إن أساليب وطرائق العلمانيين في طرحهم للمبدأ العلماني ليست واحدة،بل هي متغيرة بحسب الزمان والمكان،وهذه التغيرات قد تشمل أساليب الخطاب، وقد تمتد إلى أساليب عرض المبدأ العلماني وهكذا...فبينما تطرح العلمانية في قطر معين على أنها مضادة للدين، تطرح في قطر آخر على أنها موافقة للدين،و في بلد ثالث تُفرض فيه العلمانية ببطء وحذر شديدين حتى لا تلفت الأنظار إلا بعد كونها واقعا لا مناص منه.لقد كان كثير من العلمانيين في بدايات هذا القرن الميلادي لا يتقربون إلى الدين وأهله،وكانت شعاراتهم تتراوح بين القومية والشيوعية والاشتراكية،و لكن حينما اشتد ساعد الصحوة،وبدأ المسلمون يشعرون بقيمة دينهم،بدأ العلمانيون بكافة أصنافهم بالتقرب إلى الدين،وبمحاولة إيجاد صيغة تجمع بين علمانيتهم ومقاصدهم الشخصية وبين استغفال الشعوب المسلمة والاستخفاف بها من خلال التظاهر بالمظاهر الإسلامية ! وكل هذا التغيير يدلنا على أن العلمانية ليست مقنعة كمنهج في العالم الإسلامي،لأن المسلم مهما بلغ انحرافه يشعر بارتباط الإسلام بالحياة العامة،ويشعر بكون الإسلام له سلطان على كافة أنحاء الحياة ومجالاتها،ولهذا نجد المسلم الذي لم تفسد فطرته لايفكر في إمكانية الخروج عن شريعة الله،ومن هذا المنطلق يرفض العلمانيون أن يُستفتى الشعب في إقرار أومنع الدستور العلماني،لأنهم يعرفون حتمية خسرانهم.وهذه التغيرات تدلنا أيضا على أن العلماني ليس له هدف سام وهو رفعة الوطن كما يقول بل هدفه هو الوصول لمصلحة شخصية . ويمكننا تقسيم أساليب الطرح العلماني إلى طرح صريح مكشوف وجريء وآخر ملتو مموّه مستخف.وسنقتصر في هذه الحلقة على الأسلوب الأول على أن نثني في الحلقة القادمة بالأسلوب الثاني إن شاء الله. الطرح الصريح الجريئ هذا الأسلوب هو أسلوب العلمانيين الأقحاح الذين يستطيع المرء أن يصفهم تجاوزا فقد سبق وأن قلت بأن العلمانية لا يمكن تقسيمها إلى معتدلة ومتطرفة بالغلو العلماني بلا تردد،لصراحتهم حول هذا المبدأ،وهؤلاء أمنوا العقوبة لأنهم في بلد تحكمه العلمانية،والشرائع الجاهلية، التي تسمح لهؤلاء بالانتقاص من قدر الدين والتعدي عليه،في حين تكمم أفواه الدعاة، والذين يريدون الدفاع عن دينهم،ويرتكز هذا الطرح على ما يلي : أولا: إظهار العداء للدين وللشريعة الإسلامية وتكذيب الله وشرعه: والتنقيص منها ورميها بالجمود والتحجر،يقول أحد العلمانيين الاشتراكيين :"الكذبة الأولى : أن الإسلام هو الدين الوحيد عند الله ومن يبتغ غيره فلن يقبل منه"1،ألم يكن الله عز وجل هو القائل:( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل من و هو في الآخرة من الخاسرين )سورة آل عمران الآية85.ويضيف قائلا:" الحقيقة أن تحررنا من التخلف مرتبط بتحرر ديننا من التحجر والتزمت،وأن صلاحنا رهين بصلاح شريعتنا،الخلاصة:والأصح نافلة القول: هي أن صلاحنا لا يكمن في صلاح أنفسنا،بل في صلاح ديننا،لأن حرية الرأي وحرية التعبير والديمقراطية آتية لا ريب فيها،فإما طوعا وإما قسرا،فطوبى للإتحاد الأوروبي الذي فرض على تركيا حذف عقوبة الزنا و الإعدام."2 ويقول عامله الله بلطفه :"لقد حرمت علينا شريعتنا الفائدة وهي طريق الادخار،وأساس الاستثمار،كما أحلت لنا النعجة وهي لا تلد إلا خروفا واحدا في السنة،ولا يتعدى وزنه 100كيلو غرام في أحسن الأحوال،وحرمت علينا"الحلوفة"،وقد تلد ما يفوق15 "حليليف"يفوق وزن الواحد منها عند سن الرشد 200 كيلو غرام في أسوأ الأحوال."3 كبرت كلمة تحرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا؟؟؟ ثانيا:مدح الغرب وإطراؤه و الإعجاب بحضارته: وفي هذا يقول أحد العلمانيين ردا على خطيب مسجد لما دعا على الغرب وحضارته :" فهل بعد كل هذا يمكنك يا خطيبنا المبجل أن تتحدث عن تدميير حضارتهم؟ ألا تعلم أننا لا نتنفس إلا بفضل حضارتهم ولا نضمن استمراريتنا إلا بفضل حضارتهم،هل يمكنك أن تعيش بدون هاتف أو تلفاز أو سيارة أو أجهزة منزلية إلكترونية؟"4 ويدعون الأمة إلى اللحاق بركبه والتأسي بتجربته في رمي الدين جانبا وعزله عن الحياة،وجعل النموذج الغربي والحل العلماني هما السبيلان الوحيدان لإخراج الأمة من دائرة التخلف الذي تتخبط فيه.وفي المقابل يدعون إلى طرح المشروع الإسلامي،ورميه بالجمود والتطرف والانكماش،يقول أحدهم:"و قد أدت حالة الانكماش والجمود الفكري والعقائدي والاستبداد والطغيان التي تشهدها بلاد المسلمين عامة إلى عملية هجرة معاكسة من هذه البلدان إلى بلاد حباها الله بنوع من الانفتاح والتحرر والانغلاق من الخرابيط والخزعبلات والزعبرات،وذهبت نهائيا باتجاه ازدهار اقتصادي واجتماعي وسياسي عام "5 ثالثا:ادعاء عدم صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان: وأنها نزلت في وقت معين،وأنها لابد أن تتطور لتوافق النمط الاجتماعي الجديد ومقتضيات العصر الحديث،ولو كان في هذا تجاوز لأحكام ثابتة غير اجتهادية،لأن المصلحة مقدمة على النص عندهم !وهؤلاء يدعون أنهم يؤمنون فردياً بالدين وشعائره،وإن كان معظمهم لا يؤديها!ويستدلون بأقوال هي إما لمنحرفين كعلي عبد الرازق باعتبار المنظر الأول للفكر العلماني من خلال كتابه (الإسلام وأصول الحكم)6،أو أقوال شاذة لبعض الفقهاء القدماء كقول نجم الدين الطوفي:(إن المصلحة مقدمة على النص)7!فتجد هذا النص متكررا في كتبهم ومقالاتهم،ولم ينقل أحدهم القاعدة المشهورة( لا اجتهاد مع النص ) ولم ينقل أحدهم قول أئمة الإسلام فيمن يحدد المصلحة! رابعا:نقد الصحوة الإسلامية ومظاهرها : من لحية وحجاب وسواك و قميص...يقول أحدهم:"وإن مثلث برمودا الفكري الفظيع الذي تتكون أضلاعة من الحجاب والجلباب والنقاب يبدو أكثر المناطق خطورة وسخونة وقلقا،يوشك على الانفجار ويهدد السلم والأمن للمغتربين في تلك البلدان"8.ويتعرضون لرموز الإسلام من علماء ودعاة وملتزمين بالنقد اللاذع والتهكم والغيبة والسخرية،واتهامهم بالجمود والتخلف والرجعية...والسير نحو تطبيق وإنشاء الدولة الدينية كما وقع في أوربا بحد زعمهم،وكل ذلك محاولة لإجهاض هذه الصحوة وبث الوهن فيها،وتفريق الناس من حولها،ولكنهم خابوا وخسروا.(يريدون ليطفئوا نور الله بأفوههم والله متم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) سورة الصف الآية،9 خامسا:مواجهة التراث الإسلامي: إما برفضه بالكلية واعتباره من مخلفات عصور الظلام والانحطاط والتخلف،أو بإعادة قراءته قراءة عصرية لتوظيفه توظيفا علمانيا من خلال تأويله على خلاف ما يقتضيه السياق التاريخي والضوابط الشرعية والقواعد اللغوية،يقول أحدهم(...نعني هنا بالموضوعية جعل التراث معاصرا لنفسه،الشيء الذي يقتضي فصله عنا.