من أيسر الأعمال التي يستطيع المسلم أن يحيي بها قلبه ويرضي بها ربه ويتقرب بها إليه، ذكر الله تبارك وتعالى، إذ ليس بعد القرآن الكريم عبادة تؤدى باللسان أفضل من ذكر الله، لهذا عظم الله تعالى شرفه. ومما يدل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يشرح علو درجة الملائكة في مقام العبودية مدحهم بالذكر فقال : ( فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون). وقال أيضا (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون). وإذا كان هذا في حق الملائكة فإن في حق البشر آكد وواضح يشهد له القرآن و السنة والآثار والعقول. الذكر في القرآن الكريم قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة و أصيلا ).وقوله عز وجل ( واذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين). وقال أيضا (والذاكرين الله كثيرا و الذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) وقال سبحانه و تعالى(واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) وقوله عز و جل(ألا بذكر الله تطمئن القلوب). وحسبك لو تأملت قوله تعالى(الذين يذكرون الله قياما و قعودا وعلى جنوبهم) لوجدته لم يعذر أحدا في ترك الذكر، إذ الآية صريحة في وجوبه بالليل والنهار والبر والبحر والنهر والحضر والغنى والفقر والصحة والمرض، قال الرازي-رحمه الله- : " قال بعض المحققين إن الله تعالى لم يفرض على أحد من عباده فريضة إلا جعل الله له حدا معلوما تنتهي إليه، وعذر أهلها في سائر الأحوال، إلا الذكر فإنه لم يجعل له حدا معلوما ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا من كان مغلوبا على عقله."1 الذكر في السنة أما من السنة : فأحدها : ما أخرجه الإمام مسلم و ابن ماجه و الترمذي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه، إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، وإن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ". وثانيها: أخرج الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم أن رجلا سأله فقال: أي الجهاد أعظم أجرا يا رسول الله، قال : أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا. قال أي الصائمين أعظم أجرا، قال : أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا، ثم ذكر لنا الصلاة و الزكاة والحج و الصدقة كل ذلك و رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا، فقال أبو بكر رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه : يا أبا حفص ذهب الذاكرون بكل خير، فقال رسول الله رسول الله صلى الله عليه و سلم أجل." قال الصنعاني :" وهذا الحديث لا تعارضه أحاديث فضل الجهاد و أنه أفضل من الذكر، لأن المراد بالذكر الأفضل من الجهاد ذكر اللسان و القلب والتفكر في المعنى و استحضار عظمة الله ،فهذا أفضل الجهاد ،و الجهاد أفضل من الذكر باللسان فقط." 2 وثالثها : أخرج الترمذي عن أبي الدرداء قال، قال صلى الله عليه و سلم : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها وأرضاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم قالوا بلى وما ذاك يا نبي الله قال ذكر الله". قال ابن العربي : " إنه ما من عمل صالح إلا والذكر مشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله، ثم صدقته أو صيامه فليس عمله كاملا فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية و يشير إليه حديث نية المؤمن خير من عمله ".3 آثار واردة في الذكر وأما الآثار فلا يحصيها العد، وأحدها قول كعب :" نجد في كتب الله المنزلة على الأنبياء عليهم السلام أن الله تعالى يقول: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين".4 و ثانيها، قول عبدا لبر: " فضائل الذكر كثيرة لا يحيط بها كتاب و حسبك بقوله تعالى (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر و لذ كر الله أكبر) العنكبوت، جزء من الآية45 ، أي ذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة. ومعنى ذكر الله العبد مأخوذ من الحديث عن الله تعالى "إن ذكرني عبدي في الصلاة في نفسه ذكرته في نفسه و إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم".5 وثالثها، قول الفخر الرازي : " اذكره في الرخاء يذكرك في