على الرغم من الجهد الكبير الذي قدمه الدكتور الريسوني على مستوى تأسيس النظرية المنهجية، وحضور مفرداتها على مستوى التأصيل للعديد من المفاهيم والمواقف ، إلا أن حظ الإخوة من نظرية المقاصد ومن التقريب والتغليب لا يسمح بالحديث عن رسوخ هذه النقلة المنهجية البعيدة لا يمكن للباحث الراصد لتطور خطاب الحركة الإسلامية وسلوكها السياسي أن يمر على تجربة حركة التوحيد والإصلاح دون أن يسجل العديد من القضايا التي باتت تحسب على رصيد تجربتها. فلا جدال في كون ما تقدمه من اجتهادات تنظيمية وفكرية صار اليوم محط انتباه من لدن العديد من قيادات الحركة الإسلامية في الوطن العربي سواء تعلق الأمر بالمشكلة التنظيمية أو بتدبير العلاقة بين الدعوي والسياسي أو حتى في الثقافة التي تربى عليها أعضاء الحركة والتي أصبح من ثوابتها النقد الذاتي والشورى ونبذ المشيخة وتوابعها في العمل الإسلامي وغير ذلك من القضايا التي تحضر بكثافة داخل الجسم التنظيمي لحركة التوحيد والإصلاح. غير أن هذا الجدب والاستقطاب التي تشكل حركة التوحيد والإصلاح مركزه داخل الوطن العربي لا يعني بالضرورة أن الحركة قد قاربت مستوى أعلى من النضج يعفيها من إتمام العديد من المهام المتبقية أو الغائبة، وإنما هذا على العكس من ذلك ينبغي اعتباره دافعا نحو مزيد من النظر في مسيرة الحركة وتقييم ما تم إنجازه من الأبعاد وما ينبغي التركيز عليه في المدى القريب والمتوسط، وما يتطلب التخطيط لمقاربته على المستوى البعيد من المهام والأبعاد المتبقية. وسنحاول في هذا المقال أن نقف على الجوانب التي تم بذل جهد كبير من أجل تحصيلها وجعلها منطلقا أو منهجا أو جزءا من ثقافة الحركة، والجوانب التي تم تأكيد وجودها لكن دون تفعيل مقتضياتها، والقضايا والأبعاد المتبقية أو شبه الغائبة في رهانات حركة التوحيد والإصلاح. التحول الفكري نحو فكر المشاركة لعل أول بعد تم إنجازه - يمكن اعتباره اليوم من المنجزات المهمة في تاريخ حركة التوحيد والإصلاح - هو التحول الفكري نحو فكر المشاركة والاندماج في المؤسسات. جهد فكري كبير قطع مع رصيد من التصورات التي كانت تؤطر الأسئلة التي كانت تطرح حول علاقة الحركة بالدولة وموقفها من مكونات المجتمع. جهد حرك آلة النقد، ووضع على محك الخصوصية المغربية كل الإنتاجات الفكرية التي أطرت لمرحلة معينة كسب الحركة الإسلامية وحكمت سلوكها السياسي، ووضع الأساس لقناعات جديدة تجعل مبدأ المشاركة والتفاعل منطلقا للعمل، والتدافع القيمي والمجتمعي منهجا للاشتغال، والتعاون مع الغير وسيلة للعمل. منطلقات ستشكل فيما بعد العناوين التأصيلية الكبرى للمشاركة السياسية وولوج المؤسسات السياسية من بوابة الشرعية ونبذ السرية والمنهج الانقلابي في العمل الإسلامي. مهمة بذل الأستاذ عبد الإله بنكيران جهدا كبيرا في التأسيس لها، وقام العديد من قيادات الحركة بالتأصيل لها فكريا(محمد يتيم) وأصوليا (سعد الدين العثماني). مهمة ستصبح فيما بعد محط إجماع وصلت بعض مستوياته داخل حركة التوحيد والإصلاح إلى درجة طرح أسبقية الأستاذ عبد الإله بنكيران في التأصيل لهذا الاختيار للنقاش، وترشيح