كثيرا ما عانت الشعوب في العهود القديمة الغابرة من استبداد وتسلط الحكام، تلك الفئة التي كانت تستأثر بالحكم والتحكيم بمفردها، وبمعزل عن المحكومين أو عن أية هيئات أخرى، حيث تفشى الظلم والقهر نتيجة ديكتاتورية مفرطة في السيطرة والاستغلال. لم يكن ليستمر الوضع على تلك الوثيرة، حيث قامت الثورات والانقلابات، وصاحبتها مفاهيم ونظريات جديدة تؤسس لأنظمة حكم عادلة تؤمن سيرا طبيعيا متوازنا لدواليب أجهزة حكم الدول، تقتسم فيه السلطة جهات رسمية متنوعة مؤسسة بذلك لأنظمة سياسية قوية تحاول الابتعاد عن الاستبداد والتخلف. على الرغم من أن النخبة الحاكمة في تونس اضطلعت بدور طليعي في قيادة حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار الفرنسي،و تبنت نهج الحداثة، ودافعت عن قضية تحرر المرأة، فإنها عانت طيلة العقود الثلاثة الماضية من موجة عدم الاستقرار الشعبي، وهي موجة واجهتها باستراتيجية القمع مع توجه نحو ليبرالية سياسية مهيمن عليها جرت العادة على تسميتها بالتحول الديمقراطي أو التحرك نحو الديمقراطية أو ما أشبه. حصلت تونس على الاستقلال الكامل في 20 مارس 1956، وعندما تقرر إجراء انتخابات لتشكيل المجلس القومي التأسيسي بتاريخ 25/03/1956 نشأت الجبهة القومية التي تتألف من الحزب الحر الدستوري والمنظمات القومية، وأقرت الجبهة الإبقاء على الملكية ولكن في شكل ملكية دستورية. وبناء على ذلك ظل المجلس القومي التأسيسي لمدة طويلة يضع التنظيمات في هذا الإطار، إلى أن قرر القادة التونسيون الاتجاه نحو النظام الجمهوري، وإسناد رئاسة الجمهورية مؤقتا إلى "الحبيب بورقيبة" الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس الحكومة. وإذا كان المجلس القومي التأسيسي هو الذي وضع الدستور وصاغ أحكامه، فإن هذه الأحكام كرست في النهاية توجيهات الرئيس بورقيبة التي تتمثل في ترك النظام البرلماني وإقامة نظام رئاسي يضمن النفوذ والاستقرار للحكومة. وقد طبق بورقيبة في البداية ما يسميه الوحدة الوطنية التي عن طريقها أمكن تحقيق الاستقلال، وكان يوجه واضعي الدستور نحو الاختيار ولذلك جاء الدستور مؤسسا لنظام حكم قوي يلتئم فيه ممثلو الأمة في منظمة الحزب الدستوري، فقد كان بورقيبة ورفاقه حريصين على إقامة نظام حكم قوي يتولى قيادته الشخص الذي أهلته ظروف الكفاح ليتولى هذه المسؤولية. وخلال سنة 1970، بدأت الانطلاقة الأولى لطي مرحلة النظام الرئاسي المقتبس من النظام الرئاسي الأمريكي، حيث شهدت تونس تحولا دستوريا جذريا من ملامحه الأساسية و الأخذ ببعض ملامح النظام البرلماني، ومن هذه الملامح حق إقالة الحكومة بالمصادقة على لائحة لوم في ظروف محددة، وتمكين رئيس الجمهورية من حل المجلس النيابي، وهي صلاحيات لا توجد إلا في الأنظمة البرلمانية. غير أن الخطوة الحاسمة في التخلي عن النظام الرئاسي كانت هي صدور القانون الدستوري المؤرخ ب 8 أبريل 1976، الذي حمل مقتضيات جديدة أدخلت تغيرات عميقة أصبح الدستور معها في شكل وثيقة دستورية جديدة. وفي هذا التعديل ظهر ميل المشرع الدستوري التونسي إلى الاقتباس من تقنيات دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة. والملاحظ من تاريخ الانتخابات التونسية- في الحقبة البورقيبة- أن المرشح للرئاسة كان هو رئيس الحزب الدستوري السيد الحبيب بورقيبة، وذلك منذ الاستقلال، وأن نسبة فوزه كانت تزداد مرة تلو الأخرى، وعلى سبيل المثال حصل: - سنة 1959 على 91.47 في المائة من الأصوات. - سنة 