تعود الإرهاصات الأولى لمسألة الإصلاح بالمغرب إلى بداية القرن الماضي، فقد عرف المغرب تجاذبا بين نخبة متنورة و متجاوبة مع مطلب التحديث و الانفتاح على العصر، وأخرى منغلقة و رافضة لأي مظهر من مظاهر التجديد. وقد شكلت الإصلاحات التنظيمية لدى الخلافة العثمانية مرجعا للدعوات التنويرية التي عرفها عهد السلطانين الحسن الأول والمولى عبد العزيز، مثلما شكلت تجارب دستورية رائدة مرجعا لوثيقة البيعة الحفيظية التي اشترطت على السلطان المبايع، شروطا لا تصلح إمامته شرعا إلا بخضوعه لها، ومشروع دستور جريدة لسان العرب لسنة 1908 الذي صاغته نخبة من العلماء المغاربة على رأسهم ابن المواز، والذي لم يكن يخلو هو الآخر من بعد تنويري. هذه البواكير الأولى للتحديث السياسي في بلادنا ستتفاعل لاحقا على نحو خلاق مع أفق الحركة الوطنية المغربية و الكفاح من أجل الاستقلال، ليرتفع إيقاعها بكيفية صاخبة بعد الاستقلال. شكل الارتباط الوثيق بين مطلب الإصلاح و مفهوم السيادة لدى الحركة الوطنية المغربية ثابتا أساسيا، ارتكزت عليه في نضالها من أجل الاستقلال، ورفضت تأسيسا عليه أن تطالب بإنشاء نظام ديمقراطي شكلي تحت سلطة الحماية الأجنبية عند تقديمها لبرنامج إصلاحاتها المقترحة سنة 1934، إلا أنها ستعود في شروط و سياق آخر للربط بين مطلب استقلال المغرب و مطلب البناء الديمقراطي في وثيقة 11 يناير 1944 . لقد شكل التعاون الوثيق، و التكامل المطلق بين شرعية المؤسسة الملكية، الدينية و التاريخية و شرعية الحركة الوطنية، الثقافية و السياسية و الجماهيرية مفتاحا أساسيا لفك عقدة التواجد الأجنبي بالمغرب، و تأكدت قوة هذا التحالف الذي جمع ملكا وطنيا هو المرحوم محمد الخامس، ونخبة ثقافية وسياسية واقتصادية متنورة شابة و متحمسة، بتسريع وتيرة المطالبة بالاستقلال بكل السبل المشروعة في وجه الاستعمار، من مقاومة مسلحة، و تفاوض سياسي، لتفضي الأجواء التي خلقها التحالف الوثيق الذي جمع العرش المغربي بالحركة الوطنية المغربية إلى إعلان استقلال المغرب بعد أقل من 44 سنة على استعماره. على الرغم من أن الاستقلال السياسي للمغرب قد حقق إمكانيات و شروط التحرر من التبعية الإمبريالية و تصفية مخلفات العلاقات الإقطاعية و شبه الإقطاعية، فقد برزت بعد الاستقلال قوى يمينية تعمل على الحفاظ على الواقع كما ورثناه عن الاستعمار و ترى أن الصيغة المناسبة لبناء الدولة الوطنية هي الجمع بين سلطة المؤسسة السلطانية التقليدية كما كانت قبل الحماية وسلطة المقيم العام الفرنسي الذي كان على رأس الإدارة العصرية التي لا تخضع لأي مراقبة ديمقراطية. وفي مقابل هذه القوى تجلى الحضور القوي لوطنيين يعتبرون أن النضال الوطني من أجل الاستقلال لا بد أن يستمر لضرورة ذلك لتشييد دولة حديثة لها مصداقية و تمثيلية و في نفس الوقت قادرة على الاستجابة لحاجة الشعب إلى التغيير و التطور، بل إن الخلاف بين هؤلاء الوطنيين أنفسهم، بين من يساند مشروع الدولة القوية على نمط تقليدي و استبدادي تؤطر المجتمع و تضمن انضباطه، و بين داع لجعل عهد الاستقلال عهدا للحرية و الديمقراطية، سيدخل المغرب خاصة بعد وفاة الملك الوطني محمد الخامس رحمه الله إلى مرحلة عصيبة من تاريخ المغرب، كانت سمتها البارزة انفراط عقد التحالف و التعاون بين المؤسسة الملكية من جهة والحركة الوطنية التقدمية من جهة أخرى، وهو ما أدخل البلاد في مواجهة شبه دائمة بين إرادة التغيير والحرية والديمقراطية التي انحاز لها الشعب المغربي وقواه الحية و المناضلة، وقدم من أجلها كثير تضحيات، من أجل مشاركة شفافة، و مؤسسات ذات مصداقية، وعدالة اجتماعية، ودولة ديمقراطية، وبين إرادة الاستبداد، والريع والمؤسسات المغشوشة.. ومع ذلك فقد ظلت الوحدة الوطنية في كل أبعادها هوية راسخة لدى المتصارعين، بل إن الشعب المغربي في نضاله لعقود طويلة من أجل مواطنته الكاملة، ظل يعتبر بأن أحد المداخل الأساسية لتمتين الوحدة الوطنية والترابية لبلادنا هو ترسيخ الديمقراطية، وأنه لا تعارض بين