الديموقراطية والثقافة تعرف الديموقراطية في العموم على أنها حكم الشعب، سواء بطريقة مباشرة أو عن طريق التفويض، كما هو الشأن في الديمقراطيات النيابية أو التمثيلية، وفي كلتا الحالتين، فإن الشرعية، أي شرعية الحكم، وكون الحكام يمثلون الإرادة الشعبية ويعبرون عنها يعتبر جوهر الديمقراطية. وقد خاضت الإنسانية من أجل تطبيق هذا الجوهر الأصيل للديمقراطية عدة تجارب، كما اعتمدت عدة أنظمة ومؤسسات وآليات، منها الانتخاب والاستفتاء والفصل بين السلط وغير ذلك، ولذلك طورت التجربة الإنسانية عدة نماذج من الديمقراطية، ولا تزال تطور الممارسة الديمقراطية وتبدع في مجال ضمان المشاركة الشعبية وبناء شرعية ممارسة السلطة. لكن في كل الأحوال، فإن الديمقراطية قبل أن تكون بناء لمؤسسات واعتمادا لآليات، وقبل أن تكون مجموعة من القيم، قائمة على مفهوم السيادة الشعبية وشرعية السلطة، فهي ثقافة وسلوك، وذلك يعني أن إقامة الديمقراطية في مجتمع ما لا يتأتى ما لم تتحول الديموقراطية إلى ثقافة، أي إلى تغيير يقع أيضا داخل الإنسان نفسه وعلاقاته بمحيطه الاجتماعي، بدءا من الأسرة ومرورا بشتى المؤسسات الاجتماعية الصغيرة أو الكبيرة التي تنتظم داخلها نشاطاته وانتهاء بعلاقة الحكام بالمحكومين. وذلك يطرح علاقة الديمقراطية بالثقافة، أي بثقافة المجتمعات التي يراد أن تستنبت فيها الديمقراطية. وهذه العلاقة أكيدة وواضحة بالنظر إلى ما أشرنا إليه من أن حركية المصطلحات وانتقالها من مجال اجتماعي وثقافي إلى مجال اجتماعي وثقافي آخر تفرض تبيئة لتلك المصطلحات وتعطيها دلالات إضافية وجديدة، كما تفرض استيعابا وتلاؤما، أي إعادة صياغة جديدة لمدلول المصطلح ومضامينه، وبشكل يتأتى معه استيعابه وتحويله إلى جزء لا يتجزأ من الذات الاجتماعية، وهو ما سميناه سابقا بعملية التكيف. وهي ضرورية بالنظر إلى أن الديمقراطية ليست بضاعة يتم استيرادها، بل هي تجربة اجتماعية وإنسانية، مما يعني أنه بإمكان كل مجتمع أن يضيف إليها من حكمته وإبداعه التاريخيين ، فلا يصبح الإشكال هو: هل نقبل بالديمقراطية مفهوما ومصطلحا، بل هو ماذا يمكن أن نقدم نحن المسلمين للديمقراطية، وكيف يمكن أن تغنيها ونضيف إليها. تتجاوز إذن مسألة الجدل المصطلحي حول الديموقراطية ومدى شرعية استعارة هذا المفهوم في اتجاه مصادرته مصادرة تضفي عليه بعدا إنسانيا حقيقيا. وبالمناسبة فقد كان الإسلام، سواء كنص منزل أو كحضارة، يتعامل من منطق القوة مع المصطلحات، ويوظفها دون توجس أو تخوف، بعد أن يجردها من ملابساتها الزمنية أو التاريخية الخاصة، كي يحتفظ فيها بالكوني المشترك، ويضيف إليها أبعادا جديدة. نجد هذه الاستعارة المصطلحية واضحة في القرآن الكريم حيث استعار مجموعة من المصطلحات الفارسية، ونجدها في السنة النبوية، حيث استعارت مجموعة من الشعارات والمبادئ التي كانت سائدة في الجاهلية، بعد أن قامت بإفراغها من محتوياتها الجاهلية وشحنها بمعان ودلالات جديدة تتناسب مع رؤية الإسلام العقدية والخلقية، مثل الشعار الجاهلي الذي كان سائدا: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم كيف ننصره ظالما أجاب: تحجزه عن ظلمه، كما استعار المسلمون واستفادوا من التقنيات الحربية التي كانت سائدة عند الأمم السابقة، مثل تقنية حفر الخنادق واستعاروا في عصر عمر نظام الدواوين... في هذا الأفق نتساءل عن وجود ثقافي ممكن للديموقراطية في الإسلام، فهل توفر منظومة القيم الإسلامية إمكانية وجود نزوع ديموقراطي في الإسلام؟ من أجل الإجابة على هذا السؤال، يؤكد مالك بن نبي على ضرورة تجاوز التعريف القاموسي البسيط لمفهوم الديموقراطية. إننا حينما ننطلق من مثل هذا التعريف المختزل لمفهوم ثري بالدلالات سننتهي إلى مناقصة تجعل الديموقراطية حكما للشعب، أي تقريرا لسلطة الإنسان، بينما الإسلام استسلام لله، أي تأكيد لسلطة الله. إن تعريف الديموقراطية في هذه الشاكلة مرتبط بتقاليد الثورة الفرنسية ومن إنتاجاتها اللغوية. ومن هنا يدعو مالك بن نبي إلى إعادة تحديد المفهوم في إطار عام يبتعد به عن أي ربط مسبق بأي مفهوم آخر كالإسلام أو ربط هذا المصطلح بدلالاته القاموسية البسيطة التي تحددت مع الثورة الفرنسية. يقول مالك بن نبي: "يجب أن ننظر إلى الديموقراطية من ثلاثة وجوه: 1 الديموقراطية بوصفها شعورا نحو الأنا. 2 الديموقراطية بوصفها شعورا نحو الآخرين. 3 الديموقراطية بوصفها مجموعة من الشروط السياسية والاجتماعية الضرورية لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد. فهذه الشروط الثلاثة تتضمن بالفعل مقتضيات الديموقراطية الذاتية والموضوعية، أي كل الاستعدادات النفسية التي ينبني عليها الشعور الديموقراطي، والعدة التي يستند عليها النظام الديموقراطي في المجتمع، فلا يمكن أن تتحقق الديموقراطية واقعا سياسيا إن لم تكن شروطها متوافرة في بناء الشخصية وفي العادات والتقاليد القائمة" .1 الديموقراطية إذن ليست مؤسسات أو دساتير، ولكنها استعداد نفسي وتربوي، وهي شعور لا يتحقق فقط بتغيير العلاقات تغييرا فوقيا، ولا هو شعور معطى بشكل قبلي، ولا هو معطيات النظام الطبيعي كما تقول الفلسفة الرومانسية في عهد جان جاك روسو. إنه خلاصة ثقافة معين وتتويج لحركة الإنسانيات وتقدير جديد لقيمة الإنسان: تقديره لنفسه وللآخرين. فالشعور الديموقراطي هو نتيجة لهذه الحركة عبر القرون، ولهذا التقدير المزدوج للإنسان" .2 ينبغي أن نبحث عن الديموقراطية أولا وقبل كل شيء داخل الإنسان، فقبل أن يولد الإنسان الحر وقبل أن تعاد صياغته صياغة جديدة تصفيه من نفسيتين متناقضتين للشعور الديموقراطي، وهما نفسية العبد ونفسية الاستعباد، فلا مجال للحديث عن الديموقراطية. وبالنسبة لأوروبا، فقد تكون هذا الشعور ببطء قبل أن يتفجر في التصريح بحقوق الإنسان والمواطن ذلك التصريح الذي يعبر عن التقويم الجديد للإنسان".3 ومن هنا، فإن كل مشروع يهدف إلى تأسيس ديموقراطية في أمة من الأمم ينبغي أن يكون مشروع تثقيف في نطاق أمة بكاملها، وعلى منهج شامل يشمل الجانب النفسي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي... إن الديموقراطية ليست مجرد عملية سياسية ولا هي عملية تسليم سلطات إلى الجماهير وإلى شعب يصرح بسيادته نص خاص