تعد معركة الحجاب - أو اللباس الشرعي بالتعبير الأصح - في زماننا اليوم من المعارك التي لا تخبو نارها بين المتدينين والعلمانيين، وهي تفرض نفسها على جميع الواجهات الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية، ويرجع سر هذا النزاع إلى الجذور الفكرية المادية التي تقدسها الثقافة العلمانية وترفض التنازل عنها، خاصة في ظل استقواء هذه الثقافة اليوم بما حققه الغرب المادي من تفوق حضاري تكنولوجي سيطر به على العالم، وبسط من خلاله عولمته الثقافية على الشعوب الضعيفة ومنها الشعوب الإسلامية المغلوبة على أمرها، ونتيجة لذلك استقوت النخب العلمانية المتغربة في بلداننا بما يقدمه لها الغرب العلماني من دعم مادي ومعنوي، لتكون له درعا أماميا يصد به المتدينين الذين ينظر إليهم باستمرار كدعاة للتطرف والإرهاب الذي يشكل خطرا على حضارته المادية العلمانية، وفي هذا السياق المحموم تأتي حملة العلمانيين على حجاب المرأة والتي كان من تجلياتها ما وقع في فرنسا ودول أخرى من حملات مسعورة استهدفت الحجاب والمحجبات. وفي مقابل ذلك يقف المتدينون المخلصون من هذه الأمة في وجه هذه الهجمة الشرسة متسلحين بإيمانهم بدينهم وقيمه العليا التي لا تتعارض أبدا مع تحقيق السعادة المادية للإنسان فوق هذه الأرض، حيث يمثل حجاب المرأة المسلمة ثابتا من ثوابت هذا الدين الذي لا يمكن التنازل عنه، والذي لا يشكل أي خطر على تقدم المجتمع ولا على إدماج المرأة في التنمية ، بل إن الحجاب يعتبر حارسا للقيم المعنوية والمادية لأنه يحفظ كرامة المرأة ويحميها أثناء قيامها بأدوارها الأساسية داخل المجتمع، لأن مما يغفل الناس عنه في زماننا أو يتغافلون عنه غالبا أن الالتزام بالأخلاق الفاضلة يمثل قيمة مادية محسوبة النفع لدى الملتزمين بها ومن يتعامل معهم في الدنيا قبل الآخرة. .1 الستر هو الأصل (دين الفطرة ): وإذا رجعنا بهذه المعركة إلى أصلها نجدها تبدأ مع بداية الخليقة من عهد أبينا آدم عليه السلام حينما أخرجه الشيطان من الجنة وكشف عنه غطاءه وستره الذي خلق به، وذلك ما يخبرنا به الحق تبارك وتعالى في قوله (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا) الأعراف (27)، وقد اختلف العلماء في نوع اللباس والستر الذي كان يتمتع به أبونا آدم وأمنا حواء قبل ارتكابهما للخطيئة، لكنهم اتفقوا على أن هذا الستر هو جزء من الدين ومن التكليف الذي أمر به أبونا آدم وذريته من بعده ، وفي ذلك يقول الطاهر بن عاشور ( وقد كان ذلك اللباس الذي نزل به آدم هو أصل اللباس الذي يستعمله البشر. وهذا تنبيه إلى أن اللباس من أصل الفطرة الإنسانية، والفطرة أول أصول الإسلام، وأنه مما كرم الله به النوع منذ ظهوره في الأرض، وفي هذا تعريض بالمشركين إذ جعلوا من قربانهم نزع لباسهم بأن يحجوا عراة...) (1) ومن ثم فإن طرفي المعركة قد تحددا منذ البداية: منهج آدم عليه السلام القائم على دين الفطرة الذي خلق عليه وهو الإسلام (إنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ) آل عمران (19)، وهو منهج الستر والعفة والتقوى. وفي مقابله منهج إبليس اللعين القائم على العري والشهوة والإغواء والقعود للناس في طريق الحق لصدهم عن منهج الحياء وستر العورات (قالَ فَبِما أغْوَيْتَني لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الأعراف (16). وهنا لابد من وقفة مع دعاة العري الذين يَتَسَمَّوْنَ بالطبيعيين نسبة إلى الطبيعة، وفي هذا