برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    الحكومة تعفي استيراد الأبقار والأغنام من الضرائب والرسوم الجمركية    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية        إسرائيل: محكمة لاهاي فقدت "الشرعية"    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط، اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله        بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلاميون و السلطة- الحلقة الثانية
نشر في التجديد يوم 02 - 02 - 2003

قراءة في التجربة التونسية 1981-1991
في الجزء الأول من "قراءة في تجربة الحركة الإسلامية التونسية وعلاقتها بالسلطة في الربع الأخير من القرن الماضي (18 1991) تناول الباحث عبد الحكيم أبو اللوز تجربة الحركات الإسلامية سواء من حيث السلوك السياسي أو من حيث التنظير الفكري، حيث قدم تحليلا لخطاب الحركة الإسلامية بتونس انطلاقا من عقد السبعينيات التي شكلت مرحلة البناء الداخلي للحركة الإسلامية بتونس، لتعقبها مرحلة ولوج المجال السياسي في عقد الثمانينيات والذي عرف مسلسلا من الانفراجات تمثلت في ثلاث مراحل، تطرق الباحث في العدد 275 من التجديد إلى المرحلة الأولى التي تميزت بالتأكيد على الطبيعة السياسية وليست الدينية للحركة، حيث بدلت مجهودها من أجل كسب وضعية قانونية إزاء شروط النظام الخاصة بتأسيس الأحزاب السياسية، وفي هذه الحلقة الأخيرة يعالج عبد الحكيم أبو اللوز المرحلتين الأخيرتين من مسلسل الانفراجات في العلاقات التي جمعت الحركة الإسلامية بتونس متمثلة في حركة النهضة والنظام السياسي التونسي.
تندرج هذه المساهمة في إطار إغناء النقاش حول تجربة الحركات الإسلامية سواء من حيث السلوك السياسي، أو من حيث التنظير الفكري. وقد قمنا باختيار القطر التونسي كمجال للدراسة لاعتبارات موضوعية وعلمية. فمن ناحية، يتبين أن التيار الإسلامي التونسي دخل المجال السياسي بشكل مبكر ، فأقدميته بالنسبة إلى نظرائه في المغرب العربي تماثل أقدمية التيارات المصرية بالنسبة للحركات الإسلامية في البلدان العربية ككل. ومن ناحية أخرى، يرى دارسو هذا التيار بأنه مثل حالة نموذجية في الفترة مابين1981 و 1991، لكونه كان سباقا إلى تجاوز العديد مكن المراحل التي كانت التيارات الأخرى تجهلها إلى عهد قريب، بل أنه تيار غير مسبوق من حيث الطفرة التي حققها على مستوى الممارسة السياسية و الخطاب الفكري الذي أبان عن فاعلية كبيرة في التكيف مع الحقائق المحلية2. لذلك فإن مهمة هذه الدراسة هي تتبع مظاهر هذا التميز من خلال تقييم العلاقات التي جمعت الحركة الإسلامية متمثلة في حركة النهضة والنظام السياسي التونسي.
الفقرة الثانية : توافق 1984 - 1987
إثر الأزمة الاقتصادية الحادة التي عرفتها تونس بسبب قرار الحكومة بالزيادة في أسعار الخبز عام 1984، حاول النظام التونسي تلطيف الأجواء بإعلانه فتح باب التعددية السياسية من جديد، وتحقيق انفراج سياسي كانت من أبرز معالمه إطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين.
وفي سياق التجاوب مع هذه الخطوة، أعلنت الحركة عن رغبتها في إنجاح التجربة الجديدة ونيتها في المشاركة السياسية، وقد عبر الغنوشي عن هذه الرغبة في البرنامج السياسي الذي نشره بمناسبة الذكرى الثالثة لنشأة الحركة قائلا :" إنها فرصة فريدة من نوعها في تونس إذ قامت الحركة - لأول مرة في تاريخها - بالتعبير عن تأييدها بدون تحفظ لمبدأ الديمقراطية، فهي تتعهد بالاعتراف بحكومة نابعة من الانتخابات حتى ولو كانت شيوعية ".
