أهم الذي ميز الرواية العربية المعاصرة والحديثة ثراؤها على مستوى ابتكار وبناء صيغ [الخطاب] والبنيات والقوالب الخارجية التي منحت الكتاب السردية [السرد] قدرة على الإبداع بعدما كادت الموضوعات [Les thèmes] أن تتشابه لتشابه القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية المعاصرة، لقد كسرت الرواية الحديثة البناء الدرامي والخطي للرواية التقليدية والرواية الواقعية وابتكرت حبكة [حبكات] جديدة تلائم الرؤية [الرؤى] المختلفة للكاتب/الكاتبة في العصر الحديث، كما تداخلت المجالات الفنية متجاوزة الحدود التي رسمها النقد للأجناس الأدبية فاستثمر السرد الروائي تقنيات الحوار الذي تجدد مع تجدد الرؤية الفنية في المسرح الحديث واستفاد السرد الروائي من السينما وتقنياتها في التقديم والتأخير وتنوع الزمن السردي وخلخلة بنيات السرد [أو بنيوية السرد] كأن تصبح بنية الحل في محل بنية البداية مثلا، وابتكر الروائيون والروائيات مهارات جديدة في الكتابة بالاستفادة من الكتابة الشعرية ولغتها المجازية والاستعارية... استثمرت رواية «أن تخاف» للكاتبة العراقية هدية حسين تقنية الرواية البوليسية القائمة على حبكة تتداخل فيها الاحتمالات الممكنة لحل لغز الجريمة الغامضة، افتتحت الروائية الخطاب السردي بوقوع جريمة قتل في يوم عاصف هاج غباره وتكاثفت أتربته لتشكل حجابا يستر المجرم، كان ضحيتها «أنغام عارف» وهي آنسة لا تثير الشك وليس لها أعداء معروفون ولا عائلة سوى صديقتها الصحافية والقاصة «فيروز السعدي»؛ تلقت الضحية طعنات بسكين في الرقبة وهي تهم بفتح باب شقتها عائدة من زيارة صديقتها فيروز، يقول السارد:» ... لم تعد العاصفة الحكاية الأهم في ذلك الصباح، بل الجريمة التي اقترفت بين كثافة غبارها وليلها الدامس الطويل، وتصدرت الصحف اليوم التالي جنبا إلى جنب مع أهوال ما خلفته العاصفة التي هدأت ولم تهدأ عاصفة الجريمة. امرأة جميلة في الخامسة والثلاثين لقيت حتفها أمام باب شقتها بأربع طعنات نافذة وعميقة في الرقبة، والخنق بسلك متين، ما تزال أصابعها تمسك بالمفتاح، وفي اليد الثانية حقيبة يدها، والباب موارب حيث حشرت فيه قدمها اليمنى.» ص (7) لا شاهد على الجريمة أي أنها جريمة غامضة ولا توجد خيوط احتمال يمكن للسرد أن يتطور عبرها ويتشكل، لأن تقديم جريمة واضحة المعالم يقود نحو السرد المتسلسل والتقليدي بينما وجود ثقوب في السرد يؤدي إلى التنامي عبر انفتاح آفاق المحتمل السردي الذي يقوم على «الشك» و»الاحتمال» و»تبئير» شخصية من بين شخصيات الرواية لصفة ظاهرة أو حالة ريبة أو قول عفوي ذي نبرة متصلة بالضحية أو الجريمة قيد التحقيق. يحقق في الجريمة الغامضة الضابط زهير مراد المشهود له بالخبرة والذكاء والقدرة الفائقة على فك شفرات جل الجرائم الخطيرة والشائكة، إلا أنه وقف حائرا فعاجزا ثم مستسلما لأمر الواقع؛ أمر الرفيق جمعة عليان [أبو لؤي]. يقوم المحقق في الرواية البوليسية بدور رئيسي لأنه شخصية [مُبَأَّرَةٌ] مُرَكَّزٌ عليها في بناء وتنمية السرد، ومن ميزات السرد الحديث تعدد المحكيات وتنوعها وتعدد الأصوات اللغوية، وفي الرواية ذات الحبكة البوليسية مثل رواية «أن تخاف» لهدية حسين يتبلور المحكي الإطار كمحكي مركزي بينما المحكيات الصغيرة تختفي لصالح المحكيات الأصغر، أي أن المحكي الصغير التام يتراجع على حساب المحكي الأصغر