توصيات المنتدى المدني المنعقد بالمغرب بموازاة مع منتدى المستقبل..إملاءات أمريكية بلسان مدني مبين عرف العالم العربي والإسلامي ثلاث موجات استعمارية، الموجة الأولى بدأت في العقود الثلاثة الأولى للقرن التاسع عشر وامتدت إلى غاية العقد السادس من القرن العشرين، وهي الموجة الاستعمارية التي اتخذت شكل احتلال مباشر لهذه الدول من خلال قوة السلاح. وجابهتها حركات التحرر من خلال عمليات مقاومة لجأت هي الأخرى إلى الكفاح المسلح، إلى أن اضطر الاستعمار مع اشتداد تلك المقاومة التي تزامنت مع الأوضاع التي خلفتها الحرب العالمية الثانية وأوروبا العجوز والمدمرة بالحرب، إلى إعادة مراجعة سياساتهما الامبريالية التقليدية. أما الموجة الاستعمارية الثانية فتعرف باسم الاستعمار الجديد، وتميزت هذه الموجة باستمرار التدخل الأجنبي في الدول المستقلة وإحكام طوق التبعية عليها في المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية. وتميزت هذه المرحلة بالإضافة إلى استمرار نفوذ الدول الأوروبية الاستعمارية بصعود الولاياتالمتحدة وتصاعد قوتها، العسكرية والسياسية والاقتصادية، وبجانبها الاتحاد السوفياتي، حيث خيمت في هذه المرحلة أجواء الحرب الباردة وتقاسم القوتين العظميين مناطق النفوذ وولاءات الدول وهي المرحلة التي عرفت اتساع نطاق ما يسمى ب الحرب بالوكالة. الموجة الاستعمارية الثالثة: من استعمار الدول إلى استعمار المجتمع المدني أما الموجة الاستعمارية الثالثة فهي الموجة التي بدأت بظهور ما يسمى ب النظام الدولي الجديد بعد سقوط جدار برلين واستفراد الولاياتالمتحدة بقيادة العالم، إذ ظهرت مع هذا التحول موجة استعمارية جديدة قائمة على غزو الأسواق من خلال تعميم نموذج اقتصاد السوق والدعوة إلى رفع الحواجز الجمركية، فضلا عن توظيف التطورات الهائلة في مجال تكنولوجيات الإعلام والاتصال من أجل التسويق لنموذج ثقافي واحد هو النموذج الأمريكي. وفي إطار هذه الموجة الاستعمارية الثالثة رجعنا إلى نمط من التدخل المباشر في شؤون الدول وفي رسم سياساتها خاصة مع تقلص سيادة الدولة القطرية وظهور نمط جديد من الشرعية يسمى ب الشرعية الدولية. لكن ما يميز هذه الموجة الثالثة أنها لم تعد تقتصر على ضمان تبعية الدول التي تدور في فلك المركز الاستعماري الجديد بل تجاوز الأمر ذلك إلى السعي لضمان تبعية المجتمعات من خلال تبعي ما يسمى ب المجتمع المدني. الامبراطورية الأمريكيةالجديدة واستعمار المجتمع المدني لقد تزكى هذا التوجه إلى استعمار المجتمع المدني مع صعود اليمين المسيحي المتطرف في الولاياتالمتحدة، إذ عادت الروح الاستعمارية والإمبراطورية المباشرة كي تحتل مكانة متميزة في إطار الفكر السياسي الأمريكي فهذا اليمين يؤسس رؤيته للعالم الإسلامي كما هو معلوم على رؤية إنجيلية تنظر إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية ورئيسها بأن لهما رسالة إلهية تتمثل في مواجهة الشر، وخوض عدة معارك ضده ستكون آخرها معركة هرمجدون، كل ذلك من أجل استنزال المسيح عليه السلام حسبما يزعمون. وذلك حتما عبر قيام دولة إسرائيل الكبرى وإقامة الهيكل. وفي هذا السياق جاء مشروع الشرق الأوسط الكبير باعتباره إعادة ترتيب للمنطقة وفق الرؤية الأمريكية ومحاولة لفرض إصلاحات سياسية هدفها الرئيس عن الأمريكيين ضمان التحكم في هذه المنطقة الحيوية أي العالم الإسلامي التي هي تربة خصبة في نظر الولاياتالمتحدة لإنتاج ما تسميه ب الإرهاب. وفي هذا الإطار خاضت الولاياتالمتحدة حربين اثنتين، الأولى في أفغانستان والثانية في العراق، وجعلت شعار حربها الثانية بعد تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل إقامة نظام