وبالمقابل نعني بالمعقولية جعله معاصرا لنا؛أي إعادة وصله بنا،وإذن فالهدف الذي نرمي إليه هو جعل التراث معاصرا لنفسه على صعيد الإشكالية النظرية والمحتوى المعرفي والمضمون الإيديولوجي،الشيء الذي يتطلب معالجته في محيطه الخاص المعرفي والاجتماعي والتاريخي،وهذا هو معنى الموضوعية وفي الوقت نفسه جعله معاصرا لنا بنقله إلينا ليكون موضوعا قابلا لأن نمارس فيه و بواسطته عقلانية تنتمي إلى عصرنا وهذا هو معنى المعقولية)9.ولم ينج من غاراتهم تلك حتى الله جلا وعلا،يقول أحد العلمانيين الحداثيين"فالمطلوب هنا هو إعادة التأسيس الكلي لمجمل ثوابت الثقافة الإسلامية بما فيها التصورات حول الله والروح والعالم الآخر والخلق والإنسان،أوكل ما يعتبر لحد الآن من عالم الغيب لا يحق للإنسان أن يسأل عنه "10. الطرح المموه أهل هذا الأسلوب بلغوا غاية في الحذر والمكر،فهم يدَّعون الإسلام،ويتباكون على حال المسلمين،حتى يلتبس أمرهم على طالب الحق،فلا يستطيع تمييزهم،ولكنهم يعرفون بصدورهم عن آراء الشواذ فيما يتعلق بالشريعة وعدم رجوعهم إلى الحق ولو أقيمت عليهم الحجة،و هم في الغالب لا ينكشفون إلا في حال فرح غامر بانتشار المنكر أو استياء شديد عند حصول نصر للإسلام،ففي هذه الحال يصدر منهم ما ينبئ بما يخفون،وبهذا يُتبيَّن انتماؤهم ومنهجهم.وغالب من يسلك هذا الطريق الملتوي يعيش في بلد ترتفع فيه راية الدين،فلا يمكن له التصريح بمنهجه،خشية العقوبة الرسمية أو الشعبية كرفض الشعوب له وسقوط مصداقيته عندهم،وذلك سيرا على طريقة ومنهج إخوانهم السابقين من المنافقين.ومن مرتكزات هذا الطرح ما يلي : أولا: الدعوة إلى الاجتهاد وتجديد الخطاب الديني: وحشد النصوص و النقول الشاهدة على ذلك،ثم تمتد هذه الدعوة إلى الاجتهاد في ثوابت الدين،وتمتد إلى تجديد أحكام مجمع عليها و إلى الحث على تجاوز الإنتاج الفكري والفقهي الإسلامي على مدى أربعة عشر قرناً،والرجوع إلى الكتاب والسنة بشكل مجرد،ورفض أية وصاية على حد زعمهم يفرضها ذلك الإنتاج،وعدم الاعتراف بكثير من شروط الاجتهاد التي وضعها السلف.إن الدعوة إلى الاجتهاد في أصلها صحيحة،ولكن الاجتهاد له ضوابطه وشروطه التي فصّل فيها علماء الأمة القول،وليس هذا موضع عرضها،لأن ذلك لا ينفع مع مثل هؤلاء العلمانيين. ثانيا: إدعاء أن المهم هو أساس الإسلام: ورسالته المهمة في إصلاح النفوس وتزكيتها وتهذيب الأخلاق،وأن هذا أهم من تطبيق الشريعة وإقامة الحدود والجهاد و غيرها مما يؤذي الحس العلماني المرهف ؟؟الذي يرضى بالشرائع الغربية والقوانين الوضعية والحلول الجاهزة والمناهج المجربة،ولا يهتم إلا قليلا بنقل جدية الحضارة الغربية في العلم المادي،وتقليدها في إيجابياتها ومحاسنها،وهذا واضح في الجهود التي تبذلها الحكومات العلمانية في محاربة الدين،وتغريب القوانين،بينما لم يستطع أي من تلك الأنظمة التقدم تقنيا وماديا كما تقدم في مجال تغريب الأخلاق و السلوك...! ثالثا: دعوى الحرص على الوحدة و عدم التفرق: هذه الدعوى قديمة ومتجددة لدى العلمانيين، فهم يرفعون هذا الشعار في كل مكان،ويرفضون التمسك بالدين وبالذات في حكم المجتمع لأنه على حد ما يزعمون ويفترون يفرق المجتمع،ويؤجج النزعة الطائفية،وقد قال هذه الدعوى كثير من العلمانيين،بل يذهب العلمانيون في تنظيرهم إلى وجوب تطبيق العلمانية لتحقيق ما يسمى بالوحدة الوطنية ! ولست أدري هل غفل هؤلاء عن الدولة الإسلامية المترامية الأطراف والتي