في بادرة جميلة، دعا المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الموحد مختلف أطياف اليسار إلى ندوة حول موضوع :«الإصلاحات الدستورية مدخل للتغيير الديموقراطي» يوم السبت 10 يناير 2009 بقاعة وكالة المغرب العربي للأنباء، وذلك بمناسبة الذكرى 100 لدستور 1908 و ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال. الندوة التي كانت من جلستين، سيرهما كل من محمد العوني و محمد الساسي عرفت حضورا متميزا ليساريين و مثقفين و باحثين. لماذا يعود بقوة مطلب الإصلاح الدستوري عند الاتحاد الاشتراكي؟ يعتبر حسن طارق، عضو المكتب السياسي، ان هناك 4 عوامل رئيسية. «التصويت الإيجابي لدستور 1996 كان إشارة سياسية للدولة في إطار بناء الثقة» يذكر طارق بمقولة اليوسفي، و يشرح أن «التصويت الإيجابي لم يكن تزكية للنص» الذي لم يستجب للمطالب الرئيسية و البنيوية للإصلاح المنشود. ثم إن إثارة موضوع الإصلاح الدستوري بالنسبة للحزب هو كذلك تقييم لتجربة التناوب، مذكرا بمحاضرة اليوسفي ببروكسيل و تركيزه على مركزية الإصلاح كنقد لمرحلة التناوب. كما ان العامل الثالث يتمثل في المداخل الجديدة للإصلاح الدستوري : توصيات هيأة الإنصاف و المصالحة، الجهوية ... ثم إن الإصلاح الدستوري يمكن أن يكون جوابا عن الاختناق الحاصل منذ انتخابات شتنبر 2007 و يضع طارق أفق الإصلاح في «الملكية البرلمانية». بينما يرى براهمة، نائب الكاتب العام لحزب النهج الديموقراطي، ان «انتخابات 2007 شكلت نهاية الديموقراطية المخزنية». و بمقارنة الوضع المغربي بتجربة الانتقال الديموقراطي باسبانيا يجد براهمة ان الدولة بالمغرب لم تكن لها الارادة السياسية لطي صفحة الماضي, خصوصا في المسالة الحقوقية. «بل حتى القوى الديموقراطية لم تكن مهياة لذلك». و بالنسبة له فإنه لا ديموقراطية الا بتغيير جذري للدستور عبر اعتبار الشعب المغربي سلطة تأسيسية. كما يتساءل عن الوضع الحالي و المفارقة : «من يحكم لا يحاسب و من يحاسب لا يحكم». اما البدوي، عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي، فيرى أن بمقارنة عهدي الملكيين محمد السادس و الحسن الثاني يتبين ان البرلمان لازال يشتغل بنفس المنطق و يكرر نفس التصرفات، كما ان الحكومة لا تمتلك صلاحياتها التنفيذية بفعل تعدد المجالس الاستشارية و الصناديق ... و بالتالي يخلص البدوي الى انه «لا يمكن التكلم عن قطيعة بين العهدين بقدر ما هناك استمرارية في النهج» و هو ما يكرس ملحاحية الاصلاحات الدستورية. اما مجاهد، الامين العام للحزب الاشتراكي الموحد، فذكر بمطالب حزبه و التي ضمنتها «الوثيقة المرجعية الخاصة بتور الحزب للاصلاحات الدستورية» و «مذكرة الحزب الاشتراكي الموحد في الاصلاحات الدستورية» المرفوعة الى الملك. «ان الاصلاح الدستوري هو الحل الوحيد لتجنب انتهاكات الماضي» يقول مجاهد، كما يعتبر أن «الملكية البرلمانية» هي الشكل السياسي الوحيد الذي يزاوج بين الملكية و الديموقراطية. و نادى مجاهد كل القوى اليسارية الى