من الناحية التنظيمية بدأ يلاحظ ، الطابع اللامركزي الذي أصبح يطبع الهيكل التنظيمي للحركة بشكل يجعلها بعيدة عن صرامة التنظيم الحزبي، كما لوحظ لا مركزيتها على مستوى التخصص من خلال توزيع المهام بين الأعضاء داخل الحركة، فلا مركزية الحركة وعدم تخصصها هو نتيجة مباشرة لفكرة الفصل المنهجي بين الدين والسياسة التي توجب توزيع المناشط وعدم حصرها في مستويات محددة وجامدة، وبهذا التنظيم تتخذ الحركة وضعية نسق فرعي (Sous systéme) داخل المجتمع، مما يجعلها قادرة على مواجهة متطلبات المرحلة واحتمالات وجود مواجهة قادمة مع النظام.
كما أثرت أجواء التوافق الجديد على خطاب الحركة، فعل إثر حملات التشكيك في نوايا الحركة لقبول العمل الشرعية والقبول بالتعددية التي قادها النظام في الفترة السابقة، وارتكازه على هذه الشكوك لعدم الترخيص لها، جاء خطاب الحركة في هذه الفترة في صيغة ردود على هذه الاتهامات، مركزة هذه المرة على مسألة الاعتراف القانوني والمطالبة به، انطلاقا من التأكيد على دعم الحركة التامة للحرية العامة وقبولها العمل على احترام القوانين الجمهورية، بالإضافة إلى مطالبتها المتكررة إلى سراح المعتقلين السياسيين.
بالمقابل، يفصح عن تراجع الحديث عن الثقافة الإسلامية ومسألة الهوية (10.69%)، فانخراط الحركة في المجال السياسي ومراوحة وضعية قيادتها بين السراح والسجن لم يوفر لها وقت للاهتمام بالمسائل النظرية والإيديولوجية، بالإضافة إلى أن الاهتمام بالثقافة الإسلامية في هذه الفترة لم يعد حكرا على الحركة، بل أصبحت تردده معظم التشكيلات السياسية بما في ذلك الحزب الحاكم.
كما لم تعد الإشارة إلى الدولة الإسلامية كأولوية من أولويات الحركة تتردد كثيرا، مما يمكن معه اعتبار سنة 1984 بمثابة السنة التي سجل فيها الخطاب الإسلامي التونسي قطيعة مع المرجعية الإخوانية ومع مفاهيم الثورة الإيرانية، ليصل إلى درجة عالية من التكيف مع الخصوصيات المحلية، حيث يمكن الحديث في هذه الفترة عن نسخة تونسية حقيقية للحركة.
وفي مقابل تراجع الكتابات الإيديولوجية، اكتفت الحركة بإصدار العديد من البيانات المؤكدة على تجاوبها مع رغبة النظام في الانفتاح على التنظيمات السياسية، وقبولها الصريح للديموقراطية وحق التعبير والتنظيم لجميع الأحزاب، رغم ما قد يكون بينها وبين الحركة من خلافات إيديولوجية.
من الناحية العملية، بدت مؤشرات التوافق واضحة عندما استقبل محمد مزالي الوزير الأول الأسبق قيادة الحركة، وظهر أن فرص تمتيع هذه الأخيرة بالترخيص القانوني أصبحت كبيرة، فالنظام اعترف بالقوة الفريدة المتوفرة لدى الحركة على المقاومة، وبأن وجودها أصبح واقعا لا مفر منه، على عكس الموقف السابق الذي لم يكن يرى في الحركة إلا " عنصرا هامشيا في الاضطرابات الاجتماعية"، فالحركة أصبحت - رغم جميع أشكال القمع - تيارا سياسيا لا يمكن تجاهله، كما ازداد اقتناع النظام بأن الاستمرار في طريق المواجهة إنما يقوم بدفع المناضلين إلى قدر أكبر من الراديكالية، ويزيد من قدرة هذا النشاط على إثارة القلق.
