إن المتتبع لتاريخ الحرب الخفية والمعلنة ضد الأمة الإسلامية، يرى أن الأعداء لم يفتؤوا منذ زمن طويل يحاولون كشف عورات المسلمات، بقصد تحويلهن إلى فتنة المسلمين، فينشغل بعضهم ببعض، وتمر في خضم ذلك الانشغال، مخططاتهم الرامية إلى استكمال الهيمنة والاستغلال والتمكن من رقاب المسلمين وبلادهم. والناظر إلى واقع الأمة الإسلامية، يهوله ما يراه من نجاح هذه المخططات ويفزعه انسياق المسلمين خلفها إلى الهلاك والضياع والفناء. وليس عبثا أن ينبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا السلاح الخطير الذي يمكن أن يستعمله الأعداء ضد الأمة، ويذكر أنه كان سبب هلاك بني إسرائيل بالذات، عندما قال، في آخر وصاياه للأمة قبل رحيله عنها: >اتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء< ولهذا كان من أعظم عبادات المرأة المسلمة أن تكون عونا للرجل المسلم على دينه، وسندا له في أداء رسالته. وكان من أسوإ أعمالها التي تبعدها عن ربها، وتجعلها عنصرا فاسدا مفسدا في الأمة، أن تكون فتنة للرجل في دينه، وحربا على عفافه، وجسرا يسلك به إلى الرذيلة والانحراف. من المستفيد من مناهضة للحجاب؟ وليس عبثا أن ترتبط الدعوة إلى نبذ اللباس الإسلامي بدخول الاستعمار إلى بلاد المسلمين، حيث عمل جاهدا بكل الوسائل لإخراج المسلمة المصونة من بيتها، وتعريتها من حجابها. وقد يكون مفهوما أن يأتي الترويج لهذه الدعوة من محترفي الغزو الفكري من اليهود والنصارى، فإننا لا نشك أنهم طلائع الاستعمار ورداؤه الفكري، وقد أخبرنا القرآن الكريم عن نواياهم النهائية عندما قال: >ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، قل إن هدى الله هو الهدى<. ولكن الذي لا يفهم ولا يحتمل بحال، أن ينبت في بلاد المسلمين من يتطوع في خدمة هذه المقاصد الاستعمارية، ويتولى الترويج لهذه الدعوات الدخيلة، وبحماسة لا تقل عن حماسة أصحابها أنفسهم. وإن الإنسان الغيور ليتساءل أمام هذا الموقف الغريب: لحساب من هذه الحملات ضد اللباس الإسلامي؟ بعد كل الذي جرته السنوات الماضية من آثار التبرج السيئة، وبعد الذي رأيناه من حصاد الهشيم في الجيل الحالي من الفتيان والفتيات. ما الفائدة من هذا البديل الذي يراد له أن يحل محل الحجاب الإسلامي؟ والله تعالى يقول: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) وقد علم الجميع أن نبذ الحجاب كان كسرا لباب منيع كان يصد الفاحشة عن مجتمع المؤمنين. فهل قدر هؤلاء الكتاب والمربون وأولياء الأمور هذا العذاب حق قدره؟ وإن أحدا منهم لا يحتمل أن تعلق بناته وأمه وزوجته من أثدائهن وشعورهن وهو ينظر، ولن يحتمل أن يرى أحد أقاربه يحترق بالنار أمام عينيه، فلماذا نحرص على وقاية أهلينا من مكروه الدنيا، ولا نحرص على وقايتهم من مكروه الآخرة وهو أشد. إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في البرزخ نساء معلقات من شعورهن وأثدائهن فقال لجبريل: "من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء اللواتي لا يسترن شعورهن ونحورهن عن الرجال. هل هان على هؤلاء الكتاب والمربين وأولياء الأمور، مصير بناتهم وأزواجهم، وأمهاتهم، حتى أصبحوا يحاولون توسيع دائرة الهلاك لتشمل أكبر قطاع من نساء الأمة؟ كان أولى بهم أن يكونوا في مستوى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا، وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يومرون). كان أولى بهم أن يكونوا في مستوى هذه الآية فينقذوا أهليهم من النار، فإن إنقاذهم إنقاذ لأنفسهم أيضا. كان أولى بهم أن يتصرفوا بهذا، لا أن يسنوا سنة سيئة يكون عليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم، ألا ساء ما يزرون). ويجب أن تذكر المسلمة أن أحدا لا يستطيع أن يدافع عنها يوم القيامة إذا اتبعت ضلاله في الدنيا (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب). وأشد ما وصلت إليه حملات الحرب ضد اللباس الإسلامي التشكيك في فرضية الحجاب، والتكلم بالرأي في الآيات والأحاديث الواردة في ذلك. لقد دأبت دوائر الاستعمار على دراسة أحسن السبل للوقوف في وجه العودة المفاجئة للإسلام، التي ظهرت في صفوف الأمة برجالها ونسائها ولما كانت المغريات على أشدها، عاجزة عن القيام بدورها كاملا، فقد أصبح السلاح الجديد، هو زعزعة الثقة في المحرك الأساسي لهذه العودة، وهو الإيمان بأن هذا أمر الله وأمر رسوله.
الحجاب إيمان وتقوى وفي هذا الإطار يجب أن نفهم الدعوات التي تنطلق مشككة في المعاني المحكمة للآيات والأحاديث التي تفيد وجوب الستر في لباس المرأة. أو التحليلات الطبقية التي لم تتماسك قط أمام أي قضية من قضايا الإسلام أو قضايا تاريخه، فالحجاب لم ينتشر بين الطبقات المتوسطة والفقيرة كرد فعل لانتشار أساليب الحياة الغربية بين الطبقات المترفة، ولكن الحجاب ينتشر بين أولئك الفتيات المؤمنات اللواتي عرفن حكم الله، واقتنعن به وانتصرن على ضغوط الواقع من حولهن، ويستوي في ذلك كل الطبقات في الأمة، أغنياؤها وفقراؤها. إن التزام الفتيات والنساء المسلمات باللباس الإسلامي وراءه مقاصد أسمى من التفسيرات الوضيعة التي تجعله رد فعل مرتبط بمصالح طبقية. إن التحليل السليم لأي ظاهرة يجب أن ينطلق من الظاهرة نفسها، لا مما يروج في ذهن المحلل من أفكار مبيتة، يراد لها أن تلون الظاهرة بلونها، وإن أبت طبيعتها ذلك. فإذا كان أحد المحللين ماديا في تفكيره، لا تحركه في سلوكه الخاص إلا ما يحرك الأنعام والدواب، فيجب ألا يظن أن الناس كلهم كذلك. ولما كانت النصوص القرآنية والنبوية هي الصخرة التي تتكسر عندها تأويلات هؤلاء المضللين وتحليلاتهم، فإنهم لا يعدمون ضروبا من التفسيرات الغريبة يفسرون بها آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتنكبون التفاسير الصحيحة ويعرضون عنها لحاجات في أنفسهم. وإفساد معاني النصوص بالتأويلات الباطلة عمل معهود في أهل الأهواء الذين يعتقدون ثم يستدلون، فإذا وقف في طريقهم شيء من النصوص أولوه أو شككوا فيه. ويستند بعض الكتاب للتشنيع على اللباس الإسلامي، إلى ما حصل في بعض الفترات من تجاوزات في فهم بعض التعاليم الإسلامية، أو الإساءة في تطبيقها، وهم أول من يعلم أن الإسلام غير مسؤول عن ذلك، ولذلك يكتفون بهذه الصور المشوهة دون أن يرسموا للناس الصورة الصحيحة التي ينسجم فيها المبدأ والتطبيق. ومهما قلنا عن الصورة التي رسم الإسلام للمرأة المسلمة أن تحيا عليها، فإن أحسن ما يجليها، هو التزام المرأة المسلمة بها، فإن هذا الالتزام أبلغ من كل كلام، وعندما غاب التطبيق السليم، رأينا كيف أطلت الأوهام والخيالات. والحديث عن نظام الحريم وغمز الإسلام به مما اعتاده هؤلاء الكتاب، ونحن نعلم أن الإسلام أمر بالحجاب ولا شأن له بالصورة المنفرة التي ارتبط بها نظام الحريم في أذهان الناس.
