منذ نشأة الحركة الوطنية المغربية راهنت على تحديث المجتمع بموازاة انشغالها بالمطالبة باستعادة الاستقلال والسيادة. وكان من أهم الإصلاحات التي لم تنفك عن الإلحاح عليها، الإصلاح الإداري، وإشراك المغاربة في تدبير الشأن العام. فقد تضمنه برنامج الإصلاحات أو ما أطلق عليه إذاك مطالب الشعب المغربي الذي قدمته كتلة العمل الوطني في نوفمبر 1934 إلى كل من السلطان محمد بن يوسف وإلى الدوائر الفرنسية، ومما جاء فيه "إحداث بلديات ومجالس إقليمية وغرف مهنية، ومجلس وطني يحتوي على نواب مسلمين وإسرائيليين". وبإضافة ما نصت عليه وثيقة 11 يناير 1944 يتجلى أن الحركة الوطنية قد اختارت أسلوب التسيير الديموقراطي للشأن العام، فقد نصت هذه الوثيقة في أحد بنودها على "أن يلتمس (حزب الاستقلال) من جلالته أن يشمل برعايته حركة الإصلاح التي يتوقف عليها إصلاح المغرب بنظام ديموقراطي شبيه بالأنظمة التي اتبعتها مختلف الحكومات الإسلامية..." وبصرف النظر عما أثارته حمولة هذا البند من جدل بشأن صلتها بالديموقراطية الحقيقية، فإن الإيجابي فيها، أن قادة الحركة الوطنية (القصر+ حزب الاستقلال+ الحزب القومي الذي دعم الوثيقة فيما بعد) توصلوا إلى حل توافقي راعوا فيه ما تقتضيه الظرفية من إرضاء مختلف التوجهات المكونة لهذه الحركة إذاك، تاركين التفاصيل إلى ما بعد استعادة البلاد لاستقلالها وسيادتها، على أن المهم هو أن النزعة الديموقراطية لم تكن غائبة من برامج الحركة الوطنية بمختلف أطيافها وفصائلها. وما أن حصل المغرب على استقلاله حتى نصب أول مجلس وطني تمثيلي، لكن ما أن بدا من بعض كتله جنوح نحو المحاسبة، حتى تم حله لتبقى البلاد مسيرة بتشكيلات وزارية مسؤولة مباشرة أمام الملك في غياب الدستور وأي مجلس نيابي برلماني إلى عام 1963. أما على الصعيد المحلي والإقليمي والجهوي فلم تحدث الجماعات والمجالس المنتخبة إلا عام 1960. وإذا استحضرنا المعارك الانتخابية التي شهدتها البلاد ما بين مطلعي الستينات والثمانينات، لاتضح كيف كانت فعلا معارك بكل معنى الكلمة يسودها الحماس والتنافس بين أحزاب قليلة معروفة على الصعيد الوطني لا تتجاوز أصابع اليد، ذات برامج مختلفة "تعبر عن طموح قادتها المركزيين" وكانت هذه الانتخابات تجرى في جو من التنافس بلغ أحيانا حد التناوش والتوتر، لكنهما محدودان على أية حال. أما الإقبال على صناديق الاقتراع فكان على أشده بفعل ما كانت تقوم به الأحزاب المشاركة أو المقاطعة من تعبئة وتحفيز على التصويت أو الامتناع عنه. علاوة على الدور الذي كانت الإدارات الرسمية تلعبه في حشد شرائح من الناخبين لدعم مرشحيها المفضلين. وبصرف النظر عما رافق هذه الاستحقاقات من خرافة سواء على مستوى الجماعات أو البرلمان، فإن من إيجابياتها أن صناديق الاقتراع، كانت تفرز أغلبيات تكاد تكون ساحقة وهي إما تابعة لحزب أو خاضعة للسلطة، لاسيما في بعض المناطق التي لا تأثير للأحزاب على سكانها، أما الأغلبية في البرلمان فلم يسجل منذ أول برلمان للآن أن كانت إلا من حظ المرشحين الموالين للنظام والذين يدخلون قبة البرلمان فرادى ويتحولون إلى فريق لا دور له إلا تأييد مشاريع بدون قيد أو شرط، وغالبا ما انبثقت عن