يستعيد الدكتور عبد الصمد بلكبير طرحه التحليلي الذي سبق أن حلل به نتائج الانتخابات التشريعية الجزئية، والتي ذهب فيها إلى أن الإدارة الترابية تعيش تناقضا بين أجهزتها، وأن الوافد الجديد يحاول أن يهزم الإدارة التقليدية في قلاعها الرئيسة (الجماعات المحلية)، وفي هذا الحوار، يؤكد عبد الصمد بلكبير صحة ملاحظته السابقة، ويعتبر أن الصراع الذي نشب على أشده بين الداخلية والوافد الجديد، وكذا الهجوم الذي شنته وزارة العدل على جهاز مراقبة التراب الوطني ورد الفعل الذي سجلته الداخلية بهذا الخصوص عبر تحريك حميد شباط للتهجم على بن بركة وتوجيه رسالة تحذيرية لحزب الاتحاد الاشتراكي، بالإضافة إلى مسألة تشبث الاتحاد الاشتراكي بالإصلاحات الدستورية، كل هذه الوقائع حسب عبد الصمد بلكبير تنهش كمؤشرات ترفع الملاحظة التي سجلها في السابق؛ إلى درجة رؤية واضحة لطبيعة الصراع القائم، وموقع القوى الديمقراطية فيه ووضع الإسلاميين في هذا كله. سبق وأن أبديتم ملاحظة تحليلية عقب الانتخابات التشريعية الجزئية؛ ذكرتم فيها أن الهزيمة التي لحقت الوافد الجديد في كل من مراكش وآسفي تكشف عن تناقض بين أجهزة الإدارة الترابية، وأن الوافد الجديد هو حزب مدعوم ملكيا لمقاومة الإدارة التقليدية لوزارة الداخلية، هل تعتقد أن عناصر هذا التحليل صالحة لتفسير الصراع الذي نشب بين الداخلية والوافد الجديد، خاصة وأن الداخلية أشهرت ورقة تفعيل قانون الأحزاب والمادة 5 منه؟ القانون العام هو أن التناقضات والصراعات هي المحرك للتاريخ، وهذه التناقضات، سواء أكانت رئيسية أو ثانوية، هي التي بها نستطيع أن نفهم الكثير مما يقع. وفي هذا الصدد كان حديثي سابقا، أو أحاديثي السابقة في اتجاه الرد على الذين كانوا يعتبرون أن ظاهرة ما سمي بالوافد الجديد هي مصطنعة، وهي فعلا مصطنعة، ولكنهم صنفوها ضمن ما كانت تصنف به الأحزاب الإدارية السابقة، أي أنها تعبير عن انسجام في إدارة الدولة، وبالتالي كأداة من أدوات وزارة الداخلية في التحكم في الخريطة السياسية وفي ضبطها، وكنت سجلت ملاحظة مناقضة بهذا الخصوص، لأني وقفت على جملة من الوقائع والظواهر التي تؤكد أن الوافد الجديد جاء في تناقض وصراع مع نمط من التسيير الذي كانت تقوده الشؤون العامة في وزارة الداخلية، وبالتالي ينبغي أن نفسر الظاهرة باعتبارها صراعا داخل أجهزة السلطة، وليست تعكس انسجاما داخلها. لقد سجلت ملاحظتي وظللت مستمرا في المراقبة، وتحديت كثيرا ممن كان لي معهم نقاش في الموضوع، واعتبرت أن النقطة المفصلية التي ستثبت صحة ملاحظتي هو الموقف الذي سيعلنه الوافد الجديد من قانون الانتخابات، خاصة فيما يتعلق بقضية العتبة، وكان التقدير أن الوافد الجديد إن كان أداة من أدوات وزارة الداخلية وتعبيرا عن الانسجام الحاصل في إدارة الدولة، فإنه سيختار المحافظة على نفس العتبة؛ على اعتبار أن الضابط الأساسي الذي يحكم هذه البنية التقليدية هو بلقنة الخريطة السياسية وتشتيتها من أجل ضبطها والتحكم فيها، أما إن كان متناقضا مع التوجهات التقليدية في وزارة الداخلية، فإنه سيختار رفع العتبة، وثبت أنهم رفعوا العتبة إلى 6 في المائة، وهذا يتناقض تمام التناقض مع الأسلوب التقليدي الذي كانت تعتمده وزارة الداخلية وما زالت تعتمد عليه إلى الآن في التحكم في الخريطة السياسية وصناعة الأغلبيات، والتحكم في