لكن النخب استمرت في تقديم الاتجاه الإسلامي في صورة الخطر الأول للنظام، مما دفع هذا الأخير، إلى رفض طلب الترخيص له، معتبرا أن " هناك حزبا (يقصد حزب التجمع الدستوري) له شرعيته وتاريخه، فإذا أراد الإسلاميون المساهمة فيه فهناك وسائل للتوصل إلى ذلك، أما إذا أرادوا أن يحلو محله، فلن يحدث ذلك في القريب العاجل"27.
ورغم هذا الرفض الضمني لطلب الترخيص، استمرت الحركة في العمل السياسي بشكل غير رسمي، كما استمرت بياناتها في الصدور دون أن تواجه باعتقالات من طرف النظام، الشيء الذي وفر للحركة فرصة لتحقيق طفرات في مجال الإستراتيجيا والتكتيك، فالحرية النسبية التي تمتعت بها سمحت لها باختبار مسلماتها وخياراتها العملية لمواجهة متطلبات النشاط الشرعي الذي ظل محتملا طيلة الفترة الممتدة من 1984 إلى 1987.
فمن بين أوجه العمل السياسي الذي قامت به الحركة، نذكر المظاهر التالية :
- مفاوضات مع النظام حول إمكانيات العمل السياسي وحول إطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين.
- عقد العديد من المؤتمرات الخاصة بالحركة.
- المطالبة بإجراء حوار قومي حول قانون الأحوال الشخصية.
- تحالفات مع المعارضة الشرعية كانت أبرز معالمه إعلان المقاطعة الجماعية للانتخابات التشريعية التي جرت في سنة 1986.
وقد أبدت الحركة طيلة هذه المرحلة مرونة كبيرة إزاء التماطل الذي أبداه النظام بخصوص الاعتراف الرسمي بها، فرغم ما حققته الحركة من نجاحات على مستوى امتدادها الاجتماعي، فإن قيادتها أبدت تقديرات معقولة للوضع السياسي القائم، خصوصا في ما يتعلق بعلاقة الحركة بالسلطة السياسية والنخب المرتبطة بها، حيث حذر الغنوشي من التقدير الخاطئ لقوة النظام وقدرته على المواجهة قائلا : " لابد أن يدرك الإسلاميون أنه رغم ما حققته الحركة الإسلامية من نجاحات، فإن موازين القوى ليست لصالحهم، بل هي لصالح النظام والقوى العلمانية، وهنا ينبغي الوعي بأن الانفراد بالحكم قد لا يكون للحركة الإسلامية طائلة به، وقد يكون الأمثل طالما ظلت موازين القوى على ما هي عليه، المشاركة في الحكم والسعي إلى المحافظة على المواقع التي ظلت إليها الحركة ...". ويمكن القول أنه رغم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية واتساع وتيرة المظاهرات الاحتجاجية، فإن الحركة كانت واعية بأن أي نزوع نحو استغلال جو الانفراج لتعميق هذا الوضع قد يكون بالنسبة لها " هدية مسمومة ".
من جهة أخرى، ونظرا لانخراط الحركة بقوة في العمل السياسي، وتأثرها بالتفاعلات السريعة التي شهدها المجال السياسي التونسي، فإن قيادة الحركة لم تعط اهتمام كبيرا لتأسيس مبادراتها للتوافق مع النظام على قاعدة نظرية، فالتوافق مع قوى تعتبر في منطق الخطاب الإسلامي "علمانية ودنيوية"، كان شيئا جديدا على الساحة الإسلامية، واعتبارا للعداء الإيديولوجي الذي اتسمت به العلاقة بين الاتجاهات الإسلامية والتيارات العلمانية، كان على الخطاب الإسلامي التونسي- وهو يعبر عن رغبته في الانفتاح على هذه القوى- أن يجد للتوافق تبريرا نظريا من داخل مرجعياته الإسلامية، أي أن يؤسسه على قاعدة دينية، وهو ما لم يتحقق إلى حدود هذه الفترة.