غير التام. يتكون السرد في رواية «أن تخاف» من محكي إطار يتمثل في الكشف عن أسباب جريمة قتل الضحية «أنغام عارف» مع تركيز على شخصية المحقق والضحية والشهود، ويتضمن محكيات صغرى غير تامة مرتبطة بالشخصيات الروائية التي يشك فيها المحقق لسبب من الأسباب، لذلك نجد السرد في رواية «أن تخاف» تتطور بنياته [المتواليات السردية] على مستويين؛ مستوى رئيسي [محكي إطار] يغطي الرواية ومستوى ثانوي [محكيات صغرى] يتم التركيز فيه على الشخصيات المشكوك في تصرفها وفي ارتكابها الجريمة، أي الشخصيات الخاضعة للتحقيق. المحكي الإطار: يرتبط بالحكاية الأصل التي تتضمنها قصة الرواية، ومنه تتفرع باقي المحكيات التامة وغير التامة، وينهض المحكي الإطار على متواليات سردية متضافرة فيما بينها تنتظم في خيط ثيماتي رابط يضمن له التماسك والتنامي حتى يكون المعنى المقصود واضحا ويصل إلى المتلقي بجلاء، سواء أكان المقصود من القول البعد السياسي أو الاجتماعي أو الفني الجمالي أو هي [الأبعاد] جميعا. عملت الكاتبة هدية حسين في روايتها على «أن تخاف» بحرص على تقديم المحكي الإطار في وضوح ليس على مستوى تقديم المعلومات المركزية والهامشية المحيطة والمكونة لشخصية زهير مراد فحسب، بل قدمتها في قالب بنيوي بدت فيه محطات تحول البرنامج السردي جلية، لأن القصد من الرواية، وكما يوحي بذلك العنوان «أن تخاف»؛ إبراز آثار الخوف [الرعب والفزع] في تحول نفسية الكائن [الشخصية الروائية المتخيلة] من الاطمئنان واليقين إلى الاضطهاد والريبة، وإبراز امتداد التحول إلى الحياة الاجتماعية، ولأن القصد كذلك إبراز حالة الفرد [النفسية والذهنية والجسدية والاجتماعية] في ظل مجتمعات الخوف وسياسات القهر وامتهان الإنسان [الحق الإنساني]، حيث الفرد في قبضة سلطة سياسية غاشمة لا تؤمن إلا بالعنف كحل ووسيلة في آن للسيادة. في سياق بناء المحكي الإطار يقدم السارد عددا من المؤشرات، بعض تلك المؤشرات تحول إلى حافز [Motif] على تنامي السرد وتطوره، وبعضها الآخر ظل ثابتا [جامدا] مكانه مكتفيا بصفته عنصرا مكملا بلا وظيفة سردية عكس الحوافز التي تكسب قيمتها بوظائفها السردية، ومن أهم وظائف المحفزات في السرد أنها تُسَاهِمُ في بناء وتوليد محكيات صغيرة تامة ومحكيات صغرى غير تامة. وضعت الكاتبة للمحكي الإطار مدخلا [عتبة] عاما ذا بعد تاريخي [تأريخ شخصي] من حيث إحالته الخارج نصية وذا بعد سير ذاتي من حيث بعده الأجناسي، وقدمته الكاتبة تحت عنوان «حكايات من زمن بعيد» ص (15)، وهو سرد تمويهي لأنه يوهم القارئ بأنه من المحتمل أن يكون محكيا إطارا أو أن يكون محكيا صغيرا تاما، في حين أن تطور السرد سيبين بأنه مجرد [لعب] يعتمده السرد في الرواية البوليسية حيث تتناسل الاحتمالات وتكثر الفرضيات في ذهن القارئ في سعيه لحل لغز الجريمة الغامضة أو إضاءة بعض جوانبها. يقوم محكي التمويه في المدخل على إبراز الأصول العرقية لشخصية «سلمى كمال»، وحين نتساءل من هي «سلمى كمال»، ما وظيفتها في الحكاية المركزية [مقتل أنغام عارف] وهل ستساهم معرفة أصولها في فكِّ لغز الجريمة؟ نجد أنها لا تسهم في حل المستغلق من الجريمة؛ إنها زوجة الضابط المحقق زهير مراد، وابنة «كمال الحسيني» تاجر السجاد و»رقية خانم» سليلة الأتراك العثمانيين أيام عزهم وسطوتهم، وصلتْ عائلتها إلى العراق عندما قرر جدهم الأكبر «محمود شرف الدين» الاستقرار ببغداد. ما يميز البنت وأمها حبهما لرواية الحكايات ونسجها من الخيال حول تاريخ عائلتهما وبطولات والد كل منهما. لهذا وصفنا السرد [المحكي] في المدخل بالتمويهي، وهو أيضا محكي أصغر غير تام، لأنه لو تطور بخلق روابط سردية متينة بينه وبين القضية المحورية في المحكي الإطار [مقتل الضحية أنغام عارف] لأصبح محكيا تاما وسيمنح وقتها السرد صفة التركيب، لكن يتضح أن الكاتبة وضعت أمامها هدفا يتمثل في بناء حكاية واحدة متناسقة ومنسجمة تتدفق كنهر ولا بأس من بروز بعض الروافد والجداول؛ النهر هو السرد المركزي ويتضمن المحكي الإطار والروافد والجداول هي المحكيات الصغيرة والصغرى التي تؤدي وظائف سردية مهمة منها ترميم الحكاية وإضاءة بعض الجوانب الغامضة من الشخصية، والأهم أن المحكيات الصغيرة التامة تؤدي وظيفة سردية بنائية حيث يصبح السرد متنوعا ومتعددا كما يصبح السرد مركبا أو متداخلا أو متوازيا، وقد وجدت الرواية الحديثة [الغربية والعربية] في الوظائف السردية المركبة والمتداخلة والمتوازية فرصة للخروج من ضيق الموضوعات وتكرارها وتشابهها بإعادة صياغتها صياغة جديدة أو بنائها بناء جديدا. لم يتطور سرد «سلمى كمال» ليصبح محكيا مستقلا بذاته وبالتالي رافدا من روافد المحكي الإطار أو محكيا موازيا لمحكيات أخرى ممكنة مثل محكي «رقية خانم» الأم التي تؤلف الحكايات من خيالها كي تبني مجدا [محتملا] لعائلتها ذات الأصول التركية ودور والدها «محمود شرف الدين» في توسع الدولة [الإمبراطورية] العثمانية. كان من الممكن أن يحفر هذا السرد مسارا خاصا به ينمو ويتطور بإزاء محكي «زهير مراد» إلا أن الكاتبة اختارت أن تركز في الرواية على قضية اجتماعية وسياسية ونفسية ولدتها السلطة السياسية والعسكرية المتحكمة في البلاد والعباد بقبضة من حديد وتخنق الحريات حتى يستتب لها الأمر فلا يعلو على قانونها وصوتها شيء. لذلك كانت المرحلة الثانية هي مرحلة بداية المحكي الإطار، حيث سيتم فيها تقديم شخصية «زهير مراد» وهو في أوج قوته ويقينه وسطوته ينجز الأعمال المطلوبة منه دون تردد ودون سؤال عن الحقيقة؛ إنه أداة طيعة في أيدي مَنْ هم أعلى منه رتبة ومسؤولية، يحقق في القضايا بيقين الخبير الشغوف بمحاصرة ضحاياه يتلاعب بمشاعرهم حينا ويعنفهم آخر ويهينهم بالضرب حتى يقروا بأفعال لم يرتكبوها. يرسم السارد كيف حاصر الضابط المحقق «زهير مراد» المشتبه فيه «مقداد صبري العامر» حتى يقِرَّ بحقيقة عمله المتخفي وراء صالون حلاقة النساء وتداخل علاقاته بأطراف مشبوهة لها صلة بقضية مقتل الضحية «أنغام عارف»، وقد كان ممكنا تحويل محكي «مقداد العامر» إلى محكي تام وبالتالي خلق امتداد أو محكي موازي للمحكي الإطار حتى يصبح البناء مركبا، إلا أن الحكم «الطوليطاري» المستبد لم يسمح بذلك، فقام باغتيال الشاهد «مقداد العامر» في حادثة سير مدبرة، يقول السارد:» ... وبعد أربعة أيام مات مقداد العامر بحادثة سير، كان قد ركن سيارته خلف فندق الأميرات كما يفعل كل يوم، ثم يتلف حول سياج الفندق باتجاه الباب الرئيس، فجاءت سيارة بسرعة غير اعتيادية رفعته عن الأرض وألقته جثة هامدة ثم اختفت عن الأنظار، وأنت تعرف أن الأمر مدبر لكنك لا تملك الدليل المادي...» ص (133-134). الإحالة: هدية حسين: «أن تخاف» منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط1. 2012م