دينامية جديدة للاصلاحات الدستورية. و يتساءل بندورو، باحث في العلوم السياسية، عن اذا ما كان المغرب يعيش انتفالا ديموقراطيا، و يجيب نافيا لعدم و جود مشروع و برنامج زمني لتحقيقه و بالتالي لا وجود لشروط الانتقال. كما يتساءل عن وجود «مسلسل ديموقراطي» في ظل وضع «يعتبر الملك فيه ان الانتخابات ما هي الا مقياس لتمثيلية الاحزاب، ثم يقرر بعد ذلك باشراك بعضها فقط في تنفيذ السياسات العامة». «الملك بدوره لا يحترم الدستور» يقول بندورو و يستدل على ذلك بامثلة : + رسالة الملك الى اليوسفي، الوزير الاول في تلك الفترة، لتفويض بعض صلاحياته الى الولاة في سياق تنصيب مراكز الاستثمار الجهوية مع ان الدستور لا ينص على امكانية تفويض صلاحيات الوزير الاول. + تصريح اليوسفي «الملك لا يحترم الدستور» + ظهير رجال السلطة و تمريره خارج البرلمان. و يخلص بندورو الى ان «النظام السياسي المغربي غامض» فلا هو ديموقراطية و لا دكتاتورية و لا تيوقراطية, ... فيما اعتبرت الحرش، عضوة المكتب السياسي للمؤتمر الوطني الاتحادي, ان حكومة اليوسفي هي محطة اساسية في تاريخ المغرب. الا ان نمط الاقتراع اعطى خليطا غير متجانس ( سالاد نيسواز ) انصهر فيه برنامج الاتحاد الاشتراكي و ترك مكانه لبرنامج توافقي هجين. ثم اثارت الحرش مسألة تفويض الملفات الاساسية الى مكاتب الدراسات في تخلي الحكومة عن اخر صلاحياتها عن صغرها. و تخلص الحرش الى ان الحل يكمن في اصلاح دستوري يضمن فصل السلط، و بالنسبة الى بنعمر، عضو المكتب السياسي لحزب الطليعة, الكونية تفرض اساسا ان تكون السيادة للشعب. و ينتقد الدساتير الممنوحة بكونها لا يمكن ان تعبر الا عن مصالح فئة صغيرة بينما يرى ضرورة خلق ميزان للقوى من اجل اصلاح دستوري حقيقي. و يذكر كرين، عضو الديوان السياسي لحزب التقدم و الاشتراكية، بان التصويت الايجابي لدستور 96 هو تصويت للسياق و ليس للنص، كما استعرض مذكرات الكتلة بشأن الاصلاحات، كما افاد ان الجدع المشترك للاصلاحات الدستورية الاساسية لا زال لم يتحقق فيه أي تقدم و بالتالي فهو لازال موضوعا آنيا. كما صرح كرين بأن العهد الجديد ينزعج من الاصلاحات الدستورية و دعا فرقاء اليسار الى تحالف على ضوء المستقبل و الا «نبقى حبيسي الماضي» من اجل تحقيق الاصلاحات الدستورية المنشودة. يذكر ان الندوة خلصت الى تقرير اعده الاستاذ بندين انطلاقا من الاشغال و سيعمل المنظمون على تعميمه. هذا بعض مما جاء في مقدمة كتاب (1) تضمن العديد من المحاور بخصوص الأمة والديمقراطية، السياسة والعلاقة الاجتماعية، الديمقراطية ضد الأمة؟ إلخ ... من هذا الكتاب نعرض لبعض الخلاصات. تقتضي خصوصية الأمة الحديثة ادماج جميع الساكنات في جماعة من المواطنين واعطاء المشروعية لعمل الدولة بواسطة هذه المجموعة - التي هي أداة للدولة - يتجه المسار الداخلي للديمقراطيات - حيث تبدو الحياة الجماعية مرتكزة على انتاج الشروط وتوزيعها - إلى خدم الفكرة السياسية التي كانت الأصل في وجود الأمم. بحيث انه يبدو من المستحيل للديمقراطيات أن تفرض على مواطنيها الدفاع عنها بالتضحية بحياتهم. فالديمقراطية الحديثة ولدت في شكل وطني. في كل أمة ديمقراطية يؤسس السياسي الاجتماعي. لم تكن المواطنة فقط صفة قانونية وسياسية في المعنى الضيق للكلمة. كانت الوسيلة المضمونة لاكتساب وضعية اجتماعية، الشرط الأساسي - رغم أنه لم يكف كاف بالملموس - لكي يتمكن الفرد من ان يعترف به بصفة كاملة كفاعل في الحياة الجماعية. نحن نبرر الديمقراطية بشكل أقل بالقيم التي أسست للمشروع السياسي للديمقرطيات الكبرى ،نبررها بكونها تجعل جميع أعضائها يستفيدون من حسنات الثروة الجماعية. فالبعد الاقتصادي والاجتماعي للحياة الجماعية يفرض نفسه اليوم على حساب المشروع السياسي. الأمة إيديولوجية ومنظومة سياسية إن الروابط والتبادلات التي تقيمها المشاركة في النشاط الاقتصادي، نقل الثروات وتدخلات الدولة في النظام الاجتماعي، ليست من نفس طبيعة الآصرة الوطنية، التي كانت سياسية أساسا، لو أن الرابطة الاجتماعية اختزلت في مجرد تعاون مفروض بواسطة العمل الجماعي، في مجرد تضامن موضوعي يخلقه نظام إعادة التوزيع، وفي إدماج الطبقات المهمشة بواسطة سياسة التدخل الاجتماعي، الا يضعف واقع وهدف الموطنين الى حد تهديد ما أسماه دور كايم التماسك الاجتماعي؟ ألا يخشى أن يفضي اضعاف الأمة السياسية الى اضعاف الآصرة الاجتماعية؟ لقد استهان علماء الاجتماع - مهما كانت اتجاهاتهم - بكون ان الآصرة الاجتماعية، في المجتمع الحديث، كانت سياسية بالأساس، بمعنى انها وطنية. وهم الآن لديهم تحفظ شبه مهني للتصور السياسي أو تأمله. قبل كل شيء يجب تحليل الأمة بصيغ سياسية بتخصيص مكان في نفس الآن للتمثيليات وللمؤسسات التي بواسطتها تقوم الأمة وتستمر قائمة. فقد حلل ايميل دوركايم الروح الوطنية بصيغ اخلاقية: «لا تتوفر جميع المجتمعات التي ينتمي أو يمكن أن ينتمي اليها الإنسان على قيمة أخلاقية مماثلة. بيد أن هناك قيمة واحدة تتفوق عن جميع القيم الأخرى تفوقا حقيقيا، إنه المجتمع السياسي، الوطن، شريطة أن يتصور هذا المجتمع لا كشخصية انانية بشكل جشع، همه فقط هو الاتساع والتمدد على حساب شخصيات مماثلة، بل كأحد الأعضاء المتعددة حيث يكون التعاون ضروري بالتحقيق تدريجي لفكرة الإنسانية». مع ذلك فإنه إذا كان لا يتجاهل بالطبع التمييز بين المجتمع السياسي والدولة. فإن عالم الاجتماع دور كايم قد انتقل من التأمل في الأمة الى تحليل المجتمع «باعتباره منظومة للمعايير». ان نكتب أنه «يتوجب» على المواطن احترام القانون، فهذا لا يقتضي نصيحة أو أمرا باسم الاخلاق المواطنية والسياسية، بل ان نبين أن السلوك يندرج ضمن منطق سير الأمة الديمقراطية. فمثل الديمقراطية نفسها، فإن الأمة هي في نفس الآن ايديولوجية ومنظومة سياسية. الأمة شكل خاص لوحدة سياسية يكون ملائما تحليل خصوصياتها انطلاقا من تعريفات دقيقة - دون أن ننسى أن كل تعريف يعتبر نظرية - «تحدد الأمة، على غرار كل وحدة سياسية، بسيادتها التي تمارس في الداخل، لادماج الساكنات