هكذا ظلت جميع التعبيرات عن ضرورة المصالحة الوطنية والقبول بالتدرج الديموقراطي في هذه الفترة مجرد إعلانات سياسية وبيانات وتصريحات صحفية يعوزها التأسيس النظري والتبرير الإيديولوجي، مما ينبئ على أن الرغبة في التوافق لم تكن إلا مبادرة مؤقتة هدفت من خلالها الحركة إلى بناء جبهة وطنية قادرة على منافسة النظام وتكريس عزلته.مما يسمح بالقول أن قيادة الحركة تبنت مفهوما للتوافق يكون معه هذا الأخير نمطا مرنا يقوم على المصالحة بين الآراء على اختلافها، في محاولة لكسب المواقع والانتشار الإيديولوجي.
هذا الموقف من التوافق حكم أيضا مبادرات النظام ، ذلك أن الإعلان عن فتح باب التعددية لم يكن يعبر عن إدارة للسير بخيار التوافق إلى حدوده المنطقية، وإنما السماح فقط بهامش من المشاركة في المؤسسات التمثيلية للأحزاب المعترف به، وتوفير هامش من العمل السياسي بالنسبة للحركة الإسلامية يسمح للنظام بمتابعة تطورها عن قرب، وتمنحه فرصة لتقييم النتائج التي قد تترتب عن إضفاء طابع الشرعية عليها.
وبعد ثلاث سنوات من الانفراج، والتي خلقتها مبادرة النظام في عام 1984، وعلى إثر أعمال عنف شهدتها البلاد،قامت السلطة بحملة اعتقالات واسعة في صفوف الحركة، حكم على إثرها على قادة الاتجاه الإسلامي بالإعدام، فكان ذلك نهاية المرحلة الثانية من التوافق، وبداية تقاطب حاد بين الحركة والنظام السياسي.
الفقرة الثالثة : توافق 1988-1991
بدأت المرحلة الثالثة من التوافق بين الحركة الإسلامية وبين النظام السياسي بعد التغيير الذي طرأ على مستوى هرم السلطة، بإعفاء بورقيبة من مهامه كرئيس للجمهورية، وتولي زين العابدين في 7 نونبر 1987.
فبعد تسلمه للسلطة، أصدر الرئيس الجديد مجموعة من البيانات أعلن من خلالها رغبته في إقرار مصالحة جديدة مع مختلف الهيئات السياسية وعلى الخصوص مع الحركة الإسلامية، حيث كانت مبادرته تهدف إلى تخفيف التقاطب بينه وبين الحركة عبر مجموعة من الإجراءات منها :
- معاودة الارتباط بالمجال الدلالي التقليدي بطريقة ترضي الإسلام السياسي.
- تعديلات دستورية تسير في اتجاه إعلاء سيادة القانون وإقرار تعدد الأحزاب ومشروعيتها التي لا تقبل المناقشة.
- إطلاق سراح حوالي 600 سجين عضو في حركة الاتجاه الإسلامي.
- إصدار ميثاق وطني باشتراك مختلف الفاعلين ينص على دعم الديموقراطية والهوية العربية والإسلامية لتونس، ويعتبر التعريب مطلبا حضاريا، ويلزم الدولة باحترام القيم الإسلامية.
وعلى الرغم من أن الاتجاه الإسلامي لم يكن طرفا في إعداد الميثاق، فقد جاءت بياناته مؤكدة على تضامنه المطلق ومساندته لمحتوياته، كما تعهدت قيادته بالعمل من أجل إقرار "المصالحة الوطنية عبر وفاق يحدده الميثاق الوطني، من أجل تعميق الهوية العربية الإسلامية والتعددية الديموقراطية واحترام مبادئ حقوق الإنسان " . وفي بيان آخر، أعلنت الحركة عن " استعدادها للإسهام في كل خطوة تقدم المبادئ والأهداف المحققة للوفاق الوطني ".
