1/ الرواية المغربية عندما نتحدث عن الكاتب والروائي مبارك ربيع نستحضر التجربة الروائية المغربية وتاريخها المعاصر والحديث، لأنه رمز من رموزها وعماد من الأعمدة التي قام عليها بناؤها، الذي بدأ كأي بناء بسيطا يبحث لنفسه عن هوية وخصوصية تميزه مستندا إلى الاقتباس والتقليد والمحاكاة من أدب الأمم التي تقدمت تجربتها في الكتابة الروائية ورُسِّخَتْ مبادئها في عقول وأذهان الكُتَّابِ والقُرَّاءِ على حد سواء؛ أَكَانَ الاحتذاء في محاكاة المضامين ذات الأبعاد التاريخية والاجتماعية والإنسانية أو كان في الأساليب والصيغ السائدة وقتها كالتجربة الواقعية الطبيعية والواقعية الاجتماعية والكتابة السير ذاتية، وأغلبها كان خطيا يحصر معنى الرواية في «القصة» المحكمةِ البناءِ والمتواترةِ الأحداثِ والمترابطةِ بحيثُ تكون حبكتُها متسلسلةً ومنسجمةً، وهو الوعي السائد وقتها الذي يلبي حاجة من حاجات المرحلة تاريخيا وفكريا؛ المرحلة التي كان العالم فيها منسجما ويأمل في خلق لحظات اطمئنان داخلي وتصالح مع الواقع الخارجي، وكان يسعى إلى رسم صورةٍ عن «فئة» اجتماعية ظل النقاد يقرنون نشوء الرواية في الغرب بها، وهي الفئة البورجوازية المتنورة والمتعلمةُ. تُضْمِرُ تجربة مبارك ربيع تاريخ تطور الرواية المغربية المعاصرة، مباشرة بعد مرحلة الاقتباس والتقليد والمحاكاة، مما يسمح لنا بالحديث عن تزامن تجربته في الكتابة مع مرحلة تأسيس الخصوصية المغربية في الكتابة، وهو السؤال الفكري والثقافي الذي كانت تطرحه الفئة المتعلمة والمتنورة وقتها؛ مع نهاية فترة الحماية الفرنسية وبداية مرحلة بناء الدولة المستقلة ذات السيادة والهوية الخالصة والخاصة، وكان طبيعيا وقتها أن تتصارع تيارات متنوعة ومختلفة بل متناقضة في الفكر والوعي والكتابة مضمونا وصيغا؛ منها تيارات محافظة تمسكت بالأشكال التقليدية وأغلب روادها اكتفوا بالمناصب الإدارية التي حصلوا عليها وطلَّقوا الكتابة مع الوقت، وبقي تياران مختلفان في المبدأ لكنهما متضافران معا في تشكيل الهوية والخصوصية المغربية لما سيعرف بالرواية المغربية، وهما التيار الواقعي «الوطني» و»القومي» [إذا جاز الوصف: عبد الكريم غلاب، عبد المجيد بنجلون ومبارك ربيع...] يدافع عن القيم العليا للمغرب دون الالتفات إلى القضايا المستجدة بحسب التغييرات التي شهدها المغرب الجديد الخارج حديثا من قبضة المستعمر الأجنبي [الفرنسي والإسباني] تلك المتغيرات المستحدثة ستكون الحجر الأساس الذي ستقوم عليه فكرة ووعي التيار الثاني الذي يمكن وصفه بالواقعية الاجتماعية، ومنه كذلك الواقعية الاجتماعية الانتقادية [محمد زفزاف، محمد شكري ومحمد عز الذين التازي...]. تجربة مبارك ربيع الروائية نموذج جيد لاستجلاء خصوصية التيارين معا في آن، لأن بعض رواياته غلَّبَت الواقعية الوطنية «المحلية» فاستضمرت القيم العليا للمغرب التليد والحديث فجاء خطابها حماسيا وملحميا، وبعضها الآخر انتصر لفكرة جديدة ومختلفة عن السابق والمتمثلة في الإيمان بأن الشكل الخارجي للكتابة ليس اعتباطيا بل له معنى خاص به ومضمون محدد، وبأن المضمون ليس هو الرواية إلا إذا كان له شكل يناسبه. في رواية «أيام جبلية/2003م» سأسعى إلى إبراز ملامح الكتابة الروائية عند مبارك ربيع في مرحلة جد متقدمة، تخطى فيها المغرب والكتابة في آن مرحلة التأسيس إلى مرحلة تحقيق الهوية والخصوصية، وتغير فيها مفهوم الكتابة الروائية من الخطية والترابط والتسلسل المنطقي الصارم والوضوح إلى التعدد والتركيب والتداخل واللعب بالزمن السردي وتنوع الخطابات. 