في الدستور. فهذا النص يمكن أن لا يوجد أو يلغى من طرف جبار مستبد وتبقى الديموقراطية قائمة باعتبارها شعورا وتقاليد. إن الديموقراطية إذن شعور وانفعالات ومقاييس ذاتية واجتماعية تشكل في مجموعها الأسس التي تقوم عليها الديموقراطية في ضمير شعب قبل أن ينص عليها دستور. فالدستور ليس إلا النتيجة الشكلية للمشروع الديموقراطي، حينما يصبح واقعا سياسيا يدل عليه نص توحي به عادات وتقاليد... ومن هنا تبدو تفاهة بعض الاستعارات الدستورية التي تقوم بها بعض البلاد المتخلفة التي تريد إنشاء وضع ديموقراطي بالقياس على الدول ذات التقاليد الديموقراطية العريقة" .4 لتجاوز التعارض الذي يثيره التقابل بين الإسلام ومفهوم الديموقراطية حينما ترجع إلى مدلولها القاموسي البسيط، ينبغي، حسب مالك بن نبي، أن نرجع المسألة إلى العناصر الثلاثة المذكورة، أي إلى الشروط العامة لوجود الشعور الديموقراطي في أي بيئة، ومن هنا يصبح السؤال على الشكل التالي: هل الإسلام يتضمن ويكفل هذه الشروط الذاتية والموضوعية، أي هل يكون نحو (الأنا) ونحو (الآخرين) الشعور الذي يطابق الروح الديموقراطية كما بينا، وهل يخلق الظروف الاجتماعية المناسبة لتنمية هذا الشعور؟ وهل يخفف الإسلام حقيقة من كمية وحدة الدوافع السلبية والنزاعات المنافية للشعور الديموقراطي التي تطبع سلوك العبد وسلوك المستعبد؟" 1 مالك بن نبي، تأملات ص ,68 دار الفكر المعاصر ط .1991 ,5 2 نفسه ص .69 3 نفسه ص .69 4 نفسه ص 74 75 بتصرف. 5 نفسه ص .74 الديموقراطية والثقافة (2) الأساس العقدي للديمقراطية في الإسلام المؤمن من إحدى النزعات السلبية المنافية للشعور الديمقراطي، وهي استمراء العبودية والرضى بها، في حين أن العبودية في الإسلام لا تجب إلا لله (4) يقول تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوا غفورا) (سورة النساء 96 97 98). ووجب الوقوف في هذا السياق عند دلالة التأكيد على وجوب الشورى في مجتمع يوجهه الوحي الإلهي وتوجد فيه النبوة. إن أول ما قد يتبادر إلى الذهن أن عقيدة الإيمان بالكتب والرسل ووجود الرسول ذاته بين ظهراني المجتمع يقتضي تغييبا للإنسان واستبعادا لرأيه واكتفاءه بالتلقي الجاهز العاجز أمام قدسية ما يتنزل من السماء وقدسية الرسول الذي يمشي بين الناس في الأرض. ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم بهيبته ونبوته وعصمة خلقه وسلوكه قد دعي إلى ممارسة الشورى، مع أنه لو أمسك عن ذلك لبلغ في ذلك مبلغا من العدل لن يبلغه أي مستبد عادل. الأساس الأخلاقي للديمقراطية هذا على المستوى العقدي، أما على المستوى الأخلاقي، فإننا نجد أن الحرص على مبادرة الإنسان وأخذ رأيه باعتبارهما مظهرا من مظاهر الديمقراطية متأصلا داخل النسيج الأخلاقي للأمة الإسلامية أيضا. فالقرآن الكريم وهو يتعهد الجماعة الأولى بالتوجيه ويرسم مواصفات الجماعة المؤمنة الصالحة ويحدد صفاتها الخلقية أدرج صفة الشورى إلى جانب غيرها من الصفات النفسية والسلوكية والأخلاقية. يقول تعالى: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون، والدين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) (سورة الشورى آيات 33 34 35 36) وصيغة هذا النص المكي تؤكد أن الشورى صفة تصبغ الحياة الإسلامية كلها بصبغتها. فهي طابع للجماعة المسلمة في جميع أحوالها أي حتى في الحالة التي لا تكون فيها الدولة الإسلامية قائمة. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤكد على هذا الخلق بسلوكه، فكان أكثر الناس مشورة لصحابته، كما كان يؤكد على العمل به في كل كبيرة أو صغيرة بقوله: (ما خاب من استخار وما ندم من استشار)، وظلال هذا الخلق ومعانيه حاضرة حتى في السلوك التعبدي. إن صلاة الفرد مثلا "تسلك تلقائيا في صلاة الجماعة الذين يقومون بنظام مشترك موزون يقدمون إماما يتراضون عليه، فلا يؤم الناس إمام وهم له كارهون، ومن أمهم على نهج مقرر حتى إذا زل عليه كان على المأمومين أن يذكروه فيقوموه، ولهم عليه أن يصلي بهم مراعيا من التواضع والرفق ما يراعي مثله من يسوس حكومة الناس (...) فعلاقة الراعي والرعية في السياسة تتسق مع علاقة الإمامة والمأمومية في الصلاة وعلاقات التناصح والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر في علاقة المجتمع كافة" (5) الأساس التشريعي للديمقراطية ويطول بنا الحديث لو ذهبنا نتتبع على المستوى التشريعي ما أقره الإسلام في مجالات التعامل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ففي مجال البيوع مثلا أقر الإسلام مبدأ التراضي والمشاركة، فالبيعان بالخيار ما لم يتفرقا، وأموال الناس لا يحل أكلها تدليسا أو غررا. والأولوية التي أعطاها الإسلام لمحاصرة الاسترقاق داخل المجتمع الإسلامي، وما سنه من التشريعات وما قرره من آداب التعامل مع المملوك، كل ذلك يكشف عن ذلك الروح التحرري الذي جاء به الإسلام وسن له من التشريعات ما يحفظه ويصونه. وهي التشريعات التي أقرت الحريات المعنوية وعلى رأسها حرية الاعتقاد وحرية التعبير، وهي الحرية التي تجد تجسيدها الأمثل في نماذج من الاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يمنع الصحابة من ذلك جلال النبوة والاعتراض على الخلفاء الراشدين من أبسط فرد في الرعية دون أن يحول بينهم وبين ذلك مقام السابقية. (6) إن هذا كله يبرز أنه إذا كان لأمة أن تفتخر بعناية مصادرها بتكريم الإنسان والعناية بحقوقه فهي الأمة الإسلامية. الروح الديمقراطي بين المبدأ والتاريخ يتضمن الإسلام إذن بنية عقدية وأخلاقية وتشريعية لازمة لقيام ديمقراطية حقيقية، وذلك لأنه يضع داخل الفرد نفسه الشروط اللازمة التي يمكن أن تقوم عليها مؤسسة تقيم قيم الديمقراطية الحق في الواقع، هذه الشروط التي تتلخص في تحرير الإنسان من نزعتين نفسيتين سلبيتين هما: القابلية للعبودية، والقابلية للاستعباد، ولا تستطيع أي فكرة أو عقيدة أن تبلغ ما يبلغه الإسلام من حيث هو منهج تربوي إلهي في الارتقاء بالإنسان وتحريره إلى أقصى درجة ممكنة من تلك النزعتين، ولعل هذا هو ما يميز بين تغيير ديمقراطي ذي بعد حضاري وتغيير ديمقراطي ذي بعد انقلابي كما سنبين عند التعرض للتجربة الديمقراطية الغربية ولا عبرة هنا بما قد يثار من