1964 على 96.43 في المائة من الأصوات. - سنة 1969 على 99.76 في المائة من الأصوات. - سنة 1974 على 99.85 في المائة من الأصوات. وبعد وصول وزير الداخلية زين العابدين بن علي إلى السلطة في تونس يوم السابع من نوفمبر 1987، وضع حدا لحكم فردي دام لمدة ثلاثين سنة، بواسطة الانقلاب الأبيض حيث جاء هذا التحول معلنا عن المخرج من الأزمة التي تتخبط فيها البلاد، حيث تم تعديل الدستور، وإصدار قانون الأحزاب، كما تمت مراجعة قانون الصحافة، وإطلاق صراح المعتقلين السياسيين، وتم إحداث المجلس الدستوري للسهر على مراقبة دستورية القوانين، كما تم إلغاء محكمة أمن الدولة، لتكريس مبدأ وحدة القضاء، كما ألغيت المحاكم الاستثنائية، وأهم تعديل دستوري حصل في هذه المرحلة ألغيت به الرئاسة مدى الحياة والذي تم في 25 يوليوز 1988.كما تم إنشاء مؤسسة الوسيط الإداري في 10 دجنبر 1992 وتعد هذه الخطوة مهمة على درب الإصلاحات الدستورية. ثم العدول عن الرئاسة مدى الحياة بموجب التنقيح الدستوري عدد 88 ل 25 يوليوز 1988، وأصبح الفصل 38 من الدستور ينص على :"... ويجوز لرئيس الجمهورية أن يجدد ترشحه مرتين"، كما حددت كذلك السن القصوى التي تحرم كل من تجاوزها من إعادة ترشيحه، وبذلك لم تعد الرئاسة في تونس حكرا على شخص واحد لتدخل بذلك تونس عهد التعددية في الترشح للانتخابات الرئاسية، ومع ذلك فإن فترة الرئاسة يمكنها في هذه الحالة أن تمتد على طول خمسة عشر سنة كاملة، وهي فترة طويلة نسبيا لا تلعب سوى لصالح رئيس الدولة. بعد كل هذه المسيرة الطويلة في التاريخ الدستوري التونسي، وبعد كل هذا الأخذ والرد بين تجديد مدة صلاحية الرئاسة من عدمه، يأتي التعديل أو التنقيح الأخير ليعيد التاريخ، ويسترجع نقاد الأمس وضعا طالما نادوا بتصحيحه، وتمكنوا من ذلك فعلا، لكن لم يستمر ذلك المسار التصحيحي أكثر من 16 سنة منذ تغيير السابع من نوفمبر 1987 ليعود اليوم الاستفتاء الدستوري ل 26 ماي 2002 لينص في فصله 39 على:" ينتخب رئيس الجمهورية لمدة خمسة أعوام.. ويجوز لرئيس الجمهورية أن يجدد ترشحه"، كما أصبح من حق أي شخص سنه تقل عن خمسة وسبعين عاما التقدم للانتخابات الرئاسية، كما نص على عدم مسائلة الرئيس لا جنائيا ولا مدنيا ولا سياسيا، كما أحدثت غرفة ثانية بالبرلمان أطلق عليها"مجلس المستشارين"، ليضطلع أيضا بدوره إلى جانب الغرفة الأولى، وبالرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت للرئيس " بن علي" حول هذا الإصلاح من قبيل رغبته في البقاء في الحكم أطول فترة ممكنة، وكذا إعادة بعث مؤسسة الرئاسة مدى الحياة. ونصت المادة 46 من الدستور التونسي على ما يلي :"لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الجمهورية و أمن البلاد واستقلالها، بحيث يتعذر السير العادي لدواليب الدولة اتخاذ ما تحتمه الظروف من تدابير استثنائية، بعد استشارة الوزير الأول ورئيس مجلس النواب. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية، حل مجلس النواب، كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة" في بداية الثمانينيات، كان يبدو على النظام السياسي في تونس، أنه يسير نحو الاستقرار السياسي النسبي، وإن كان ظاهريا على الأقل فكانت ثمة خطوات نحو تعددية حزبية بدأت في شهر نوفمبر 1983 عندما أعطت الحكومة التونسية الترخيص القانوني لحركتي سياسيتين معارضتين تجاوزا وهما حركة الديموقراطيين الاشتراكيين بزعامة أحمد المسنتيري، وحركة الوحدة الشعبية بزعامة