التي تضمها إليها، وفي الخارج، لتأكيد الذات كفكرة تاريخية داخل نظام عالمي عائم علي الوجود والعلاقات بين أمم / وحدات سياسية. لكن خصوصيتها هي انها تدمج الساكنات في مجموعة من المواطنين، بحيث يعطي وجودهم مشروعية للفعل الداخلي والخارجي للدولة». الأمة وحدة سياسية الدولة هي في نفس الآن - باعتبارها مجموعة من المؤسسات ووسائل المراقبة والردع - التعبير والأداة لكل وحدة سياسية حديثة. فهي التي تميز جميع الأمم / الوحدات السياسية عن باقي اشكال الجماعات. إذا كنا غالبا ما نماثل الأمة مع الدولة، فهذا لأن كل دولة تتطلع إلى أن تكون التعبير عن أمة ديمقراطية. يعود التباس مصطلح الأمة في الحياة الاجتماعية الى كونه مرتبطا بطريقة ضرورية بمبدأ حديث للمشروعية السياسية ولأساس الآصرة الاجتماعية. لهذا السبب تظل الأمة الديمقراطية اليوم نموذجا ضمنيا تحال اليه ولو رمزيا. هل بالإمكان الحديث عن أمة سياسية، إذا لم تتوفر على دولة ذات سيادة تماما؟ ليست الأمة فقط مجموعة من المواطنين، انها كذلك وحدة سياسية. فمثل كل وحدة سياسية، ليست الأمة فقط، «مبدأ روحيا» إنها تتضمن نصيبا من الاكراه. فهي توزع السلطة، تتجسد في المؤسسات. اذا كان يجب تمييز الدولة عن الأمة تحليليا، واذا لم يكن هناك تطابق عبارة بعبارة بين هذه وتلك، يبقى انه لا توجد امة الا اذا كانت تتجسد في اشكال اجتماعية موضوعية. عندما نعرف الامة كمصدر للشرعية، الاداة المفضلة للوفاء الجماعي واساس التضامن السياسي، يتوجب ان تكون هناك مؤسسات لكي تتم بالفعل ممارسة السلطة القائمة على هذه المشروعية. وان يتم ويستمر هذا الوفاء وهذا التضامن. اليوم تتحدث أغلب الامم الديمقراطية عن نفس قيم المساواة والفعالية، غير ان تلك القيم، داخل كل وحدة وطنية، تتجسد بطريقة مختلفة ضمن الاشكال الموضوعية للحياة الجماعية. في كل امة، ولد المشروع السياسي من خلال تاريخ متفرد، في الغالب في اعقاب احداث عنيفة، حروب وثورات في تراب معين. إذ تمت صياغته وتنفيذه بواسطة مجموعة او عدة مجموعات اجتماعية خاصة. تتمايز الامم الديمقراطية بعضها عن البعض بالطريقة التي يسعى بها مشروع سياسي في بعده المزدوج للافكار، الى تجاوز الاختلافات الموضوعية بين الساكنات والى خلق جماعة مواطنين. مصدر شرعية الامة / الوحدة السياسية. بحيث ان الافكار والقيم تتجسد، بطريقة متفردة في الحياة الاجتماعية. فما يمكن تسميته القدرة الادماجية للامة، يتحدد بالعلاقة بين المشروع السياسي وخصوصيات الساكنات المنتظمة في امة بواسطة الدولة. لن تصبح وحدة محلية مستقلة امة الا اذا ترافق استقلالها باحداث سياسية مؤثرة ومستدامة، قادرة على منحها الاحساس بالتفرد وفرض احترام محيطها الخارجي. فابتكار تشكل سياسي جديد يشكل بالفعل احد تلك الاحداث السياسية المؤثرة والمستدامة. مثل هذه الاحداث عرفتها انجلترا، حيث ولدت الفكرة الوطنية والنظام البرلماني. منذ القرن الخامس عشر، يجني البريطانيون الزهو بالتمتع بحرية فريدة في العالم بخصوص الاشخاص والصحافة. كان