ذكر رئيس الحكومة التونسية السيد هشام المشيشي أن تونس تعيش أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة وعميقة، وهذا يفسّر مدى ما وصلت إليه البلاد من تدهور كبير على مستوى الاقتصاد والحالة الاجتماعية للتونسيين الذين لم يعودوا يتحمّلون الوضع المأساوي وأوشكوا على الانفجار ويطالبون الدولة بالخروج من عنق الزجاجة، مما تسبّب في هروب جماعي للشباب من بلادهم التي لم تستطع إيواءهم وتحقيق أحلامهم القريبة والبعيدة، لأن الشباب يرى النفق مسدودا من الجانب الآخر ولا حل لهم إلا بالهجرة إلى أوروبا للتنفيس عن كُرَبهم وهمومهم وأحزانهم، وعندما نحكي عن الشباب إنما نحكي عن فئة مهمّة في المجتمع التونسي بل هي الفئة المؤثرة والكبيرة من التركيبة السكانية حيث تعتمد أي دولة على شبابها لأنه الرئة التي تتنفس بها الدولة، وعندما يفكر الشباب بكافة مستوياته المتعلم وغير المتعلم في الهجرة من بلده فاعلم أن بلاده لم تعد صالحة للعيش وغير قادرة على توفير الضروريات فضلا عن الكماليات وغير ذلك. وفي برامج متعددة نلحظ شكاوى الأهالي والشباب من عدم قدرة المواطن التونسي على العيش بسلام في تونس، فكثرت البطالة وغلت الأسعار، وانخفض الدينار التونسي إلى أدنى مستوى لم يعهده وانخفضت القدرة الشرائية إلى مستويات متدنية جدا، وهذا أدى إلى نزوع كثير من الشباب إلى الانحراف سواء بشرب المخدرات أو حبوب الهلوسة ودفعه إلى ارتكاب الجريمة بأنواعها كافة من السرقة إلى الاعتداء والاغتصاب والقتل وغيرها من الجرائم، وهي رغم أنها غير مبرّرة إلا أن الدولة تكون قد أسهمت في وقوعها من خلال إهمال الفئة الأكبر في تونس وعدم الاعتناء بهم فكريّا ونفسيّا وجسديّا ومهنيّا، وعدم محاولة إيجاد حلول واقعية وجذرية وملموسة لتحسين معيشتهم وإخراجهم من الوحل الكبير الذي وقعوا فيه. كما عجزت الدولة التونسية ومنذ الثورة أن توجد الحلول المناسبة رغم الوعود المتكررة إلا أن الخنق الاقتصادي وجائحة كورونا حالا دون حلحلة الوضع الاقتصادي في البلاد الآخذ في التدهور شيئا فشيئا، وربما يعود ذاك أيضا إلى تذبذب الوضع السياسي وعدم استقراره حيث تتالت الحكومات المتعاقبة التي استنزفت خزينة الدولة، وإسهام الصراع السياسي بين الأحزاب في تأخر الكثير من المشاريع والقوانين لا سيما الصراع المرير بين الأحزاب في مجلس النواب، حيث صار بؤرة للصراع الأيديولوجي بدل أن يكون مكانا لفرش المشكلات التي يعاني منها الشعب التونسي وإيجاد الحلول الممكنة والواقعية لها وتنفيذ ما يمكن تنفيذه، إلى جانب فقدان الثقة بين المواطن والسلطة، وقد وصل المواطن إلى مرحلة اليأس التام من السياسيين الموجودين على الساحة من أعلى الهرم إلى أدناه لعدم قدرتهم على إنقاذ البلاد من الإفلاس المحقق. وأعتقد أن السبب الرئيس وراء هذه الأزمة العميقة هو النظام السياسي في تونس الذي يعتمد على رئاسات ثلاث، رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان، حيث لا يمكن أن يقود البلاد ثلاثة رؤساء، لاختلاف توجهاتهم وتنوع أفكارهم وتضارب مصالحهم، كما أعتقد أن حركة النهضة عقبة كأداء في التحرر السياسي لأنها مصرّة على نظام سياسي فاشل ثبت فشله وتأكد، ومع ذلك ترفض التغيير وتتمسك بموقفها السياسي الرافض لأي تحويل أو تبديل، مما جعل هذا النظام يتوقف ويوقف البلاد عند نقطة محددة وصار ما صار من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ورغم أن حزب النهضة موجود في الحكومة منذ 2011م إلا أنه لم يتقدم خطوة إلى الأمام بل تأخر خطوات خطيرة إلى الوراء وجعل البلاد تعيش أزمة عميقة كما وصفها المشيشي. وبالتالي لا يمكن أن تستمر البلاد إذا استمر نزيف الاستنزاف دون محاولة جديدة وجدية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والسياسيون الموجودون على الساحة مسؤولون عن هذا الوضع السيء جدا وسوف يحاسبون على تفريطهم وإفراطهم وإمعانهم في التلكؤ والمماطلة وعدم اتخاذ إجراءات وقرارات جريئة وسريعة لاحتواء المشاكل المكدسة والمتراكمة وخاصة هجرة الشباب والعقول والكفاءات خارج البلاد، وهذا بطبيعة الحال ينبغي أن لا يستمر وإلا حلت الكارثة بالبلاد كلها، والحل بين أيدينا نحن التونسيين أن نطالب بتغيير النظام السياسي الحالي برمّته لأنه لم يعد صالحا ولن يكون صالحا لا في المستقبل القريب ولا البعيد، فمنذ 2011 وهم يجربّونه وفي كل مرة يفشلون ويزدادون فشلا ومرارة حتى ينتفض الشعب التونسي برمته ويحيي ثورة أخرى ليتحرر من القيود الاقتصادية والاجتماعية التي تكبله منذ سنوات. صيحة فزع أُطلقها عبر هذا المقال، لكل من يحبّ تونس ولكل من يسعى إلى إنقاذ تونس من الإفلاس المحقق ومن الانهيار الاجتماعي التام أن يتحرك كلٌّ من موقعه للمطالبة بتغيير جذري للنظام السياسي ليتحرك الاقتصاد، والاهتمام بالشباب والكفاءات والقُدرات، ومنح المستثمرين التونسيين الموجودين في الخارج الفرصة للرجوع إلى بلادهم وتعميرها وتسهيل الإجراءات وتحرير الاقتصاد والقضاء على كل مظاهر الاحتكار والرشوة والانغلاق الاقتصادي للسيطرة على الأسواق، وكبح جماح الرأسماليين، ومحاربة الفساد بكل قوّة، وإيقاف كل من تورّط في نهب خيرات البلاد، ومراجعة الاتفاقيات مع الدول الكبرى عبر وسائل سلمية تحفظ حق البلاد، وتعزيز الهوية الوطنية وترسيخ المبادئ والقيم الإسلامية، وزرع هيبة الدولة والاحتكام للقانون، فهذه القرارات الجريئة لا تصدر من رئاسات ثلاث بل تحتاج إلى رجل قائد يعرف كيف يُصدرها في وقتها المناسب وبكل جُرأة وتحمل للمسؤولية.