي والعالمي لتحديد التحديات التي يطرحها أو الإمكانيات التي يفسحها.
الحركات الإسلامية والعمل السياسي المؤسسي
لقد تبلورت في الثقافة السياسية المعاصرة لدى بعض الحركات السياسية الإسلامية اتجاهات رافضة للمشاركة السياسية من خلال البوابة المؤسسية والحزبية.
وإذا كانت تجارب المشاركة الحزبية في العالم الإسلامي قليلة بالمقارنة مع عدد الدول ويرجع ذلك أساسا لسيادة أنظمة كليانة ديكتاتورية وغير ديمقراطية تصادر الحريات وتصادر حق الحركات الإسلامية على الخصوص في تأسيس أحزاب سياسية تحت ذرائع متعددة، فينينبغي الإشارة والتأكيد على أن بعض تلك الحركات ما تزال محكومة بمنطق الرفض وفكر المقاطعة والنظر إلى العمل السياسي من خلال البوابة السياسية باعتباره شراكا تنصبه الأنظمة لتمييع الحركات الإسلامية وإفراغها من محتواها، في حين أن البعض الآخر منها ما يزال محكوما بمخلفات الصدام وآثار المناطحة السياسية التي قادت عددا من قياداته ورموزه وأجياله إلى المحن والسجون والمنافي والاغتيال، في حين أن فريقا ثالثا ما يزال محكوما بآثار الصدمة التي واجهها المسلمون في المشرق العربي على الخصوص بسقوط دولة الخلافة ومن ثم توقف سقف فكرهم السياسي عند شعار إقامة دولة الخلافة دون أن يكون لديهم تصور معاصر لهذا المطلب يكشف تجلياته الواقعية وتنزيلاته الدستورية.
وفي مقابل ذلك تفاعلت بعض الحركات الأخرى مع واقعها السياسي من خلال إعمال فقه الأولويات وفقه الموازنات وفقه المقاصد، وتعاطت مع واقعها السياسي المحلي والجهوي والعالمي للدفع بتجربة المشاركة السياسية والحزبية وتقطع أشواطا متقدمة في ذلك الاتجاه كما هو الشأن في تجربة العدالة والتنمية.
منطلقات الوسطية في المجال الحزبي
لقد تأسست تجربة حزب العدالة والتنمية استنادا على مجموعة من المنطلقات التأصيلية منها:
ترجيح مبدأ المشاركة والمخالطة: انطلاقا من أن الأصل عند الإنسان المسلم هو المشاركة والمخالطة وأن المقاطعة والمنابذة استثناء يقدر بقدره ولا يشترط في المشاركة أن تؤدي إلى إزالة المفاسد كلها، بل إذا رجح أنها ستزيل بعضها أو تحد منها، كان الإقبال عليها أولى. فإذا لم تجلب تلك المشاركة بعض المصالح فلا أقل من أن تمنع من اتساع دائرة المفاسد انطلاقا من القاعدة التي أشرنا إليها سابقا: >درء المفاسد مقدم على جلب المصالح<.
مبدأ التدرج: باعتباره سنة تخضع لها الظواهر الكونية والطبيعية والظواهر الاجتماعية أيضا. والأخذ بهذا المبدإ في مجال التغيير السياسي هو أولى، حيث تتميز الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية بطابعها المعقد، كما تثبت التجارب التاريخية أن السعي للقفز على هذه السنة كان مصير أصحابه الفشل والاصطدام بالواقع العنيد، بحيث لا يخدم قضية الإصلاح بقدر ما يؤخرها حقبا طويلة.
العمل في نطاق الوسع وتحقيق الممكن التاريخي: ومن لوازم الأخذ بسنة التدرج العمل من أجل الإصلاح في نطاق الوسع والممكن، مع الإبقاء على وضوح الرؤية والمنهج وشمولية الأهداف، ومعناه أيضا الاشتغال بدائرة التأثير والعمل على تحصين مكتسبات الأمة والحفاظ عليها وتوسيع دائرتها بدل الاشتغال بدائرة الاهتمام التي قد لا تعدو أن تكون أحلاما ومتمنيات قد تكون مشروعة، ولكنها لا تدخل في نطاق الممكنات التاريخية.
