الاطمئنان واليقين النفسي بالذكر القرآني "" يقول الله تعالى بخصوص النفس المطمئنة والأسباب المحققة لهذا الوصف: "يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" ."الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب " ."فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء" ."أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله،أولئك في ضلال مبين" ."ألم نشرح لك صدرك" . إن هذه الآيات قد تصور لنا مظهرا من مظاهر النفس الإنسانية وهي على صفة المطمئنة أي الآمنة والهادئة والخالية من مظاهر القلق والتوتر والعصاب،كما أن لها سلوك معين بالرضا عن الحق ورضا الحق عنها. فكيف إذن قد تيسر لها الحصول على هذه الحالة واكتسابها بعدما كانت لوامة وأمارة بالسوء؟. إن القرآن الكريم قد يفسر بعضه بعضا ويصرح بأن الاطمئنان الذي أصبح صفة للنفس قد تحصلت عليه بوسيلة سيحصرها في قوله تعالى :" ألا بذكر الله تطمئن القلوب". فما هي علاقة الذكر بالقلوب وما هي خصوصية هذا الاطمئنان الذي قد يحققه ويتميز به عما قد يدعيه البعض من تحصيله بوسائل مادية صرفة أو نفسية ذاتية عادية؟. إن الذكر كلفظة له معان اصطلاحية لغوية وأخرى شرعية و عرفية ،لكن المقصود هنا هو المفهوم الشرعي الذي قد يجمع بين المعنى العام للذكر وهو القرآن نفسه كما في قوله تعالى:"وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون" ."والقرآن ذي الذكر" وبين الذكر بالمعنى الخاص المرتكز على جمل معينة وألفاظ مستخرجة من القرآن نفسه أو الأحاديث النبوية والتي قد تتضمن تسبيحا وتقديسا لله تعالى وأدعية وتضرعات على سبيل التكرار والملازمة،كما نجد في قول الله تعالى:"سبح اسم ربك الأعلى " .وقوله في حق سيدنا يونس:"فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " ،والذي قد كان تسبيحه على صيغة:"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" ،وكذلك قوله تعالى في حق نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:"إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" . وإذا كان الذكر قد يضم هذا المعنى العام والخاص فإنه سيكون مصدر الاطمئنان لدى الإنسان إن هو التزمه واستصبح أو استشرق بأنواره ومضامينه. فبدون هذا الذكر فلن يكون للقلوب اطمئنان،والسبب في ذلك -والله أعلم -أن النفس الإنسانية حينما تستيقظ من سباتها وتخرج من براثن وأوحال المادة الخسيسة والمنحصرة في الجوانب الشهوية والأطماع الدنيوية الفانية والهالكة في حينها عند الاستهلاك والتوظيف فقد تحاول التخلص مت تلك الدوافع لكي تعود إلى وطنها الأصلي ومكانها ومكانها الراقي في عالم التجريد والتفريد،وفي أثناء هذه المرحلة الانتقالية قد تتجاذبها غرائزها كمحاولة منها لإحباط تطلعاتها لتلك الآفاق الواسعة،فلا تجد حينئذ طريقا للتخلص من هذه العوائق إلا بالرجوع إلى مراجعة ذاتها وإلغاء انطوائيتها على نفسها وذلك باللجوء إلى واهب وجودها الذي قد خلقها في أحسن تقويم. وعند هذا التوجه بالكلية فقد تتوحد قواها فتصير ذات تحكم في غرائزها وترشيد لها وذلك بسبب إخمادها إياها لتوهجاتها عن طريق عدم الإثارة وتعمد الكف الباطني الذي قد يجعل تلك الغرائز شبه نائمة،نظرا لغياب المنبهات المناسبة لطبيعتها مرحليا وحضور الذات الواعية بديلا عنها بسبب انشغالها بخالقها وواهب وجودها ونعمها سبحانه وتعالى. وعند هذه الحالة فسيكون الاطمئنان حتما مصاحبا للنفس الإنسانية لأنها قد تكون وافقت الفطرة التي فطرها الله عليها،ألا وهي فطرة التوحيد الذي قد أشهدها الله عليه في عالم الذر إذ يقول :"وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشههم على أنفسهم الست بربكم ؟