ذلك في صلب المشروع السياسي الانجليزي. من جانبهم يفتخر الامريكيون بكونهم «ابتكروا اول امة جديدة في التاريخ»، كذلك من الاحداث المؤثرة ابتكر الامريكيون الديمقراطية التمثيلية. وكما كتب ولخص الامر فيليب راينو: «قام الامريكيون بدمقرطة النظرية الانجليزية للتمثيلية، لقد اعطوا للدستور الانجليزي الطابع الجمهوري» فقد اندرج المشروع ضمن التقليد السياسي الانجليزي. فالاعلان عن الاستقلال الامريكي لم يحدث اي قطيعة عنيفة داخل البنية المؤسستية ولا في تنظيم الدولة. ليس الابتكار السياسي هو المصدر الوحيد للمشروع السياسي. اذا كان المجتمع الديمقراطي يستتبع ان ثمة فضاء اتصالي وذاتي داخلي، حيث يمكن للمواطنين، لرجال السياسة، وللخبراء ان يتذاكروا فيما بينهم، ان يتفاهمو وان يسعو الى اقناع بعضهم البعض لمعالجة مشاكل الحياة الجماعية، فانها لا يمكن ان تكون موجودة اذا كان جميع الاعضاء لا يتقاسمون كلاما ولغة. ثقافة معينة، وعلى الاقل، بعض القيم المشتركة. والا كيف يمكن اقامة هذا الفضاء التواصلي؟ لا يمكن ان يكون كل شعور بالانتماء، كل فكرة جماعية نتاج تاريخ مشترك طويل، على الرغم من انه يكون، في الغالب، مبتكرا او جزئيا او كليا. لن يكون بوسع الانخراط الفكري في مبادئ تجريدية - حقوق الانسان، احترام دولة لقانون - ان يقوم مقام، على الاقل في المستقبل المتوقع، التعبئة السياسية والعاطفية التي يثيرها استبطان التقليد الوطني. أليس وهميا التفكير انه بالامكان -على الاقل في مستقبل قريب - ان توجد ارادة سياسية تمليها المصالح المادية وحدها او القناعات وحدها القائمة على العقل التجريدي، سياسة لا تأخذ معينها من مجموع قيم، تقاليد ومؤسسات خصوصية تحدد امة؟ فلا يمكن ان يستهين التنظيم السياسي بالاجابة عما يسميه الناس الرغبة العاطفية للمجتمع البشري. الامة نتيجة تاريخ طويل ليست الامة فقط ارتقاء بواسطة المجتمع السياسي التجريدي، بل كذلك واقعا اجتماعيا متدرجا في الزمان والمكان، انها نتاج تجاوز الانتماءات والهويات بواسطة السياسي، ترابط المجتمع المواطني التجريدي والواقع الملموس للمؤسسات الجماعية و الدولة. ففكرة الامة - في المعنى التحليلي - هي ان تكون فكرة ومؤسسات في نفس الآن. فلا يمكن اهمال طموح الارتقاء السياسي، ولا الحدود الجوهرية الارتقاء، بتعبير آخر الشروط الملموسة لوجود الامة التي تبرزها السوسيولوجيا. اخذت الامة الديمقراطية الحديثة لا عن المؤسسات، بل عن فكرة المجتمع السياسي نفسها وعن قيم الديمقراطية التي تمت صياغتها في صور سابقة. اتخذ الارتقاء بواسطة السياسي اشكالا تاريخية مختلفة. فقد تولدت الديمقراطية الانجليزية عن فكرة ضمان الحريات بخلق سلطات مضادة، متأنية من التمثيلية السياسية الى القوى الاجتماعية، يقوم التقليد البريطاني على فكرة انه يتوجب - لضمان تنوع الانتماءات والارتباطات الخاصة . وكما يقول بورك داخل اسرنا تبدأ احاسيسنا السياسية، وبالامكان القول ان انسانا ليس لديه احساس بأواصر القرابة لن يكون ابدا مواطنا