اعتراضات واحتجاج بالواقع التاريخي للمسلمين أو بواقعهم الحالي الذي يؤكد لمتأمله أن تجربة المسلمين ليست الآن ولم تكن دوما تجربة مثالية: فقد عرف التاريخ الإسلامي وما يزال نماذج من الاستبداد السياسي والاجتماعي. فالمسلمون حكاما ومحكومين لم يقووا على التزام التجربة الإسلامية الفريدة كما جسدها العهد الراشدي، ولم يثبتوا على ذلك المستوى المثالي من العدل. فاللحظة التاريخية والحضارية، والوضع الفكري والاجتماعي والعرف الدولي الذي كان محيطا بالأمة: كل ذلك كان متخلفا عن تلك التجربة الفريدة. ومن ثم لم يكن للمسلمين بد من التأثر بمحيطهم وقبل ذلك ببشريتهم. فسرعان ما سيرجعون للملك العاض، وهو نموذج حكم لم يكن مستنكرا في ظروفهم ولحظتهم. غير أن هذا التحول لم يمح آثار المشروع الديمقراطي الإسلامي، إذ استمر فعله في الواقع الإسلامي. فالقيم الإسلامية المؤسسة لذلك المشروع في نفسية الفرد وشعوره ظلت تعمل كفرامل تمنع من الانسياق وراء التفسخ الفردي والاستبداد السياسي إلى أقصى درجاته وأبشع حدوده. يقول مالك بن نبي: "لا شك أن عهد معاوية مثلا كان من الوجهة التي تهمنا هنا (يقصد الفاصل الذي منع المشروع الديموقراطي من أن يواصل سيره في التاريخ) عهد تقهقر روح الديموقراطية الإسلامي. ولكن إذا لاحظنا أن الطاغية المستبد قد ظهر من جديد في شخص الحاكم، يجب أن نلاحظ أن العبد لم يظهر بعد في شخص المحكوم ما دام متمسكا بالروح الإسلامي، كما تدل على ذلك تفاصيل كثيرة، خاصة بتلك الفترة، كالحوار الغريب الذي نشأ بين أبي ذر الغفاري ومعاوية، عندما كان هذا الأخير قائما ببناء قصر الحمراء بدمشق، فكان الصحابي المشهور يؤنب الخليفة تأنيبا شديدا فيقول بهذه المناسبة: فإما أنك تبني هذا القصر بأموال المسلمين من دون حق لك فيها، وإما أنك تبنيه من مالك وهو تبذير. فهذه الرقابة التي يفرضها الضمير الإسلامي على أعمال الحكم قد استمر أثرها في التاريخ الإسلامي حتى بعد التقهقر الذي أشرنا إليه، ويمكن تفسير أحداث أخرى في التاريخ الإسلامي كظهور المرابطين والموحدين في الشمال الإفريقي على أنها الصدى لاحتجاج الضمير الإسلامي ضد الاستبداد7 واستمرار هذه الروح وتلك الرقابة هو الذي يجعلنا نرجح بالرغم مما عرفته التجربة التاريخية من تطبيقات سلبية أن الحصيلة الإجمالية لما جسدته التجربة التاريخية للمسلمين من قيم رافضة للعبودية والاستعباد، وما تمثله على المستوى العملي من مثل ديموقراطية حقة تربو على غيرها من التجارب الإنسانية السابقة وربما اللاحقة أيضا. ففي مجتمع يحضر فيه التوجيه الإلهي من خلال كتاب سماوي حفظ من التبديل والتحريف ويبقى فيه الفصل حاسما بين الإسلام باعتباره وحيا والمسلمين في تجربتهم التاريخية النسبية، وسلم فيه الدين من احتكار مؤسسة تدعي النطق باسمه، وبقي للعلماء فيه استقلالهم الفكري عن السلطات السياسية، بحيث ظلوا قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم، في مثل هذا المجتمع لا بد أن تنطبع العلاقات الاجتماعية والمؤسسات السياسية والسلوكات الفردية بقدر يزيد أو ينقص بقيم الوحي الإلهي المنزل. إن