ديمقراطي على الطريقة الأمريكية يكون نموذجا لكل دول المنطقة. كما بدأت الولاياتالمتحدة اعتمادا على توصيات لجن من الكونغرس ودراسات قامت بها مراكز بحث مخترقة من لدن اللوبي الصهيوني، في التركيز على تحميل مسؤولية استنبات الإرهاب على مناهج التعليم الديني وعلى العلماء وخطاباتهم وفتاواهم، والدعوة إلى تجديد الفكر الديني بما يلائم المصالح الأمريكية ويستبعد كل ما من شأنه أن يبني لدى الشعوب روح المقاومة والتميز والاستقلال. ومعنى ذلك أن الولاياتالمتحدة لم تعد تقف عند المواجهة العسكرية مع العالم الإسلامي فقط، بل تخوض حرب أفكار تنظر لها مراكز بحث مخترقة من لدن اللوبيات الصهيونية. وإذا كانت كثير من الأنظمة في المنطقة قد نظرت نظرة يسودها التوجس والحذر من المشروع الأمريكي للإصلاح، فإن الدول الأوروبية هي الأخرى قد أدركت مخاطر الاندفاع الأمريكي الذي بدأ يزاحمها في مراكز نفوذها داخل مستعمراتها القديمة، كما أخذت تدرك مخاطر استفراد الولاياتالمتحدةالأمريكية بإعادة صياغة الخريطة السياسية لما يسمى بالشرق الأوسط. فقد بدا الخلاف بين دول أوروبا وعلى رأسها كل من فرنسا وألمانيا واضحا في قضية الحرب على العراق، مما اضطر الولاياتالمتحدة أن تخوض حربها منفردة، إلى جانب بريطانيا وتزكية شكلية من بعض الدول سعت من خلالها أن تعطي للقوات الأمريكيةالمحتلة في العراق صفة قوات التحالف الدولي. ومع ازدياد التورط الأمريكي في العراق عادت مصلحة أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية للالتقاء والاتفاق على الدخول في شراكة جديدة تبنت أوروبا بمقتضاها مبادرة الشرق الأوسط، كما أعادت الولاياتالمتحدة تلطيف تلك المبادرة وتضمينها عدة تعديلات شكلية لا تغير من جوهر المشروع شيئا ومن روحه وفلسفته، منها التأكيد على أن لإصلاح يأتي من الداخل وليس من الخارج، ومراعاة التطور الخاص بكل الدول ومراعاة ثقافتها وتقاليدها. الشراكة من أجل الاصلاح: قفازة ناعمة ليد حديدية لكن الحديث عن الإصلاح من الداخل الذي يقدم وكأن الأمر يتعلق ب شراكة من أجل الإصلاح لا يمكن أن يخفي عن المتتبع العصا المبطنة واليد الحديدية التي ألبست قفازات ناعمة. فقد استعاضت الولاياتالمتحدة في مقاربتها الجديدة عن الضغط الخارجي المباشر بالضغط من الداخل عبر ما يسمى ب المجتمع المدني الذي سيصبح من الآن تحت حماية أمريكية، وسيتكلف بتقديم الإملاءات الأمريكية وكأنها مطالب داخلية منبثقة من رحم المجتمعات العربية خاصة وأن مشروع الشرق الأوسط يؤكد على دعم هذه المنظمات وحمايتها وتمويلها إذ ورد في المشروع التأكيد على ما يلي: إن أفضل الوسائل لتشجيع الإصلاح هي عبر منظمات تمثيلية ومن ثم وجب تشجيع تطوير منظمات فاعلة في المجتمع المدني. تشجيع حكومات المنطقة على السماح لتلك المنظمات بالعمل بحرية من دون تقييد أو مضايقات. زيادة التمويل لتلك المنظمات المهتمة بالديمقراطية وحقوق الإنسان. حماية تلك المنظمات من الضغوطات والتهديدات لصعوبة إقدام حكومة من الحكومات على عمل سيورطها مع حكومات دول مجموعة الثمانية. فرض استماع الحكومات إلى مطالب وتوصيات ما يسمى بالمجتمع المدني وهو ما تحقق في منتدى المستقبل المنعقد حاليا حيث ظلت الجامعة العربية والدول العربية المشاركة اليوم في المنتدى ترفض طلب المنتدى المدني في اجتماعات القمة. فقد سبق لمعهد القاهرة لدراسات حقوق الإنسان باعتباره أحد الأطراف الأساسية في التحضير للمنتدى المدني المنعقد على هامش منتدى المستقبل أن تقدم بطلب للحكومة الجزائرية لحضور القمة المقبلة في مراكش شهر مارس2005 دون أن يتلقى لحد الساعة جوابا إيجابيا انطلاقا من قوانين الجامعة العربية التي لا تسمح بمشاركة