والنتيجة تكون في هذه الحالة تضييعا للفرص المتاحة وعدم ملء الفراغات والمساحات المقدور عليها وتركها للخصوم السياسيين والمناوئين المتربصين. مستلزمات الوسطية في المجال الحزبي
غير أن نجاح منهج الوسطية في المجال الحزبي مرهون بمجموعة من الشروط منها:
أ وجود حد أدنى من الانفتاح السياسي لدى الأنظمة الحاكمة وقبولها لحد أدنى من التعددية ومن الاعتراف بحق التوجهات السياسية والحركية ذات المرجعية الإسلامية في تأسيس الأحزاب السياسية.
ب أن تقبل تلك الحركات بمبدإ التداول السلمي على السلطة واحترام قواعد العمل الديمقراطي كآلية لذلك التداول.
ومعنى ذلك إقرار الطرفين بمبدإ الاعتراف المتبادل، لأنه لا سبيل للوجود السياسي الحزبي في إطار النفي المتبادل بين الطرفين والإقصاء والإقصاء المضاد.
ج إقرار الدول الإسلامية التي تنص دساتيرها على أن دينها الرسمي هو الإسلام على ذلك مهما تكن مظاهر الانحراف والمخالفة الظاهرة في الممارسات والمؤسسات، على اعتبار أن الإقرار الدستوري بالإسلام دينا للدولة هو شبيه بإقرار الفرد باللسان، إذ يحكم لصاحبه بالإسلام ويطالب بعد ذلك بالعمل بمقتضياته. ومن المعلوم أن ذلك الإقرار هو الذي يعطي مشروعية للمطالبة بإعادة صياغة الأنظمة القانونية والاجتماعية والثقافية على أساس أحكام الشريعة ومقاصدها، ورفع كل مظاهر التعارض بينهما، إذ لا معنى لمطالبة دولة ما بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية إذا نزعت عنها الصفة الإسلامية.
د الانطلاق من الإسلام المتجذر في نفوس الشعوب ولدى الأغلبية الغالبة من النخب إلا فئات محدودة انسلخت عن انتمائها الحضاري والتاريخي، كما أن الإسلام رغم كل ما يقال لا يزال له وجود وتمكين في كثير من المؤسسات والنظم الثقافية والتعليمية والاجتماعية القائمة، ووجب النظر إلى ذلك كله باعتباره مكتسبات تتعين المحافظة عليها والدعوة إلى توسيع دائرتها.
إن هذه المستلزمات وغيرها هي التي تجعل العمل الحزبي الوسطي ممكنا وتحدد مجال حركته وتأثيره كما تحدد سقف أهدافه، التي يتعين محاسبته على ضوئها لا على ضوء أهداف أخرى قد تكون أهدافا لحركات رافضة أو انقلابية أو ذات أهداف يوتوبية مجردة، لا تستحضر الممكنات التاريخية وتتحرك في نطاق دائرة الاهتمام لا في نطاق دائرة التأثير.
النتائج المرجوة للوسطية في المجال الحزبي
نستطيع أن نحدد بعض النتائج المرجوة للوسطية في المجال الحزبي في ما يلي:
أ المدافعة وعدم إخلاء الساحة:
من بين المرجحات الموضوعية للمشاركة السياسية الحزبية ذات المرجعية الإسلامية ذلك الموقف المناهض الذي تقابل به هذه المشاركة من لدن القوى المعادية لحق الصحوة الإسلامية في الوجود القانوني على شكل أحزاب وتنظيمات سياسية، إن الكيد المتواصل والتربص المستمر بهذه التجارب، بل منع قيام مثل هذه التجارب، وذلك حتى تبقى تلك الحركات هامشية موشومة بالصورة النمطية، التي كونها عنها الإعلام المعادي، إن ذلك كله يشهد لرجحان خيار الوسطية في المجال السياسي الحزبي، ولذلك كانت الوسطية فكرا وممارسة في الوسط الحزبي محاربة وما تزال، ويسعى خصومها دائما إلى حشرها في الزاوية حتى يسهل دفع جميع تيارات الصحوة الإسلامية بالصورة التي تقدمها بعض المجموعات المغالية المعزولة القائمة على أساس فكر الغلو وسلوك العنف.