المطالبة باستكمال المغرب لوحدته الترابية شمالا وجنوبا وبين المطالبة بالحرية والديمقراطية، وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية و الاقتصادية ودولة الحق والقانون . لم يكن نضال الشعب المغربي ليذهب سدى، إذ رغم توفر ظروف وشروط معاكسة للديمقراطية، فقد تمكن شعبنا و قواه الحية من جعل المطلب الديمقراطي ذو راهنية دائمة، وقد قوى من راهنية هذا المطلب طرح قضية الصحراء المغربية مع مطلع سبعينيات القرن الماضي، لتفتح صفحة جديدة في علاقة المؤسسة الملكية بالحركة الوطنية المغربية، و التقدمية منها على وجه الخصوص، خاصة بعد أن تبنى مكونها الأساسي سنة 1975 استراتيجية النضال الديمقراطي التي تجعل من العمل داخل المؤسسات رغم شوائبها، ومن توسيع هوامش النضال الديمقراطي رغم ضيقها، ومن الاستثمار في العمل الجماهيري رغم صعوبة واقعه، ومن الربط القوي بين النضال الوطني والنضال الديمقراطي، خيارات استراتيجية. وهكذا شق المغرب من جديد وبثبات تجربته الديمقراطية المحلية بعد صدور قانون (ظهير 1976) المنظم للجماعات المحلية، و انطلق بشكل سلس العمل النيابي البرلماني، وعرفت الحركة النقابية و الثقافية و الحقوقية و الجمعوية والإعلامية فورة لا سابق للمغرب بها، ليتوج كل ذلك بإعادة ربط أواصر الثقة و التعاون المثمر بين المؤسسة الملكية والحركة الوطنية المغربية خدمة للقضايا والانتظارات الملحة للوطن و المواطنين، مما أفضى إلى ميلاد تجربة التناوب التوافقي (1998) التي كان رائداها بامتياز الحسن الثاني رحمه الله، و عبد الرحمان اليوسفي الوزير الأول و الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سابقا. لقد شكل ملتمس الرقابة الذي عرفه البرلمان المغربي نهاية ثمانينيات القرن الماضي، و مذكرات الإصلاحات السياسية و الدستورية التي وضعها قطبا الحركة الوطنية الديمقراطية (الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال)، مقدمة لسلسلة من الخطوات التي عرفتها بلادنا على درب تجديد التعاقد، حيث تم إلغاء قوانين تعود إلى عهد الاستعمار، وفتح الباب أمام عودة المغتربين، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وطرح دستور 1992 ثم دستور1996، وتم الإقرار بمأساوية الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية، بل ووقع التداول حول إمكانية الشروع في تجربة للتناوب سنة 95-1994، وكل هذا كان يهيئ لمرحلة جديدة في تاريخ بلادنا هي التي أعقبت شبه إجماع وطني حول دستور 1996، والانتخابات التشريعية لسنة 1997 التي ستفضي إلى أول تجربة للتناوب يعرفها المغرب بعد ما يزيد عن 35 سنة من القطيعة المقنعة بين الفاعلين السياسيين الأساسيين ببلادنا. إذا كان الحسن الثاني قد ساهم بقوة في إطلاق الدينامية التي عرفتها بلادنا منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، فإن اعتلاء الملك محمد السادس للعرش، قد أعطى دفعة قوية لهذه الديناميكية. إذ علاوة على ترسيخه لمبدأ الثقة المتبادلة، والتعاون البناء، فقد بصم بفلسفته الجديدة في الحكم، و حساسيته الكبيرة اتجاه القضايا الاجتماعية والإنسانية، و مفهومه الجديد للسلطة، و حضوره الدائم إلى جانب شعبه، فقد بصم عهده مغربا آخر فتحت فيه الآمال و تقوت المبادرات و الأعمال التي تصب جميعها في استدراك ما ضاع من وقت و إمكانيات بغاية بناء مغرب الحرية و التنمية و الديمقراطية، بناء على المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي و التضامني الذي تلاقت حوله إرادة الملك مع إرادة القوى الوطنية الديمقراطية المغربية. لقد شكلت المصالحة عنوانا بارزا لعهد الملك محمد السادس ولتجربة التناوب التي دخلها المغرب.. وإذا كان اختيار المغرب لتجربته الخاصة في العدالة الانتقالية من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة التي كشفت، دون صدام أو انتقام، عن ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بوابة للمصالحة مع الذاكرة، ومع المتضررين، و بين الدولة و