هذا الفريق أحزاب سرعان ما انبثت هنا وهناك وتوفرت على مقرات فخمة لم يكن في مقدور أعرق الأحزاب الوطنية الحصول عليها... وهكذا قضى المغرب أكثر من 47 سنة في معارك انتخابية محلية وجهوية وبرلمانية لم ينجم عنها سوى اقتناع أغلبية المواطنين بعدم جدواها، فانقلب إقبالهم على صناديق الاقتراع إلى عزوف لافت للنظر، مما أفقد الاستحقاقات مصداقيتها، فحق عليهم ما نعتت به من أحد قادة البلاد العربية "التمثيل تدجيل" ومهما اختلفتا مع هذه المقولة في إطلاقيتها، فإن لها ما يبررها، إذا استعرضنا مجمل المعارك الانتخابية وما اعتراها من خروقات وتزوير، وما نجم عنها من انحراف وفساد وإفساد، استوى في ذلك "الماء والجودي" أي الناخبون والمنتخبون، أولئك لم يحسنوا الاختيار وهؤلاء لم يكونوا أهلا للثقة. والأخطر من هذا أن فئة من الناخبين كررت التصويت على مرشحين أثبتت التجارب عدم أهليتهم لتحمل المسؤولية على حساب آخرين جديرين بها، ألسنا في هذه الحالة أمام شهادة زور؟ والأدهى من هذا أيضا، أن كثيرا ممن فازوا بفضل هذه الشهادة لم يوفوا بما التزموا به خلال الحملة الانتخابية من وعود، أفلا يعتبر هذا تنصلا من التزام بأداء الأمانة؟ وهنا بيت القصيد كما يقال، لماذا؟ لأننا إزاء عينتين من البشر، إحداهما استغلت غفلة المواطنين وجهلهم وحاجتهم، وطمعهم أيضا؟ فانتزعت منهم الأصوات عن طريق الخداع والوعود الكاذبة. والأخرى إما انخدعت أو تعمدت التصويت لفائدة هؤلاء إما غفلة أو تعصبا، وفي كلتا الحالتين وضعت ثقتها ولمرحلة طويلة في أشخاص غير أوفياء لالتزاماتهم وغير مخلصين ولا أكفاء، مما حرم المؤسسات التمثيلية من أجل الجدارة والاستحقاق، وجعلوها مجالا خصبا لكل من هب ودب، من انتهازيين ووصوليين فعاثوا فيها فسادا وإفسادا إلى أن حولوها إلى أسواق للمضاربة والمتاجرة، النافذون فيها هم تجار المخدرات والممنوعات الذين تمكنوا بقوة المال والنفوذ من تصدر قوائم مرشحي بعض "الأحزاب" على حساب مناضليها الملتزمين الأكفاء، وهذا من جملة الأسباب التي أدت إلى وقوع انشقاقات حزبية، وظهور أحزاب جديدة فاقت الثلاثين مما نجم عنه عزوف عدد من المواطنين وحتى بعض النشطاء القدماء من العمل الحزبي، مما أثر تنظيميا وإشعاعيا على نشاطها واستقطاباتها... كما أن هذه المتغيرات ساهمت في فقدان الاستحقاقات البلدية والبرلمانية لمصداقيتها، فبقر ما أسال هذا المآل لعاب "مرشحين طفيليين" عمل على تنفير مواطنين كثر، من الإقبال على هذه الاستحقاقات، بدءا بالتسجيل في اللوائح الانتخابية وصولا إلى الإدلاء بالأصوات، فلقد أصبح العزوف عن المشاركة في الانتخابات ظاهرة لافتة أقلقت الفاعلين السياسيين، الرسميين منهم والحزبيين على السواء، ويكفي دليلا على هذا العزوف ما تفرزه صناديق الاقتراع من الأصوات الصحيحة سواء في الاستحقاقات البلدية أو البرلمانية والتي لا تتعدى نسبتها المئوية نيفا وثلاثين من الأصوات المدلى بها. أما إذا احتسبنا نسبة المشاركة مقارنة مع عدد المسجلين في قوائم الانتخابات فإن ظاهرة العزوف تصبح أوضح وأقوى مؤشر على أن الاستحقاقات التمثيلية توشك على استنفاذ ما تبقى لها من اهتمام المواطنين. ومن الإنصاف في هذا الصدد أن يشار إلى أن الأحزاب السياسية المنحدرة من الحركة الوطنية طالما نبهت إلى خطورة هذه الظاهرة، وإلى انعكاساتها السلبية على مسلسل التجربة الديموقراطية وعلى مشاركة الأحزاب في إدارة الشأن العام بواسطة ممثليها في البرلمان وفي البلديات المخولة لهم دستوريا. إذا فمن يتحمل مسؤولية هذا المآل؟ هل الحكومة أم الأحزاب؟ وهل الناخبون أو المنتخبون (بالفتح)؟ للجواب على هذا السؤال يكفي أن يذكر أن الحكومة عمدت منذ الشروع في اعتماد النظام التمثيلي (في البلديات والبرلمان) إلى سن ووضع قوانين وأنظمة جعلت من الآليات التمثيلية مجرد أجهزة لتنفيذ برامجها (أي الحكومة) أو المصادقة على مشاريع قوانينها. وبمقتضى هذه القوانين والأنظمة جرت الانتخابات والاستفتاءات أغلبها كان مشوبا بتدخل أجهزة الحكومة وتوجيهها وأفرزت نتائج نعتت بالتزوير وبالمبالغة في نسبة المشاركين والمصوتين بالإيجاب بالنسبة للاستفتاء على الدستور، وبانحياز لهذا الحزب أو ذاك وبتشجيع اللامنتمين والعمل على طبخ النتائج لفائدتهم فإن لم يكن ذلك بواسطة التزوير فبفضل إجراءات تقنية تتعلق بتقطيع الدوائر الانتخابية تقطيعا ملائما لترجيح كفة مرشحين موالين تعمل على فرض فوزهم. وبدلا من فتح المجال أمام الأحزاب للقيام بدورها في "تدبير الشأن العام" حصر هذا الدور دستوريا في "المساهمة في تنظيم المواطنين وتمثيلهم..." وقد كرس هذا الدور في قانون الأحزاب الصادر في 15 محرم 1427 الموافق 14 فبراير 2006 والذي نصت مادته الثانية على أن "تساهم الأحزاب السياسية في تنظيم المواطنين وتمثيلهم..." فقط، وعوض اعتماد طريقة للاقتراع تفرز أغلبيات منسجمة داخل المجالس المحلية، وفريقا منسجما في البرلمان عمدت إلى اعتماد طريقة الاقتراع اللائحي النسبي الذي ينجم عنه تشكل هذا البرلمان وتلك المجالس تشكلا فسيفسائيا لا يحظى فيه أي حزب بأغلبية منسجمة تسمح له بتنفيذ برامجه، ولا يخفى ما لهذا التشكل الفسيفسائي من انعكاسات سلبية ليس على سير المجالس والبرلمانات، وإنما على مصداقية الانتخابات والأحزاب، وستزداد مسؤولية الحكومة إذا أضيف موقفها من المعارضة الديموقراطية المتسم بالقمع والمضايقة والإقصاء، وفي أحسن الأحوال بالعمل على تحجيمها عندما تشارك ولو إيجابيا في الاستحقاقات التمثيلية. هذه هي مسؤولية الحكومية، فماذا عن مسؤولية الأحزاب؟ في هذه المسألة أتجنب الحديث عن نقطتين: تتعلق الأولى بالأحزاب الإدارية لأن مسؤولية قادتها جزء من مسؤولية الحكومة. أما الثانية فتخص المرحلة التي أطلق عليها "سنوات الرصاص" لأن المعارضة الديموقراطية كانت في وضعية لم تسمح لها حتى بممارسة أنشطتها العادية، أحرى أن تخوض الاستحقاقات الانتخابية بدون عراقيل سافرة أو خفية. كانت المعارضة الديموقراطية في هذه الحقبة تناضل من أجل التغيير الجذري، ومن أجل القيم الحداثية الاشتراكية والديموقراطية الحقيقية، ولم تشارك في تلك الحقبة في الانتخابات البلدية إلا مرة واحدة 1960 والبرلمانية 1963. لهذا ليس من الإنصاف تحميلها المسؤولية عما رافق هذه الاستحقاقات من فشل أو اختلالات. لكن ليس من الموضوعية أيضا الادعاء بعدم مسؤوليتها عندما فضلت عدم ترك "المقاعد فارغة" خاصة بعد المسيرة