استمرت لمدة تقرب من الأربعة عشر قرنا وعاش في ظلها مختلف العرقيات والطوائف الإسلامية وغيرهم من المسلمين في جو من العدالة وحقوق الإنسان بالمفهوم الإسلامي لا الغربي أحسن من عيشتهم في ظل دياناتهم،مع أن الصليبيين حينما احتلوا الأندلس لم يبقوا فيها مسلما واحدا ظاهرا إسلامه على عكس وضع كل الطوائف في الدولة المسلمة،بل إن اليهود استمروا تحت حكم هذه الدولة الإسلامية على دينهم طوال هذه الفترة. رابعا:القول بتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان: فالعلمانيون يذكرون هذه القاعدة في أكثر كتاباتهم،ويلفون حولها ويدورون،ويقيمون الحجج لها،وينقلون النصوص،ويحشدون أقوال السلف على صحتها وأهميتها،وهذه قاعدة صحيحة لا غبار عليها،وقد بحثها علماء الإسلام بحثا دقيقا وأصلوها تأصيلا شرعيا،ولم تحتجْ الأمة إلى العلمانيين كي يذكروها بها،ويفردوا الصفحات في كتبهم لمناقشتها،ولكن من يناقش وهو معظِّم لنصوص الشريعة ومحترم لها،غير من يناقش لكي يسقط بعض أحكام الشريعة،ولهذا لم يورد العلمانيون أن هذه الفتاوى التي تتغير بتغير الزمان والمكان إنما هي الفتاوى الاجتهادية في أحكام المعاملات،أما العبادات وأحكام الأسرة والمواريث فهي ثابتة لا تتغير.ونص هذه القاعدة عام في ظاهره،فالتغير في الظاهر شامل للأحكام النصية وغيرها،ولكن هذا العموم ليس مقصوداً،لأنه اتفقت كلمة الفقهاء على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأحوال الناس،إنما هي الأحكام الاجتهادية فقط،المبنية على المصلحة أو على القياس أو على العرف والعادة،أما الأحكام النصية فهي ثابتة لا تقبل التغيير،ولا تدخل تحت هذه القاعدة.وعموما ففتاوى علمائنا شاهدة على تطبيق هذه القاعدة بدون أن يلفت العلمانيون انتباههم إليها. وبعد فالذي توخيته من هذا الموضوع تنبيه المسلم إلى أن أساليب العلمانيين تختلف في طرحهم لأفكارهم حتى يكون المسلم على بينة من أمرهم،فلا ينخدع بكلامهم وزخرفته،فإن ذلك ديدن كل المبتدعة فما من مبتدع يبتدع فكرة أو مذهبا إلا ويزخرف كلامه ويزينه حتى يستقيم له عند الناس ويقبلوه منه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ---- [1] جريدة الأحداث المغربية العدد 2648 الصادر بتاريخ 2006/1426 ، مقال " حينما تكذب أمة على نفسها ". [2] نفسه. [3] نفسه. [4] جمال هاشم جريدة الأحداث المغربية ، العدد 2808 سنة 2006 [5]جريدة الأحداث المغربية العدد 2843 ليوم الثلاثاء 16 نونبر 2006 مقال " مثلث برمودا الفكري ". [6] ذكر محمد عمارة المفكر الإسلامي المعاصر ،أن علي عبد الرازق تراجع عن قوله بالفصل بين الدين و الدولة ،و أنه اهتدى إلى الصواب و كتب في مجلة "رسالة الإسلام "في يونيو 1951م في حواره مع أحمد أمين وقال:" إن كلمة الإسلام رسالة روحية كلمة ألقاها الشيطان على لساني".و الله أعلم .نقلا عن كتاب " المواجهة بين الإسلام و العالمانية ،للدكتور صلاح الصاوي ص 134. [7] - وقد رد عليه غير واحد من السلف و الخلف، انظر كتب "مصادر التشريع الإسلامي" لعبد الوهاب خلاف ، و "أصول الفقه" لوهبة الزحيلي، وغيرهما. [8] جريدة الأحداث المغربية العدد 2843 ليوم الثلاثاء 16 نونبر 2006 مقال " مثلث برمودا الفكري " [9] "التراث و الحداثة " محمد عابد الجابري ص47 [10] جريدة الأحداث المغربية،العدد1941، الصادر بتاريخ 19/ 5/ 2004.