المجالس البلدية والقروية ومجالس الأقليم والعمالات والغرف، وأيضا في غرفتي البرلمان. وطبعا قضية العتبة هي المقياس الوحيد الذي يؤكد هذا التحليل، فهناك ظواهر أخرى تكاد تكون فاقعة، ومن أهمها هو أن بينها هذا الوافد الجديد الذي يعرف الخريطة السياسية والخريطة الجماعية، ويعرف من أين تؤكل الكتف، مارس غزوا واختراقا وتخريبا لبعض البنيات الحزبية المصطنعة من قبل وزارة الداخلية لكي يوظفها في هيكله وبنيته الحزبية الإدارية، ولكن بمنطق يختلف عن منطق الإدارة التقليدية في وزارة الداخلية. لكن، السؤال المطروح الآن، هو على أي أساس يقوم هذا التناقض، وما السبب الذي أدى إلى تفجره في هذه اللحظة السياسية؟ السبب واضح، وهو الضربة القاصمة التي وجهت إلى أهم جهاز من أجهزة الإدارة التقليدية وهو جهاز مراقبة التراب الوطني، والتي تمت بمناسبة انعقاد المؤتمر السنوي لمناهضة التعذيب في جنيف، حيث اعتبرت فيه وزارة العدل أن رجال جهاز مراقبة التراب الوطني ليس لهم الأحقية في أن يتصرفوا كضباط شرطة. من المؤكد أن الأمر يتجاوز كونه قرار حكوميا، ومن المؤكد أن وزارة العدل لا يمكنها أن تعبر عن هذا الموقف إن لم تكن مدعومة من جهة داخل الدولة، وبالطبع هذا الهجوم يعتبر صاعقة بالنسبة إلى الأجهزة التابعة للإدارة التقليدية في وزارة الداخلية، ولذلك لم يتأخر الرد طويلا. وهناك أيضا إشارة أخرى، يمكن أن ندرجها مؤشرا داعما لهذا التحليل، ويتعلق الأمر بمبادرة الاتحاد الاشتراكي للإصلاحات الدستورية، والتي يبدو أن ضغوطا كبيرة مورست على الاتحاد من أجل سحبها أو على الأقل تأجيلها، إلا أنه أصر في مؤتمره الثامن على موقفه، وبغض النظر عن تقاطع هذه المبادرة أو تمفصلها مع أطراف داخل الإدارة، فما يهمني ليس هو موقف فؤاد عالي الهمة، فأنا أعرف أن عالي الهمة من الذين يطالبون بإصلاح دستوري، ولكن الذي يهمني هو رد فعل الإدارة التقليدية لوزارة الداخلية، والذي يظهر فيه ملامح الرجوع إلى الأساليب القديمة، حيث صرفت هذه الإدارة رسالتها السياسية عبر تحريك شخص أوحت إليه بالتهجم على بن بركة واتهامه باغتيال بعض الشخصيات السياسية. من الواضح أن الإدارة التقليدية أرادت أن توجه رسالة سياسية إلى قيادة الاتحاد الاشتراكي تذكرها أن إثارة قضايا الإصلاح الدستوري ومسألة توسيع صلاحيات الحكومة أو الوزير الأول تعتبر خطا أحمر، وبالتالي تنبيههم من خلال تحريك هذا الشخص بأنهم إن عادوا ستعود الداخلية لنفس المسلك القديم الذي كانت تتعامل به مع القوى الديمقراطية. ومعلوم أن المهدي بن بركة قتل لهذا السبب، أي بسبب إصراره على طرح قضية الإصلاح الدستوري، ومعروف أن قيادات الاتحاد الاشتراكي بقيادة عبد الرحمن اليوسفي تنازلت عن هذا المطلب، ودخل اليوسفي في دستور 1996 الذي وافق عليه، وبالتالي دخل إلى حكومة التناوب سنة ,1998 ولذلك، فعودة الاتحاد الاشتراكي إلى مواقفه السابقة ورفعه لمطالب الإصلاح الدستوري بالنسبة إلى هؤلاء مؤشر يستحق أن يرد عليه برسالة سياسية حملها تصريح من لا يستحق أن نذكر اسمه في هذا الحوار. ولذلك، أنا أعتقد ان ما يجري اليوم من تناقضات لا يقل أهمية عما حصل في السبعينيات، الفرق بين السياقين أن التوجهات التقليدية في المرحلة السابقة اختارت تصفية هذه التناقضات دمويا، إلا أن المرجح اليوم أنها لن تحسمها دمويا. في نظركم هل سيترك صانع القرار السياسي هذه التناقضات تمضي إلى نهايتها، أم ستدخل لإيجاد تسوية سياسية لها؟ أم أن القوى الديمقراطية ستدخل على الخط وستستثمر هذه التناقضات لتوسيع الفجوة للقيام بفعل تاريخي من أجل الديمقراطية؟ أنا لا أتصور إمكانية للتدخل لحل هذا التناقض في الظرف الحالي لأنه الآن في مراحله المتوسطة، ومن المؤكد أنه ليس هناك مجال للانتقاء، لأن هناك نظريتين داخل إدراة الدولة لمواجهة التحديات، النظرية التقليدية الموروثة عن التراث التقليدي الذي تشتغل به وزارة الداخلية، وبشكل خاص الشؤون العامة بوزارة الداخلية التي تأسست أصلا بمنطق التحديث والعصرنة والعقلنة، ولكن وظيفتها الجوهرية لا زالت كما كانت من قبل ضد المجتمع المغربي؛ عن طريق اختراق هيئاته الحزبية والنقابية والجمعوية والدينية والاقتصادية؛ من أجل ألا يتحرك خارج السيطرة الاستعمارية، وهذه الإدارة هي التي دفعها جمودها إلى درجة نفي محمد الخامس، وهي التي اشترطت الشروط التي بها عاد محمد الخامس من منفاه، وهي التي عطلت المسار الديمقراطي في المغرب، وهي التي تسببت في انقلابي 1971 و ,1972 باعتبارها هي التي تتحكم في المغرب، وأن الملك المرحوم كان مرتهنا إلى إرادتها، وهي التي وقفت على كل التاريخ المزور للديمقراطية في المغرب، وهي مصدر كل الفساد الموجود في المغرب، سواء في التعليم أو في القضاء أو في الاقتصاد، ولا يمكن أن يقع مطلقا أي إصلاح أو انتقال ديمقراطي ما دامت تتمتع بالنفوذ الذي هي عليه. طبعا الجهات الخارجية والداخلية تنبهت إلى أن هذه الأساليب التقليدية التي تشتغل بها هذه الإدارة تضر المغرب أكثر مما تنفعه، ربما تضمن له الاستقرار ولكنه استقرار هش، وربما تضمن له توازنات سياسية ولكنها توازنات مغشوشة، وتكون قنابل قابلة للانفجار، خصوصا على مستويين،سواء ما يتعلق بمستوى تنامي النفوذ الإسلامي الراديكالي في مدن الصفيح، أو ما يتعلق بالخطر الأكبر الذي هو الإرهاب. ولعل المقاطعة الشعبية الواسعة للانتخابات أكبر مؤشر على ذلك. وبالتالي، يبدو أن هذه الجهات أحست بأنها متضررة في الحال والمآل من استمرار هذه الأساليب التي تعتمد الاختراق والسيطرة وتشتيت المشهد السياسي وبلقنته، وإفساد العملية السياسية والعملية الانتخابية وإفساد المؤسسات وإفراغها من أية مصداقية، وإنتاج الشروط التي تعرقل أية إمكانية لحصول انتقال ديمقراطي في المغرب. ويكفي في هذا السياق أن نذكر كيف عرقلت هذه الذهنية التقليدية الجهوية في المغرب، مع أنها أصبحت أمرا منصوصا عليه دستوريا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجامعات في التعليم، فهناك قانون لاستقلاليتها لكنه معطل، ونفس الأمر بالنسبة إلى الأكاديميات، فليست هناك أية استقلالية، بل إن هذه الإدارة التقليدية هي التي تتدخل لتعيين مديري الأكاديميات ونواب وزارة التربية الوطنية، والمعروف أن عواقب هذا التدخل هو فساد شامل وخراب لأهم المؤسسات التي ترتكز عليها التنمية وهي المؤسسة التعليمية. وهي تتدخل ليس فقط في التعليم، ولكن أيضا في القضاء، بحيث إن أكبر اختلال في مؤسسة القضاء في المغرب يأتي من الذين يتحكمون فيه من خارجه. ولذلك، يبدو أن عشر سنوات التي قضاها مؤسس الوافد الجديد في الإدارة الترابية، يبدو أنه تبين له أن المؤسسات لا يمكن أن تتغير من داخلها، وإنما تتغير من خارجها، وعندئذ خرج الخرجة المعروفة وشارك في الانتخابات ودخل إلى البرلمان، وما كان ليحدث كل الذي حدث في المغرب دون مبادرته التي يقدمها على أساس أنها مدعومة من الملك، ولذلك، أنا لست من الذين يقولون بأن مبادرة عالي الهمة لا علاقة لها بالملك. واضح أن حزب الهمة يريد أن يكون حزب الملك، لكنه غير مؤهل للقيام بالإصلاح لأنه يستعمل نفس الأساليب التي يريد أن يحارب الذين ينتجونها، وبالتالي نتيجته لن تكون بالتأكيد إيجابية. هناك حدثان سياسيان برزا هذا الأسبوع وتزامنا مع هذا الصراع المعلن بين الوافد الجديد ووزارة الداخلية، ويتعلق الأمر بحالة عمدة مراكش الذي سرب محضر سريا من المحكمة الابتدائية بمراكش يتهم العمدة بممارسة الشذوذ الجنسي، وهناك حالة حميد شباط الذي يهدد بالاستقالة من حزب الاستقلال أو على الأقل من لجنته التنفيذية، كيف تقرأ الحدثين، وما وجه علاقتهما بالتناقض بين أجنحة الإدارة الترابية؟ على كل حال، فحالة عمدة مراكش عمر الجزولي تحتاج إلى حديث خاص، وهي تدل على الإفلاس السياسي الذي وصلنا إليه، وأن حالتنا في السبعينيات كانت أفضل بكثير من حالنا اليوم. بطبيعة الحال، لا أحد يمكن أن يجادل في الاختلالات المسجلة على عمدة مراكش في تدبيره للشأن العام المحلي، ولكن المشكلة أن خصومه، وأقصد هنا مجموعة الهمة، بدلا من أن يتجهوا إلى مناقشة اختلالاته في التدبير، وخروقاته في تسيير الشأن العام، وبدلا من أن يدخلوا من الباب دخلوا من النوافذ، واستعملوا وسائل غير مقبولة نهائيا بالنسبة إلى منطق الصراع السياسي، ويظهر ذلك أولا من خلال تسريب وثيقة سرية (محضر الشرطة القضائية)، ثم ثانيا من خلال توظيف الإعلام الخاص، وهو فعلا خاص لارتباطه بالأجهزة، وثالثا من خلال تشويه الحياة الشخصية وممارسة التشهير الذي يجرمه القانون ويعاقب عليه، ولذلك قلت في سياق المقارنة مع المرحلة السابقة إلى أن إدارة الصراع السياسي لم تكن تصل إلى هذه الدرجة، فإذا كان قادة الوافد الجديد يريدون الإصلاح، وهذا ما يعلنونه، سواء ضد استعمال المال أو ضد تفتيت الأحزاب أو ضد التدخل في الانتخابات لصناعة الخريطة السياسية، فهذا الخطاب يفترض أن تكون وسائل تنفيذه منسجمة مع منطلقاته ومتناغمة معه، لكننا لاحظنا في حالة عمر الجزولي على وجه الخصوص ـ وهذا ليس دفاعا عنه بالمناسبة، فالرجل له العديد من الخروقات والاختلالات التي لها علاقة بالمؤسسات وتدبير الشأن المحلي ـ تجاوز هذا المنطق في إدارة الصراع السياسي إلى استهداف الحياة الشخصية، وهذا شيء حقير يذكرنا بنمط بنعلي في إدراته للصراع مع خصومه السياسيين.أما بالنسبة إلى حالة فاس، فهي مؤشر ربما على التخوف من أن يصطلي بنار صراع الأجهزة، لأنه استعمل في لعبة كبيرة، ولذلك ربما جاءه نذير من جهة أخرى لكي ينبههه إلى خطورة الاستمرار في اللعب بالنار، وربما جاء النذير إلى حزب الاستقلال نفسه، لأن الشخص المذكور ذهب بعيدا في حواره في الجزيرة، وبالتالي يعرض المصالح الوطنية للتهديد، لأن خطابه في الحقيقة خطاب فتنوي. ولذلك، فنحن لا في الحالة الأولى (حالة عمر الجزولي) ولا في الحالة الثانية (حالة حميد شباط) ولا في حالات أخرى أمام مؤشرات لا قدر الله لحرب أهلية، لأننا في حالة سياسية يصبح كل شيء معها أمرا ممكنا إذا دخلت عناصر أخرى على المعادلة، خاصة غير المنضبطة لأية جهة. وماذا عن وضع القوى الديمقراطية والوطنية الإسلامية إزاء تناقض الأجهزة؟ للأسف وضعها هامشي، وللأسف أنها عجزت أن تدبير خلافاتها بشكل ديمقراطي، لأنها أقحمت البعد الإيديولوجي في الصراع. أتصور أنه لو استطاع الديمقراطيون بغض النظر عن منطلقاتهم الإيديولوجية أن يجمعوا صفوفهم ويوحدوا معركتهم من أجل تحقيق الانتقال الديمقراطي ما كان لظاهرة الوافد الجديد أن يكون لها مبرر الوجود. للأسف الشديد، الأحزاب بمختلف تلاوينها بما فيها القوى الوطنية والديمقراطية مخترقة في صفها الأول وفي قياداتها، وهؤلاء حقيقة هم الذين يعرقلون ويربكون شروط وطبيعة الصراع، وليس أخطر على قضية الديمقراطية والانتقال الديمقراطي من البلبلة والتشويش التي تفسد الجو، ونحن نلحظ أنه كلما حاول الديمقراطيون أن يضعوا خطوات صحيحة في الطريق كلما أفسد ذلك المشوشون، ولذلك لو كانت الجبهة الديمقراطية متماسكة لتمكنت من أن تستفيد من هذه التناقضات داخل جهات الحكم اليوم، لأن القاعدة الفقهية، وهي قاعدة أيضا سياسية، تقول: وفي اختلافهم رحمة، وإذا كانت الرحمة اليوم هي الديمقراطية، ففي تناقض الأجهزة واختلاف جهات الحكم ديمقراطية، والقوى الديمقراطية لا تستطيع أن تتقدم في طريق تحقيق الديمقراطية إلا إذا كانت تناقضات الحكم أساسية، أما إذا كانت الأجهزة منسجمة، وجهات الحكم متناغمة، فإن القوى الديمقراطية يصعب أن تنجح في إدارة صراعها مع الحكم من أجل التقدم بالبلد نحو الديمقراطية، وهي الملاحظة التي ينبغي أن نستفيدها من تاريخ المغرب السياسي. ولذلك، من الناحية الاستراتيجية، أنا أعتبر ما يجري أمرا مفرحا، وأتمنى أن يذهب الصراع إلى منتهاه وتتأجل بذلك الانتخابات، ويتم تغيير الدستور. هذا هو ما سيعطي مضمونا حقيقيا لمفهوم العهد الجديد، فقد مرت عشر سنوات، وبدل أن نتقدم إلى الأمام تراجعنا للأسف إلى الوراء. فلا زال الفساد والتعفن مستمرا، والخطير أننا دخلنا فيما هو أسوأ وهو العبث، والذي تشهد عليه مؤشرات كثيرة، لعل إضرابات النقل خير شاهد على ذلك، إذ لم يعد هناك منطق لأي شيء، فالحكومة ضد الحكومة، والقوانين كما النقابات يتم التلاعب بها وتوظيفها، كما يتم توظيف الشارع، حتى إن الرأي العام لم يعد يفهم شيئا، لأن المعارك والاستراتيجيات بدون منطق وخارج قواعد اللعبة، وأخطر من ذلك كله. هذا العبث يمكن أن ينتقل إلى القضية الوطنية، ويمكن أن يستثمره أعداء وحدتنا الترابية ضدنا، فنضطر إلى أن ندفع ضريبة هذا العبث غاليا عبر المس بالقضية المقدسة والمصيرية.ولذلك يفترض في القوى الديمقراطية أن تستحضر الفرص التاريخية التي ضاعت وأن تجالس بعضها بمنطق خدمة الوطن والديمقراطية وليس بمنطق الإيديولوجيا، وبالتالي أن تتخذ المواقف الملائمة من الصراع بين أجهزة الإدارة الترابية بما يخدم الوطن والديمقراطية، وأن تدرك أن كل ما يمكن أن يأتي به الوافد الجديد على مستوى خوضه للصراع مع المعقل الرئيسي لمناهضة الديمقراطية في المغرب وهي الإدارة التقليدية للداخلية يمكن النظر إليه باعتباره يخدم أجندة القوى الديمقراطية، لكن هناك في المقابل بعض الأشياء التي تدخل في منطق الإدارة التقليدية العتيقة، والتي تم توارثها منذ عهد ليوطي وجوان وأوفقير واكديرة ثم البصري، أي كل سلوك غير ديمقراطي ولا عقلاني، وهي التي لا يمكن القبول ولا التسليم بها. يفترض أن تقوم القوى الديمقراطية بمجالسة