يهب نفسه لبلده، لا يمكن ان تكون الامة الا نتيجة لتاريخ طويل. المواطنة، مثل الامة كل لا يتجزأ. يجب ان تنظم وتكون مضمونة بواسطة دولة مركزية، تعبيرا عن ارادة جماعية، منتجة لمجتمع. قد يكون بامكاننا ان نطبق على الامة ما قاله بيرغسون بخصوص الديمقراطية: «مجهود باتجاه معاكس للطبيعة» هي كذلك وهم في معناه عند مانهايم، بمعنى فكر قطيعة مع النظام الموجود في افق تغييره. يعطي وجود تجمع المواطنة الشرعية للقواعد التي وفقا لها يرتقي الحكام الى السلطة ويساهمون في توزيع المنافع التجارية (عائدات، الاموال، الخدمات) واللامادية (الامن، الصحة، التربية، استخدام الخدمات العمومية) تسوية النزاعات التي لا يمر هذا التوزيع دون اثارتها، هذا يفترض ان يحترم الموطنون القوانين و الدستوري، بمعنى احترام القواعد التي تحكم سير المجال العمومي. في المعنى الواسع للكلمة. صراع من اجل الوصول الى السلطة وممارستها - ولكن كذلك احترام مجموع القواعد التي تحكم العلاقات بين الافراد. ليس للتصويت الديمقراطي دائما كوظائف وحيدة اختيار للحكام، تمكين الناخبين من فرصة لاظهار ثقتهم او ريبتهم تجاه السياسة التي سار عليها الحكام وضبط العلائق بين المجتمع والسلطة. التصويت هو كذلك رمز للمقدس الجديد، أي مقدس المجتمع السياسي نفسه، الذي يضمن الروابط الاجتماعية ويخطط للمصير الجماعي. فالتصويت اذن هو اظهار اننا ننتمي للمجموعة السياسية الوطنية، بغض النظر عن تكريس الآصرة الاجتماعية، يظهر التصويت الديمقراطي بالملموس وجود فضاء سياسي تجريدي، يكون داخله كل مواطن مثيل لمواطن آخر تعطي الاحزاب للحياة الديمقراطية شكلها الملموس. يفترض في بناء أمة ان يكون هناك قبول من طرف اعضائها لمنظومة قوانين ومعايير مشتركة تعطي ما اسماه ايدوار شيل «روح التوافق». اما موس فيؤكد ان «الامة، هم المواطنون الذين يحركهم توافق». التوافق يعني ان المواطنين يقبلون بالقواعد الظاهرة والباطنة التي تمكن من حل صراعاتهم بطريقة غير عنيفة، بالنقاش، بالتراضي والاحالة الى مصلحة عامة. تتكون الامة الديمقراطية في مبدئها من افراد / مواطنين، عير محددين الا باحترام تعاقد سياسي. الامة في كل مكان هي بناء تاريخي. ليس بالامكان بناء مجتمع سياسي انطلاقا من أي شروط اجتماعية. اصبح المجتمع الديمقراطي ملموسا بما انه مصدر هوية، اخلاق، نزوعات وسلوكات جماعية ، داخل الامة الديمقراطية يتوجب على كل واحد احترام - اذا كان يتصرف تبعا لمنطق فكرة الامة الديمقراطية - كأسبقي، قواعد اشتغال المجتمع السياسي، سيما القواعد التي تضمن المساواة المنظمة والقانونية للافراد، تلك المساواة المؤسسة للنظام السياسي، الا انه من الطبيعي ان الاشكال الملموسة للمواطنة ليست ابدا ولم تكن ابدا مطابقة للطموح العقلاني للمواطنة، بشكل ملموس يجب ان يفهم المواطنون ويحترموا القواعد التي يشتغل وفقا لها ماهو سياسي، انه تجاه الشروط الثلاث التي يجب ان تخضع لها - حسب جان لوكا - المواطنة الحديثة: الايمان بمعقولية العالم السياسي، معرفة