قالوا بلى" . فالاطمئنان قد يحصل بسبب الاكتفاء والثقة التي تكتسبها النفس عن طريق إشباعها بالغذاء الخاص بها ،وذلك لوجود فقر ذاتي لديها إلى الله تعالى،لأن الروح من أمره الخاص،وتتجلى هذه الخصوصية في تحقيق العبودية الإرادية والواعية والتي من أجلها كرم الله تعالى الإنسان وفضله على كثير من خلقه. لهذا فالذي يؤمن بالله وبذكره قد يحصل له اطمئنان في قلبه ،لأنه قد توصل إلى كسب الثقة في الله تعالى والتوكل والاعتماد عليه في تحقيق سعادته. فلكي يكون هذا الاطمئنان كامل الثبات والرسوخ في النفس فلا بد من تكرار القاعدة المستند عليها وهو ذكر الله لفظا ومعنى ،وهذه العملية قد تهدف إلى المحافظة على استحضار هذا الإيمان وتعويد النفس الاستقرار على منهجه وما يتضمنه من معرفة غيبية. فقد يحدث أن يتوهم الإنسان اطمئنانا من دون أن يكون ذاكرا لله تعالى أو غير مؤمن به،إلا أن هذا الاطمئنان سطحي وظرفي سرعان ما يتبخر حينما تنجلي الحقائق ويطلع نهار اليقين،وهذا النوع من الاطمئنان قد أورده الله تعالى في قوله :"إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون " . وهذا النوع من الاطمئنان ناتج عن ضيق أفق الطموحات النفسية،ثم إنه مترتب عن كف معاكس للكف الحاصل لدى المؤمنين المطمئنين بذكر الله تعالى،إلا أن ميزة الكف عند هؤلاء الأخيرين قد تكون بسبب تسامي في التصور والاستعلاء عن المستوى المادي الثخين .ودليله هو أنهم رغم مباشرتهم لمادة ومزاولتهم تداولها فإنها لم تستطع أن تجذبهم إلى أحضانها كلية أو تحدث لديهم كفا كما وقع لغيرهم من غير المؤمنين بالله تعالى. فالإسلام حينما يقرر الاطمئنان النفسي فإنه قد لا يحصره في العمل الروحي فقط ، بل سيجعل له ارتباطا نسبيا بالحياة المادية،وذلك لكي لا يتم إهمال هذا على ذاك أو العكس . فالجوع والخوف والمرض والظلم والحروب...كلها عوامل مقلقة وسالبة لمظاهر الاطمئنان،لكنها قد تتضاءل قوتها في حالة وجود ذكر الله تعالى وملازمته والإيمان به. أما إذا غاب المذكِّر والسند العقدي الروحي الموقظ للوعي والثبات وتوالت بعده الفتن والبلايا فإنه سيكون حينئذ أشد العذاب وأقصى درجة القلق لدى الإنسان ،وفي هذا المعنى يقول الله تعالى:"وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون" . ولهذا فكفُّ الماديين هو كف غير متوازن مع الواقع الذي قد يتطلبه وجودهم وقانونه العام،لأنه كف عن الأعلى إلى الأدنى ،بينما كف المؤمنين هو كف عن الأدنى إلى الأعلى مع استحضار الوعي الكلي بهذا الأدنى كمظهر ومستلزم ضروري لعبور قنطرة الحياة الدنيا وضروراتها المادية المرَشَّدة. وهذا النوع من الكف عند غير المؤمنين قد سماه الله تعالى غفلة لأنه نفسي وتصوري قد يبقى في حدود الخيال والوهم،أما الحقيقة الجوهرية فهي ثابتة قد لا تتغير ولا تتبدل ،يقول الله تعالى مخاطبا الإنسان الغافل كتنبيه وتوبيخ له:"لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" . ونظرا لوهمية هذا الكف وهشاشته لدى غير المؤمنين بالله تعالى فإنه سرعان ما يتبخر أمام الأحداث المتعاقبة ويقع فريسة القلق والاضطراب الذي لا مفر منه،ومن ثم فقد ينبذ ذلك الملجأ الذي قد كان يطمئن إليه فيهرع حينذاك إلى الاستنجاد ومناجاة مصدر الاطمئنان وأصله الحقيقي، و هو الله تعالى بواسطة ذكره،والذي سبحانه قد أمهل هذا الإنسان لينظر كيف يصنع في حياته واستقلال إرادته المحدود حتى إذا فشل واستشعر ضعف نفسه اضطرارا ويقينا واقعا ،كما نصت عليه الآية الكريم:"يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا" ،لجأ إليه يطلب منه العون والمغفرة كما يقول الله تعالى :"ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون،وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ،كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون" . "هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين،فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض يغير حق ،يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون" ."وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه" . فكما قد فهمنا من هذه الآيات بأن الاطمئنان القائم على مجرد الاكتفاء والثقة الوهمية بمظاهر المادة أو الشعور النفسي المصاحب له ليس بذي وجود حقيقي أو ثابت إلا إذا كان يستند إلى حقيقة ثابتة وجوهرية قارة"يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " ،ولهذا فالاطمئنان الحقيقي هو الذي قد لا تتحكم فيه الظروف ولا تغيره الهزات لأنه ليس مجرد السلامة من الآلام والأسقام فقط وإنما هو نصب هذه الروح في فلكها الذي خصص لها من باب التوحيد والإيمان المباشر،والذي بدونه فإنها قد تبقى مضطربة بين اطمئنان وهمي مادي ومحدود كاستدراج وبين الاستغاثة بمصدر الاطمئنان الحقيقي عند الاضطرار ولكن تحت ستار متلبس بالمخادعات التي قد تكون وبالا عليها ،لأن الله عليم بكل أحوالها،والذي قد"يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور" فيجازيها على حسب نكرانها للجميل والفضل . فيكون أنسب جزاء عقابي لها حينئذ هو حرمانها من الاطمئنان الحقيقي وتعريضها للوم نفسها لوما مؤلما على مستوى نفسي بل حسي أيضا:"يوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى لم أتخذ فلانا خليلا " . الإلحاد وسلبية التفاعل النفسي مع الخطاب القرآني نمضي مع القرآن في هذا السياق بآياته المعجزة والتي كل منها قد تمثل بحرا فياضا من الحقائق النفسية التي تصور لنا شخصية الإنسان الحقيقية في حياته الشعورية واللاشعورية حيث يقرر بأن النفس الإنسانية وإن هي وقع لها كف وغفلة عن الإيمان بالله تعالى فإن الذكر قد يبقى دائما هو الموقظ لها مما هي تتخبط فيه لأن لها به ارتباطا وثيقا وجذريا. فنراه يورد حقيقة نفسية برهانية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ،يصور لنا فيها واقعها المستند على المشاهدة التجريبية،يقول الله تعالى:"وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون" ."وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ،وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا" . فهاتان الآيتان قد تصوران لنا حالة ذلك الإنسان القلق المضطرب والذي يعاني من خوف أو نقص أو انحراف ما، وقد كان من الواجب أن يحدث له عكس ما وصفه به القرآن الكريم من الاشمئزاز أو النفور لأن القاعدة الرئيسية كما رأينا هي أن ذكر الله تعالى يسبب الاطمئنان واليقين ،فما بال هؤلاء الموصوفين هنا بهذه الحالة الشاذة قد يحدث لهم العكس مما هو متوقع؟. إن جذور هذا الانفعال قد تبدو عميقة جدا ولها خلفيات متولدة عن الصراع الداخلي الذي قد يعانيه الإنسان من جراء مخالفته لغريزته الحقيقية،والتي هي المستحقة لأن تسمى غريزة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى لأنها قد تمثل الانطباع الكلي في الذات الواعية للإنسان والتي قد لا تقبل التجزؤ أو الاندثار والمحو،إذ لا معنى لهذا الانفعال لولا وجود رابطة وثيقة بينه وبين سببه. فهذه الغريزة هي فطرة التوحيد والإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له كما نص عليها وعممها النبي صلى الله عليه وسلم يقوله :"كل مولود يولد على الفطرة"،وهذا الإيمان هو الذي قد أشهد الله عليه الأنفس الإنسانية في عالم لا ندري كيف هو ويصطلح عليه بعالم الذر.