اجتهادات أخرى سابقة باعتبارها سباقة إلى التأصيل لعناصر هذا الاختيار. تنافس في التأصيل للاختيار من داخل التجربة التاريخية للحركة يعكس مستوى الاقتناع بفعالية هذا التحول الفكري، وتجذره في ثقافة أعضاء الحركة وقادتها واستحالة مراجعة هذا الخيار أو مجرد طرحه للمساءلة. البعد المنهجي: التقصيد ومنهجية التقريب والتغليب صحيح أن الأمر كلما تعلق بنظرية المقاصد أو بنظرية التقريب والتغليب، فإن الاسم البارز الذي يظهر على السطح هو فضيلة الدكتور أحمد الريسوني، فهو الرجل الذي لا ينافسه أحد في العالم العربي والإسلامي في التأصيل لنظرية المقاصد وطرح مدى الحاجة إليها في تجديد المنظومة المعرفية الإسلامية برمتها، وهو الذي أدخل بنظرية التقريب والتغليب آلية جديدة إلى العقل الإسلامي الحركي مكنته من نقل التعامل مع القضايا من مستوى التعاطي العقدي (منطق الحق والباطل) إلى مستوى النسبية وتفعيل منطق تدافع المصالح والمفاسد وما يمكن تحصيله وما يمكن درؤه ومنهجية التعاطي مع معضلات الواقع بهذه الآلية. صحيح أن الدكتور الريسوني هو رائد هذا الفن بامتياز، لكن يمكن للراصد لخطاب الحركة الإسلامية قبل أن يشتغل الريسوني بنظرية المقاصد والتقريب والتغليب أن يلمس العديد من المفردات التي تنتمي إلى التراث المقاصدي، بل وتستعمل كثيرا من مفردات التقريب والتغليب والترجيح بين المصالح والمفاسد. لكن حضور هذه المفردات بكثافة في العديد من بيانات الحركة وتعبيراتها الفكرية قبل تنظيرات الريسوني لا يعني أنها أسست لهذا الاختيار واستصحبته كنظرية في العمل وآليات في الاشتغال، ولكنها على الأقل بدأت تدشن زمنا أصوليا داخل ساحة العمل الحركي الإسلامي وبدأت تراجع العديد من القناعات الحركية الراسخة بفعل قوة التداول. وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي قدمه الدكتور الريسوني على مستوى تأسيس النظرية المنهجية، وعلى الرغم من كثافة حضور مفرداتها على مستوى التأصيل للعديد من المفاهيم أو على مستوى إنتاج العديد من المواقف والقناعات، إلا أن حظ الإخوة من نظرية المقاصد ومن نظرية التقريب والتغليب كآلية للاشتغال لا يسمح بالحديث عن رسوخ هذه النقلة المنهجية البعيدة في ثقافة الحركة. فلا زالت هذه المفاهيم المنهجية الأصولية تعاني غربة كبيرة داخل أوساط عديدة من الإخوة، ولا زال البعد العلمي والمنهجي برمته يحتاج إلى مزيد من تأسيس الحضور قبل الحديث عن رفع الاقتناع بهذه المنهجية من مستوى التداول الاستهلاكي إلى مستوى الاعتماد كآلية للاشتغال. البعد التنظيمي: الوظائف والتخصصات وتمايز الدعوي عن السياسي لعل أكبر نجاح حققته الحركة نقلها إلى مستوى الريادة داخل العالم العربي والإسلامي ما قامت به من اجتهاد تنظيمي على مستوى نظرية العمل وعلاقة الدعوي بالسياسي. جهد تنظيمي كبير لم يكن مفصولا عن بعده التصوري، قارب نظرية العمل بنحو غير مسبوق في دائرة العمل الإسلامي، إذ لأول مرة تجرؤ الحركة الإسلامية على طرح مفهوم المركزية جانبا واعتماد نظرية التخصص كرهان تنظيمي فك العديد من الإشكالات الدهرية التي لا زالت الحركة الإسلامية في الوطن العربي