في خضم موجة الإسلاموفوبيا التي تجتاح فرنسا حاليا، أعتقد أنه من مصلحتنا جميعا، بصفتنا مواطنين فرنسيين، التعامل مع هذه الظاهرة بعقلانية وتريث، حتى لا ننزلق وراء التصورات الخاطئة، التي لا تمكن من فهم صحيح لحالة الهستيريا التي نشهدها الآن. ومن بين تلك التصورات التي ينبغي تجاوزها، الزعم أن الإسلام والمسلمين لم يكونوا يوما ما محبوبين من قبل الغرب وأوربا، أو حتى من فرنسا ذاتها، واعتبار المسلمين ضحايا للنظرة الغربية. كما ينبغي تفادي الانزلاق وراء تصور معاكس ينكر وجود الإسلاموفوبيا أو يهول من حجمها، مثل ما يفعل بعض الفلاسفة والصحفيين والكتاب، لذلك أرى أنه لا بد من التحلي ببعض الشجاعة والاعتراف ببروز ظاهرة حديثة العهد تتمثل في الممارسات العنصرية ضد المسلمين. أو ليس إحراق المساجد تجسيدا للإسلاموفوبيا؟ رسائل الإهانة والتهديد التي يتلقاها المسلمون يوميا، أليست صورة من صور الإسلاموفوبيا؟ مواقع الأنترنت المتزايدة، والتي تنادي بالتصدي لظاهرة أسلمة فرنسا، ألا تدخل ضمن الإسلاموفوبيا؟ ليست ظاهر دينية خلافا لما قد يظن البعض، فظاهرة الخوف من الإسلام ليست وليدة أحداث 11 شتنبر، إذ شهدت أوروبا منذ القدم ظاهرة خوف وأحيانا حقد من الإسلام. وفي هذا السياق، يتحدث مكسيم رودنسون، وهو باحث في الإسلام، عن سحر الإسلام الذي يحيل إلى تصورات ثقافية وإيديولوجية تختلف حسب الفترات التاريخية والوسط الاجتماعي. لكن، وبصرف النظر عن تلك الاختلافات، يكاد الخوف من الإسلام أن يكون ظاهرة لصيقة بتاريخ المجتمعات الأوربية عامة والمجتمع الفرنسي بشكل خاص. و قد جاء في دراسة قام بها المؤرخ البريطاني نورمان دانييل: >لا تختلف الرؤية الأولى للكنيسة نحو الإسلام عن الرؤى السائدة حاليا هنا وهناك. طبعا هناك بعض الاختلافات، فقد كان للغرب منذ القدم رؤيته الخاصة نحو الإسلام والمسلمين، وهي رؤية تشكلت بين سنوات 1100 و1300 وتغيرت فيما بعد<. ويذهب نورمان دانييل إلى حد استعمال عبارة هوس الحرب، التي ستؤثر لاحقا على طريقة تناولنا للشأن الإسلامي في فرنسا وأوربا والعالم. إلا أن ظاهرة الخوف من الإسلام والمسلمين مرت بتطورات عميقة أملتها الظرفية السوسيوتاريخية. وقد كان لدينا دوما نحن أهل الغرب خوف من الإسلام، ولكن ليس بالضرورة للأسباب والدوافع نفسها. فالخوف من الإسلام صارت له دوافع دنيوية، ولم يعد مقتصرا على الدوافع الدينية واللاهوتية. وفي هذا الإطار، أتفق مع آرثر هيرتزبرغ، أستاذ بجامعة نيويورك ونائب رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، حين يتطرق في أطروحته إلى معاداة السامية ويوضح بجلاء كيف أن معاداة السامية الراهنة هي وليدة عصر الأنوار، أكثر مما هي وليدة المسيحية. والشيء نفسه ينسحب على الإسلام، فالإسلاموفوبيا هي في الواقع ظاهرة حديثة جدا، وهي وليدة الإيديولوجيا الثورية، أكثر مما هي وليدة الأحكام الدينية المسبقة الموروثة عن العصر الذهبي الذي شهده الغرب المسيحي. أحكام مسبقة و لفهم حقيقة الجدل الدائر حاليا حول الإسلام والمسلمين، أظن أنه لا ينبغي السقوط في فخ الصورة المشوهة للإسلام أو المسلم كضحية، بل يجب تبني تحليل مفصل ومقسم على ثلاث مراحل زمنية: المرحلة الأولى: وتشمل الأحكام الدينية المسبقة عن الإسلام كما تشكلت على مر الأزمنة. ساهمت صورة الإسلام وذاك الآخر المسلم بشكل حاسم في خلق الوحدة الإيديولوجية واللاهوتية لأوربا الغربية. ويرى مكسيم رودنسون أنه >منذ القدم، شكل المسلمون خطرا على الغرب المسيحي قبل أن يتحولوا إلى مشكلة حقيقية<. عموما، ولكي تحقق أوربا الغربية وحدتها الإيديولوجية واللاهوتية، كان لزاما عليها أن تجد عدوا مشتركا ذا سمات واضحة ومميزة. فكان الإجماع على معاداة دين محمد: محمد، عدو المسيح، محمد، الساحر الماكر، المتعطش للجنس والدم، محمد، المخرب الذي دمر كنيسة إفريقيا والشرق الأوسط، محمد، الوثني المشرك. وفي القرن الخامس عشر، كان العثمانيون يمثلون خطرا على الغرب، لكنه خطر دنيوي أكثر مما هو ديني ولاهوتي. أي أن التهديد كان سياسيا أكثر مما هو إسلامي. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، برزت على الساحة رؤية ودية ومتفهمة نسبيا تجاه الشأن الإسلامي، ساعدها بالأساس هوس إيديولوجيا الأنوار بمحاربة >ظلامية المسيحية إبان القرون الوسطى<. كما تميز عصر الأنوار بنظرته الإيجابية للإسلام كدين معتدل ومتسامح ومنفتح، وكان ينظر للإسلام كدين أشبه بالتأليه (مذهب يقر بوجود الله وينكر الوحي والآخرة) قريب من فكر الأنوار وبعيد عن فكر الهيمنة الإيكليروسية. أما بالنسبة للمسلمين، فكان ينظر إليهم أناسا كغيرهم. رسالة تحريرية المرحلة الثانية: تنامي الحركات القومية واستعمار العالم العربي الإسلامي، فبعد انتصار الحركات القومية ونجاح الأطماع التوسعية في القرن التاسع عشر، ظهر تصور سلبي للشأن الإسلامي أو تصور رجعي كما يراه البعض، وقد عززه: ظهور أوربا الموحدة. الزعم بتفوق الحضارة الغربية على الحضارة العربية الإسلامية. الانتقال من سياسة التسامح بين الشعوب إلى سياسة ازدرائية. الاستهلاك المفرط لمواضيع الأصولية الإسلامية والظلامية الإسلامية. الخوف من عودة الوحدة الإسلامية في ذلك الوقت لم يكن هناك حديث عن الإرهاب الإسلامي و التهديد بإعادة تشكيل الدولة التيوقراطية المسلمة (دولة إلهية يشرف عليها رجال الدين). واللافت أننا مازلنا حبيسي تلك الصلة بالشأن الإسلامي، التي تغذيها حداثتنا السياسية أكثر مما يغذيها تصورنا اللاهوتي المستوحى من الصراع بين الأديان. من ثم، فالإسلاموفوبيا ليست تكريسا للإشكالية القديمة بين الحروب الصليبية والجهاد، حتى وإن كنا نلاحظ هنا وهناك بعض الآثار اللاهوتية. وباسم التفوق المزعوم لنموذجنا الجمهوري، بتنا نعتقد أننا نحمل رسالة تحريرية للعالم الإسلامي، وقلنا إنه ينبغي توجيه المسلمين ومساعدتهم على أن يصبحوا مواطنين صالحين مع احترام عقيدتهم ومعتقداتهم في حدود ما يسمح به مجتمعنا العلماني. فكان المسلم الصالح في تقديرنا هو >المسلم الضعيف الذي لا صوت له ولا رائحة<. أما المسجد الحقيقي فهو >المسجد الذي لا مئذنة له، وهو المسجد المحتشم شبه الخفي<. ولم ننس المرأة، وقلنا إن >المرأة المسلمة المتحررة هي المرأة التي تشتكي من اضطهاد والدها وإخوتها وأولاد عمها لها وتجوب أرجاء فرنسا وهي تصيح: أوقفوا عساكر الفاشية الخضراء!<. الإسلام شماعة المرحلة الثالثة: تسييس الإسلام وتوظيفه كتعبير عن جمود مخيلتنا الأوربية والفرانكو فرنسية. إذ يزعم الكثير منا أنه من الممكن خلق نظام جمهوري علماني جديد من خلال تحميل المسلمين مسؤولية أزمة نظامنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي. والحق أن الشأن الإسلامي صار شماعة يلقى عليها فشل الدولة والفاعلين السياسيين في حل المشاكل الكبرى لمجتمعنا (كالبطالة وعدم الاستقرار الوظيفي وانعدام الضمان الاجتماعي،...). وهكذا، يصبح الحجاب الإسلامي حجابا للقضية الاجتماعية. ألا تلاحظون وجود صلة غريبة بين تزايد تسييس الحجاب والأزمة التي تعيشها بعض قطاعات مجتمعنا الفرنسي؟ حول أزمة النظام التربوي، قلنا إن الحجاب هو المسؤول! وحول أزمة نظام الصحة العمومية، ألقينا باللائمة على الإسلام! ثم حول أزمة سياسة المدينة وتنامي العنف ضد النساء، صممنا على اتهام الإسلام! وهناك مرحلة رابعة تفرض نفسها بقوة. مسلمات ومندمجات المرحلة الرابعة: المرأة المسلمة، صورة غريبة ذات دلالات وهمية لماذا تشد الفتيات المحتجبات أنظار المجتمع الفرنسي؟ للإجابة عن هذا السؤال، تجب الإشارة إلى تميز المرأة المسلمة بثلاث خاصيات أساسية: 1 خاصية شبقية: نلاحظ في الأيام الأخيرة هيمنة صورة مزدوجة للمرأة المسلمة، فهي من جهة مصدر للملذات والمتع، ومن جهة أخرى >إنسانة خانعة ومحاصرة تعاني وطأة ظلم الرجل<. لكن الفتيات الفرنسيات اللواتي يضعن الخمار لهن رأي مخالف تماما، وينكرن تلك الصورة غير المشرفة عن المرأة المسلمة. 2 خاصية الزواج من الأجنبي إن منع زواج المرأة المسلمة بغير المسلم يقلب تصورنا للعلاقة الزوجية. فالفكرة التي ندافع عنها هي أنه لتعزيز ديمقراطيتنا الجمهورية، يجب التخلص من عقدة الزواج العشائري وتحرير المرأة المسلمة من التحريم الديني من خلال تكييفه. لكن ماذا تقول لنا الفتيات اللواتي يضعن الخمار؟: >نحن فرنسيات مندمجات في مجتمعنا الفرنسي، لكننا نرغب في الزواج من مسلمين<. وهو ما قد يراه البعض خيانة في حق النظام الجمهوري. 3 خاصية الاندماج في المجتمع: في تصورنا الجمهوري، فاندماج الأهالي المسلمين يمر أولا من خلال المرأة: فالمرأة ناجحة أكثر على الصعيد الدراسي والمهني. المرأة أكثر رقة واحتراما للقانون. المرأة محرك للحداثة وسط عالم ينخره التخلف بضواحي فرنسا. لذلك، لا نستطيع بتاتا فهم الفتيات الفرنسيات اللواتي تلبسن الحجاب حين يعبرن عن موقفهن باختصار قائلات: >نحن فرنسيات مندمجات اجتماعيا وثقافيا، لكننا نريد الإفصاح عن انتمائنا الديني في الفضاء العام<. من نافلة القول إن حالة اللافهم هذه والمناقشات الساخنة حول الحجاب الإسلامي قد أفرزت بعض الآثار السلبية مثل: حجب القضية الاجتماعية (أسلمة المشاكل مادام ليس هناك بديل نقدمه للفرنسيين). تنامي الحمى القومية والأمنية (الجدل حول إصلاح قانون الجنسية): فقد شهدت الأشهر الأخيرة جدلا واسعا حول القومية، ليس بمعناها العلماني، ولكن بمعنى الخطر المحدق بالأمة. زرع النزعة الطائفية بين أبناء الشعب الفرنسي: >فقد برزت الطائفية الإسلامية التي طالما خشيناها<. منحنا بعض المسلمين مناصب سامية كمنصب الوالي، ورأيناهم يعيشون في تجمعات إسلامية، والآن، وكما في الزمن الغابر للجزائر الفرنسية، تراهم يحدثوننا عن المشكلة الإسلامية أو القضية الإسلامية. إدانة الفتيات والنساء المسلمات، التي تنتهي بتحويلهن إلى مجرمات القرن الحادي والعشرين، مما يبيح التعذيب والعنف في حقهن. إعادة النظر في التقليد الليبرالي للعلمانية. خاتمة وختاما، أود الإشارة إلى أنه قد لوحظ في الآونة الأخيرة، بعد الجدل الدائر حول الحجاب الإسلامي، بروز نزعة طائفية فرانكو فرنسية تدافع عن فكرة فرنسا المثالية والنقية، وهو ما يعيد إلى الأذهان ذكريات سوداوية في تاريخنا. إن فضح وإدانة ظاهرة الخوف من الإسلام التي تنهش في الجسم الفرنسي وقريبا الأوربي أسمى من أن يراد منه الدفاع عن طائفية على حساب الأخرى. وكونوا على يقين أني لا أسعى للدفاع عن الإسلام والمسلمين، بل أتصرف بما يمليه علي واجبي كمواطن يؤمن بالديمقراطية الفرنسية. ومن هنا، أعتبر أن محاربة الكْزِينوفوبيا (كره الأجانب) مسؤولية تقع على عاتقنا جميعا دون استثناء. ترجمة: رشيد المتوكي المقال هو نص المحاضرة التي ألقاها فانسن جيسير في المؤتمر السنوي لمسلمي فرنسا في شهر ماس ,2004 وهي المحاضرة التي ألقاها بالدار البيضاء بدعوة من جمعية المسار وبالرباط بدعوة من مركز طارق بن زياد في شهر أبريل 2004