الغير التي تسمح بالتفاوض والتباحث والتشاور، اللباقة التي تمكن من تدبير «التوثر بين التمايز الاجتماعي والانتماء المشترك». الدولة تشكل الامة مهما تكن خصوصيات - الموضوعية والاسطورة اللامنفصمة - ولادة الامة، فإنها سوف لن تكون كافية للتأسيس لسيرورة الادماج، اذا لم يتم تجديد المشروع السياسي الاصلي، من جيل لآخر، بواسطة مؤسسات مشتركة. لن يكون بإمكان عمل الدولة ان يكون له كطموح الا اذا خلق شروط اشتغال المجتمع السياسي وارساء الخصوصية الوطنية التي تؤسس الانخراط المواطني، فالمؤسسات، بدوامها واستقرارها، في استقلال عن الافراد، تحقق وتمدد ماكان هو المشروع السياسي الاصلي. تدخل الدولة الامة في المجال: فالامة وحدة سياسية في انتماء فعلي لتراب، تكون جميع الحدود اعتباطية، غير ان هذا الاعتباط، الموروث بواسطة التاريخ، يكون مؤقلما، بمعنى انه يعتبر على أنه طبيعي، مندرج في طبيعة الاشياء، بمعنى انه مقبول : فالحدود الجيدة هي تلك المسلم بها من طرف الامم التي تفصل بينها. كذلك، فالدور الرمزي للتراب لن يكون بالوسع الاستهانة به، الدولة تشكل الامة، في المعنى الكامل، بإعطائها جسما وبتنسيق النظام الاجتماعي حولها. يجب ان تحدد الدولة الساكنة المشاركة في الفضاء القانوني والسياسي المشترك، من هنا دور ومعنى حق الجنسية، في معناها العملي والرمزي المزدوج، فكل امة ديمقراطية تحدد المعايير القانونية للجنسية وتبادل الى أن بإمكان الاجانب الحصول عليها، غير أن الشروط المفروضة على المرشحين اليها تتغير وفقا للحاجيات الاقتصادية والديمغرافية للبلد. كذلك ضعف المشروع السياسي في بعده الداخلي، بواسطة التدرج الخاص للعصر الديمقراطي ، الذي طرحت خصوصياته، كما هي، تحد للامة، فالشرعية الديمقراطية الحديثة تقوم على فكرة ان المواطنين يجب ان يكونوا قادرين على ممارسة بالملموس لحقوقهم، وعلى الطموح في ضمان المساواة الفعلية، من ثم فإن تدخل الدولة في النظام الاقتصادي الاجتماعي والثقافي يعتبر نتيجة ضرورية لمنطق الامة الديمقراطية. تبدو الحقوق الاجتماعية، وهي تتزايد، كمعادل للحقوق السياسية و«المواطنة الاقتصادية والاجتماعية». اذا كانت الشرعية الديمقراطية الحديثة تقوم على كونية حقوق المواطنين وعلى منافع الدولة الرزاقة، فإن الافراد دائما توجه الى تفضيل الجانب الثاني على الجانب الاول، فالمنافسة الاقتصادية تحدث انقساما بين الناس، تغذي الصراعات بين المجموعات التي يسعي المشروع السياسي الى توحيدها، من ثم فإن تجريد المشروع من طابعه السياسي يكون تهديدا دائما للامم الديمقراطية. بالنسبة لماكس ويبير بدأت الامة كمرحلة وكتجسيد لعقلنة العالم. تتطلب الديمقراطية مثلا عليا - ضمان المساواة بين الجميع - تكذبها معاينة الواقع الملموس. تؤكد طموحا للمساواة، لكنها لاتستطيع استئصال الفوارق بين الناس نظرا للنظام الاقتصادي والاجتماعي، على الرغم من سعيها الى الحد منها على الاقل. هامش: (1) كتاب la communaute des citoyensلمؤلفه دومينيك اشنابير، 813 صفحة.