ب نقل الصحوة الإسلامية من مرحلة الشعارات إلى مرحلة البرامج:
ومن مقاصد خصوم الصحوة الإسلامية السعي دوما إلى حصر تيار الوسطية في الهامش وحرمانها من الاحتكاك بالواقع والاقتراب منه والتعرف عليه في مفرداته وتعقيداته، بما يترتب عن ذلك من أعمال الفكر والاجتهاد لإبداع الحلول له في نطاق أحكام ومقاصد الشريعة، ذلك أن رجال الصحوة الإسلامية إذا تمكنوا من هذا، وأضافوه إلى رصيدهم من الأمانة والاستقامة الخلقية، فإنهم ينالون بذلك ثقة مضاعفة من شعوبهم، فيتحولون من فكر المواجهة والتدمير إلى فكر الإصلاح والتدبير. وإذا رفضوا كان ذلك سببا في فوات مصالحهم وامتيازاتهم وإظهار عورهم وفشلهم.
ج الإسهام في تقديم صورة عملية لإمكانية اقتران الممارسة السياسية والحزبية بالمبادئ والقيم:
ويتأكد هذا بالخصوص في زمن ساد فيه الاعتقاد بأنهما نقيضان لا يجتمعان وأمران لا يتلازمان، وحيث تتأكد الحاجة إلى ضخ شحنة من الأخلاق في الممارسة السياسية، وهو ما نسميه نحن بالإسهام في تخليق الحياة السياسية.
الوسطية الحركية والحزبية: تجربة مغربية
تميز المغرب المعاصر خلال السنوات التي تلت الاستقلال، أي الستينيات والسبعينيات، بطغيان نوع من التطرف السياسي كان الطابع العام المميز له آنذاك هو التوجه اليساري.
ولم تسلم بعض فصائل الحركة الإسلامية بالمغرب من هذه العدوى في بداية تجربتها، إذ ظهر تأثرها واضحا بخصائص الفكر الانقلابي وفكر المواجهة مع الواقع الاجتماعي والسياسي. غير أن الرواد الأوائل من الشباب الذين أسسوا الحركة الإسلامية سرعان ما قاموا بعملية مراجعة في بداية الثمانينيات قادتهم إلى القطيعة مع الغلو الديني والتطرف السياسي، مما مكن المغرب من أن يتجنب مبكرا أي في بداية التسعينيات السقوط في تجارب شبيهة لتجارب بعض الدول المجاورة.
ولقد تجسد ذلك الفكر الوسطي في حركة التوحيد والإصلاح التي هي عبارة عن تجربة اندماجية ووحدوية بين عدة تنظيمات إسلامية.
وإذا كانت السلطات المغربية قد تعاملت مع التنظيمات الإسلامية بنوع من الحذر وعدم الاعتراف القانوني بها طيلة عقدي الثمانينيات والتسعينيات، فإنها في الوقت نفسه تعاملت بنوع من التسامح والترقب، وهو ما ساعد على تعزيز التوجه الوسطي داخلها، وإصرارها المتواصل على ضرورة العمل في إطار المؤسسات القائمة.
ولقد سعت هذه الحركة من خلال مكوناتها (أقصد حركة التجديد والإصلاح ورابطة المستقبل الإسلامي) إلى الحصول على الترخيص بإنشاء حزب سياسي في بداية التسعينات، لكن كلا المحاولتين قوبلت بالرفض من قبل السلطات، فكان أن بادرت قيادة الحركة في إطار المرونة في الوسائل إلى الاتصال بالدكتور عبد الكريم الخطيب، وهو شخصية وطنية معروفة ببلائها في الفترة الاستعمارية، فتوافقت قيادة كلا الطرفين على المبادئ الأساسية للعمل السياسي وتم تحديدها في ثلاثة شروط:
الإسلام كمرجعية في الإصلاح.
العمل في إطار الملكية الدستورية.
نبذ العنف.
وفي سنة 1996 انعقد المؤتمر الوطني الاستثنائي للحزب معلنا عن ميلاد مرحلة جديدة من العمل السياسي، ليس داخل الحزب فقط، بل وفي المشهد السياسي المغربي، وفي سنة 1997 شارك الحزب في الانتخابات البرلمانية وتمكن من انتزاع تسعة مقاعد في مجلس النواب بالرغم من التزوير الذي مورس ضده من أجل حرمانه من تكوين فريق نيابي (12 نائبا). ثم تمكن الحزب من ذلك بعد فوز أعضاء جدد في انتخابات جزئية، وضم نواب آخرين ليصل عدد أعضائه إلى 14 عضوا، ولما تشكلت أول حكومة للتناوب الديمقراطي سنة 1998 على عهد الملك الحسن الثاني رحمه الله، بقيادة عبد الرحمان اليوسفي زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ساندها الحزب وسمى موقفه ب المساندة النقدية، مبدعا بذلك مصطلحا جديدا في الحياة السياسية المغربية بعد أن اعتذر عن المشاركة في الحكومة، قبل أن ينتقل إلى موقع المعارضة بعد ذلك بسنتين ونصف.