ولهذا فحينما يذكَّر الإنسان غير المؤمن بالله تعالى فقد يحصل له اضطراب بسبب شعوره بنقضه للعهد الذي كان قد أخذه على نفسه وهو في حضرة ربه في ذلك العالم المشار إليه،فيكون هذا الذكر أو التذكير موقظا قويا لذلك الانطباع الذي قد طبعت عليه نفسه منذ تلك المرحلة غير الزمنية فيقع حينئذ فريسة الصراع بين الحقيقة والوهم.ونظرا لأن الوهم يكون قد استولى عليه وذلك بواسطة استسلامه له فإنه سيغمره ويحجبه عن الحق الذي قد يطل عليه بشعاعه كلما فتحت نافذة أو فرجة صغيرة ولو على حجم الذر نفسه ،لأن النور أسرع في الظهور والسطوع من كل الحواجز طالما هناك منفذ وأمل في العودة إلى الحق ولم يكن الحجاب :"ظلمات بعضها فوق بعض". ومن هنا فقد لا يكاد غير المؤمن والمصطدم بهذا الشعاع يميزه حتى يعود إلى مقامه الوهمي والمستحوذ عليه بفعل غفلة نفسه أو تضليل الشيطان الرجيم له.ومن ثم فقد يحدث له الاضطراب والنفور والاشمئزاز كما لخص لنا ابن عطاء الله السكندري الصوفي المشرب هذا المعنى في الحكمة التالية:"الحق ليس بمحجوب وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه،ذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه ولو كان له ساتر لكان له حاصر وكل حاصر لشيء فهو له قاهر وهو القاهر فوق عباده" . فالأوهام النفسية هي التي قد حجبت الإنسان عن الحق ومن ثم ولدت لديه عداوة معلنة تجاهه ليس من باب زعزعة الاعتقاد القلبي والإيمان بالغيبي فقط ولكن من باب أن الأوهام قد تصل به إلى مستوى لا يصدق فيه حتى حواسه الخمس كما يقول الله تعالى:"ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون" ."ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم شيئا إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون" . وهذا التفاعل بالنسبة إلى الكافر قد يبدو سلبيا. وكأنه مناقض للأثر الرئيسي الذي يحدثه الذكر في القلوب كما في آية الاطمئنان. والحقيقة التي يمكن استخلاصها من هذا الحال النفسي -وأقول النفسي وليس الروحي- لأنه لو كان روحيا لتمثل بالاستجابة الايجابية موافقة للفطرة ولاتصال الروح بأمر الله تعالى : « قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلى قليلا». ولهذا فحال المؤمنين الذاكرين حال روحي كيفما كان نوعه أما حال المنافقين والملحدين فهو حال نفسي مرضي مختل. قلت : ما يمكن استخلاصه من حال الكفار عند سماع ذكر الله تعالى هو أن سببه وجود مناقضة بين غاية الغذاء الفطري الأصلي والانحراف الغريزي الذي وقع فيه الكافر. ولهذا تحدث لديه صدمة كما يصدم العطشان بالشرق (أو المغص) عند شرب الماء البارد[74]، رغم احتياجه الذاتي والضروري إلى شربه وكما يصدم الجسد بالدواء أو نوع من الغذاء حينما يكون الجسم في حالة مرضية مستفحلة وغير مستعدة لتقبله واستساغته...، ليس لأن الدواء غير ضروري أو صالح، بل لأن الجسم قد بلغ درجة من المرض والتحلل الذي فسد إثره مزاجه وعنصره وكذلك ذوقه كالذي يجد مرارة في العسل بسبب مرض الصفراء مثلا أو ما إلى ذلك كما يقول الشاعر: ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرابه الماء الزلالا. فالانحراف الغريزي عند الكافر هو مناقضته للعهد والميثاق الذي أقر به في عالم الذر وشهد فيه لله بالربوبية والألوهية شهادة التواثر الحضوري مع الجمع الروحي حينما قال : «بلى! شهدنا». فالذكر إذن يذكره الميثاق ويحيى فيه ذلك الانطباع الذي طبعت عليه روحه بمجرد سماعه . ولكن بصورة جبرية اختراقية لوضعه الانحرافي. فيقع حينئذ فريسة الصراع بين الحقيقة والوهم، ونظرا لأن الوهم يكون قد استولى عليه بسبب