وبين هاتين المحاولتين سجل التاريخ محاولات أخر كان وراءها رجال دين كتوماس الأكويني مثلا. هذا السعي المحموم في جعل المجتمع طبقة واحدة، كان شبيها بسعي كثير من الناس إلى امتلاك حجر الفلاسفة وتحويل المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة. هذا الفشل المتكرر عبر التاريخ يجعلنا نربطه بأحد هذه الأسباب أو بها جميعا: - ربما كانت تلك النظريات قاصرة يعتريها خلل. - ربما كان ذلك مرتبطا بالطبيعة البشرية التي يصعب فهمها وإخضاعها للمنطق التجريبي. - ربما كان الأشخاص الذين تولوا تحقيق هذا الحلم غير مؤهلين لذلك. بالنسبة للسبب الأول، بالفعل يمكن نعت تلك النظريات بالقصور لكونها اعتبرت الإنسان موضوعا قابلا للدراسة يتأثر ولا يؤثر وينفعل ولا يفعل، لا فرق بينه وبين معطيات الطبيعة وذلك حينما أخرجت من الحسبان البعد الفطري عند الإنسان، والمتمثل في غريزة حب الامتلاك التي تضمن له الحفاظ على الذات ( حب الذات ) وغريزة حب البقاء التي تضمن له الاستمرارية والخلود ( مبدأ التوريث ) وتحميه من الانقراض. ثم إن هذه العلوم ( علم الناسوت وعلم للاهوت ) التي تداولت الإنسان بالدراسة عاجزة عن الغوص في أعماق النفس البشرية وسبر أغواره وكشف أسراره، ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا الإسراء الآية .85 هذا الجواب الذي تضمنته الآية الكريمة يجعلنا نقر بأن الدين هو الذي بوسعه الكشف عن حقيقة الغريزة البشرية. وبالفعل حاولت كل الديانات التوحيدية وغير التوحيدية فهم الطبيعة البشرية، لكنها تعثرت في ذلك ولم تأت بجديد. وبما أن الإسلام الحنيف هو الدين الحق والمهيمن عليه، فقد أعطى تعريفا دقيقا وموجزا للإنسان في بعده الفطري وفي تكوينه الغريزي قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا الإسراء الآية .100 بل إن الإسلام الحنيف ليذهب أبعد من ذلك حينما يقر حقيقة أخرى مرتبطة بالتقلب المزاجي للإنسان تبعا لمعطيات خارجية: إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا سورة المعارج الآية .18 الإسلام حصر أسباب عدم انتظام الناس داخل طبقة واحدة في كون الإنسان منوعا قتورا بطبعه. وبما أن الشيء بالشيء يذكر فإن الشيء بضده يعرف؛ بمعنى آخر كي يتسنى لنا فهم ظاهرة المنح أو العطاء أو الإنفاق، لا بد من فهم ظاهرة القبض أو الإمساك أو التقتير. من الناحية النفسية، يذهب كثير من المحللين إلى أن الطفل في سنواته الأولى من عمره وبالضبط السنة الثانية المرحلة الشرجية يغدو بوسعه التحكم في عضلات الحوض ( عضلات الشرج )، ومن ثم التحكم في برازه وبوله. هذه الاستطاعة سرعان ما يحولها الطفل لصالحه ويتخذ منها آلية جديدة في تعامله مع الآخر خصوصا أمه. حينئذ تصبح عملية القبض أو الإمساك، أو بالأحرى عملية الإفراغ أو التخلص من الدافعين رهينة بتقلب مزاجه وبمدى استجابة الآخر لرغباته وتحقيق طلباته. الطفل إذا أضحى بوسعه أن يختار المكان والوقت المناسب للقيام بهذه العملية، والتي غالبا ما تتخذ بعدا انتقاميا من الآخر الذي وقف في وجه سعادته بعد أن يفهم الطفل هذه الإمكانية ويتقنها يبدأ في استعمالها ورقة ضاغطة في كل تعاملاته، ويبني عليها علاقته مع الآخر. هذه الطريقة سرعان ما تتطور كي تناسب نموه عمريا وإدراكيا. ففي مرحلة المراهقة مثلا يستعمل المراهق هذه الآلية مع الجنس الآخر، فنراه يمسك مشاعره ويمنعها من الظهور إلى درجة لا يتجاوب مع أي شعور لطيف يبديه تجاهه الطرف الآخر، ونرى كثيرا من المراهقين يتلذذون بإعراضهم عن الآخر، هذا الإعراض ما هو إلا وجه آخر من وجوه السادية التي تتمثل في التلذذ بتعذيب الآخر. وفي مرحلة الرجولة يتحول ذاك القبض أو هذا الإعراض على مستوى المشاعر إلى قبض وإمساك على