يردد الإسبان في الشارع وداخل الجامعات والمؤسسات العمومية أنهم سئموا من السجال السياسي بين الحزب الاشتراكي والحزب الشعبي، لأن السياسيين يكذبون، لكنهم يقولون إنه يجب القبول باللعبة الديمقراطية باعتبارها أحسن الأنظمة ضمن الأكثر سوءا تشبه الحملة الانتخابية الاسبانية سباق لمسافات القصيرة التي يبذل فيها كل مرشح كل ما في وسعه خلال الأسبوعين القادمين، الذي هو عمر السباق، من أجل الظفر بجائزة مهمة، تتمثل في امتلاك آلة التحكم في قصر المونكلوا وحق التجول بين حدائقه لمدة أربع سنوات، لكن قرع أجراس بداية السباق ليس سوى أمرا شكليا بحكم أن الحملة بدأت فعلا منذ أسابيع، فالحزب الاشتراكي وغريمه الحزب الشعبي كشفا عبر وسائل الإعلام عن أهم أوراقهما الانتخابية على طاولة الناخب الإسباني الذي سيحكم مصالحه في اختيار أسياد المونكلوا الجدد الذين يجب أن يوفروا لهم مستوى عيش أفضل. يردد الإسبان في الشارع وداخل الجامعات والمؤسسات العمومية أنهم سئموا من السجال السياسي بين الحزب الاشتراكي والحزب الشعبي، لأن السياسيين يكذبون، لكنهم يقولون إنه يجب القبول باللعبة الديمقراطية باعتبارها أحسن الأنظمة ضمن الأكثر سوءا، وأيضا بما تمليه من قواعد، فالجميع يقول إنه لا يمكن إجراء أية مقارنة مع المستوى المعيشي للإسبان اليوم ومستوى عيشهم قبل عقدين، فأشياء كثيرة تحققت مثلما أن أشياء أخرى مازالت لم تتحقق. لكن الأكيد أن الإسبان يرسمون بأيديهم تقاسيم بلد يبدو كل يوم مختلفا وتواقا إلى المزيد من الرقي للحاق بركب الدول الأوروبية التي كانت تنظر إليه حتى الأمس القريب بكثير من التقزز. انتخابات حامية الوطيس وصف مركز البحوث الاجتماعية الإسباني هذه الانتخابات التشريعية بالأكثر توترا منذ 1993، فحدة الصراع تبدو طاغية على المشهد السياسي الإسباني، إذ إن النقاشات التلفزيونية ستكون حادة مثلما أن أعصاب جميع السياسيين باتت مشدودة، وهو ما جعل راخوي يسقط في المحظور عندما قل أدبه على غريمه ثباتيرو في أحد التجمعات التي عقدها يوم الأربعاء الماضي، قائلا له: «تكون مرتاحا عندما تلبس قناع الضحية وتدعو إلى التوتر، أما أنا فلست متوترا، بل منتشيا بين الإسبان الذين أشرح لهم برنامجي الانتخابي». سخر ماريانو راخوي، رئيس الحزب الشعبي من غريمه رودريغيث ثباتيرو أيضا في أحد التجمعات الحزبية في مدريد، واصفا إياه بأحسن رئيس للوزراء عرفته إسبانيا منذ الملوك الكاثوليك، وهو رد ساخر جاء بعدما اتهم الحزب الاشتراكي راخوي بكونه أسوأ وزير للداخلية عرفته البلاد، وهو الذي كان يحمل هذه الحقيبة في عهد سابقه خوسي ماريا أثنار الذي سيشارك في هذه الحملة الانتخابية بعقد بعض التجمعات مع الناخبين. وليس أثنار وحده ضمن فيلق الصقور المتقاعدة التي تحلق بظلها فوق الحملة الانتخابية، بل يوجد أيضا المحامي القديم فيلبي غونزاليث الذي تربع فوق عرش المونكلوا مدة أربع عشرة سنة، فغونزاليث لم يخف امتعاضه في مقابلة مع إذاعة كادينا سير، مطالبا الإسبان بالتصويت على ثباتيرو، لأن الوضع الذي يوجد فيه الحزب الشعبي يقود إلى شيء واحد هو إعادة انتخاب ثباتيرو، بحكم أن الإسبان يحتاجون إلى يمين مختلف عن الموجود في الساحة، مركزا على أن ثباتيرو تمكن من تحقيق جزء مهم من الوعود الانتخابية التي قدمها للإسبان قبل انتخابات 2004، كما أن اليمين يجب أن يقوم بإصلاحات حتى يتمكن من استيعاب