الشدة فإن يونس عليه السلام لما ذكره حين وقع في البلاء صار سجنه مفتوحا و ذكره مقبولا لأجل أنه كان ذاكرا قبل زمان البلاء، بدليل قوله سبحانه وتعالى( فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون)الصافات144-143. وأما فرعون فإنه ما ذكره إلا عند نزول البلاء وهووقت الغرق، فلا جرم ما صارمقبولا بدليل قوله (الآن وقد عصيت قبل و كنت من المفسدين) يونس 91. ورابعها، قوله عن بعض المشايخ:" للذكر خواص أربع أحدها: الدوام، قال الله تعالى(الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم). و الثاني: كونه كبيرا، قال تعالى ( و لذكر الله أكبر). والثالث: الذكر بالذكر، قال الله تعالى ( فاذكروني أذكركم) البقرة، جزء من الآية151 . والرابع: كثرته، قال الله تعالى( والذاكرين الله كثيرا )." وخامسها، قوله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " الذكر بين الذكر والإسلام بين السيفين، والذنب بين فرضين. وتفسيره أنه لا يقدر العبد على ذكر الله تعالى ما لم يذكره الله تعالى بالتوفيق عليه. ثم إن العبد إذا ذكر الله تعالى فإنه تعالى يذكره مرة أخرى بالمغفرة، وقوله : و الذنب بين فرضين، أي فرض عليك أن لا تذنب فإذا أذنبت فرض عليك أن تتوب كما قال تعالى( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا)التحريم، جزء من الآية8 . " مفهوم الذكر وأقسامه ويتسع مفهوم الذكر ليشمل كل ما ينتفع به الإنسان لنفسه أو لغيره، إذ كما أن الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها و الإكثار منها مثل الباقيات الصالحات و ما يلتحق بها من الحوقلة و نحو ذلك، و الدعاء بخيري الدنيا والآخرة ذكر، يطلق ذكر الله أيضا و يراد به المواظبة على العمل بما أوجبه الله تعالى أو ندب إليه كتلاوة القرآن و قراءة الحديث ومدارسة العلم و التنفل بالصلاة ، فكذلك يراد من إطلاق الذكر الكلام بالخير وقول الحق والإصلاح بين الناس و ما كان مثله، و بعبارة أخرى يدخل فيه كل أعمال البر7. وقد أورد الإمام الفخر الرازي-رحمه الله- أقسام الذكر فقال : " واعلم أن الذكر على ثلاثة أقسام: ذكر باللسان وبالقلب وبالجوارح. فأما الذكر باللسان فهي الألفاظ الدالة على التحميد والتسبيح. وأما الذكر بالقلب فعلى ثلاثة أنواع ، أحدها : أن يتفكر الإنسان في دلائل الذات والصفات. وثانيها: أن يتفكر الإنسان في دلائل التكاليف من الأمر والنهي والوعد والوعيد،يجتهد حتى يقف على حكمها و أسرارها، و حينئذ يسهل عليه فعل الطاعات و ترك المحظورات. و ثالثها: أن يتفكر الإنسان في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة من تلك الذرات كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم الغيب، فإذا نظر العبد بعين عقله إليها وقع شعاع بصره الروحاني منها على عالم الجلال، وهذا مقام لا نهاية له و بحر لا ساحل له. وأما ذكر الله تعالى بالجوارح فهي أن تصير الجوارح مستغرقة في الطاعات و خالية عن المنهيات، و بهذا التفسير سمى الله تعالى الصلاة ذكرا فقال ( فاسعوا إلى ذكر الله) الجمعة، جزء من الآية 9." 8 وفي موضع آخر قال : " للذكر سبعة أنواع : ذكر العينين بالبكاء، وذكر الأذنين بالإصغاء، وذكر اللسان بالحمد والثناء، و ذكر اليدين بالبدل و العطاء، وذكر البدن بالجهد والوفاء، و ذكر القلب بالخوف والرجاء، وذكر الروح بالتسليم والرضاء.9 مقاصد الذكر وإذا ما ا تضح أن الذكر طاعة عظيمة، فإنها مع كونها كذلك، لها مقاصد و منافع في غاية الجلالة ذكرها تعالى في آيات من كتابه العزيز منها قوله تعالى (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) ، قال الرازي - رحمه الله مفسرا الآية : "وفي تفسير هذه الآية وجهان أحدهما : إن ما سوى الحق ممكن لذاته والممكن لذاته يحتاج إلى غيره، فلا جرم ما دمت تنظر إلى الممكن من حيث هو امتنع وقوفك، أما الواجب لذاته فإنه مقطع الحاجات فامتنع الانتقال منه إلى غيره، فالطلبات تنقطع عند فضله والحاجات تزول عند التعلق به، فلهذا قال(ألا بذكر الله تطمئن القلوب). و الثاني: إ ن وجهات حاجات العبد غير متناهية والمخلوقات متناهية والمتناهي لا نسبة له إلى غير المتناهي، فإذن حاجة العبد لا تزول بمجموع المخلوقات، بل لا بد في مقابلة حاجاته التي لا نهاية لها من كرم و قدرة لا