2/ المحكي المرجأ في رواية «أيام جبلية» يتجاوز مبارك ربيع البناء السردي الخالص [Homogène] المتنامي عبر توليد الأحداث من بعضها بإضافة شخصيات روائية جديدة كلما استدعت القصة ذلك دون استقلالها عن الشخصية المحورية المتحكمة في البناء العام لعالم الرواية إلى البناء المركب. أهم ما يظهر التركيب في البناء السردي في رواية «أيام جبلية» تعدد المحكيات، التي نقسمها إلى ثلاثة أقسام مميزة بوظيفتها السردية وبنائها الخطابي كالآتي: المحكي الإطار: وهو المحكي الذي ينهض على أسسه المتخيل الروائي، ويؤدي وظائف سردية منها الانسجام والإحاطة وتحديد شكل الخطاب الروائي الخارجي. المحكي الصغير: وهو محكيات مصاحبة تامة مستقلة بنيويا إلا أنها تؤدي وظيفة سردية مهمة تتمثل في توسيع المحكي الإطار وتنوع فضائه المتخيل وتداخل أو توازي محتوياته ومضامينه. المحكي الأصغر: وهو محكيات صغرى غير تامة بنيويا لكنها تؤدي بدورها وظائف سردية تكميلية تخص المحكي الإطار أو المحكيات الصغيرة من قبيل الإضاءة والترميم وقد تكون من بين وظائفه السردية معارضة رؤية مقترحة في المحكيات الأعلى منه رتبة. يقوم السرد في رواية «أيام جبلية» على محكي «مؤطر» وهو محكي يقع في الخلفية ومحكي «هامشي» لا يركز عليه السرد ولا يتم تنميته في شكل حكائي محدد بل يظل مجرد أخبار يضعها الكاتب كعتبات بين الفصول أو هي عبارة عن «قصاصات» إخبارية تقدم أسئلة أكثر من تقديم أجوبة تغدي فكرة الغموض والسر الدفين الذي يبحث عن حقيقته كل من «محمود» و»حبيبة» [شخصيتان محوريتان] لكن دون جدوى لأن أهالي رأس الجبل [مكان محوري] اتفقوا بإراداتهم الشخصية أو خوفا من سلطة خفية بأنه لا ينبغي إطلاع الغرباء عن أسرارها، تلك الأسرار هي ما يسمح لنا بوصف المحكي الإطار في رواية الكاتب مبارك ربيع «أيام جبلية» ب»المحكي المرجأ» المحكي الذي لا يتم الإفصاح عن حقيقته ولا فك رموزه وإشاراته المتفرقة بين «قصاصات الأخبار» و»اعترافات الشخصيات» الروائية والتي يكون اعترافها أو تصريحها أكثر غموضا وأشد التباسا، يؤزم الحكاية ويبعد الوصول إلى حل أو نهاية سرديين. يتعلق محكي الخلفية والهامش بحادثة اختفاء القطار 1101 الذي يجهل مصيره ومصير من كان فيه [أو تأخر وصوله]، ويتميز لغة وبناء بالاختزال والتنوع، يُقَدَّمُ بحروف متفرقة ويذيل بأخرى تزيده غموضا [تأزيم عملية التأويل]. ما يمنح المحكي الإطار في «أيام جبلية» صفة التأخير والإرجاء إضافة إلى الغموض والسر [الذي تبنى على أساسه الرواية البوليسية غالبا] تعدد المحكيات الصغيرة التي تؤخر النتيجة وتمدد السرد وتوسعه، وأوردها مختزلة كالآتي، كي تكون حافزا على قراءة الرواية للتعرف على فضائها المتخيل ومقترحاتها السردية والمعرفية: - محكي فؤاد وسعيدة وراشيل - محكي عيوشة والحاج - محكي الرايس وجبريلو - محكي محمود وحبيبة (دليلة) - محكي الوادي - محكي الحجامي [البوح بالحب الدفين لعيوشة] - محكي رضوان وعائشة الرايس - محكي سهام - محكي الدرب الوراني ... تتضافر المحكيات وتستقل عن بعضها البعض لتبني مسارها السردي الخاص، وهذا الذي يمنح الخطاب الروائي في «أيام جبلية» صفة التنوع والتعدد وبالتالي الجدة، والأهم أن التركيب والتعدد في المحكيات يمنح الرواية المغربية المعاصرة مفهوما جديدا مختلفا عما كانت عليه في مرحلة البدايات يوم كانت الرواية لا تعدو أن تكون «قصة» مطولة خطية وانطباعية ووعظية. إذن، امتلكت الرواية المغربية الحديثة هويتها ولا أعني الهوية المحلية فحسب بل الهوية والخصوصية العربية من خلال البناء المركب والصيغ الخطابية المختلفة وتنوع وتداخل المضامين والارتباط بالقضايا الأكثر خصوصية والقضايا المسكوت عنها والمنبوذة والمحرمة داخل اللغة والأدب والفكر، أو تلك التي تشكل ما أسميناه في مناسبة سابقة بالمتخيل المختلف ومتخيل الأحياء الخلفية، وسيعرض لها الكاتب مبارك ربيع في روايته تحت مسمى أسرار وأحداث «الدرب الوراني» في محكي حبيبة [دليلة] ومحكي سهام. 3/ الأنماط اللغوية سيقود تعدد المحكيات [المحكي الإطار والمحكيات الصغيرة] إلى تنوع في الموضوعات وفي تعدد في الشخصيات بحيث تقوم كل مجموعة ببناء محكيها الخاص والمستقل بذاته وفي بعض الأحيان تقوم شخصية واحدة بلعب دور الشخصية المحورية القائمة بذاتها، مثل محكي الوادي الأحمق العاقل والمتشرد الرقيب المُطَّلِعِ على خبايا وأسرار الدرب الوراني وحقيقة الهدوء وسكون النهار بعد ليل ملتهب. أهم ما ترتب عن تعدد المحكيات، تعدد أساليب ومستويات اللغة، وهو ملمح بارز في رواية مبارك ربيع «أيام جبلية» وقد ساهم بدوره في تركيب طبقات السرد والتمييز بين مستويات الجهات المسؤولة عن إنتاج القول [الخطاب]، فاللغة ليست اعتباطية كذلك إنها تدل على المتكلم وتصنفه اجتماعيا ووظيفيا، أي أنها خزان للمعاني وهي بنت الوسط الاجتماعي والشخصية الروائية، ومنها خمسة أنواع مختلفة تثري المعجم والأسلوب والدلالة كالآتي: اللغة الفصيحة [والمسجوعة في سياقات خاصة]. اللغة الشعرية المحلية [الزجل]. اللغة المحكية [اللهجة الدارجة غير الزجلية] اللغة الوسطية بين الفصيح والمحلي. اللغة الإخبارية [الصحافية والتقريرية]. اللغة الرمزية والإيحائية [هذيان الوادي ونوباته] يأخذ معنى اللغة هنا دلالة أوسع تضم كل أشكال الخطاب والإفصاح والتواصل والحوار بين الشخصية الروائية ذاتها [داخلي] وفي علاقتها بالشخصيات الروائية الأخرى المجاور لها [علني]، فهناك الشاعر الزجال الذي يكتب لواعج نفسه وما يضرم فؤاده من مشاعر جياشة، وهناك من يبوح بالحب الدفين وأسرار الماضي في انسياب خارج الشعر ولوازمه، وهناك من يصف المكان وأهله في وقفات مطولة يكاد السرد فيها يتوقف تماما عن الجريان، وهناك من يتحاور مع غيره في خطابات مباشرة تامة ومبتورة ومجوفة [غير دالة وفارغة وخارج سياق محدد] لتزجية الوقت، وهناك من يقدم التقارير ومن يخبر عن الحوادث كما أن هناك من يوحي ويلمح ولا يفصح. إن المفهوم الجديد للرواية المستخلص من رواية «أيام جبلية» وهي في نظرنا رواية تختزل تاريخ السرد المغربي في تحوله وتطوره، يتمثل في تركيب البناء، والتدرب على «تأجيل» الحكاية بتقنيات