أشخاص من أمثال جوزيب بيكي، وزير الخارجية السابق، وعمدة مدريد ألبيرتو رويث غايردون. ويبدو غونزاليث محقا في ذلك بحكم أن الحزب الشعبي عاش على إيقاع حرب داخلية ضارية، على بعد أسابيع قليلة من الانتخابات، بسبب الإقصاء الذي تعرض له عمدة مدريد على يد أسبرنثا أغيري التي تأتي الثانية على رأس لائحة الحزب في مدريد بعد الثري مانويلو بيثارو الذي يعد آخر الملتحقين بالحزب الشعبي، وأدى ترشيحه إلى زوبعة داخل الحزب، وبعدما عبر العديدون عن تعاطفهم مع غايردون الذي أحس بالحنق لكون سلالته ساهمت في تأسيس اليمين في إسبانيا، وتمت التضحية به بتواطؤ بين أغيري ورئيس الحزب راخوي، لكن يبدو أن كل ذلك شارف على نهايته على الأقل ظاهريا، بعدما قبلت أغيري غايردون أمام عدسات المصورين في أحد اللقاءات التي جرت خلال هذا الأسبوع، فقد علق عمدة مدريد على ما حصل بأنه لا يمكنه أن يصد أي شخص يريد تقبيله كيفما كان، فيما وجدها راخوي فرصة سانحة لطي هذه الصفحة، مرددا بطريقة ساخرة مطلع أغنية شهيرة في إسبانيا تقول: «الإسبانية عندما تقبل، فإنها تقبل بحق». مباركة الكنيسة ظلت الكنيسة في إسبانيا دائما حاضرة في السياسة من خلال تشكيلها لتحالف مع القوى المحافظة التي لم تندثر تماما مع نهاية عهد الدكتاتورية وتفتح زهور ربيع الديمقراطية، فأتباع البابا هم الجيش الخفي الذي يحرك عدة خيوط في الجارة الشمالية، إضافة إلى جنرالات الجيش، ويمكن فهم دور الكنيسة بدراسة تاريخ إسبانيا الذي قام على أساس طرد المسلمين من فردوسهم، وتجميع شتات المسيحيين الذين تحملوهم طيلة ثمانية قرون، وبالتالي فهي من الكنائس الأكثر شراسة في أوروبا بحكم حملة محاكم التفتيش التي قادتها طيلة قرون لمحو كل ما هو عربي وإسلامي على شبه الجزيرة الإيبيرية، فلم يكن بالسهولة أن يختفي دورها من الحياة السياسية بين عشية وضحاها. ومنذ تولي رودريغيث ثباتيرو لرئاسة الحكومة والعلاقة بين الحكومة والكنيسة ليست على ما يرام، ومنذ البداية كان اختيار ثباتيرو واضحا، فقد وضع نفسه بالسليقة في المعسكر الحداثي وأعلن العداء لحماة دين الرب، الذين خرجوا أكثر من مرة ضده في الشارع دفاعا عن العائلة التي أراد ثباتيرو أن يشتت شملها بسماحه للشواذ بالزواج، فمثلما يمثل المحافظون كتلة ناخبة مهمة، فأصوات الشواذ أيضا لها وزنها في الحياة السياسية، خصوصا أنهم يوجدون في صلب دوائر القرار بإسبانيا، وازدادت عملية شد الحبل بين الطرفين بعد وضع حد للتعليم الديني المسيحي في المدارس وتعويضه بمادة المواطنة، بمعنى تقوية أسس الدولة العلمانية ودق مسامير في نعش الكنيسة التي تشبه طائر الفينيق القادر على تجديد شبابه كلما بلغ من العمر عتيا. واشتدت حدة التوتر بين الحزب الاشتراكي والكنيسة بسبب الدعم القوي الذي تقدمه لليمين الإسباني خلال هذه الانتخابات، إلى درجة صدرت عن الحزب الاشتراكي الحاكم تصريحات عنيفة ضد الكنيسة، فالرجل الثاني في الحزب، خوسي بلانكو، لم يتردد في التصريح بأن الكنيسة تحولت إلى الجناح المسلح للحزب الشعبي، وسار وزير الخارجية ميغيل آنخيل موراتينوس في نفس الطريق عندما أعرب عن استغرابه الشديد من موقف الأساقفة الإسبان، فالكنيسة الإسبانية أصولية ومتطرفة، وهو ما جعل جيوش الكاثوليك الإسبانية تعلن عن مزيد من التصلب في الموافق، فالكنيسة تقول إنها تمثل كلمة المسيح ولا أحد يمكنه إقبار كلمة عيسى عليه