الخضراء (1975) أصبحت من الأحزاب البارزة المشكلة للمجالس الجماعية والبرلمانات المتعاقبة، ولكن دون أن يتجاوز دورها في هذه المؤسسات التصويت على المشاريع المقدمة من لدن الجهاز الحكومي، ولاسيما المتعلقة بالميزانية العامة للدولة، وبين الفينة والأخرى مساءلة وزراء بشأن أمور قطاعية... وذلك قبل قبول قياداتها المساهمة في ما أطلق عليه "حكومة التناوب التوافقية" برئاسة شخصية حزبية ثم برئاسة شخصية تفتقراطية "لا منتم". وإذا كان هذا المنعطف قد أثار جدلا حادا بين أتباع هذه الأحزاب فالذي يهمنا في هذا المقام هو انعكاساته ليس على الاستحقاقات وحسب، بل وعلى الأحزاب نفسها، وإذا كان الجانب الثاني من هذه الانعكاسات شأنا داخليا للأحزاب، فإن من حق أي مهتم ألا يغض الطرف عن جانبها الأول، مادامت تمس شأنا عاما يهم سائر المواطنين الغيورين على البلاد، ومادامت الأحزاب الديموقراطية هي العمود الفقري لكل ديموقراطية حقيقية، إذ لا ديموقراطية بدون وجود أحزاب ديموقراطية. ومن هنا فمن حق الباحث بل ومن واجبه أيضا أن يساهم فيما يراه مفيدا للفضاء الحزبي ولو بمجهوده النظري. إن تناول مسؤولية الأحزاب الديموقراطية عما رافق التجارب التمثيلية من سلبيات، ليس من شأنه أن يغمطها فضلها فيما تحقق ولو نسبيا في ميدان الحريات العامة وحقوق الإنسان... إلا أن هذه الإيجابيات لا تمنع من تسجيل أن هذه الأحزاب مسؤولة عما شاب التجربة من اختلالات منها: عدم الإلحاح على تطوير اختصاصات المجالس البلدية، وعن مراجعة الدستور وعن الموافقة على أسلوب إجراء الانتخابات، وعن إعادة تزكية مرشحين أساءت ممارساتهم المريبة إلى الأحزاب قبل إساءتها للتجربة، وعن عدم مراقبة ومحاسبة المخلين بالتزاماتهم نحو الحزب والناخبين. والأخطر من كل هذا وذاك هو تزكية أشخاص لمجرد أنهم أثرياء ممن التصقت أسماؤهم بالشبهات وممن جعلوا الانتقال من حزب لآخر ظاهرة استرعت انتباه المهتمين وأساءت إلى الحزبية، ودفعت العديد من نشطاء الأحزاب ?عن حق أو باطل- إما لتجميد عضويتهم أو تزعم انشقاقات انضافت إلى الفضاء الحزبي فأثرت سلبا، ليس على الأحزاب وحدها، بل وعلى قوة تمثيلها داخل المجالس البلدية وفي قبة البرلمان... هذا علاوة على تقصيرها بخصوص دورها في توعية المواطنين وتربيتهم تربية تحصنهم ضد الانجرار وراء المغريات والوعود الكاذبة، وتجعلهم يدركون مدى ثقل مسؤوليتهم كناخبين وجسامة الأمانة التي تحملوها كمنتخبين (بالفتح)، إذ الانتخابات تزكية وشهادة والترشح لتحمل المسؤولية التزام وأمانة. وكل من الناخب والمرشح يتحمل نصيبه من المسؤولية بشأن ما ترتب عن تصرفهما من فشل أو اختلالات، سياسيا وأخلاقيا على الأقل... فهل آن الأوان لتخليص استحقاقاتنا من وصمة العبث والدجل؟ هذا ما ستجيب عنه مجريات الاستحقاقات الجماعية ليوم 12/06/2009 وذلك من خلال ما ستوفره الحكومة من مناخ مادي وإعلامي سليم أو العكس، ومما ستلتزم به من حياد وعدم تدخلها لصالح أي حزب أو أي مرشح، وترك الصناديق تفرز ممثلين حقيقيين دون تحريف أو تزوير أو العكس. ولعل ما ستتمخض عنه الاستحقاقات المذكورة ستكون خير محطة تتعزز فيها التجربة الديموقراطية أو تهان... وإنا لنتائجها لمنتظرون.