تدليس منهم وتشويه لحقائق الخلق كما صرحت بها هذه الآيات وغيرها، ولذلك نقول لهم إن الطبيعة التي خلق عليها أبونا آدم وأمنا حواء والتي هي الفطرة، هي طبيعة الستر والحياء، وهي التي تتلاءم مع مقام التكريم الذي رفع الله عز وجل إليه الإنسان تمييزا له عن الحيوان، بل إن التعري فيه انحطاط حتى عن درجة الحيوان . لكن اللباس في شريعة الله لا يقف عند المظهر الخارجي السطحي وإنما يتعداه إلى أعمق من ذلك، ولنوضح هذه القضية ننتقل إلى النقطة الثانية في الموضوع وهي: .2 التناغم بين لباس الظاهر ولباس الباطن ينبهنا القرآن الكريم منذ البداية إلى الترابط الأساسي بين أعمال الجوارح وأعمال القلوب في حياة المسلم الصادق والمخلص في دينه، والذي لا يجمد عقله عند المظهر حتى يتحول الدين في حياته إلى طقوس جوفاء وأغلال خارجية بدون دلالة إيمانية تعبدية، وفي نفس الوقت لا يغرق في الروحانيات بقلبه فقط حتى يعطل المقاصد العملية الاجتماعية لشريعة رب العالمين، يقول ربنا تبارك وتعالى في سياق ذكر نعمه على الإنسان: ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وريشاً وَلِبَـاسَ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ، ذلك من آياتِ اللهِ لَعلَّهُمْ يَذَّكَّرونَ) الأعراف (26) إن الإنسان خلق في أحسن تقويم، وهو من أجمل مخلوقات الله، ولذلك فاللباس لا يزيده إلا جمالا، وحضارة اللباس هي من خصائص الإنسان وليس الحيوان، وفي هذا رد قوي على دعاة العري والإباحية الذين ينتسبون زورا للطبيعة، والإسلام في هذه الآيات جمع بين زينة الظاهر وزينة الباطن، بين لباس الثياب والريش الذي يغطي الجسد وبين لباس التقوى الذي يستر الباطن، وهذا الأخير هو الأحسن والأفضل لأنه لباس التربية الصالحة التي تعصم الإنسان من داخله، وهنا نقول للمغالين في الدعوة إلى لباس الظاهر والتشديد في بعض جزئياته التي هي من الفضل وليس من الفرض في الرأي الراجح كمسألة النقاب مثلا، والذين يدعون إلى حجب المرأة نهائيا عن الأنظار، نقول لهم هونوا عليكم فلباس العفاف في قلب المرأة المؤمنة هو العاصم لها من الرذيلة، لأن لباس الخارج ما هو إلا عنوان صغير للباس الباطن، ولأن معركة الدعوة اليوم ليس في تثبيت ما اعتبره أسلافنا فضلا في شأن ستر المرأة، وإنما معركتنا اليوم في تثبيت ما جعلته الشريعة فرضا لمواجهة تيار العري والميوعة الذي أخذ يجرف اليوم في طريقه كل شيء، والمعركة مع أهل الأهواء اليوم لا ينبغي أن تبنى على ردود الأفعال المتشنجة لأن التطرف لا يعالج بتطرف مثله أبدا، وإنما يعالج بمنهج الوسطية والاعتدال، وهنا ننتقل للتعريف بمقومات الحجاب الشرعي. .4 الحجاب بين الغلو والتمييع: لقد وصلت معركة الحجاب حدا من التناقض جعلنا اليوم نقف بين طرفي نقيض ، بين غلاة من الإباحيين كشفوا كل شيء من جسد المرأة حتى لم يبق لهم ما يكشفون منه، وبين غلاة من المتدينين المتعصبين لبعض الآراء والاجتهادات الفقهية التي أصبحت مرجوحة ومتجاوزة في زماننا، والمتأثرين ببعض أنماط التدين التقليدية التي بالغت في تضخيم فتنة المرأة وزينتها على المجتمع، والذين يصل بهم الحال إلى اعتبار المرأة المؤمنة الصالحة النقية المحتجبة متبرجة، فقط لأنها كشفت وجهها ويديها وخالفت مذهبهم الفقهي القائل بوجوب تغطية الوجه ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهنا لا بد من تنبيه هؤلاء وغيرهم أن الحديث عن الحجاب هو حديث عن حجب مفاتن المرأة خارج بيتها وأمام الأجانب، وليس يراد به بتاتا حجب عقل المرأة وكفاءتها عن المجتمع، فالمرأة هي نصف المجتمع وهي عنصر فعال فيه وقد شاركت بفاعليتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية في خير عصور الإسلام، أي في عصر النبوة ثم عصر الصحابة والتابعين وأتباعهم، فأنى لأي كان اليوم أن يقصي المرأة من معترك الحياة باسم الدين ؟ وهنا أقول للغلاة والمتشددين في شأن البرقع وغطاء الوجه أنه من حقهم أن يلزموا أنفسهم بذلك، وإن كان في نظري لا يناسب الحكمة في الدعوة إلى الله في هذا الزمان الذي صار فيه كل شيء بالمكشوف، خاصة وأن جماهير فقهاء الإسلام رأوا في غطاء الوجه قديما أنه من الفضل وليس من الفرض، فلماذا كل هذا التعنت ؟؟..والطامة الكبرى التي نحذر منها هؤلاء هي تهجماتهم بدافع التعصب لآرائهم على المؤمنات الصالحات العفيفات والذي اعتبره الرسول صلى الله عليه وسلم من الموبقات المهلكات، وأكبر من ذلك ما قد يحصل لكثير من النساء غير المحتجبات من إعراض عن الالتزام بالحجاب بسبب الفتاوى التي تلزمهم بتغطية الوجه وهن غير قادرات على ذلك، وهنا يصبح الدعاة إلى الالتزام بالإسلام عائقا أمام التزام الناس ببعض أحكامه بسبب التعصب لرأي فقهي لا غير، ولذلك فإن كنت لا أصادر حق هؤلاء في إلزام أنفسهم بما لا يلزم، فإنه ليس من حقهم بتاتا إلزام الآخرين والأخريات بهذا الرأي وشن الحرب على من خالفهم، لأن في ذلك إحداث فتنة وبلبلة بين المسلمين لن يستفيد منها إلا خصوم الدعوة الإسلامية من دعاة العري والإباحية. وبين هِؤلاء وأولئك يقف طرف ثالث من المغالين في تمييع الحجاب شكلا ومضمونا، حيث ابتكرت النساء أشكالا جديدة من الحجاب تفتقد لكثير من مواصفات الحجاب التي سبق ذكرها، حيث أصبح الحجاب عندهن تقليعة موضة لا أقل ولا أكثر، يقلدن فيها بعض محتجبات الفضائيات ممن خضعن لضغوط الإعلام والموضة فانحرفن بالحجاب عن صورته الأصلية الناطقة بالستر والحشمة إلى صورة مشوهة هي أقرب للعري منها إلى اللباس الشرعي. ولذلك لم يبق من تسمية الحجاب لدى هؤلاء المحتجبات الجديدات سوى غطاء الرأس ، أما باقي أعضاء الجسد فهي بارزة للعيان من وراء اللباس الضيق الذي صار عبارة عن سروال ومعطف ملتصقين بالجسم وينطقان بكل تفاصيله ، والأدهى والأمر في هذا الحجاب الموضوي الإعلامي ـ إن صح التعبير ـ أنه يستر الرأس بينما صدر المرأة وخصرها الذي هو أشـد فتنة، والذي هو مركز عورتها بارز بشكل مفضوح، حيث صار الفرق بين المحتجبة وغير المحتجبة يختـزل في غطاء الرأس، وكأن السراويل والأقمصة والمعاطف الضيقة هي من ابتكار الشريعة الإسلامية ولا ينقصها سوى غطاء الرأس لتكون وتصير حجابا ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهنا نهيب بنساء وبنات المسلمين أن يتقين الله في حجابهن، وأن يستجبن لله وللرسول بستر أجسادهن وفق ما أمرت به شريعة الإسلام في غير إفراط ولا تفريط، ولا ينخدعن بسفاسف الإعلام، وصرعات الموضة، وأبواق الإباحية المغرضة، لأنها كلها كاسدة في ميزان الله يوم القيامة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) الأنفال (2524) وأن يصمدن في طريق العفة والإيمان ليفزن بشرف الدنيا والآخرة + يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ؛ آل عمران (200). لأننا اليوم أمام حرب حقيقية على الحجاب الشرعي باعتباره رمز العفة والكرامة، وبعض أهداف هذه الحرب نقف معها في العنصر التالي والأخير.