عشر سنوات بعد انتفاضة الشعب التونسي على حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي ضيّعتها تونس في الخلافات السياسيّة بين الأحزاب دون أن تحقق شيئا على الأرض، كانت فرصة مواتية جدا لتحقيق الديمقراطية في البلاد والانتعاش الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، لكن التجاذبات السياسية بين الأحزاب المشكّل أغلبها بعد الثورة كانت سببا أساسيّا في تأخر النمو الاقتصادي وسببّا مباشرا في عدم تحقيق الأمان السياسي وبالطبع الأمن الاجتماعي، فلا انتعاش اقتصادي ولا رفاه اجتماعي إلا بالاستقرار السياسي في البلاد، والبلاد تعيش اليوم فوضى سياسية واقتصادية واجتماعية، وتعيش أوج أزماتها مع تفاقم الوضع الصحي الذي عكّر الأجوار أكثر وأصبح الشعب التونسي أينما ولّى وجهه وجد الضيق والعنت والمشقة وأصبح في وضع لا يحسد عليه أمام إصرار الطبقة السياسية على إطالة أمد الصراع السياسي دون إيجاد حلول واقعية تلامس حياة المواطن العادي. ضاعت سنوات عديدة دون أن نشهد تحسّنا ولو طفيفا على المشهد الاجتماعي بل ازداد سوءا مع تفاقم البطالة إلى مستويات قياسية وهروب جماعي للشباب التونسي نحو أوروبا، وهجرة الكفاءات التونسية إلى الخارج، فماذا بقي في تونس إلا هذه الأحزاب تتناقر كالديكة التي تتعارك على فتات مسموم، ولعل صبغة الحرب بين الإسلاميين والعلمانيين الإعلامية والحزبية حالت دون تقدم تونس سياسيا، ولعل كذلك دستور 2014 الذي منح الحكم للبرلمان عاق المسيرة السياسية، ولعل إصرار الأحزاب الكبرى على عدم تغيير النظام السياسي والتخوّف من النظام الرئاسي جعل تونس تعيش هذا الوضع المأساوي، لكن في كل الأحوال لا بد من مخرج لهذه الأزمات، ولا بدّ لهذه التجاذبات من حدّ إذا كان النواب لا يعُون أنهم مسؤولون أمام الشعب عن هذه التهريجات التي تحدث بين الفينة والأخرى، واحدة تصرخ في البرلمان بأعلى صوتها وتسبُ من تشاء علنا وجهرة وآخر يكفّر من يشاء ويضع صورة من يشاء في برلمان أُسّس على خدمة الشعب التونسي مما يوحي بأن الأزمة إذا استمرت على هذا المنوال فإن تونس سوف تنهار على المدى القصير والمتوسط والبعيد. وإن كنا قد حققنا الحرية فعلا بعد هذه الانتفاضة إلا أنه ينبغي علينا العمل كثيرا لنحقّق الكرامة وصدق من قال اكتسبنا الحرية ولم نكتسب الكرامة، فتونس تنعم بالخيرات والكفاءات والعقول، ولا تنقصها إلا الإرادة السياسية القوية التي تحكم البلاد بقبضة من حديد، تضبط النظام العام، وتفرض هيبة الدولة، وتقطع السبيل على كل من يريد التلاعب بمؤسسات الدولة، وترسي قواعد جديدة في العمل السياسي والمدني والمجتمعي، وتحافظ على مكتسباتها وثرواتها بكل قُوة لأنها منبع قيام الدولة واستمرار وجودها، فإذا تعطّل الإنتاج توقّفت الحياة وتزداد المشاكل والعوائق، وكلما ازدادت وتيرة الصراعات ازداد الانشعال عن حقوق الشعب التونسي الواجبة على الدولة وإهمال واجباته تجاهها، فالمشكلة في تونس تكمن بالدرجة الأولى في النظام السياسي المعيب الذي ينبغي أن يُناقش مرة أخرى ويُستفتى الشعب التونسي ليختار النظام الذي يتماشى مع رؤيته أما أن نفرض نظاما نعلم أنه لا ينجح ونصرّ عليه فهذا عين الخطأ. أدركنا بعد عشر سنوات أننا ضيّعنا الكثير من الوقت في ما لا يعني، واستسهلنا الأمور، ونسينا المواطن العادي الذي يكدح من أجل لقمة العيش، نسينا المرأة التي تقاوم من أجل أبنائها اليتامى، نسينا الخريجين والخريجات الذين يرون المستقبل مجهولا في وضع كهذا، وفرحنا بالحرية وبقينا عند هذه النقطة نرنّ عليها ولم نتقدم خطوة إلى الأمام، وبعد عقد من الزمان وجدنا أنفسنا في النقطة نفسها، لم نقدم جديدا ولا بديلا، بل إن هناك إشارات قوية على بداية عودة نظام بن علي مرة أخرى حيث بدأت رئته تتنفّس من جديد بعد أن أيقنا في وقت ما أنه لن يعود أبدا، لكن وبعد هذه المنازلات السياسية بين الحزب الحر الدستوري والأحزاب التي تتبنى الفكر المعادي نرى أن البلاد قادمة على مواجهات عنيفة وربما إلى انهيار تامّ في كل مؤسساتها ما لم تُؤخذ الأمور بجدية تامة. واليوم وبعد انقضاء هذه المدة الطويلة نسبيّا ولم نفعل شيئا، لم يبق من الوقت إلا قليلا للملمة الجراح وإنقاذ البلاد، والابتعاد عن أي تعصّبات حزبية لهذا أو ذاك، وإرساء حوار وطني يخدم جميع الأطراف، والاتجاه صوب الوطن وإنقاذه ليتنفّس الشعب التونسي ويشعر أن هناك قادة يهتمون بشعبهم وبحياتهم اليومية والعمل على تحسينها وتنميتها نحو الأفضل.