كغيرها من مجتمعات البشرية تشهد المجتمعات العربية تقدما وتراجعا لمكانة وتأثير الدين فيها بحسب السياق التاريخي والظروف الزمانية والمكانية المتغيرة. وكغيرها من مجتمعات البشرية سوف يظل التطلع الروحي مكوناً من مكونات المخيلة الجمعية وأساساً من أسس الاجتماع, فهو تطلع راسخ الصلة في سيكولوجيا البشر مذ وجدوا. عوامل عديدة ومتداخلة ومركبة تساهم في تقدم مكانة الدين في مجتمع ما أو في تراجعها, بعضها شبه متوافق عليه وبعضها مختلف عليه. بيد أن مما لا يُمارى فيه كثيراً ان حضور الدين وتصاعد وتائر الالتزام به تزداد في أوقات الأزمات والانسدادات. "" فعندما تصطدم خيارات عالم الشهادة بجدار صلد, يلتجأ الناس إلى عالم الغيب ناشدين حلاً يأتي من خارج ما يتوافر بين أيديهم من معطيات موضوعية, او هاربين من تفاقم الضغوطات إلى دفء التأمل في عالم ما بعد الحياة ووعوده. وطوال مسيرة البشر والمجتمعات والدين في قلبها تطور صراع متنوع الشدة بين الدين والسياسة: أحياناً تطاحنا, وأحياناً تعاونا, وفي أغلب الأحايين استخدم احدهما الآخر ووظفه لتحقيق اهداف محددة, صلتها بجوهر ما يُعلن عنه من أهداف ضعيفة وأحياناً غير موجودة. ونحن اليوم وفي المجتمعات العربية نشهد أشد حالات التوتر في علاقة الدين بالسياسة وربما يمكن اعتبار جدل هذه العلاقة بأنه الأهم والأكثر إلحاحاً فيما خص شكل التوافقات الاجتماعية والسياسية في هذه المجتمعات. وهو الجدل الذي دفع منظمي "منتدى الإتحاد" في أبو ظبي، محقين, لاعتماده محور نقاشات يومين متتالين في الأسبوع الماضي, حضرها وساهم فيها كتاب صفحات "وجهات نظر" والتي نجحت في تجميع كوكبة من أهم الكتاب والمثقفين العرب من شرق وغرب العالم العربي. ولربما من الضروري أن يُصار إلى نشر الأوراق التي قُدمت إلى المنتدى على شكل كتاب بهدف توسيع دائرة الجدل والنقاش. فقضية الدين والسياسة كانت ولا تزال السجال العربي الأهم عندما تتعلق المسألة بالسياسة العامة, أو بدور الدين في المجتمع. ومن دون الاضطرار إلى تلخيص النقاشات المهمة التي شهدها المنتدى على مدار يوميه, يمكن للمرء الإشارة إلى بعض الجوانب المرتبطة بهذا السجال والتي ما زالت التوافقات عليها تتسم بالهشاشة والارتباك. واحد من هذه الجوانب هو قضية الديموقراطية والنظر إليها كمشروع خلاصي يمكن أن يوفر للأطراف السياسية والطائفية والأيدلوجية ميداناً صحياً للصراع السلمي. والعنصر الأكثر حساسية في نقاش "الحل الديموقراطي" المُفترض هو مشاركة الإسلاميين فيه, ومدى التزامهم به, وفهمهم لمعناه ومضمونه وآلياته. ليس هذا التساؤل أو الشك بجديدين إذ هما يُطرحان في كل منتدى تُناقش فيه الديموقراطية في العالم العربي خلال العقدين الماضيين على الأقل. لكن الجديد الذي فرض نفسه, ويجب أن يفرض نفسه على النقاش, هو التجربة العملية للإسلاميين المؤمنين بالمشاركة الديموقراطية. أي أن النقاش تخطى طبيعته الأولية التجريدية والافتراضية والتي كانت تحاول استكناه ما ستكون عليه ممارسة الإسلاميين فيما لو وصلوا إلى الحكم أو شاركوا فيه, أو سيطروا على جزء منه. ففي السنوات الأخيرة أصبح أمامنا تجارب الإسلاميين في السودان وفلسطين حيث سيطرة كاملة أو شبه كاملة على النظام السياسي أو نصفه, وهناك تجارب الإسلاميين المشاركين في البرلمان والقادرين على فرض قوانين معينة رغم عدم سيطرتهم على الحكومة, كما هو الحال في الكويت واليمن والبحرين وإلى حد ما في الأردن والمغرب. هذا كله بالإضافة إلى التجارب التقليدية التي يُنظر إليها من وجهات نظر مختلفة وفيما إن كانت تصف نفسها أو توصف من قبل الآخرين بأنها مثال للنظام