تعاني منه إلا الآن. رهان تنظيمي لم يكن من الممكن إنجازه لولا أن الحركة تجاوزت منطق القيادة الحكيمة التي تعرف كل شيء ولها القدرة على ضبط كل شيء وهي الوحيدة المخولة في الحسم كل شيء. اجتهاد تنظيمي انطلق من فكرة بسيطة ترى أن تركيز النظر في كل القضايا والحيثيات لا يسمح للقيادة بالانصراف إلى القضايا الاستراتيجية، وأن تضخم الجزئيات ومتطلبات اليومي على أجندة قيادة الحركة لا يسمح لها البتة بالنظر في آفاق رحبة للعمل الإسلامي. اجتهاد تنظيمي أسس لفكرة الوحدة على عناصر المشروع وتخصص قيادات من الحركة لمناشط من العمل، وتفرغ قيادة الحركة للقضايا الكبرى والعناوين الاستراتيجية. اجتهاد تنظيمي سمح بتشكيل العديد من المؤسسات المستقلة تنيظيميا عن الحركة والمرتبطة من حيث المشروع مع عناوينها الاستراتيجية. اجتهاد تنظيمي لم يحرر قيادات الحركة فقط من الانخراط الكلي في الجزئي والانغماس في حل الإشكالات البسيطة التي يمكن أن تحصل لأبسط حلقة من حلقات التنظيم، وإنما مكنها أيضا من رسم خريطة تحالفات جديدة مع مكونات في المجتمع السياسي والمدني لم يكن من الممكن أن تصل إليها الحركة المشتغلة بمنطق مركزي، هذا فضلا عن انخراط العديد من شرائح المجتمع في هذه التخصصات، وهو ما لم يكن متصورا لو بقيت الحركة تشتغل بالأوات التنظيمية التقليدية. على أن أكبر اجتهاد قامت به على هذا المستوى، وهو من لوازم إرساء فكرة التخصصات هو الاجتهاد في تحديد وظائف جديدة للحركة والتمييز بين ما هو دعوي وسياسي، وهو اجتهاد لم يصل العقل الحركي في العديد من أقطار العالم العربي إلى مجرد طرحه فضلا عن تأسيس أطروحته واعتمادها كخارطة طريق لرسم حدود العلاقة بين الحزب والحركة في المشروع الحركي الإسلامي. وعلى الرغم من الاجتهاد الذي حصل على هذا المستوى إلا أن جوانب كبيرة لا زالت تحتاج ليس فقط إلى إجابات بخصوص طبيعة هذا التمايز ووظيفة الدعوي والسياسي وحدود والتقاطع والتمايز والانفصال والضوابط المؤطرة لكل وظيفة على حدة. وهو ما يتطلب ليس فقط تكريس هذه الاجتهادات الجديدة ورفعها إلى مصاف القناعات الراسخة في ثقافة الإخوة، وإنما يتطلب وبشكل أساس تأصيل النظرية بأمثلتها ونماذجها، ووضع ضوابطها وقواعدها حتى يفهم العضو في الحركة طبيعة العمل السياسي وطبيعة العمل الدعوي وتكون له القدرة على التمييز الإرادي بين الحقلين واختيار الحقل الأنسب إلى ميوله وتطلعاته. التحول الاستراتيجي: نظرية العمل ربما شكلت وثيقة حركة التوحيد والإصلاح أول مؤشر لبوادر ظهور فكر استراتيجي داخل الحركة الإسلامية. ورقة وإن كانت مشحونة بنفس التأصيل لفكرة تأمين الحركة الإسلامية وتجنب الوقوع في الخط الصدامي مع السلطة، وترك مداخل التغيير مفتوحة على كل الواجهتين معا: الدينية والدستورية، إلا أنها على الأقل تحدثت عن خطوط عامة في نظرية التغيير، إذ لأول مرة تنضج فكرة الجبهة الدينية داخل الحركة الإسلامية، وتنضج أفكار حول مداخل التعامل مع النظام السياسي القائم، وتجعل بؤرة الاهتمام تنصرف بشكل أساس إلى منظومة القيم. ورقة، يكاد يكون هناك اتفاق بين العديد من القيادات الفكرية داخل الحركة