السلام. إلى معسكر ثباتيرو أهم ما يميز الحملات الانتخابية في الولاياتالمتحدة هو الجولات التي يقوم بها المرشحون مع نجوم هوليود، لكن يبدو أن هذا الحلم هو أشبه بكابوس بالنسبة إلى ماريانو راخوي، بحكم أن جميع الفنانين هربوا إلى معسكر ثباتيرو، بل إنهم وقعوا بيانا معاديا للأفكار التي عبر عنها الزعيم اليميني الذي يقود حملته بدون مشاهير في عالم السينما والمسرح والفن يدعمونه ويضعون أصوات معجبيهم في صناديقه، فقد افرنقع الجمع من حول راخوي، حتى أولئك الذين كانوا يظهرون في الصور مع سابقه خوسي ماريا أثنار، مثل المغني خوليو إيغليسياس والكاتب الشهير فيرناندو سانزيث دراكو، لكن راخوي سيعتمد على نفسه ومواهبه في إقناع الإسبان، وعلى طريقته في الكلام التي تثير سخرية مقدمي البرامج السياسية الفكاهية، التي تجعل من سلوك وطريقة كلام السياسيين مواضيع لها، وتلقى تتبعا من طرف الإسبان أكثر من خطب هؤلاء أنفسهم. وقطع راخوي شعرة معاوية مع الفنانين الإسبان عندما اتهمهم بمساندة ثباتيرو من أجل الاستمرار في العيش على الأموال العمومية التي يقدمها لهم رئيس الوزراء الحالي، مما جعل التحالف الثقافي، الذي يقول إنه يمثل مليون شخص يشتغل في المجال الثقافي، ينظم مظاهرة أمام المقر الرئيسي للحزب الشعبي، ويسلم رسالة احتجاجية إلى مسؤوليه تنص على أن هذه الهجمة عبر وسائل الإعلام على المثقفين تعد خرقا للقوانين الجاري بها العمل وللمعاهدات الدولية التي وقعت عليها إسبانيا، مشيرين إلى أن ذلك يعد هجوما مباشرا على الثقافة ومسا بالهوية الثقافية للبلاد ومنهجها الديمقراطي. وسامة ثباتيرو مما لاشك فيه أن وسامة ثباتيرو جعلت له حظوة عند بعض الإسبانيات اللواتي ربما لا يكترثن في الكثير من الأحيان، بما يقوله من خطب وما يطرحه من أفكار سياسية، فهن يبدأن في الصراخ بمجرد ما يطل من خلف الباب: «ثباتيرو، أيها الوسيم»، وأخريات يشرعن في التقاط الصور له عبر هواتفهن النقالة ويصحن: «إننا نحبك»، ويبدو ثباتيرو سعيدا بهذه الحظوة في أوساط الجنس اللطيف التي لا يتمتع بها راخوي في صفوف النساء، فهو لا يملك جيش النساء التقدميات اللواتي يمكنهن التعبير عن مشاعرهن وإعجابهن بالصراخ، فراخوي زعيم للمعارضة المحافظة اليمينية المتحالفة مع أكثر كنائس العالم تحجرا، وربما يمكن أن تكون إحدى راهبات الكنيسة واقعة في حبه، لكنها في هذه الحالة ستكون مضطرة إلى ممارسة طقوس الإعجاب في صمت. لمن سيصوت المسلمون؟ عندما سيصبح راخوي رئيسا للوزراء، فإنه لن يطبق مدونة المهاجرين التي تخيرهم بين الاندماج أو مغادرة التراب الإسباني، بل إنه بشر بخلع الحجاب في المؤسسات العمومية وتعزيز طوابير المؤمنين، وسحب إسبانيا من حوار الحضارات الذي كان ثباتيرو صاحب براءة اختراعه، لأنه يعتبره مجرد مضيعة للوقت والجهد في أمور فارغة لا نفع منها. لذلك يبدو منطقيا أن تتوجه أصوات المسلمين، سواء المهاجرين الحاصلين على الجنسية أو الإسبان الذين اعتنقوا الإسلام، لمساندة ثباتيرو الذي راهن على هذه الشريحة منذ البداية بالدعوة إلى الحوار بين الديانات وتعزيز العلاقات التي تربط إسبانيا بالعالم العربي والإسلامي، وأظهرت الجمعيات الإسلامية تحفظا إزاء الكشف عن تقديم دعم لجهة بعينها، لكنها ترى أن من مصلحتها بقاء الاشتراكيين الذين يطبقون سياسة أرحم من تلك التي يمكن أن يطبقها اليمين المتحالف مع الكنيسة.