الإسلامي في الحكم وهي تجارب أفغانستان وإيران والسعودية. إذا وضعنا هذه التجارب كلها في موضع التقييم "الديموقراطي" فإن أياً منها لا تنجح في تقديم أية دلائل على تبني الحد الأدنى من المفاهيم الديموقراطية. وبعيداً عن التفصيل فإن الخلاصات المختلفة والمتباينة والمتعارضة لتلك التجارب تقدم أنواعا مختلفة من النتائج لكنها جميعاً لا علاقة لها بتثبيت الشكل الديموقراطي للحكم. معنى هذا أن النقاش حول الديموقراطية والإسلاميين انتقل خطوة كبيرة إلى الأمام في الوقت الراهن: انتقل من الافتراض والحدس إلى التجربة والممارسة بما يتيح مجالاً أدق للتقييم والوصول إلى تقديرات أقرب لحقيقة الموقف الإسلاموي من القضية الديموقراطية برمتها. الجانب الثاني في السجال العام والمهم الإشارة إليه والمرتبط عضوياً بالجانب الأول هنا هو الفهم الاختزالي للديموقراطية والنظر إليها من زاوية الإسلاميين وغيرهم على أنها آلية توفير "الحريات السياسية" وفقط. وهنا يتم تهميش مكونات أخرى أساسية من "العيش الديموقراطي" مثل الحريات الاجتماعية والمسلكية والثقافية والفكرية. ويمكن القول إن هذه المكونات هي كعب أخيل الإعلانات الإسلاموية بقبول الديموقراطية, حيث تظهر التجربة العملية في أكثر من بلد (الكويت, البحرين, الأردن, فلسطين) أن أي سيطرة جزئية للإسلاميين على الحكم أو الفضاء العام يتبعها تضييق في الحريات المتنوعة وانكماش في الفضاء العام وبروز مناخ مفضي لفرض صيغة ونمط إحادي من التدين. وهكذا فإن خصوم الإسلاميين أصبحوا في موقف أكثر قوة من ناحية نظرية إزاء السؤال المتشكك حول تبني وفهم الإسلاميين للديموقراطية بمعناها الواسع. وحتى في الجانب السياسي من الديموقراطية فإن قضية المرجعية النهائية في التقنين والتشريع ما زالت تراوح مكانها. وما تحوم حوله نقاشات كثيرة في دوائر الإسلاميين والقريبين منهم هو أن "الديموقراطية الغربية" يجب أن يتم إستيعابها عربيا وإسلامياً وتعديلها كي تناسب المجتمعات العربية والإسلامية, وإخضاعها لسقف معين لا يتركها مفتوحة كما هي الآن, ووضع "الشريعة" فوقها. ف "الديموقراطية الليبرالية" ترى في الشعب والشعب فقط مصدر السلطات والتشريع والتقنين, وهو ما يتحفظ إزاءه كثير من الإسلاميين حتى الآن. الأمر الآخر الجدير دوماً بأن يظل حاضراً وبقوة عند مناقشة الديموقراطية في البلدان العربية ومواقف الأطراف المختلفة ومن ضمنها الإسلاميون هو حقوق الأقلية – سواء أكانت الحزب الذي يخسر الانتخابات, او الأقليات بالمعنى التقليدي, الدينية, والطائفية, والإثنية. فما هو سائد ومتغلب في التفكير الجموعي الحزبي المعارض في الوقت الحاضر هو أن أنظمة الحكم القائمة مسيطر عليها من قبل أقليات ونخب ضيقة تستبد في الغالبية وتحرمها حقوقها الشرعية. وهو توصيف لا يبتعد عن الحقيقة في المجمل العام. ومن هنا فإن دعاة الديموقرطية وأنصارها المتحمسين دينيا لها ينظرون إليها بكونها الآلية التي تكسر استبداد الأقلية بالأغلبية وتعيد ميزان القوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى وضعه الطبيعي. وفي سياق التحمس الشديد لهذا الفهم فإن هناك اهتماما قليلا, حتى إن وجد, بموقع الأقليات بتنوعها في الشكل السياسي "الديموقراطي" المؤمل. الديموقراطية بحسب التطلع والشوق لها الموجود بعمق في أوساط الغالبية المقموعة من قبل الأنظمة المستبدة تعنى غلبة الأغلبية, ووضع الأقليات عند حدودها وربما حرمانها من حقوقها. أما الديموقراطية بكونها حامية للأقليات بقدر ما هي معبرة عن رأي ومزاج الإغلبيات فهي قليلة الحضور في الفهم العام. الشرق القطرية [email protected]