منظمات غير حكومية، بينما سيكون من بين نقط جدول أعمال منتدى المستقبل الاستماع إلى توصيات المنتدى المدني. ولقد جاء في توصيات مبادرة الاستقلال الثاني الصادرة عن المنتدى المدني المنعقد في بيروت، ما يلي: >أن يتحول إلى منتدى سنوي دائم يجتمع بشكل مواز لاجتماعات الملوك والرؤساء العرب، مع السعي لعقده كلما كان ذلك ممكنا في نفس الدولة مقر القمة وتوسيع نطاقه ليمثل بشكل أفضل المجتمع المدني في العام العربي، والسعي لتمثيله داخل اجتماعات القمم العربية ذاتها بصفة مراقب بحيث يمكنه تقديم وعرض توصيات المنتدى بصفة مباشرة على لملوك والرؤساء العرب< (ص 13) إملاءات أمريكية... بلسان مدني مبين ليس اجتماع المنتدى المدني الذي يعقد هذه الأيام على هامش منتدى المستقبل هو أول اجتماع له فقد عقد المنتدى سلسلة ندوات من أبرزها مؤتمر بيروت في شهر مارس ,2004 وأطلق المنتدى خلال هذا المؤتمر مبادرة أطلق عليها مبادرة الاستقلال الثاني والتي تمثل رؤية هذا المنتدى للإصلاح. وإن قراءة بسيطة فيها تكشف أنها ليست سوى إملاءات أمريكية بلسان عربي مبين. قد يقول قارئ لوثيقة الاستقلال الثاني والمتفحص في توصياتها: لماذا هذا التحامل عليها وعلى المنتدى المدني وهي تتضمن مبادرة للإصلاح السياسي في الدول العربية، إذ القارئ العادي الذي لا يستحضر خلفيات وأبعاد مشروع الشرق الأوسط الكبير و منتدى المستقبل لن يرى فيها سوى مبادرة متكاملة وجريئة لإصلاح الأوضاع السياسية في العالم العربي، وهو الانطباع الذي قد يخرج به أيضا القارئ العادي لمشروع الشرق الأوسط الكبير خاصة في نسخته المعدلة، كما تضمنها إعلان دول الثمانية. لكنه بالرجوع إلى أهداف مشروع الشرق الأوسط الكبير وخلفياته ضمن الرؤية الأمريكية للمنطقة العربية والإسلامية، وللدور المحدد لجمعيات المجتمع المدني دعما وحماية، فإن قراءته ستتغير حتما، وهذه بعض الملاحظات حول الوثيقة المذكورة. 1 الوضع الهامشي الذي احتله استمرار الاحتلالان والعدوانان الصهيوني والأمريكي في كل من فلسطين والعراق بل إن الوثيقة قد تبنت الرؤية الأمريكية التي تؤكد على أن العرب >يوظفون القضية الفلسطنية وقضية مكافحة الإرهاب في التنكر لضرورة القيام بإصلاحات سياسية< إذ يقول في الصفحة 3: >نبد أساليب التلاعب بالعواطف الوطنية ومبدإ السيادة للتحلل من الالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان. ولا ينبغي توظيف القضية الفلسطينية ومكافحة الإرهاب لتبرير نهج تقييد الحريات والتنكر للتحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان. كما أن الوثيقة اعتمدت لغة خشبية باردة في إثارة القضية الفلسطينية أبرد وأخشب من لغة مؤتمرات القمة العربية، إذ لم يرد فيه وهي الصادرة عن جمعيات مدنية يفترض أنها تعكس نبض الشارع العربي أية إشارة واضحة إلى تقرير حق الشعب الفلسطيني في المقاومة باعتباره حقا تضمنه الشرائع السماوية والمواثيق الدولية ونفي صفة الإرهاب عن المقاومة الفلسطينية. ولم يكن من الممكن كذلك لأن مطالب الجمعيات المدنية ليست سوى إملاءات أمريكية صيغت بلسان عربي مدني مبين (انظر التقرير ص 10 فقرة القضية الفلسطينية). 