وردا على البيان الذي أصدره رئيس الجمهورية بعد تسمله للسلطة، اعتبر زعيم الحركة أن تغيير 7 نونبر " وفر لتونس فرصة لأن تتحول من حكم مهترئ طاغوتي إلى حكم يبشر بالديمقراطية، ذلك أن الإعلان تضمن جملة من القيم والأهداف التي ناضلت من أجلها الحركة الوطنية بمختلف مكوناتها ... فمهمتنا إذن في هذه الفترة هي دعم التحول، وتحويل الشعارات المعلنة إلى واقع معيش، وهذا الأمر يحتاج إلى نضال وتفاعل رشيد حتى لا ينعكس الوضع، ونجد أنفسنا أمام وضع كالذي عشناه في السنوات المنصرمة "، فعلى الحركة الإسلامية إذن " أن تعترف بهذه الحكومة، وأن تعترف الحكومة بالحركات الأخرى المخالفة لها حتى ينتهي نفي الآخر، لأن نفي الآخرين هو نفي للذات، ثم نفي للوطن في النهاية ".
ودائما في سياق التجاوب مع النظام السياسي، أعلن الغنوشي امتناع حركته عن المشاركة في الحكم حتى ولو استطاعت الحصول على الأغلبية في الانتخابات المقبلة ،حتى لا يعيق مجهود بن علي في إنجاح عملية الاندماج، ذلك أن " الانتقال من مجتمع استبدادي إنفرادي إلى مجتمع ديموقراطي شوري بمضمون إسلامي ليست عملية سهلة، وإنما عملية تحتاج إلى نضال ناصب ومجاهدات كبيرة ولا شك ".
فبعد الأجواء المشحونة التي خلقتها اعتقالات 1987، وبفعل تفاعلها مع الأحداث اللاحقة، أخذت الحركة تغير إستراتيجيتها من جديد، فإذا كان التوافق المعبر عنه سابقا يهدف إلى جمع شروط الاستعصاء وتكريس عزلة النظام، فإن الخطة الجديدة أخذت طابعا إيجابيا، حيث استبدل شعار الاستعصاء بشعار جديد هو " استجماع الشروط من أجل فرض الحريات "، وذلك عن طريق استعمال مختلف الإمكانيات التي وفرها التغيير في هرم السلطة واستغلال الهامش من الحرية الذي توفر من أجل مواصلة الانتشار الإيديولوجي والتعبئة الجماهيرية.
وفي إطار التكيف مع المناخ الجديد ومع الشروط القانونية التي تطلبها النظام من أجل السماح للأحزاب بالعمل القانوني - خصوصا ما يتعلق بعدم الاستناد إلى الدين باعتباره من مكونات الهوية الوطنية -، أقدمت الحركة على تغيير إسمها، فأصبحت تحمل إسم " النهضة الإسلامية"، تأكيدا على كونها امتدادا للتقليد الإصلاحي الذي عرفته تونس مع خير الدين التونسي والثعالبي والطاهر الحداد.. وهي نفس الأصول التي يحيل عليها النظام السياسي.كما أعلن البيان الصادر بهذه المناسبة عن دعم حركة النهضة للنظام الجمهوري وأسسه، وصيانتها للمجتمع المدني تحقيقا لسيادة الشعب وتكريسا للشورى.
بتتبع النقاش السياسي الذي دار في هذه الفترة، كان موضوع المرأة أحد أبرز محاور هذا النقاش، حيث أعلن الرئيس الجديد تبنيه لمجلة الأحوال الشخصية التي كان معمولا بها من قبل، وقد صرح بهذا الخصوص : " لن نعيد النظر فيما حققته تونس لصالح المرأة ولن نتخلى عنه، إن قانون الأحوال الشخصية إنجاز نرى ضرورة التمسك به والالتزام به، إننا نفخر به ونستمد منه زهوا حقيقيا". ولم يتأخر رد الحركة على هذا الخطاب، حيث أعلنت على لسان زعيمها : " أن المدونة تشكل بشكل عام إطارا ملائما لتنظيم العلاقات العائلية ".
