هذا السؤال العنوان له صيغة أخرى هي القول لماذا ينتشر الإيمان، إذ أن الحجاب ليس سوى مظهر من مظاهر الإيمان ومقتضى من مقتضياته. يقولون مرددين المثل الفرنسي المشهور اللباس لا يصنع جوهر الإنسان، لكن قراءة المثل معكوسا من خاتمته إلى بدايته تصلح لأن تكون مثلا لا يقل شهرة وحكمة، فجوهر الإنسان يصنع لباسه كذلك، ألا ترى إلى الذين يؤمنون بحرية كشف العورات وإبداء الزينة ما ظهر منها وما خفي، ويلبسون ما يعكس إيمانهم هذا ورأيهم هذا، أليس جوهرهم هو الذي يصنع لباسهم؟ أليس هذا الإيمان هو الذي جعل من تجارة الأزياء وموجاتها المتناسخة سوقا كبيرا يحرك أموالا لا تعد ولا تحصى، ومواسم تتوالى يحضرها علية من القوم يجلس بعضهم قبالة بعض، وعلى ممر طويل مبسوط بينهم تروح وتغدو نساء أشبه شيء بالدمى المتحركة، يمشين في تمايل وتصنع وانطواء وانعطاف، أصبح مؤكدا أنهن سلعة مسابقات "ملكات الجمال" لم يكتب لها الفوز فيهن، فأخذتهن حركة التصدير والاستيراد إلى معارض الزينة والأزياء. الحجاب أو الزي الشرعي مثله مثل الصلاة، صلة بين العبد وربه، لا دخل لأحد فيما هي اقتناع تام، ويقين راسخ، وسلوك في كامل الوعي والمسؤولية. ألم ينكر الإله الواحد الأحد على رسوله الكريم وعلى المؤمنين أن يكرهوا الناس على الدين والإيمان فقال في الآية الشهيرة "لا إكراه في الدين...قد تبين الرشد من الغي"، كما قال للنبي عليه الصلاة والسلام "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مومنين"، وماذاك إلا لأن النبي رجل مذكر، ليس عليهم بمسيطر. وأنكر الباري عز وجل في الوقت نفسه على الآباء إكراه فتياتهم على البغاء ابتغاء عرض من الحياة الدنيا. الحجاب فريضة. نعم هذا صحيح. لكن الفريضة لا معنى لها إلا إذا أتم المؤمن العمل بها وهو موقن راسخ اليقين أنها استجابة لأمر العلي الأعلى وأنها سعادة كلها، وخير كلها، ومصلحة في الدنيا والآخرة، وأنها فريضة متعدية المنفعة إلى المجتمع والعالم. وليس الحجاب خرقة توضع على الرأس فقط، ولا أثوابا تستر عورة المرأة فقط، ولكنه إعلان عن الانحياز للمبادئ الإلهية الخالدة وهي الحق والخير والجمال، ومن ثم فذلك وقوف في وجه أباطرة النخاسة وتجار الرقيق الأبيض، وأبالسة الاستلاب المنظرين، الذين يقومون بعرض الآفة وتزيينها في معارض خاصة بذلك، ويتلقون من أجل ذلك الجوائز والميداليات، ويصبحون أبطالا مكرمين في زمن الحداثة وما بعد الحداثة. فالمدخل الرئيسي للزي الشرعي (الحجاب) ولغيره من التكاليف والواجبات والأعمال الإسلامية التطوعية، هو هذا، هو الإيمان الفردي، الرابط بين الخالق والمخلوق، فقاعدة لا إكراه في الصلاة ولا في الزكاة ولا في الصيام ولا في الحج ولا في الحجاب ولا في غير ذلك، ولا إكراه في الدين معناها أن الدين ينغرس وينمو ويكبر ويظهر بالمحبة والاختيار، بالاقتناع الراسخ واليقين التام. وبناء على ذلك فإن النظر إلى ظاهرة انتشار الحجاب من زاوية غير هذه الزاوية إنما هو نظر قاصر وضعيف، وكل النتائج المبنية عليه أصفار في أصفار. فالحجاب يتقدم يوما بعد يوم لأن الإيمان والإسلام يتقدمان، ولأن الناس رجالا ونساء لم يجدوا في الحياة الغربية المبنية على الإكراه العسكري (أي الاستعمار المستمر) وعلى الإكراه الاقتصادي (عولمة السوق والعقوبات الاقتصادية)، وعلى الإكراه الإعلامي (الفضائيات) والإكراه الثقافي، (الكل يباع والكل يشترى) لم يجد الناس سعادة فيها ولا خلاصا من ضنكها وشقائها. أما التقدم السياسي لحزب العدالة والتنمية والجانب الاجتماعي في رمضان والجانب الثقافي الأنتروبولوجي، كل ذلك ليس سوى نتائج متراكمة للسبب الأول، ألا وهو الجانب الإيماني، وراحة الناس فيه. وليس مجهولا ولا منسيا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر المشهور >إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى..<، كما أن هذا النبي الكريم نفسه حدثنا عن أنواع من الناس يعملون عملا يراه الناس في الدنيا جليلا صالحا، غير أنهم أول الناس دخولا إلى الجحيم، وما أوردهم هذا المورد إلا نياتهم السيئة، فمن الناس من يقاتل ويجاهد ويموت، لكنه ليس مجاهدا ولا شهيدا، وإنما كان عبدا لهواه وللناس، وإنما يقوم بدعاية ذاتية، ومن الناس من يصدح بالقرآن في صوت ندي شجي، لكنه ليس سوى فنان يبحث عن الإعجاب والتصفيق. الحسن السرات