أن الحاجة أضحت ماسة إلى مراجعتها وفقا للقناعات الجديدة التي نضجت. فالورقة السياسية للحركة التي كانت محكومة بالشروط الزمنية (أنتجت في سياق الوحدة) بات السياق الجديد يفرض مراجعتها على ضوء ما ترسخ من رصيد من الأفكار والقناعات الجديدة، وفي هذا الإطار يمكن أن تندرج العديد من الأفكار التي طرحها الأستاذ أحمد الريسوني والأستاذ محمد الحمداوي وبخاصة في مراجعة العديد من المفاهيم بما في ذلك مفهوم الجبهة الدينية نفسه. مثل هذه الأفكار اليوم، باتت تفرض أن تجد مكانها الطبيعي داخل ورقة سياسية جديدة تضع الأفق الاستراتيجي للحركة في ضوء ما تراءى من تحولات عميقة في المشهد القيمي والسياسي المغربي. المهام المتبقـية والأبـعاد الغائبة على الرغم من الإنجازات التي تم تسجيل بعضها إلا أن هناك جوانب متبقية باتت تفرض عناية أكبر. ولعل على رأس هذه الجوانب البعد التجديدي والبعد الفكري. فلحد الساعة لم يظهر ما يؤشر على أن الحركة أحدثت تحولا فكريا في المشهد الفكري المغربي، بل إن رصيدها الفكري عرف تراجعا كبيرا بالقياس إلى المرحلة السابقة، فالعديد من قياداتها الفكرية انصرفت إلى مناشط أنهكتها وأفقدتها القدرة على التفكير الاستراتيجي، هذا فضلا عن غياب مؤسسة تعنى بقضايا الإنتاج وتشجيع الفعاليات الفكرية الجديدة داخل الحركة. فإذا ما قارنا ما تم إنتاجه من أدبيات تنظيرية وازنة ما بين سنة 1987 إلى سنة 2002 فسنجد مرحلة ما بعد 2002 تكاد تكون خالية من أية مساهمة نوعية، وهو مؤشر خطير يعكس تدني مستوى الإنتاج الفكري داخل الحركة، وهو ما سيكون له تداعيات على مستوى قناعات أعضاء الحركة ودرجة حضور الفكر الموجه لحركتهم. وعلى الرغم من أن الحركة قد جعلت من رهاناتها المستقبلية قضية الإنتاج الفكري، إلا أن البطء والتردد في هذا المجال لا زال هو السمة الغالبة، ذلك أن الحركة لم تتوجه إلى أصل المشكلة داخل جسمها التنظيمي، بما هي تضاؤل الحضور الفكري وغياب المنشط التأطيري، وهجرة كثير من المثقفين لدواليب الحركة التنظيمية، وفضلت أن تتجه إلى البعد الفوقي الذي يعنى بجمع بعض الفعاليات الفكرية وتوجيه إبداعها الفكري نحو بعض القضايا مثل الحداثة والقيم وغيرها. أما البعد التجديدي: فلحد الساعة، لم تظهر لنا مؤشرات تفيد أن رصيد الحركة الإسلامية أحدث تحولا نوعيا في المجتمع، أو على الأقل أثر في شرائح عديدة وأحدث نقلة كبيرة في وعيها، فلا زالت العادات الاستهلاكية سيدة الموقف، بل إن أبناء الحركة الإسلامية أنفسهم لم ينجوا من أن تلحقهم عدوى الإصابة بقيم الاستهلاك بل والقيم التي يحملها سيل العولمة الجارف، ولعل ما يكتبه الدكتور أحمد الريسوني مؤخرا حول التدين المنحط يدخل في صميم تصحيح الذات الحركية ويعطي صورة واضحة عن الأعطاب الذي لحقت جسم الحركة الإسلامية، كما يمكن اعتبار آرائه التجديدية في هذا الباب مدخلا حقيقيا من مداخل التجديد المطلوب إحداثه على صعيد المجتمع. وعلى العموم، فهذه بعض القضايا التي نطرحها للنقاش لعلها تفيد في تحريك البوصلة نحو الأعطاب الحقيقة التي تعاني منها الحركة الإسلامية والتي باتت تتطلب أكبر من جهد لمعالجتها.