تماديه في الغفلة والجحود وتهميش فعالية الغريزة الأصلية على حساب الغرائز التبعية، فإنه ما أن يستفيق بسبب الاختراق النوراني الذي يؤسسه الذكر في القلوب حتى يعود إلى مناقضة الحقيقة بسبب التطبع الذي اكتسبه بالغفلة والنسيان إلى أن أصبحت الأوهام الالحادية من عناصر مكوناته الشخصية التي لايستطيع التخلص منها بإرادته كما في قول الله تعالى وصف هذه الحالة « كلا بل ران على قلوبهم ماكانوا يكسبون ، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون»[75]. فالران المذكور في الآية يعني التراكم السلوكي والاجرائي المؤدي إلى الانحراف والغفلة والنسيان، وهذا التراكم يكون عاملا على صرف الانسان عن الحقيقة العظمى، ولهذا كانت أخطر نتائجه أنه يحجب الانسان عن ربه سواء في الدنيا أو الآخرة : « من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا». إذ بالامكان أن يؤثر شعاع الشمس في العين العمياء. كتحسيس بوجودها. كما أنه يمكن أن يعرضها لانفعالات غير إرادية كسيلان الدمع أو إيلام العدسة. والموق وما إلى ذلك من الانعكاسات السلبية التي يحدثها شعاع الشمس على الأجسام الرخوة وخاصة النسيج العيني. مما يجعل العين بالضرورة تصرف عدستها أو توجهها عن الشمس باغماض الجفون احتجابا واعتراضا على شعاعها رغم احتياجها إليها في أبصارها من حيث المبدأ وفي حالة سلامة العضو العيني. ولهذا الانفعال السلبي الذي يحدثه شعاع الشمس على العين فإنه يكون سببه الجهل بطرق الاستفادة منه. وبالتالي الانحراف الوظيفي الذي تعاني منه العين، مما أدى بها إلى الاعراض عن نور الشمس بالكلية. رغم أنه يحسسها بوجود الشمس بمباشرتها من حيث لاتدري ولاتريد! وهذا المثال يكاد ينطبق مجازا على أثر ذكر الله تعالى على قلب الكافر واشمئزازه ونفوره منه. لأن قلبه أعمى ونور الذكر يفرض أثره عليه رغم عمائه لارتباطه به وجوديا وغريزيا لايمكن محوه بالصرف أو الاعراض والاحتجاب. وهو مايسبب تفاعلا جبريا بين الكافر والذكر فيه عذاب للكافر وتنبيه له عسى أن يؤوب إلى رشده ويرجع إلى فطرته الأصلية ألا وهي الإيمان بالله وتوحيده. ولهذا قلنا أنه لو كان الكافر موضوعيا وسليم الفكر لاستدل بهذا الاشمئزاز الحاصل لديه عند الذكر على وجود الله سبحانه وتعالى ولأقربه إقرارا برهانيا قطعي الدلالة. كما يترتب عن هذا الاستنتاج قياس لدى المؤمنين على مستوى مشاهدة الاجراءات السلوكية التعسفية والاجرامية التي يمارسها الكفار سواء كانوا ملحدين أو ممن يسمون بأهل الكتاب . ويتلخص في أنه كلما ازداد عداء هؤلاء للمسلمين المومنين بالله وبرسوله كلما ازداد المسلمون إيقانا بأنهم أهل الحق وازداد بذلك تمسكهم بدينهم وتشبثهم بعقيدتهم، لأنهم يرون سلوك الكفار الهمجي من الخارج ويرون أن معاداتهم لأهل الإيمان لامبرر موضوعي لها. وحيث أنها لامبرر موضوعي لها فهي إذن ضلال وانحراف ونشدان نقص فادح. لايجدون إلى الحصول عليه سبيلا. ولهذا فسلوكهم فيه صورة واضحة من صور عقدة الشعور بالنقص، والذي هو أنقص النقائص، فكان إجراؤهم للتعويض عنه من جنس فداحة نقصانه. وهذا النقصان هو مناقضة الميثاق الذي واثقهم الله عليه في عالم الذر. وانحرافهم عن توظيف الغريزة الأصلية في مجالها المناسب. ولهذا فاعتداءاتهم على أهل التوحيد ليست سوى اعتداءات ذات خلفية عقدية بالدرجة الأولى لا مبرر لها عنصري أو اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي. وهذه الحقيقة قد أوردها الله تعالى في كتابه العزيز نجد من بين نماذجها قول الله تعالى : « ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم. والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم»[76] «ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق. فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير»[77]. « قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على مايفعلون بالمومنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد»[78]. صنف المنافقين وسلبية الأقوال والأحوال إذ في ما يخص حال المنافقين الوارد في قول الله تعالى : « إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا، مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا» فقد تميز باختلال سلوكي أخلاقي وحركي واضح كعنوان على الواقع العقدي لديهم والمتمثل في عدم استقرار الإيمان ورسوخه في قلوب المنافقين. وهو ما أدى إلى غياب الانضباط والتماسك السلوكي أو الحركي كمواقف والتزامات. ولهذا فمهما ادعى المنافقون أنهم ملتزمون ومتبعون لأحكام الشريعة الإسلامية إيمانا وتصديقا فإن حالهم هو الذي يكذبهم، وعلى رأس هذه الأحوال ظاهرة عدم الاكتراث بذكر الله تعالى. مما يعني التقليل منه كما وصفهم الله تعالى. وهذا التقليل من ذكر الله له نتائج سلبية : وهي غياب الباعث إلى الحركة والاطمئنان كحال مؤدي إلى التكيف والانسجام مع أعمال العبادات الأخرى. مما أضفى على المنافقين وصف الكسل وتثبط العزائم. والكسول هو الذي لايستنهضه باعث أو حاث على الحركة لعدم إيقانه بنتائجها وثمرتها، أو لشكه في جدواها ومصدر تشريعها. وبما أن الصلاة هي وسيلة صلة العبد بربه فإن غياب الإيمان عند المنافقين بهذه الصلة وفائدتها وبعدها لكفرهم أوشكهم في مشرعها أدى بهم إلى هذه الظاهرة السلبية على مستوى الحركة والقول كدلالة على أحوالهم الباطنية التي تنبئ بغياب الإيمان عن القلوب ومباعدته لها، واقعا عقديا وممارسة عملية. كما أن قلة الذكر عند المنافقين كان له دور كبير في غياب الاندماج الكلي داخل المجتمع الإسلامي الذاكر. وبالتالي إحداث ظاهرة الانفصام الاجتماعي لدى المنافقين المؤدي إلى سلب الهوية وانفصام الشخصية كما عبرت عنه الآية في قول الله تعالى : « مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا». ورغم تظاهرهم بالإيمان والتقوى. فإن أحوالهم تبقى دائما ذات طابع تناقضي ملحوظ تتسم في أغلب مظاهرها بالجفاف والتصنع والتقحل الذوقي والأخلاقي، لوجود انقطاع نوراني كانت وظيفته الوصل بين القول ومصدره ألا وهو القلب جوهر الإنسان مما يعني غياب عنصر المدد المفيد للقول وادعاءاته وهذا مما يفسر لنا لماذا أن المنافقين لايستطيعون أن يكثروا من ذكر الله تعالى والاستمرار فيه لحد أن يصلوا إلى درجة الذكر الموصوف كما في آية الأسوة أي « ذكر الله كثيرا». ولقد وصفهم الله تعالى أدق وصف عند تحديد سبب هذا الانقطاع الروحي وبعده العقدي والسلوكي. في سورة المنافقون حيث يقول تعالى : « إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون، اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله، إنهم ساء ما كانوا يعملون، ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لايفقهون، وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة، يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يوفكون، وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون»[72]. فهروبهم من الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفاره لهم والذي في حد ذاته ذكر، دليل على هروبهم وانحرافهم عن الائتساء به، وانحرافهم عن هذا الائتساء في صورته الظاهرية له خلفية عقدية وروحية من أبرز مظاهرها غياب الذكر أو قلته مما يعني انقطاع الوصلة بينهم وبين خالقهم مصدر الاستمداد الروحي والإيماني، والذي يلازمه بالتعدي انقطاع الوصلة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الواسطة النموذجية والمحطة العليا في الرصد والتأسي لتحقيق هذه الوصلة المشروطة كما بينا. وقد يتساءل البعض كيف أن المنافقين رغم استقرارهم في الدرك الأسفل من النار كجزاء أخروي قد يذكرون الله قليلا في بعض الأحيان مع أنهم أسوأ حالا من الكفار وأشد ضلالا؟ والجواب على هذا كما ورد في الآيات السابقة : « ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون». أي أنهم ناقضوا الحقيقة بعدما أشرفوا على مشاهدتها ببواطنهم إشرافا جزئيا سرعان ما تحول حالهم عنده إلى مرض أخلاقي وصفه الله تعالى بالمخادعة أي مناقضة الظاهر للباطن والأعمال للنيات للتضليل والتزييف والمكايدة وما إلى ذلك من السلوكات ذات الأثر السلبي على سلوك الفرد والمجتمع. بل قد يؤدي إلى تدمير الوجود الإنساني تدميرا كليا إذا استفحل وجوده وعم التعامل به. ولكن رغم هذا المأزق الذي يتردى فيه المنافقون فإن الذكر يبقى فارضا أثره وحضوره عندهم بصورة ضئيلة وغير ذات فعالية من الناحية الإيمانية أو السلوكية وإنما نتيجة ذلك الاستشراف الجزئي التنبيهي كبوارق غير مباشرة تثير قلب المنافق بين الفينة والأخرى بسبب الصلة الغيبية والفطرة الروحية التي لابد وأن تبقى منها بقية لتذكر أصلها مهما أعرض الشخص عن توظيفها الإرادي بالأسلوب الصحيح. وهذه البوارق سنجد تقريرا عنها في قول الله تعالى : « أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين، يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير»[73]. ولهذا التعامي الذي يكرسه سلوك المنافقين مع الإيمان بالله ورسوله فإنهم رغم استشرافهم الجزئي على ملاحظته فقد استحقوا أشد العذاب لأن كفرهم نتيجة مرض أخلاقي متمثل في الاستكبار والمخادعة والجحود لما هو يقيني ومشهود. بعد معاينة آثاره في قلوبهم وتجاوبهم معه بالقليل من الذكر لعدم استقرار إيمانهم به. والذي لايكاد يسترسل حتى ينقطع حبله بسبب تقلب قلب المنافق بين الكفر والإيمان وانطباعه على هذا التذبذب الذي لايفيد عقيدة راسخة ولا عبادة مستمرة. وكاستخلاص جملي حول هذه الوظيفة التي يحققها ذكر الله تعالى أقول: بأن الذكر في كل الحالات يبقى دائما معيارا للقوة الايمانية ووسيلة استدلالية على رسوخ إيمان الذاكرين المسلمين في ملاحظتهم لأنفسهم أو بعضهم البعض، كما أنه يوضح لهم كعلامات ظاهرية خبث وضلال المنافقين والكفار معا من خلال ملاحظة أحوالهم النفسية المرضية وأعراضها السلبية الطارئة عليهم إما عند مزاولتهم للذكر الموصوف بالقلة والكسل كما هو حال المنافقين وإما عند سماعهم له واشمئزازهم أو نفورهم منه. وبهذا يتبين لنا من خلال هذا التفسير المتواضع لهذه الوظيفة التوحيدية للذكر أنه لا رسوخ لإيمان بدون ذكر ولا إكثار لذكر دون إيمان مباشر كما أنه لا سداد لفكر دون إيمان مباشر بذكر، ولهذا فمن زاد عليك في الذكر زاد عليك في سداد الفكر ومن زاد عليك في سداد الفكر زاد عليك في الإيمان المباشر ومن زاد عليك في الإيمان المباشر كان أقرب منك إلى الائتساء برسول الله صلى الله عليه وسلم.كما أن الإسلام قد أعطى التوضيح الصحيح للنفس الإنسانية والمنهج السليم للحفاظ على استقرارها واطمئنانها،وعلى هذا فالنفس المطمئنة تبقى هي أرقى النفوس الإنسانية وتمثل مظهر سعادتها الحقيقية والتي قد لا تتحقق إلا بشروط ،وهي التي قد رأينا من خلال هذا العرض السريع والمختصر لبعض ظواهر النفس الرئيسية وسعة الآفاق الاستدلالية والمجال الذي يمكن أن تسعى وتطمح إليه سبرا وكشفا كما أوردها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. [email protected]