وضعية الأقليات غير المسلمة في المجتمعات الإسلامية، وفي ظل أشد عصور التخلف الحضاري لبعض دول العالم الإسلامي والوضع الامتيازي الذي كانت تتمتع به، ودرجة التسامح الذي عوملت به ليشهد على هذه الحقيقة، وهذا الذي قلناه في ما يخص وضعية الأقليات يسري على غيرها من الممارسات والأوضاع المتعلقة بحقوق الإنسان. ولك أن تقارن بين هذا الوضع وبين وضع المسلمين في الحالات التي كانت فيها الغلبة للغرب كما يدل على ذلك مثال الأندلس، بل نماذج حاضرة في المجتمع الغربي المتحضر الذي يسمي نفسه بالعالم الحر، حيث يتفرج هذا الضمير الغربي الحر على تذبيح شعب بكامله وتهجيره بشكل ربما لم يسبق له مثيل في التاريخ البعيد والقريب. والخلاصة أن التغيير الديموقراطي الإسلامي تغيير أصيل يمتد إلى الأعماق التصورية والعقدية والبنية النفسية والأخلاقية التي تحيطها وتحميها وتساعدها بنية تشريعية، وهذه الأصالة هي التي تفسر الطبيعة الدورية للحركة الإسلامية الإصلاحية عبر التاريخ، والتي لم تكن سوى تعبيرا عن حالات احتجاج للضمير الإسلامي ويقظة في نزوعه الديموقراطي الذي وضع الإسلام في أعماق الفرد. وقد تدهورت الأحوال الاجتماعية والسياسية للمسلمين في القرون الأخيرة في علاقة طردية بتدهور النزوع الديموقراطي في نفسية الإنسان المسلم. يقول مالك بن نبي: "ويمكن القول إن هذا الصدى لم ينقطع من الأحداث التي عبرت بصورة أو بأخرى عن استمرار الروح الديموقراطي الإسلامي عبر التاريخ، حتى حدث فاصل آخر لا يمكن تحديد تاريخه بالضبط، لكنه لا ريب يتفق مع نهاية الحضارة الإسلامية، أي عندما ينتهي الإشعاع الذي كونه التقويم الأساس للإنسان، إذ بعدما انتهى أثره في أعمال الحكومة، أي في السياسة، قد انتهى أثره أيضا في سلوك الأفراد، أي في الأخلاق. فإشعاع الروح الديموقراطي الذي بثه الإسلام ينتهي أيضا في العالم الإسلامي عندما يفقد أساسه في نفسية الفرد، أي عندما يفقد الفرد شعوره بقيمته وبقيمة الآخرين. ويجب أن نلاحظ أن الحضارة الإسلامية انتهت منذ الحين الذي فقدت في أساسها قيمة الإنسان، وليس من التطرف في شيء القول بصفة عامة إن الحضارة تنتهي عندما تفقد في شعورها معنى الإنسان" 8 واليوم قبل أن تطرح مسألة الديمقراطية في الملفات المطلبية للحركات السياسية القائمة، ومن بينها الحركات الإسلامية، وجب أن تكون قد وضعتها في جداول أعمالها الثقافية والتربوية، فالفرق بين المنظور الحضاري والمنظور السياسي الانقلابي هو الفرق بين لغة تقتصر على المطالبة بالحقوق، وبين لغة تضيف إلى ذلك القيام بالواجبات. إن ذلك هو جوهر ما يدل عليه قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(سورة الرعد آية 12). 1 انظر د. حسن الترابي: الشورى والديمقراطية: إشكالات المصطلح والمفهوم مجلة المستقبل العربي السنة الثانية عدد 75 مايو 1985 2 نفسه ص 10 3 مالك بن نبي تأملات ص 77 4 مالك بن نبي تأملات ص 78 5 حسن الترابي الشورى والديموقراطية 6 للتوسع انظر ما كتبه مالك بن نبي في كتابه: تأملات تحت عنوان الديمقراطية في الإسلام 7 مالك بن نبي، تأملات ص 94 8 نفسه ص 94