هناك شيء ما فاسد في العلاقات بين الرباطومدريد، فالصراع بينهما يتخذ عدة أوجه منذ أسابيع، وقد ينتهي ربما بأزمة جديدة، بدأت الآن صامتة وربما ستأخذ اتجاها آخر. لنعد قليلا إلى الوراء، في محاولة للإمساك بالخيوط الظاهرة لهذه الأزمة البكماء، التي يمكن أن تنطق في أي وقت. وما يميز هذا التوتر أنه شمل جميع المجالات: الاستخبارات والإعلام والبرلمان والجنس والاقتصاد والدين، ليربط بين خيوط متباعدة. بدأت فصول الصراع الأخير استخباراتية عندما أعلنت السلطات المغربية قرار طردها مسؤولا استخباراتيا إسبانيا في الناظور من التراب المغربي، بعدما لم تجد الاستخبارات، المغربية أمامها حلا آخر غير اللجوء إلى تفجير المشكلة الاستخباراتية، في الوقت الذي تقتضي فيه مبادئ هذا النوع من العمل الكثير من السرية في ظل الحرب المستمرة بين البلدين في هذا المجال، والتي لا تتوقف حتى في شهور العسل. كان هذا الحدث مدويا في مدريد التي طلبت من عميلها الكف عن ممارسة أي نشاط وعدم إرسال أي تقارير، إلى حين مغادرته تراب المغرب. وحسب الإسبان فإن سلطات مدريد لم تشرح لعميل استخباراتها الأسباب التي جعلت الرباط تتخذ هذا القرار غير المسبوق في تاريخ العلاقات بين البلدين. العميل الاسباني ينتمي في الأصل إلى القوات المسلحة الإسبانية، وله تجربة عمل سابقة في إقليم الباسك الإسباني، بمعنى أن له تدريباً عالياً وكونه عمل في إقليم الباسك والجيش يعني أنه من صفوة الاستخبارات الإسبانية، وهنا تظهر أكثر من علامة استفهام، فكلمات الود الديبلوماسي توجد بين سطورها تقارير الاستخبارات ووراء الأحضان تختفي أجهزة التنصت عالية الجودة. خابيير بالنثويلا، المستشار الإعلامي السابق، كان يصر طيلة ساعات الحوار المطول الذي أجريته معه داخل مقر صحيفة «إيل باييس» بشمال مدريد على أن المغرب لم يعد هدفا عسكريا لإسبانيا، لكن بالنثويلا، ربما، قال فقط نصف الحقيقة، فالمغرب تحول من أول خطر يستعد الجيش الإسباني لمواجهته خلال ربع قرن الأخير إلى أكبر وكر للجواسيس الاسبان الذين تجدهم مزروعين في جميع المجالات. الاعتقاد السائد أن هذا التطور المثير في العلاقات بين الاستخبارات المغربية والإسبانية، اللتين تنسقان العمل فيما بينهما بشأن الملفات الأمنية الدقيقة مثل الإرهاب منذ هجمات 11 مارس بمدريد، مرتبط بالحملة التي قامت بها السلطات المغربية في المدة الأخيرة لمحاربة نشاط المتاجرة بالمخدرات في نواحي الناظور، فالإسبان ربما أرادوا أن يعرفوا ما يفعله المغرب بالضبط، وحملة من هذا النوع أسالت لعاب قيادة الاستخبارات الإسبانية في مدريد، لكن ربما كسر العميل الإسباني إحدى قواعد اللعب في عالم الجواسيس، مما استوجب إخراجه من الظل إلى الشمس الحارقة. جاران متصارعان الوجه الآخر للصراع إعلامي، لكنه أيضا مرتبط بالأول على نحو ما، فالرباط رفضت أن تجدد اعتماد مصور وكالة رويترز للأنباء رفائييل مارتشانتي. ورفض التجديد في هذه الحالة يكون مبنيا على تقارير أحيانا تكون استخباراتية، فالرجل فعل شيئا ما يستحق طرده إلى الضفة الأخرى للمتوسط. حتى الآن يبدو الأمر شبه عاد، لكنه سيتخذ بعدا آخر عندما ستحاول سفارة إسبانيا في الرباط التدخل لدى وزارة الاتصال، التي أكدت أن قرارها لا رجعة فيه. وهنا تفشل السفارة فيما نجحت فيه العام الماضي عندما تدخلت لصالح صحافيتين إسبانيتين قررت وزارة الاتصال طردهما من البلاد، بل لم تشفع للمصور الصحافي حتى تدخلات وكالة رويترز التي يعمل معها. الوجه الآخر للإعلام هو ما فعله صاحب كتاب «الجاران المتباعدان» إيغناسيو سيمبريرو، الذي سرب مقتطفات وهمية من تقرير أوروبي لم يصدر بعد يدعو إلى إشراك المينورسو في مراقبة وضعية حقوق الإنسان في الصحراء، وهو ما جعل مصطفى المنصوري يستشيط غضبا خلال لقائه بهؤلاء المسؤولين الذين سهل لهم مأموريتهم خلال زيارتهم للأقاليم الصحراوية، وهنا سيتأكد للمسؤولين المغاربة انطباع قديم يكمن في أن سيمبريرو، الصحافي الذي أجرى آخر حوار لصحيفة إسبانية مع الملك محمد السادس قبل أربع سنوات، هو ذو نوايا معادية للمغرب، لذلك لن تشفي غليل وزير الاتصال خالد الناصري إلا عبارة مستقاة من الدارجة المغربية وصف بها سيمبريرو «إنه مخربق كبير». الصراع