عمر بلحاج، خرجت الصحف التونسية مرحبة بهذا القرار التاريخي. غير أن مجريات الأمور في الشارع التونسي صارت في اتجاه مغاير تماما، فلم يكد يمر شهر ونصف على قرار التعددية الحزبية (المشروطة والمحدودة) وعلى إثر قرار الحكومة التونسية برفع الدعم عن الحبوب، الذي أدى إلى رفع سعر الخبز إحدى السلع الأساسية للشعب التونسي، إلى أكثر %100، خرجت الجماهير التونسية معلنة وبعنف رفض قرار الحكومة وطالبت بسقوط محمد مزالي الوزير الأول في الحكومة آنذاك، فمنذ استقالة العزيز الأصرم وزير الاقتصاد في 14 أكتوبر 1983 احتجاجا على موقف الحكومة بوقف الدعم على رغيف الخبز والحبوب كانت الفرصة مواتية أمام محمد مزالي لكي ينفذ خطته، ففي عام 1981 وضع وزير التخطيط والمالية آنذاك منصور معلي مخططا اقتصاديا بهدف تخفيض الديون، وتخفيض العجز في ميزان التجارة الخارجية وتخفيض التضخم، وبالتالي الحد في الاستهلاك ومن الاستيراد، والزيادة في التصدير وضغط النفقات الاجتماعية، وعليه طالب بإلغاء صندوق الدعم وكان ذلك بناءا على رغبة صندوق النقد الدولي، وكان منصور معلي يرى أن يتم رفع الدعم تدريجيا أي خلال أربع سنوات، وكان يؤيده في ذلك عبد العزيز الأصرم، غير أن محمد مزالي رفض خطة معلي وتمت إقالة منصور معلي ثم بعده الأصرم، ولكن محمد مزالي عاد وطبق نفس الخطة بناءا على طلب صندوق النقد الدولي، مع الفارق أن مزالي أراد أن يطبق خطة رفع الدعم عن الحبوب ومشتقاته دفعة واحدة، والذي يشكل نحو72% من ميزانية صندوق الدعم الحكومي المعروف في تونس بصندوق التعويض. غير أن التحفظات التي تمسك بها بعض أعضاء البرلمان على خطة مزالي، سرعان ما تحولت إلى رفض الخطة وحذرت الحكومة من الآثار الخطيرة التي قد تترتب على إصدار القرار برفع الدعم عن الخبز ومشتقاته، والأمر الذي قد يؤدي إلى تذمر شعبي، ولكنه لم تتوقع أن يؤدي إلى انتفاضة شعبية بهذا الحجم تهز كيان النظام وتهدر الحكم والاستقرار السياسي. حيث عمت هذه الانتفاضة في بعض مدن الجنوب الغربي، ثم امتدت إلى الجنوب بكامله وسرعان ما شملت أنحاء البلاد. وفي 2 يناير 1984 تدخلت قوات الأمن والجيش لمواجهة الموقف والحد من الخسائر. وفي 16 يناير أعلن الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة عن إلغاء القرارات الخاصة برفع الدعم عن الحبوب وبذلك انتهت حالة الطوارئ في البلاد. فالفكرة الديمقراطية التي تبنتها النخبة التونسية منذ بداية الثمانينيات، والتي سبقتها صراعات اجتماعية وسياسية وحتى عسكرية بين الحكومة التونسية وحزبها الحاكم من جهة، ومختلف أشكال المعارضات من جهة أخرى، ومخاضات عسيرة حول مفهوم الديمقراطية وآليات تطبيقها، ومدى ملاءمتها مع البيئة التونسية، ظلت عرضة للأخطار،و الانتكاسة، والتراجع، بسبب تقييد الحكومة الصارم للحريات الأساسية، وعدم اتجاهها نحو الحد من سلطة الدولة على الأفراد، وبقائها أسيرة المصالح الخاصة، للأوليغارشية الطائفية الأمنية والحزبية الحاكمة، ذات المنشأ الاستبدادي. هناك عوائق بنيوية ً تقف بين التحرر الوطني وانتصار الفكرة الديمقراطية والحريات في بلد لا يزال يحبو على طريق الحداثة، مثل تونس، الذي على الرغم من أنه عرف نموا ً كبيرا ً لحركات اجتماعية منذ فجر الاستقلال، فإن هذه الحركات المجتمعية القوية القائمة مثل الإتحاد العام التونسي للشغل، والحركة الطلابية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وجمعيات المحامين والقضاة، لم تستطع أن تكون مجتمعاً مدنيا