2 الدفاع صراحة عن المبادرات الدولية للاصلاح على اعتبار أنها تجد مبررها في الفراغ الناجم عن القمع المنهجي الذي قامت به أغلب الحكومات العربية على مدار نصف قرن لكل مبادرة وبرنامج جاد للاصلاح من الداخل، ذلك القمع الذي تراوح ما بين التهميش والتعتيم على هذه المبادرات أو استضافة أصحابها في السجون أو في المنفي أو في المقابر الفردية أو الجماعية مشيرا إلى أن تلك المبادرات تستند إلى احتياجات حقيقية وملحة للمجتمعات العربية وأن الدول العربية التي قمعت مبادرات الاصلاح هي التي عقدت دوما الصفقات الأمنية مع مختلف الأطراف الدولية دون أن تسأل شعوبها الرأي فيها (ص 1). وإذ كان توصيف المبادرة للأوضاع العربية وانتقادها لها لا خلاف حوله، فإن المسكوت عنه فيها هو الإشارة إلى دور الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الغربية عامة ومسؤوليتها في استدامة التخلف والاستبداد من خلال تحالفها مع أنظمة استبدادية ودعمها طويلا والتصدي لمحاولات اصلاحية مبكرة كتلك التي عرفتها إيران مثلا في تجربة محمد مصدق سنة .1953 3 اعتماد الرؤية الأمريكية القائمة على كونية مبادئ حقوق الإنسان ورفض أي حديث عن الخصوصية، وإذا كان من الطبيعي أن يرفض كل عاقل تذرع بعض الأنظمة العربية بالخصوصية الثقافية المحلية من أجل انتهاك حقوق الإنسان وضرب الحريات وممارسة التعذيب، فإنه من المرفوض أيضا باسم الكونية فرض رؤية ثقافية وحضارية خاصة لمفهوم حقوق الإنسان مثل تلك التي تبيح الشذوذ الجنسي وتتعامل بمعايير مزدوجة مع هذه الحقوق كما تفعل الولاياتالمتحدة التي تريد أن تفرض الاصلاح في المنطقة. 4 ولقد استأثرت موضوعة اصلاح الخطاب الديني بطبيعة الحال باهتمام كبير في وثيقة الاستقلال الثاني ولقد شعر أصحاب المنتدى المدني بالحرج وهم يجدون أنفسهم في هذا المحور مثل غيره صدى للمطالب والاملاءات الأمريكية فبادروا إلى التأكيد على أنه على الرغم من التماس بين مطالبهم ومطالب بعض الدول الكبرى فإن تجديد الخطاب الديني هو ضرورة داخلية عربية وإسلامية عميقة تقول وثيقة >الاستقلال الثاني<: إن أبرز المعوقات أمام تجديد الخطاب الديني في العالم العربي، هو التوظيف السياسي للدين بواسطة الجماعات المتطرفة وبعض الحكومات والأحزاب السياسية لخدمة أهدافها، وكذلك ازدهار دعاوى صراعات الحضارات والثقافات في العالم العربي. (ص 6) وتدعو الوثيقة إلى مراجعة مضامين الخطاب الديني في مناهج التعليم الديني وغير الديني وتطوريهما وتخصيبها بأفكار المجددين الدينيينوالملاحظ أن الوثيقة تربط ضمنيا بين الخطاب الديني في خطاب المساجد والأئمة وفي مناهج التعليم وبين العنف والارهاب والتطرف، سيرا على خطى الرؤية الأمريكية مع العلم أن كثيرا من جماعات الغلو والتطرف وبعض الأفراد الذين كانوا على صلة بعمليات إرهابية لم يتلقوا أفكارهم الدينية التي دفعتهم إلى تلك المواقف من المساجد وفي التعليم الديني الرسمي... إذ لو كان الأمر كذلك لكان خريجو المعاهد الدينية وهم بمئات الألوف إن لم يكونوا بالملايين في العالم الإسلامي ورواد المساجد وهم بالعشرات من الملايين كلهم أو جلهم إرهابيين. والملاحظ أن الوثيقة وهي التي أشارت إلى ازدهار بأفكار صراع الحضارات في العالم العربي والغربي لم تشر إلى خطورة التوجهات اليمينية المسيحية النافذة في الإدارة الأمريكية والتي تدفع بالولاياتالمتحدة وتحرضها على شن غزوة صليبية جديدة على العالم الإسلامي. خلاصة والخلاصة أنه إذا كان الاستعمار في موجهته الأولى قد تولى تحقيق أهدافه بنفسه عن طريق التدخل العسكري المباشر بينما تولت عن الاستعمار الجديد من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية الحرب الباردة القيام بتلك المهمة الأنظمة السياسية التي كانت تدور في فلكه، فإننا في هذه الموجهة الاستعمارية الجديدة نجد قد عاد إلى لغة القوة الخارجية المدعمة داخليا من خلال وكلاء ووسطاء ومحميين جدد. إننا نشهد ولادة طور جديد من الاستعمار انتقل من استعمار الدول إلى استعمار المجتمع المدني. ولذلك، بدل أن يسمي المنتدى المدني وثيقته وثيقة الاستقلال الثاني كان أولى به تسميتها الاستعمار الثالث، استعمار الولاياتالمتحدة للمجتمع المدني. محمد يتيم