وهنا نلمس انعطافا حادا للخطاب الإسلامي بشأن هذه المسألة، فقد غير الغنوشي رأيه بشأن القانون المحجر لتعدد الزوجات تغييرا بينا، فبعد أن كان يدعو إلى إجراء حوار قومي بصدد المدونة، مما كان ينم عن معارضته لفلسفتها العامة وبالتالي لمضامينها القانونية، أصبح يعتبرها تأويلا ممكنا للنصوص القرآنية. وإذا أضفنا إلى هذا العامل اعتبار أن الغنوشي وإلى حدود عام 1991 لم يوضح على أية قاعدة نظرية مارس من خلالها هذا التأويل، فإن ذلك يدفعنا إلى الاستنتاج بأن التأويل الجديد ما هو إلا حصيلة التغيير السياسي للسابع من نونبر، و بالتالي فهو موقف ينطوي على إخضاع ما هو ديني لما هو سياسي، في غياب أي تأصيل نظري لم تتوفر للقيادة فرصة للقيام به، نظرا لانخراطها الكبير في الممارسة السياسية.
من الناحية العملية، فإنه على الرغم من البيانات المتكررة التي هدفت من خلالها الحركة إلى وضع نفسها في وضع شرعي إزاء القوانين المنظمة للتعددية، فقد أقصيت من حركة الاعتراف بالأحزاب التي شهدتها هذه الفترة، الشيء الذي دفعها إلى المشاركة في الانتخابات التشريعية التي جرت في 1989 بمرشحين مستقلين، حيث أظهرت النتائج الرسمية أن الحركة هي القوة الثانية بعد حزب الرئيس.
لقد كانت نتائج الانتخابات مفاجئة بالنسبة للسلطة والأحزاب اليسار، فعلى عكس أجواء التوافق التي سادت فترة ما قبل الإنتخابات، أصبحت العلاقة بين الحركة الإسلامية وبين الفاعلين السياسيين تتجه شيئا فشيئا نحو التقاطب، بل وحتى قبل إجراء الانتخابات وخلف الإعلانات الصادرة، كانت هناك حرب بين الاتجاهات.
فبالنسبة لأحزاب اليسار،كانت دائما تشكك في نوايا النهضة، وتجتهد في إخراج تناقضات خطاب قيادتها، فالقبول بالتعددية وشعارات المصالحة التي أطلقتها الحركة لم تكن بالنسبة إليها سوى نوايا تكتيكية، فاليسار كان دائما ينظر إلى الإسلاميين ليس فقط كخطاب معارض، وإنما كقوة يمكن أن تحصد نتائج سنوات كثيرة من النضال خاضها اليسار ضد السلطوية البورقيبية، وهو الشيء الذي ترجمه عمليا تراجعهم أمام الإسلاميين في الجامعات والنقابات.
أما بالنسبة للسلطة، رفضت الاعتراف بالنهضة كحزب سياسي بحجة أن زعمائها لا زالوا تحت طائلة الأحكام التي أصدرتها في حقهم محكمة أمن الدولة في عام 1987، وبحجة خلو مشروعهم من أي توضيح بشأن العديد من المسائل الحضارية الأساسية، وعدم تعهدهم باحترام مساواة المواطنين والمواطنات في الحقوق والواجبات ....
وباستناده إلى هذه المبررات لرفض طلب الترخيص القانوني الذي تقدمت به حركة النهضة، يكون النظام قد اقتنع بمخاوف كلا الاتجاهين الليبرالي واليساري، وبدا بعد كل أشكال التنازلات وأشكال التكيف السياسي على مدى عقد الثمانينيات، أن النسق السياسي عاجز على خلق قاعدة من الإجماع والفاعلية، فظل الفارق محسوسا بين خطاب سياسي منفتح نسبيا، وبين هياكل النظام السياسي الذي استمر في تبني النموذج الاحتكاري للحكم مما، يدل على أن ساعة المشاركة السياسية لم تحن بعد.