ً قادرا ً على الصمود أمام وطأة الدولة، وعلى التفاوض مع هذه الدولة، وبالتالي على تزويد المجتمع السياسي باستقلاليته الفعلية. قد تكون تونس من بين البلدان العربية القليلة التي تنعم بالتجانس الديني والإثني، إذ إن الدين السائد هو الإسلام، والمذهب السائد هو المذهب المالكي السني، ولا وجود لمذاهب أو طوائف أخرى. لكن في تونس، ومنذ الاستقلال، برزت فيها نخبة مناطقية مستجدة أخذت تنمي وتعبىء هوية حزبية ومناطقية ضيقة وتضعها في خدمة مصالحها الفئوية أو في خدمة الاستبداد المنظم لعملية التحديث. وهي نخبة ليست ديمقراطية لأنها غير منتخبة من الشعب، وتمثل رهطاً من الفاسدين واللاهثين وراء مصالحهم الخاصة، وهي مقتنعة بمواصلة المعركة ضد المعارضة السياسية على اختلاف أطيافها، لا سيما الإسلامية منها، وخوضها بمعونة شعارات وأساليب شمولية إقصائية. ويصح في تونس أكثر من أي بلد آخر القول المأثور: كما تكونوا يولى عليكم! فالمشكلة أن النخبة التونسية لا ثقافة ديمقراطية لها ولا تقاليد راسخة في ممارستها. والحقيقة، أن الديمقراطية تبدأ بإرساء نظم علاقات ديمقراطية وممارستها مؤسساتيا كما تتطلب التغيير في العقليات والتكوين النفسي، لا بالشكل فحسب ولكن أيضا بالمضمون. ومن الأفضل للسلطة السياسية التي ترفع لواء الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان أن تبدأ بممارسة هذه القيم داخل أطرها المؤسساتية، لأن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه. وهذا ما هو ليس حاصلاً وربما لن يحصل. وتعتمد الحكومة التونسية على خيار تشديد القبضة الأمنية على المجتمع، وتركيز كل جهود السلطة عليه، ما دام ضبطه أمنيا كفيل بامتصاص الأصوات الشاذة المطالبة باحترام الحريات العامة. ولأن ضبط المجتمع شرط توطيد الأمر القائم، لاسيما بعدما تعالت أصوات داخلية تطالب بإحداث نقلة نوعية عبر القيام بإصلاح ديمقراطي جدي وعميق للحكومة، ومعالجة الأزمات التي يجب أن تعالجها تونس بجهود أبنائها، في الموالاة والمعارضة، والذين لن يتمكنوا من مواجهة التحديات بغير تحول نظامهم السياسي نحو الديمقراطية، يعترف بحقهم في الحرية، وبحق أحزابهم في الشرعية والعلنية، ويقوم على نمط من الإدارة والتنظيم يستند على مشاركة المواطن في الشأن العام، دون قيود تبطل حريته أو تتعارض معها، ويسمح بمراجعة سياساته الداخلية والخارجية، وبتحويل الدولة من دولة حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم إلى دولة حق وقانون، دولة الكل الاجتماعي تخص كل واحد من مواطنيها. غير أن الحكومة سعت إلى نشر كاريكاتير الديمقراطية هذا، والتبشير به كديانة جديدة للمجتمع التونسي. وهو ليس ديمقراطية الإغريق التي تفترض مشاركة جميع الرجال الأحرار في حكم المدينة، إذ كانت ديمقراطية مباشرة تتوزع فيها المهام والمسؤوليات في مزيج من القرعة والانتخاب كما كان للمواطنين الحق في التصويت وتقديم المقترحات في الجمعيات الشعبية.و حين نتفحص ديمقراطيتنا وفائدتها في تونس، نجدها تقتل الذات الفاعلة التي تعتبر الديمقراطية شرط وجودها السياسي.