كتابية من صميم اللعبة السردية؛ توليد المحكيات بشتى أنواعها، وتأطير وقفات الوصف المُحَدِّدَةِ لأبعاد المكان والشخصية الروائية، واعتماد حبكات مختلفة واستعارتها من أنواع سردية أخرى مجاورة مثل استعارة الكاتب مبارك ربيع في «أيام جبلية» حبكة الرواية البوليسية التي يغذيها البحث عن الأسرار [الجريمة] الخفية للدرب الوراني والغموض الذي يكتنفه وتكتُّم السكان على حقيقته خوفا أو تواطؤا أو مساهمة واستفادة من عائدات مشبوهة... 4/ تعدد الخطابات تعدد المحكيات وتنوع المستويات اللغوية قاد نحو تعدد الخطابات المتخللة التي تعضد الخطاب السردي والوصفي وأهمها؛ القصاصة الخبرية، والتقرير الصحافي والاعتراف أو الشهادة الشخصية ثم الرسالة، وتعدد الخطابات يؤكد ما ذهبت إليه مارت روبيرت من أن الرواية جنس أدبي قادر على احتواء كل أشكال القول والخطاب. هذا الرأي يضمر إشكالية كبيرة في كتابة الرواية المعاصرة وتتمثل في كيفية توظيف كل تلك الخطابات وترتيبها في سياقات تضمن الانسجام [لا يعني بالضرورة التسلسل المنطقي المتواتر] والترابط للعمل الروائي في كليته، وتحافظ للخطاب السردي والوصفي على خصوصيته الفنية والجمالية، أي أن تعدد الخطابات مهارة لا يقدرها إلا الكاتب المتمرس وصاحب الرؤية الواضحة. هذا الذي تثبته رواية مبارك ربيع «أيام جبلية» فرغم البناء المركب والحجم الذي قارب (350) صفحة من القطع الكبير وتداخل الخطابات وتعدد الشخصيات والمحكيات حافظت الحكاية المركزية على انسجامها وقد ساعد على ذلك المكان الواحد [رأس الجبل] والموضوع الواحد [تقصي أخبار اختفاء القطار 1101 وتأخر وصوله إلى المحطة المهملة المنسية والتعرف على سكان رأس الجبل] ثم قدرة الكاتب على تقديم الحل النهائي في دُفُعَاتِ تفصح عن جزء بعد آخر مما جعل المحكي يقوم على التأجيل والإرجاء إلى لحظة تجميع الخيوط [السياقات السردية] كلها في صورة إجابات عن كل الإشكالات العالقة؛ بحث وتحقيق محمود، تجربة حبيبة [دليلة]، تجربة سهام، تجربة فؤاد، تجربة عيوشة، مصير الوادي، مصير جبريلو، وطلب رضوان العشري الإعارة إلى الخارج والانتقال خارج رأس الجبل... إنها رواية تختلف في كثير من النقاط عن الروايات السابقة لمبارك ربيع وأهم ما يميزها البناء المركب والمحكي الخلفي والمحكي المرجأ، وهو محكي يوافق الفكرة العميقة التي تقوم عليها الرواية: ما الحقيقة؟ هل هناك فعلا حقيقة ما؟ هل يقول الأدب/ الرواية الحقيقة؟ ماذا يريد الإنسان من سعيه الحثيث وراء الحقيقة؟ هل يريدها حقا؟ ... إن الحقيقة غير موجودة في أي مكان، إنها ليست سوى الآثار التي تتركها فينا الطريق إليها، الطريق الذي نسلكه؛ ضيقا كان أو شاسعا، مستويا أو ملتويا، طريق الوادي وطريقته، وطريق محمود وطريقته، وطريق عيوشة وطريقتها في تدبير حياتها، وطريق فؤاد وطريقته... وطريقة كل كائن في هذي الحياة بعيدا عن الفضاء المتخيل، ليس للإنسان من حقيقة غير اختياره. إن الحقيقة التي نصل إليها بعد جهد ومكابدة ليست سوى الاختيار الذي انطلقنا منه بإرادتنا، وهو طبعا يختلف عن اختيارات الكائنات التي تجاورنا في هذه الحياة. ربيع، مبارك: أيام جبلية. رواية. مطبعة النجاح الجديدة. ط1. 2003م الأربعاء: 17 أكتوبر 2012م سلا