أخلاقيات الحجاب ويجب أن يكون واضحا بأن الإسلام لم يكن يقيم في تشريعاته اعتبارا لأعمال الأمم وعاداتها، وإنما يشرع استقلالا سواء اتفق التشريع مع ما كان سائدا أو اختلف، فإذا كان الحجاب معروفا عند أهل الكتاب مثلا، فهذا دليل إن صح النص من التوراة والانجيل أن شرائع الأنبياء متوافقة في هذا الأمر، لأنه من الفطرة التي فطر الله عليها الناس. قال تعالى حكاية عن آدم وزوجه: >فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة< فأي أمة حافظت نساؤها على الحجاب، فإن يكون بتشريع من السماء أو بميل فطري سليم. وقد تقصى العلماء الشروط التي إذا توافرت في لباس ما، فهو لباس إسلامي دون أن يحددوا لباسا بعينه. فذكروا أن هذا اللباس لابد أن يكون ساترا للبدن عدا الوجه والكفين، فإن سترت وجهها بالنقاب فهو أحسن وأفضل، وأن يكون هذا اللباس متسعا فضفاضا لا يحدد أعضاءها، وأن يكون ثخينا لا يصف ما وراءه، ولا يشبه لباس الرجل، وألا يشبه لباس الكافرات مما هو شعار لهن، وألا يكون ثوب شهرة وخيلاء. ولم يكن هذا من العلماء إلا ترتيبا للنصوص التي جاء فيها ذكر هذه الشروط (راجع كتاب حجاب المرأة المسلمة للألباني). وأنت ترى أن أكثر هذه الشروط مشترك فيها بين الرجل والمرأة، فالرجل أيضا لا يخرج من بيته إلا لغرض صحيح، ولا يلبس إذا خرج الثوب الضيق والثوب الشفاف والثوب الذي يشبه لباس المرأة أو لباس الكافرين أو لباس الشهرة والكبر والخيلاء، وهو أيضا يستر عورته وجوبا، ويستر سائر بدنه ويأخذ زينته سنة واستحبابا. ولم يكتف الإسلام بأن أمر المرأة بالحجاب، بل أمرها بعد ذلك بأخلاقيات الحجاب. وهذه الأخلاقيات مشار إليها في مثل قوله تعالى: (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) ومثل قوله عز وجل: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولا معروفا)، ومثل قوله تعالى: (قل للمومنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمومنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن، أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الاربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن، وتوبوا إلى الله جميعا أيها المومنون لعلكم تفلحون). وكما رأينا من قبل اتفاق أكثر شروط اللباس الإسلامي بين الرجل والمرأة، نرى هنا أيضا اتفاقا بينهما في أكثر هذه الأخلاقيات إلا ما كان خاصا بالمرأة من حيث طبيعتها الأنثوية. ولو عرفت المرأة المسلمة ما لها من المنافع في لباسها الإسلامي، لنظرت إليه على أنه حق من حقوقها، قبل أن يكون واجبا مفروضا عليها، أي عليها أن تطالب به إذا منعت منه، أو أرغمت على تركه، لأنه حق يحقق لها ما تحققه الحقوق لأصحابها. وإذا كان بعض النساء في مجتمعنا الإسلامي قد حملن راية الدفاع عن خروج المرأة متبرجة بدعوى أن هذا من حقوقها، فقد كان هذا غفلة شديدة أو سوء قصد منهن، وآن الأوان للمطالبة بالحق الحقيقي والأصيل للمرأة المسلمة وهو عودة