أصدر محمد عز الدين التازي، من أواسط السبعينيات إلى حدود سنة 2007، تسعة أعمال قصصية وثمانية عشر عملا روائيا. ولا تتميز أعماله السردية، والروائية خاصة، بغزارتها فحسب، بل وبنوعيتها، فهي من الأعمال الرائدة في التجديد والتجريب. ونقترح التوقف قليلا عند إحدى رواياته الحديثة: «دم الوعول» التي صدرت سنة 2005 عن منشورات سليكي إخوان، من أجل استكشاف بعض خصائصها الموضوعاتية والجمالية. أول خصائص الكتابة في رواية «دم الوعول» لمحمد عز الدين التازي، تلك المتعلقة ببناء النص السردي وشكله الفنّي، فالرواية هنا لا تقوم على الوحدة والتماسك التقليديين، بل نحن أمام رواية تتوزع إلى روايات فرعية، وهذه الروايات المتفرعة هي التي تشكل، في مجموعها الرواية. تتألف رواية «دم الوعول» من سبعة أبواب، موضوعها واحد هو: ماذا عن الإشاعة التي تقول إن رجلا يشتغل ممرضا في مصحة عقلية اسمه عبد الرحيم الأزرق قد تحول إلى قزم؟ ولكن لكل باب سارده وشكله السردي وطريقته في معالجة الموضوع وغاياته من ذلك. يأتي الباب الأول في شكل بحث وتحقيق، والضابط مصطفى التواتي هو المحقق والسارد في هذا الباب، وهو يجعلنا نتوقف عند مفترضات البحث الأمني البوليسي ومقتضياته وغاياته وطرقه في معالجة الإشاعات. ويأتي الباب الثاني في شكل الروبورتاج التلفزيوني الذي يحاول مقدم البرنامج التلفزيوني عباس المرادي إنجازه حول عبد الرحيم الأزرق الذي يشاع أنه تحول إلى قزم. وبطبيعة الحال، فإن مفترضات ومقتضيات التحقيق الإعلامي التلفزيوني هي غيرها في تحقيقات وأبحاث الجهات الأمنية. أما الباب الثالث فهو، كما جاء في الكلمات التي تصدرته، عبارة عن رواية لكل من مريم طليقة عبد الرحيم وولديه عبد الغني وبديعة، وهو ما يعني عمليا رواية تتفرع إلى ثلاث روايات، الواحدة بلسان الطليقة والثانية بلسان الولد والثالثة بلسان البنت، وما يجمعها هو الموضوع: عبد الرحيم الأزرق، الأب والزوج سابقا، وهي مجموعها رواية «تفضح الكثير من أسرار العائلة»(ص 47). ويشمل الباب الرابع روايتين إضافيتين لكل من الضابط مصطفى التواتي ومقدم البرنامج التلفزيوني عباس المرادي. أما الباب الخامس فهو الذي يحكي فيه عبد الرحيم الأزرق حكايته بلسانه. في حين يدور البابان السادس والسابع حول الحياة في المصحة العقلية التي يشتغل فيها عبد الرحيم ممرضا. وهكذا، فموضوع الرواية في مجموعها واحد: الإشاعة المتداولة حول عبد الرحيم الأزرق، إلا أن النص الروائي لا يتألف من رواية واحدة حول الموضوع، بل يقدم مجموعة من الروايات حول الموضوع الواحد (الرواية الأمنية، الرواية الإعلامية، الرواية العائلية، الرواية الشخصية،...). وبهذا الشكل الفني يتفكك النص الروائي ويتعدد، ويتفكك السارد ويتعدد، وتخضع المعرفة والحقيقة لآليتي التذويت والتنسيب. لقد انمحى السارد الواحد، العالم بكل شيء بأقصى درجة ممكنة، تاركا المكان لوعي الشخصية المكشوف، فلم تعد الشخصية تؤدي وظيفة «الفعل» فحسب، بل إنها تأخذ مبادرة الكلام والحكي مبرزة موقفها ودوافعها وشكوكها وأسئلتها، تعالج الموضوع من زاوية نظرها وتبعا لدوافعها وأهدافها. في بداية الرواية، يبدو أن كل شيء يشتغل على أساس إشاعة لابد من توضيحها وتفسيرها. وانخرطت شخصيات عديدة في مشروع كبير للتفسير والتوضيح، تمارس البحث والتحقيق، والافتراض والتحليل، والتفكيك وإعادة البناء، ورواية الأشياء من زاوية نظر معينة. وكلما تقدم المحكي إلا وكان الانطباع بأننا نتقدم نحو معرفة ما. إلا أنه في النهاية، يبدو كأن لا شيء قد تمّ حسمه، ولا نعرف هل الإشاعة صحيحة أم مختلقة، ولا ندري في النهاية أيتعلق الأمر بحكاية واقعية أم بحكاية مختلقة، ويصعب الحسم في ما إذا الأمر يجري داخل المصحة العقلية أم خارجها، وما إذا كانت الشخصيات والرواة من عقلاء الناس أم من مجانينهم، وما إذا كانت الحكاية في مجموعها حقيقية وواقعية أم إنها مفتعلة متخيلة، وجهُها الاستعاري والرمزي هو الأكثر أهمية؟ الكتابة الروائية عند محمد عز الدين التازي ليست إبلاغ حقيقة ما أو نقل الواقع المعطى كما هو، بقدر ما هي مساءلة «الحقيقة» والنظر إلى ما وراء الواقع المعطى، بشكل يجعل من التخييل مرآة نقدية لما يقدّم على أنه «الحقيقة» في عالم من التوافقات والإصطلاحات. فبواسطة الكتابة الروائية يمكن اختبار العقل والشك في عقائده والسخرية من مسكوكاته ويقينياته، والإنصات إلى خطاب الجنون، وممارسة اللعب، والدخول إلى عالم الاحتمالات والافتراضات، والنظر إلى «الحقيقة» على أنها مشكوك في أمرها، وأن كل شيء يسبح في فضاء اللايقين. وبعبارة أخرى، فالرواية في مجموعها تقع بين الإشاعة والحقيقة، بين الوهم والحقيقة، بين الواقع والافتراض. ويبدو كأن الأهم ليس هو البحث في صحة ما يشاع، بل البحث في أبعاده الاستعارية والرمزية، وكشف الوجه الآخر، المأساوي، للإنسان والمجتمع، في زمن شاعت فيه التحولات والمسوخات التي تمسّ جوهر الإنسان: إنسانيته. فبتركيزها على تحول الإنسان إلى كائن قزمي، تطرح الرواية مسألة الهوية، فهناك علاقة وثيقة بين المسخ والهوية، ذلك لأن المسخ يؤلف شكل إدراك وتمثّلا للقدر الشخصي للإنسان في أكثر اللحظات تأزما من حياته وحياة مجتمعه. لا تنتمي روايات محمد عز الدين التازي إلى هذه النصوص الروائية التي تكتفي بتسجيل الواقع ونسخه، بل هي تنتمي إلى هذا النوع الآخر من الأدب السردي الذي يعتبر فرانز كافكا من كتّابه الكبار في العصر الحديث، وهو النوع الذي يعمد إلى كتابة ما في ذواتنا ووجودنا وعوالمنا النفسية والاجتماعية من غرابة مقلقة، وذلك باستخدام الفانطاستيك والانفتاح على اللاواقعي والمتخيل والأحلام والاستيهامات وتوظيف الاستعارة والترميز ولعبة المرايا والمحاكاة الساخرة وتعدد الأصوات والمنظورات السردية... في روايات محمد عز الدين التازي، لا شك أننا نكون أمام كتابة تقول واقعنا وزماننا ومصيرنا، ولكن بطريقة لاواقعية، لامعقولة، تأكيدا على غرابة الواقع المرعبة المقلقة المتحولة عمّا هو مألوف وإنساني. الملاحظ أن الرواية تشتغل على البناء الفني، وتستدعي البنيات اللعبية الانتهاكية، وتوظف أشكالا وأساليب جديدة في الحكي والسرد والتخييل، وتعمل، إلى هذا الحدّ أو ذاك، على تفجير النص الروائي بمعناه التقليدي، بشكل يبدو معه كأن هناك قواعد جديدة للكتابة وميثاقا جديداً للقراءة. وفوق ذلك، فقد اختارت الرواية شكلا سرديا محددا هو شكل محكيات البحث والتحقيق. وهذا ما يشير إلى أن الرواية تريد أن تعرف، تريد أن تؤسس معرفة حول الإنسان ومجتمعه وتاريخه ومصيره، أو أنها بالأساس تريدنا أن نفكر في سبل تأسيس معرفة بذواتنا وأوساطنا وعوالمنا ومصائرنا. واللافت للنظر أن الرواية لا تدعي أنها تمتلك المعرفة الكاملة أو الحقيقة المطلقة حول الإنسان أو المجتمع أو التاريخ. وهذا،بلا شك، تحول جديد، فالأدب الروائي لم يعد يعمل لصالح إيديولوجية معينة، ولم تعد الرواية تدافع عن دعوى أو أطروحة، بل إن الرواية الآن تركب الشك، وتقول الاحتمال والافتراض، وتمارس اللعب والسخرية، وتبدو كأنها تسبح في اللايقين. ويجد هذا التحول تفسيره في ظل التحولات الكبرى التي يعرفها مجتمعنا والعالم من حوله. شيء ما بدأ ينكسر منذ أواسط السبعينيات أو أواخرها، وتفجّر في التسعينيات وبداية الألفية الثالثة. ستصاب الإيديولوجيا كما ستصاب الأنساق الفكرية والتشييدات النظرية الكبرى. وأضحت هناك أزمة عامة تعرفها خطابات اليقين، وهناك عجز في صناعة الأمل واليوتوبيا، وهناك أزمة تعيشها المثل السياسية. ولن تكون هذه التحولات دون تأثير على الأدب، والروائي منه بالأخص.