نهاية لهما وما ذاك إلا الحق سبحانه و تعالى، فلهذا قال(ألا بذكر الله تطمئن القلوب)." طرد الشياطين والحكمة الثانية للذكر قوله تعالى(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)الأعراف : 201، ففائدة الذكر إزالة الظلمة البشرية، و ذلك لأن ما سوى الحق ممكن لذاته و الممكن لذاته إذا ترك من حيث هو هو بقي على العدم والعدم منبع الظلمة، فكل ما سوى الله مظلم في ذاته، والحق واجب الوجود لذاته، فحضرته منبع الأنوار، فلا جرم كان الاشتغال بحضرة القدس و جناب الجلال يفيد وصول أنوار عالم الربوبية إلى باطن القلب فتزول ظلمات البشرية عن القلب والروح" .11 و في موضع آخر قال : " من مقاصد الذكر طرد الشياطين واحتراز عن الوسواس واشتغال بالحق وإعراض عما سواه12 . ويشهد لهذا قوله عليه السلام فيما رواه الإمام أحمد:" إن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل" . نزول الرحمة و النجاة من مخاوف عذاب الآخرة ومن مقاصده أيضا نزول الرحمة و السكينة بالذاكرين وذكر الله لهم في الملأ الأعلى، وتنعمهم بظل الله عز و جل يوم لا ظل إلا ظله. و يشهد لهذا، الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخذري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة و غشيتهم الرحمة و نزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ". و الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" سبعة يظلهم الله رجل ذكر الله ففاضت عيناه ". النجاة من مخاوف عذاب الآخرة وهو أيضا من المنجيات من عذاب الدنيا و مخاوفها، و لذا قرن الله الأمر بالثبات لقتال أعدائه وجهادهم بالأمر بذكره كما قال (إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا) الأنفال، جزء من الآية46 . جلاء القلب وغفران الذنوب غفران الذنوب و حط الأوزار، و قد اخبر الله تعالى عن الملائكة أنهم ( يستغفرون للذين آمنوا و يقولون ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك) غافر، جزء من الآية 6. جلاء القلب، ويشهد لهذا قوله عليه السلام عن ابن عمر مرفوعا : " القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء قالوا يا رسول الله و ما جلاؤها، قال : كثرة ذكر الله ". كما أنه تعالى كما بين منافع الذكر بين أيضا مفاسد الإعراض عنه، و هي أمور أربعة. الأول : قوله ( و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا قال كذلك آتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) طه : 124-122. وهذه الآية صريحة في أن ذكر الله بالنسبة إلى القلب كنسبة النور الباصرإلى الحدقة المعروفة، والثاني : قال ( ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين) الزخرف : 35 . و تحقيقه أن الشهوة و الغضب و الوهم والخيال كلها تدعو الإنسان إلى الاشتغال بالجسمانيات وذلك ضد الاشتغال بخدمة الله تعالى، والشيء كلما كان إلى أحد الضدين أقرب كان عن الضد الآخر أبعد، فهذه القوى لما كانت داعية إلى الجسمانيات والقرب من الجسمانيات بعد عن الروحانيات فهذا البعد هو المعني من قوله :(ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين) ، الثالث : قوله تعالى ( ومن يعرض عن ذكر ربه نسلكه عذابا صعدا) الجن، جزء من الآية 17، والرابع : قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله و من يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) المنافقون9 .13 وهكذا، فإن هاته الآيات بمجموعها تبرز مدى اقتران الإعراض عن ذكر الله بمفاسد تلحق العبد سواء أكانت دنيوية عبر عنها تعالى بأشدها و هو ضنك العيش وضيقه أم أخروية وهي الحشر يوم القيامة أعمى، ولا شك أن هذا أعظم الخسران. بتصرف الهوامش : -1 شرح أسماء الله الحسنى، فخر الدين الرازي، ص : 56. -2 سبل السلام للصنعاني، 214/4 . -3نفس المرجع، و نفس الصفحة. -4 شرح أسماء الله الحسنى، ص60 : . -5 شرح الزرقاني،41/2 . -6 شرح أسماء الله الحسنى، ص60 : -62 ، بتصرف. -7. التمهيد لابن عبد البر،20/22 . -8 شرح أسماء الله الحسنى، ص 54-53 : . -9 نفس المرجع ، ص: 62 . -10 العبادة في الإسلام ، الدكتور يوسف القرضاوي ، ص : 75-74 . - 11 شرح أسماء الله الحسنى، ص: 57-56. 12- نفس المرجع ، ص 69:. 13- شرح أسماء الله الحسنى، ص 58-57: . ذ. أمينة هموري