حجابها. إن الحجاب هو الذي يصون جسم المسلمة من مؤثرات الجو، ويحفظه من عيون الفساق، ويكسوها بهيبة ووقار وحياء، وينتزع لها الاحترام من الموافق والمخالف، ويذكرها بهويتها، ويردعها عن كثير ما تنازعها إليه نفسها مما لا يليق بإسلامها وعفافها. وهو إلى جانب هذا كله يكون سببا في تقدم زوج مسلم صالح لطلب الزواج منها، وهذا أعظم من كل ما سبق، لأن فيه سعادة الدنيا وسعادة الآخرة أيضا، ولاشك أن أعظم نعمة يمكن أن تنعم بها المرأة: أن تعيش في كنف زوج لا يخونها ولا يبخسها حقها، إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها، وإن كره منها خلقا رضي منها خلقا آخر، يعتبر في معاملتها أنها أخته في الإسلام لها حقوق الإسلام وحقوق الجوار وحقوق الزوجية، قد أخذها بأمانة الله واستحل فرجها بكلمة الله. فهذا الزوج لا يمكن أن يأتي به الشارع أو تأتي به العلاقات الحرة أو يأتي به تبرجها وتزينها لكل من هب ودب. إن أعظم حق أعطاه الإسلام للفتاة المسلمة المتحجبة أنه يربي لها الزوج المسلم، وهذا ما لا يستطيع قانون في الدنيا أن يحقق للمرأة مثله، ولا يخفي بعد هذا أن اللباس الإسلامي لا يحول بين المرأة المسلمة وبين أي عمل ضروري تحتاج إليه، ومهما تطورت الحياة فإنها لن تلجئ المسلمة يوما لترك شيء من بدنها غير مستور.
دحر الدعوات المغرضة ودعوات تطوير الأحكام الإسلامية لتتناسب مع العصر دعوات امتزج فيها الحق بالباطل، فإن الأحكام الثابتة، لا سبيل إلى تغييرها بحال، لأنه لن يأتي يوم يحتاج فيه المسلمون إلى تغييرها، أما التي يحتاجون إلى تغييرها فقد وضعت من أول يوم مرنة مطواعة لتغيير الظروف. والنصوص الواردة في معنى الحجاب نصوص محكمة بينتها السنة العملية وسلوك الأجيال المسلمة المتعاقبة. ولقد كان حريا بكل أولئك الذين يحملون على الحجاب الإسلامي أن يقوموا بدور المدافع، وقد علموا مصدر الدعوات المنادية بالسفور والعري والتبرج. ولكنهم للأسف رضوا أن يسيروا في ركب كثر السائرون فيه هذه الأيام، فأمروا بالمنكر ونهوا عن المعروف (ولله عاقبة الأمور). فهل يريد هؤلاء أن تكون نساؤنا وبناتنا هم الصنف الذي لم يره النبي صلى الله عليه وسلم من أهل النار عندما قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما... ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخث المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليشم من مسيرة كذا وكذا<؟ فالكاسيات العاريات هن اللواتي يلبسن اللباس الضيق المحدد لعوراتهن، وهن أيضا اللواتي يلبسن اللباس الشفاف الذي يشف عما تحته، وهن أيضا اللواتي يلبسن اللباس القصير الذي يستر بعض الجسم ويكشف بعضه. هل يريد هؤلاء للمرأة المسلمة مأساة كمأساة المرأة الأوروبية، التي أصبحت تتطلع إلى ما يحاول هؤلاء الكتاب صرف المسلمات عنه؟ إن انتصارنا في هذه القضية جولة من انتصارات أخرى تعيد لهذه الأمة ما ضاع من دينها، ويومئذ يفرح المومنون بنصر الله. ينصر من يشاء.