لن ينتهي هنا، ففصوله ما زالت شيقة، والإثارة تكتمل دائما في دائرة الجنس، التي ظهرت عندما استقبل السفير الإسباني بالرباط لويس بلاناس، هشام البركاشي، رئيس جمعية «كيف كيف» للشواذ جنسيا، بمعية «قيادي» في جمعية للشواذ والسحاقيات في إسبانيا. ولم يتردد السفير الاسباني في أخذ صورة معهما تعبيرا عن دعم إسبانيا لهذه الحركة في المغرب، وهو ما قرأه المسؤولون المغاربة بأنه تدخل في الشؤون الداخلية للبلاد ومس بالمقومات الروحية للمغاربة، وآخرون اعتبروه خطأ ديبلوماسيا من بلاناس، وكان رد المغرب أن بدأت وزارة الداخلية في التحرك منعا لما هو أسوأ. طماطم ومؤسسات دستورية ربما كان الأمر بالصدفة أو أن القدر أراد أن تجتمع كل هذه العناصر لتصنع منظرا غير جميل لمضيق جبل طارق خلال الأسابيع القليلة الماضية، فالنائب البرلماني خوان موانويل سانشيث، ربما لم يكن يعلم بوجود التوابل السابقة، ففجر قنبلة مدوية بتهجمه على العائلة الملكية المغربية، التي اتهمها بالسيطرة على ثروات المغرب والارتباط بتجارة المخدرات، وهنا كان للخبر الذي أوردته قصاصة لوكالة الأنباء الإسبانية وقعه المدوي. لم يكن صعبا كثيرا الحصول على رقم هاتف النائب البرلماني الأندلسي، عن تحالف حزب اليسار الموحد والخضر، خصوصا عندما رفض مسؤولو الحزب في مدريد خلال اتصالات مع «المساء» الخوض في الموضوع، لأنه لا نفوذ لهم على تمثيلية الحزب في الأندلس، أخرجت سانشيث من اجتماع للجنة برلمانية ليجيب عن أسئلة بدت له صادمة، فلم تكن أجوبته مقنعة، فالرجل لا يملك دليلا عما يقول ويعزو تهمه الخطيرة إلى تقارير نشرتها جمعيات في المغرب وإسبانيا، وعندما حاصرته بطلب أسمائها ذكر اسم جمعية «امنيستي انترناسيونال» التي لا دخل لها بالموضوع، لكن يبقى السؤال الأهم: ماعلاقة كيلوغرامات الطماطم بالمؤسسة الملكية بالمغرب؟ سانشيث يرى أنه لا فرق عنده بين السياسة والاقتصاد. القصة تبدو فعلا مشوقة لأن النائب ذا اللكنة الأندلسية سيضحك عندما أخبرته أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى أزمة ديبلوماسية بين الرباطومدريد، ويقول بلكنة أندلسية: «ليس إلى هذا الحد يارجل». لا تضحكوا كثيرا، لكن آخر ما قاله لي سانشيث قبل أن تنتهي المكالمة بيننا أنه رجل يحب المغاربة وساعدهم في تسوية أوضاعهم في إسبانيا. ولكم أن تشموا هنا رائحة جهل بعض السياسيين الإسبان بما يقولونه. وبجارهم الجنوبي وهم أعداء ما يجهلون، وهنا أيضا نشم رائحة جبهة البوليساريو. الرد المغربي سيكون على لسان مصطفى المنصوري، لكن هذه المرة ليس بصفته البرلمانية، بل الحزبية باعتباره رئيسا لحزب التجمع الوطني للأحرار، فالرجل لم يحقق السبق فقط في كونه أول زعيم حزب من أصول ريفية، بل أيضا في كونه أول زعيم سياسي مغربي يدعو إلى فتح ملف استعمال إسبانيا للغازات السامة في شمال المغرب خلال حربها ضد حركة محمد بن عبد الكريم الخطابي. نساء في الباخرة بعد ما طالت فصول الصراع كل شيء، كان لابد لها أن تصل إلى الحقل الديني، وكانت المواجهة تكمن في إركاب المغرب خمس نساء يعملن في مجال التبشير، أربع منهن إسبانيات وواحدة ألمانية، أسرع باخرة متجهة صوب الجزيرة الخضراء، فقد نقلت النساء الخمس من الدارالبيضاء إلى طنجة حيث تم إخبارهن بقرار الطرد بعدما تم ضبطهن في اجتماع يحاولن خلاله إدخال مواطنين مغاربة إلى الديانة المسيحية، كما ضبطت أشرطة للدعاية المسيحية عبارة عن كتب وشرائط تسجيلية. مخابرات سمبريرو الرسائل التي تريد أن تبعثها الرباط إلى مدريد هي كالتالي: أيتها الجارة الشمالية أنت تتجسسين بشكل مبالغ فيه وتشجعين الشذوذ الجنسي فوق بلد مسلم وتنشر راهباتك تعاليم يسوع ويمس صحافيوك ونوابك بثوابت البلاد دون أن يكون لديهم أي دليل، ومدريد تسجل الملاحظات في صمت. ألم أقل لكم: هناك شيء ما فاسد بين الرباطومدريد. إن أهم قاعدة في العلاقات بين الرباطومدريد أنها بدون قواعد عقلانية، فهي مبنية على علاقات الحب والكراهية، والتطرف أيضا في المشاعر، وأهم عنصر غائب في هذه العلاقات هو عنصر الثقة التي تبقى أكبر ضحية في هذه اللعبة التي لا يمكن خلالها القيام بحسابات استقرار بعيدة الأمد، فشد الحبل مستمر، وأحيانا يتحول إلى شد للشعر.