وفي نهاية هذا المطلب، نخلص إلى أن مسار الخطاب السياسي للحركة وقيادتها طيلة الفترة الممتدة بين 1981و 1991، لم يكن مسارا تصاعديا يخضع لقناعات ثابتة تدعم وتطور في كل فترة، وإنما كان متأرجحا يخضع لتكوين العناصر العليا والتحولات السياسية التي يعيشها التيار في علاقته مع النظام السياسي، مما أدى إلى تخضم العبد السياسي للخطاب من خلال :
- سيطرة لغة البيانات والتصريحات الصحفية الصادرة من القيادة على حساب الكتابات الإيديولوجية.
- الغايات التي كان يطمح الخطاب إلى تحقيقها كانت ذات طبيعة سياسية ( المطالبة بالاعتراف - دعم الحريات العامة - إنجاح الانتقال الديموقراطي ...)، على حسب الانحصار التدريجي للغايات الدينية ( إقامة الدولة الإسلامية - الأممية الإسلامية - مسألة الهوية ...).
تأسيسا على الملاحظة الأخيرة، وفي ما يخص تفاعل السياسي بالديني في متن الخطاب، نلاحظ الاتساع التدريجي للنزعة البراغماتية في أفكار قيادة الحركة، فسابقا كانت تنتقد النظام على خلفية استيراد النموذج الغربي في الحكم الذي يفصل في نظرها بين الدين والسياسة، وتنادي في المقابل بإدخال البعد الإسلامي، والاعتراف به كمكون من مكونات الهوية الوطنية. وفي مرحلة تالية، وبعد انخراط الحركة في الممارسة السياسية وقبولها شروط النظام السياسي، أصبحت تناور بالأدوات التنظيمية والمفاهيم الحديثة التي كانت من احتكار النظام الأحزاب اليسارية، فقبول الحركة بهذه الأرضية وغياب محاولة تنظيرية للتأسيس لها انطلاقا من الأسس العقائدية والأصولية للحركة، إنما هو قبول بوجود مجال سياسي مختلف في مكوناته ومفاهيمه عن مجال الدين، بل الأكثر من ذلك، فإن المناورة لبعض الشؤون المتصلة بالقضايا العقدية (مدونة الأحوال الشخصية مثلا) في الممارسة السياسية، إنما هو إخضاع ما هو ديني لما هو سياسي.
هذه الخلاصة تؤكد الملاحظة التي سبق أن خرج بها الباحث أوليفيه روا Olivier Roy)) في دراسة لأفغانستان، حيث خلص إلى أنه "رغم رفض المفاهيم الأساسية الغربية عبر رفض التوفيقية التي ميزت بعض إصلاحيي القرن الماضي، فالرجوع إلى هذه المفاهيم يخلق فضاءا سياسيا جديدا ومستقلا، وعلينا أن نتذكر أن مساهمة الفكر الغربي لم تكن مفاهيمية، بقدر ما كانت في وضع فضاء جديد للسياسي يكون فيه مستقلا عن جميع المجالات الاجتماعية الأخرى " .
وبعيدا على تفسير انعطافات الخطاب واختلاف علاقة السياسي بالديني داخله بكونها مناورة، نقول بأن الشروط السياسية التي حكمت الحركة الإسلامية بغيرها من الفاعلين السياسيين في هذه المرحلة هي التي تفسر ورود الخطاب بالشكل الذي أوضحناه، فخطاب الحركة بكل متناقضاته، ما هو إلا نتاج لتناقضات واستراتيجيات باقي الفاعلين داخل الحقل السياسي التونسي. فما هي الإستراتيجيات التي وضعتها الحركة لتدبير ما بعد فترة القطيعة مع النظام؟ ذلك هو موضوع المساهمة المقبلة إن شاء الله
عبد الحكيم أبواللوز
باحث بجامعة الحسن الثاني
الدار البيضاء


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.