وفي الانتخابات التشريعية لسنة 2002 ومع تشكيل حكومة إدريس جطو اختار الحزب عدم المشاركة فيها، ليكون بذلك أكبر حزب في المعارضة التشريعية ب42 نائبا منهم 6 نائبات، ليكون بذلك أول فريق نيابي من حيث تمثيلية النساء إلى جانب أقدم حزب هو حزب الاستقلال.
ومن المحطات الدالة في المرحلة الأخيرة، ما تلا تفجيرات 16 ماي في السنة الماضية من محاولات سياسية متربصة تم استغلالها ضد حزب العدالة والتنمية، رغم أن الحزب قد بادر منذ اليوم الأول إلى إدانة تلك الأعمال الإجرامية، واعتبرها مرفوضة شرعا وعقلا، وذكر بمبادئه المبدئية والسياسية الرافضة لكل أشكال التطرف الديني واللاديني والتزامه بمبادئ الوسطية والاعتدال والعمل على نشرها في المجتمع.
لكن الحزب فوجئ بتعتيم الإعلام التلفزي الرسمي على مواقفه، وبرزت أصوات سياسية تدعو إلى انتهاج أسلوب الإقصاء والتضييق على الحريات الفردية والجماعية وتبني الفكر الشمولي، وصبت جام غضبها على حزب العدالة والتنمية، وعلى جماعات التيار الإسلامي المعتدل لتطالب بإقصائها جملة وتفصيلا، وتحملها مسؤولية ما حدث. وطالب وزراء يساريون وكتاب وصحفيون صراحة في القناتين التلفزيتين العموميتين بحل الحزب ومحوه من الخريطة السياسية.
وفي مقابل ذلك سلك الحزب منهج الصبر والهدوء في وجه الحملات المذكورة ووالى مبادراته في التواصل وتوضيح مواقفه، إلى أن أصبحت الدعوات الاستئصالية مهمشة في الساحة السياسية والإعلامية.
وعلى عكس هذه الجهات، التي طالبت بحل الحزب، فقد سلكت الدولة أسلوبا يتسم بحد مقبول من الاتزان وعدم التسرع. وأتى خطاب الملك محمد السادس يوم 29 ماي ,2003 مؤكدا أن المغرب هو بعد 16ماي أشد صلابة وأكثر إصرارا وأقوى عزيمة على بناء مغرب الوحدة والديمقراطية والتنمية والتقدم والتضامن والتسامح، كما أكد على اعتماد مقاربة شمولية في مقابل ظاهرة الإرهاب بدل المقاربة الأمنية التي يروج لها كثيرون.
وبعد ،
والخلاصة أن اعتماد منهج الوسطية من لدن مكونات من الحركة الإسلامية في المغرب إضافة إلى نوع من التسامح والتعقل من الدولة قد مكن من اندماج جزء من الحركة الإسلامية في العمل السياسي عن طريق البوابة الحزبية، فغدا حزب العدالة والتنمية من أهم مكونات هذا المشهد ومن منشطيه الأوائل، بل أصبح عنصرا من عناصر الاستقرار السياسي القائم في المغرب. ولقد مكن ذلك من إدخال تجربة جديدة في الممارسة الحزبية وعلى رأسها الشفافية في تدبير الشأن الداخلي وإعمال الديمقراطية في التداول على السلطة داخل الحزب، بل يمكن القول إنه من الأحزاب النادرة التي تعقد مؤتمراتها بانتظام وفي مواعيدها، ضاربا بذلك المثل من نفسه على ما يدعو إليه السلطة والمجتمع.
ولقد ساعد في ذلك تقدير ذاتي من الحزب للإكراهات الداخلية والخارجية وتقديره الموضوعي لإمكانياته الذاتية، ونظره إلى العمل الحزبي باعتباره مجرد بوابة وجب أن تتكامل مع بوابات ومداخل أخرى في الإصلاح إلى أن يعمل مبدأ التحكم في مشاركاته الانتخابية، كي تكون محكومة بمبدإ الكيف لا مبدإ الكم، وتتجنب أي شكل من أشكال استفزاز الخصوم المتربصين من خلال اكتساح ممكن ولكن نتائجه السياسية غير مضمونة العواقب سواء بالنسبة للحزب أو لمجمل الوضع السياسي الداخلي والإقليمي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.