بعضها لإعادة البناء، لأن البنية السابقة استنفذت أغراضها وأظهرت عجزها سواء في القضايا الكبرى مثل(التعليم ، والقضاء والجهوية، والتنمية والتشغيل)ناهيك عن القضايا الجزئية. هل أفهم من كلامك أن القوى الديمقراطية والإسلامية يستلزمها في عملية فهم طبيعة هذه التناقضات أولا، وفي استثمارها ثانيا أن تجالس الوافد الجديد باعتباره يمثل جناح المقاومة ضد الإدارة التقليدية التي تقف في وجه الديمقراطية في البلد وتنسب إليها كل أشكال الفساد في المغرب مع إعلان تمايزها عنه على مستوى الأساليب والمسلكيات التي يعتمدها؟ أعتقد أن مجالسة الوافد الجديد أمر فات أوانه، لأن هذا الحزب للأسف يتوسل لاستقوائه عن طريق إضعاف القوى الديمقراطية، ويتصور في المقابل أن الخطر الأكبر هو الحركة الإسلامية، وأن سبب تمددها وانتشارها هو الوسائل التقليدية التي تمارسها الإدارة التقليدية في العمل السياسي، والتي كانت السبب المباشر في تنامي شعبية وجماهيرية الحركة الإسلامية، ولذلك، راهن الوافد الجديد على الكتلة التاريخية كما كانت قوى اليسار تراهن عليها في المرحلة السابقة، وراهن على تأسيس حزب كبير يتسع ليضم الليبرالي واليساري والديمقراطي، لكن الطريقة التي اعتمدها لتحقيق هدفه أنه اختار أن يبني حزبه من الأحجار التي تتساقط من البنيات الحزبية الأخرى وبشكل خاص حزب الاتحاد الاشتراكي، وهذا كان هدفه في المؤتمر الثامن للاتحاد الاشتراكي، ولعل فشل المؤتمر الثامن في جولته الأولى أجل طموح هذا الوافد الجديد، ولذلك، أنا أقول إنه إذا كانت بعض أهداف هذا الوافد الجديد سليمة فوسائله وآليات اشتغاله ليست سليمة. وأعتقد أن الديمقراطيين إذا استطاعوا أن يتجمعوا وينتقدوا أنفسهم نقدا ذاتيا صادقا وصريحا، وأن يطلبوا المغفرة والمعذرة من شعبهم، خاصة عندما قبلوا الدخول في الحكومة وهم يعلمون أن انتخابات 2002 و2003 كانت مزورة، وأنهم تواطؤوا في عملية تزويرها مع الأطراف التي دائما تزور الانتخابات. إذا انتفضت القوى الديمقراطية وأعادت الاعتبار لشعبها عن طريق القيام بنقد ذاتي، فإن مبررات وجود الوافد الجديد لن تعود قائمة، وسيجد صاحب الجلالة الجبهة الديمقراطية المتراصة التي يمكن أن يتكئ عليها لمقاومة الإدارة التقليدية للداخلية والتي تقف ضد الانتقال الديمقراطي في المغرب. وماذا عن الإسلاميين؟ وما دورهم في معادلة الصراع هذه؟ الإسلاميون اليوم هم الذين يمتلكون الشارع، ولكن الأطراف الأخرى تخاف من شعبيتهم. ماذا تقصد بالأطراف الأخرى؟ هل تقصد الإدارة التقليدية في الداخلية؟ أم تقصد الوافد الجديد؟ أم القوى الديمقراطية؟ أقصدهم جميعا، كلهم يشتركون في هذا التوجس باستثناء بعض الأشخاص، ولذلك، أنا أعتقد أن أهم ما ينبغي أن تراجعه القوى الديمقراطية في نقدها الذاتي هي مراجعة علاقتهم بالحركة الإسلامية، وبشكل خاص حزب العدالة والتنمية، لأنه هو الحزب الذي برهن على عقلانيته، وثبت مشروعياته الجماهيرية والمؤسساتية، كما ينبغي ان نشرك العدل والإحسان في النقاش على المستوى الإصلاح الدستوري، وقد أثبتوا أنهم على استعداد ليدخلوا في هذا النقاش، وأعلنوا في وثائقهم أن مصلحة الوطن هي السقف المؤطر للقاء الديمقراطيين، ولذلك، لا بد أن أن يشرك هذا المكون، ولا بد أن تجد أفكاره ورؤاه مكانها الطبيعي ضمن مشروع النضال من أجل الديمقراطية في هذا البلد.