المجتمع، فإن مصالحات أخرى قد تم تدشينها مع النساء المغربيات من خلال مدونة الأسرة، ومع كل جهات المغرب، الشمال و الجنوب خصوصا، ومع مكونات المغرب الثقافية (الأمازيغية). وبموازاة مع ذلك شرع المغرب في تحيين وتحديث ودمقرطة ترسانة قوانينه وتشريعاته، إذ تم وضع قانون جديد للتجمعات والجمعيات، وقانون للأحزاب، وقانون للصحافة والنشر، ومدونة للشغل، و ميثاق للتربية والتكوين، وميثاق جديد للجماعات المحلية ومدونة جديدة للصفقات العمومية، وأدخلت تعديلات كبيرة على القانون الجنائي المغربي، مثلما أعدت العدة لتنظيم أول انتخابات غير مطعون فيها سنة 2002، كما أطلقت العديد من الأوراش المهيكلة لاقتصادنا الوطني، وبنياتنا التحتية و التجهيزية، و أعيد التوازن والدفء لمؤسسات و مقاولات عمومية كبرى، وعولجت إشكالية المديونية والتوازنات الاقتصادية، و حظيت القضايا الاجتماعية بعناية خاصة، وصارت الإدارة الترابية تشتغل على قضايا التنمية عوض انشغالها بالأفراد فقط ومس التغيير الإعلام و الإدارة... وهو ما وفر للمغرب تجاوز احتباساته الخانقة واستشراف آفاقه الواعدة. لقد حظيت تجربة الانتقال الديمقراطي بالمغرب بإعجاب خصوم المغرب قبل أصدقائه بالنظر للشرعية القوية لفاعليها المركزيين، وبالنظر لما أطلقته من ديناميات بناء مهيكلة للمستقبل، و بالنظر لما فتحته من آمال على إمكانية التغيير الديمقراطي الهادئ، وبالنظر لقطعها مع مقولة أن الاستبداد خاصية مشرقية، لقد مكنت هذه التجربة المستمرة لحد اليوم، والتي رغم عثراتها، وخصاصاتها من عودة محترمة لبلادنا للمنتظم الدولي، ومن عودة شعبنا لركوب صهوة التنمية و الديمقراطية، و من استرجاع المؤسسة الملكية و أحزاب المغرب الوطنية الديمقراطية لزمام العمل المشترك رفعا لتحديات الحاضر والمستقبل، ويكفي الاستدلال على ذلك بالإضافة لقضايا الحريات الفردية والجماعية، ومصالحة المواطن مع الشأن العام، أن نجرد مخططات التنمية الاستراتيجية التي تهم قطاعات التعليم والتكوين، والفلاحة، والصناعة، والبيئة، والماء، والسياحة، والصناعة التقليدية، والطاقة، وإعداد التراب، و الإسكان، والكهرباء، ومحاربة الفقر والهشاشة و الإقصاء، ... مع ما عبئ من أجل إنجازها من موارد ضخمة تسير بطريقة شفافة لا عهد لبلادنا بها. على أن هذه التجربة رغم فتوتها و طراوة عودها ستظل ودرءا لكل ارتداد أو نكوص، بحاجة ماسة لمزيد من الرعاية والاحتضان و الدعم، وهو ما لا يمكن تحقيقه سوى بدخول بلادنا جيلا جديدا من الإصلاحات الدستورية والمؤسساتية، بما يعني ذلك من الاعتماد على مبدأ سيادة الأمة و التداول العملي على الحكم والفصل بين السلطات وهي الإصلاحات التي تجمع الجميع بالمغرب على ضرورته الآنية و المستقبلية. إصلاحات تعمل على تقوية و ترسيخ ما تحقق لحد الساعة، وتوسع الديمقراطية السياسية إلى المجال الاقتصادي والاجتماعي بما يضمن توزيعا مقبولا للثروات ومحاربة للريع، و تقوية مؤكدة للمؤسسات البرلمانية والحكومية والقضائية، وتوسيعا حقيقيا لصلاحيات الجهات، وقطعا مؤكدا مع ما فسد من الممارسات والعقليات. لقد شكل مقترح الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب للمنتظم الدولي كصيغة لفض النزاع المفتعل في صحرائه المسترجعة إحدى ثمار تجربة الانتقال الديمقراطي المغربي، لأنه عربون وحدة وطنية من جهة، وعربون ثقة في النفس وانفتاح أيضا و عربون تطلع نحو المستقبل و الجيران أخيرا، و هو قبل هذا و ذاك عربون انخراط في بناء ديمقراطي داخلي ومغاربي وعربي. إن مغربا قويا بملكيته، راسخا في وحدته، جديرا بأحزابه الديمقراطية ومفتخرا بتاريخه وبشعبه ومؤمنا بحاضره و مستقبله، لا يمكن إلا أن يرفع تحدي هذا الجيل الجديد من الإصلاحات لما فيه خير الوطن والشعب. ولعل استمرار التعاقد بين المؤسسة الملكية من جهة و الحركة الوطنية الديمقراطية التقدمية من جهة أخرى هو أفضل و أنجع السبل نحو هذه الغايات النبيلة. { نص مداخلة اليازغي في منتدى الدوحة للديمقراطية والتنمية والتجارة الحرة