مستوى الإنفاق، هذا الإمساك يحقق له لذتين: - يعتقد أن جمع المال وعدم إنفاقه يحقق له غريزة حب البقاء ( حلم الخلود في الأرض ). - يعتقد أن جمع المال وعدم إنفاقه على من يستحقه يزيده إحساسا بالاستعلاء والزهو لكون الآخر يتقرب إليه زلفى طلبا لماله ( نوع من السادية المتمثلة في التلذذ بتعذيب الآخر ) واضح إذا أن الإمساك والامتناع عن الإنفاق قد يُسعد فاعله لكنه حتما يضر بالآخر، لهذا السبب وُصف هذا النوع من التعامل أو هذا النوع من الخصال بالرذيلة ( رذيلة البخل.) البخيل إذا قد تجرد من قيمة التكافل والتضامن الاجتماعي باعتباره يسعى إلى تحقيق هدف فردي بعيد عن الجماعة، لهذا السبب نجد البخيل منبوذا داخل المجتمع، بل حتى داخل أسرته الكل يتمنى موته لاقتسام ثروته. هذا يجعلنا ندرج البخيل في خانة العصاب ونصفه بالشخصية اللا اجتماعية، لكونه واقعا تحت تأثير الهو ( مبدأ اللذة ) وليس له أي تمثل إيجابي. أو يمكن تصنيفه في خانة الذهان لكونه يعيش داخل المجتمع ولا ينتمي إليه. هذه الازدواجية في التعامل وفي الانتماء أكسبته ازدواجية في الشخصية. الآن وبعد أن فهمنا تلك الآليات النفسية التي تنبني عليها رذيلة الإمساك، يسهل علينا توضيح تلك الأسس التي تنبني عليها خصلة العطاء أو الإنفاق. قلنا إن رذيلة الإمساك قد تتحقق عند شخص موسر، هذا القول يدفعنا إلى التأكيد أن الجود والكرم قد يتواجد مع الفقر وربما كان الفقر هو أصل الكرم، فالكريم شخص ربما ابتلي في السابق بشيء من الجوع ونقص من الأموال، قد عاش وضعية حرمان ( نموذج حاتم الطائي ) هذا الإحساس جعله يستشعر أو يعرف نفسية الفقراء المحرومين، فنصب نفسه منقذا لهذه الفئة المعوزة من الناس بإنفاق ما بيده. هذا القول يجعلنا نؤكد أن المنفق يعيش لذتين: - كلما أنفق ماله تأكد من أنه أنقذ شخصا من الألم ( ألم الجوع وألم الحرمان ) - كلما أنفق ماله أحس أنه ساهم في جمع شمل المجتمع داخل لحمة واحدة. من الناحية الاجتماعية المنفق أو المعطي يحمي المجتمع من الانحراف، ذلك أن الشخص الذي تم إنقاذه من الألم لا يسعى إلى السطو والسرقة إما انتقاما من المجتمع الذي تخلى عنه وتلذذ بفقره، وإما دفاعا عن نفسه لتأمين غريزة حب البقاء. هذا التحليل يعني أن كثيرا من جرائم السرقة والسطو وربما القتل يكون الدافع وراءها المنع والإمساك، لهذا السبب وصفت خصلة العطاء بالفضيلة لأنها تحمي المجتمع من هذا الانحراف ومن ذاك الانجراف، واستحق المنفق أن يكون سيد قومه وزعيمهم سيد القوم خادمهم عكس رذيلة الإمساك التي تكون السبب الرئيس في تفجر هذه الأوضاع الشاذة، لهذا السبب لعن الواشم والبخيل لأنهما يسعيان إلى تفريق الجماعة وتمييزها كل بطريقته. الإسلام الحنيف باعتباره دين الفطرة، وباعتباره منهجا في الحياة سعى في كل توجهاته إلى تحقيق هذا الهدف الذي يسعى لتحقيقه المنفق، وذلك بالحض على الإنفاق والعطاء لقوله عليه الصلاة والسلام إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق بل إنه جعل الإنفاق ركنا من أركانه التي لا يقوم الدين إلا بها. هذا الركن المتمثل في فريضة الزكاة التي تحتل المرتبة الثالثة بعد الشهادتين والصلاة. فالزكاة الغرض منها هو تجاوز ذاك التفاوت الطبقي المهول الذي يعيشه المجتمع، ونشر فضيلة التآخي والتكافل الاجتماعي بين كل أفراد المجتمع على اختلاف أعراقهم وثقافتهم. كذلك يسعى الإسلام إلى محاربة رذيلة الشح وامتلاك المال وتكديسه في يد فئة حتى لا يكون دولة بين الأغنياء. من الناحية الحركية، تتمثل عملية الإعطاء أو التصدق في حركة يد ممدودة مانحة ويد ممدودة ممنوح لها. هذه العملية لا يمكن أن تتم وتستقيم إلا إذا كانت المانحة هي العليا والقابضة هي السفلى، وليس من سفل كمن علي.