فالديمقراطية الحقة هي التي تكون في خدمة الكائنات البشرية، بما هي ذوات فاعلة، أي بما هي صانعة لنفسها، لحياتها الفردية،و لحياتها السياسية والثقافية. فالنظرية الديمقراطية ليست سوى نظرية الشروط السياسية اللازمة لوجود ذوات فاعلة. إن الديمقراطية الحقة هي تلك التي تقوم على اعتراف الحكومة التونسية بضرورة إعادة النظر في بنية الدولة الأمنية السائدة حاليا ً، لجهة بناء دولة المؤسسات، دولة كل المواطنين، لا دولة أجهزة أمنية، وحزب واحد، أو دولة أفراد مهما كبرت أدوارهم التاريخية. ويتطلب بناء الدولة الحديثة،أن تطلق الحكومة حواراً وطنياً واسعاً طال انتظاره حول قوانين الدولة الوطنية الحديثة، بدءاً من قانون الأحزاب والجمعيات إلى قانون المطبوعات إلى قانون الأسرة وغيره، فضلا عن بناء المؤسسات المجتمعية المقتنعة بالحريات الفردية والعامة، وضمان ممارستها في المجتمع، وعدم كبحها. والحريات الفردية والعامة لا يمكن أن يكون لها وجود عياني ملموس مالم يكن المحكومون قادرين على اختيار حكامهم بملء إرادتهم، ومالم يكن الشعب قادرا على المشاركة السياسية في إيجاد المؤسسات السياسية والقانونية والمجتمعية، وفي تغييرها. فهذا النوع من الديمقراطية مكبوح في تونس بألف معيار سياسي وأمني واقتصادي ومالي. فما فائدة من الديمقراطية السياسية التي لا ترتكز على ديمقراطية اجتماعية وثقافية. فهاهي الديمقراطية القائمة على مبدأ العدالة الاجتماعية تعاني الآن من الاحتقارفي زمن العولمة الرأسمالية المتوحشة، وتم قذفها إلى سلة المهملات الخاصة بالصيغ القديمة العهد لتترك المجال واسعا أمام السوق الاستهلاكية المنتصرة حتى الفجور. وحل محل فكرة الديمقراطية الثقافية فكرة لا تقل فجورا وهي الثقافة الرأسمالية الاستهلاكية الجماهيرية: نوع من السيطرة الثقافية الأمريكية الاستهلاكية على باقي الثقافات. يخيل إلينا أننا نتقدم فيما نحن في الواقع نتقهقر ويصبح التحدث عن الديمقراطية أكثر سخفاً إذا ما استمررنا في ربط هذه الديمقراطية بمؤسسات حزبية وبرلمانية وحكومية من دون أن نتحقق من استخدام هذه المؤسسات للتصويت الذي أوصلها إلى سدة الحكم. إن الديمقراطية التي لا تمارس النقد الذاتي محكومة بالشلل...لا أجد لها صفات أخرى لأن الديمقراطية الحقة التي كالشمس تغدق أنوارها على شعوب يجب أن تبدأ من أقرب مكان إلينا، من البلاد التي ولدنا فيها والمجتمع الذي نعيش فيه والحي الذي نقطن فيه. إذا لم يحترم هذا الشرط وهو ليس محترما ً فكل النظريات السابقة أي الأساس النظري وآلية العمل الاختبارية للنظام تكون فاسدة. تطهير مياه النهر الذي يخترق المدينة لا يفيد إذا كان التلوث قائما ً في النبع. لقد تفاقم تدهور وضع الحريات في تونس إلى حد كبير منذ مطلع التسعينيات. فحقوق الإنسان التي تدَعي السلطة حمايتها ليست سوى وهم. والتعذيب شائع، إذ يقبع مئات السجناء السياسيين في سجون مكتظة، ويتعرّض المعارضون السياسيون، حتى الأكثر تساهلاً بينهم،لشتى أنواع المضايقات. ولا وجود لحرية الرأي والصحافة والتجمّع والتظاهر. الإضرابات ممنوعة وهامش الحريات النقابية ضئيل جداً لا بل معدوم، لاسيما في القطاع الخاص. ويتعرّض عامة الناس، خصوصاً الشبان، لقمع مستمر على يد رجال الشرطة: تطويق الأحياء والمدن، المراقبة، التوقيفات العشوائية، مداهمة الشوارع والمقاهي، خشونة واستبداد في الإدارات العامة... كل الوسائل مسموحة بهدف إخضاع الناس، وإقناعهم أن الحكومة القائمة هي حكومة ثابتة لا تتغيّر، والمخرج الوحيد هو في التواطؤ، من خلال الإذعان، مع شرطة موجودة في كل مكان ومطلقة الصلاحية. العبودية هي القاعدة السائدة. حتى إن التصرف والتفكير بطريقة مستقلة أصبحا محفوفين بالمخاطر. اختفى حس المواطنية التي يبدو أنها مجرد سراب بعيد المنال. فالحزب التجمعي الدستوري الديمقراطي هو الحزب الشمولي الوحيد في العالم الذي لا يزال يحتفظ بأصالة الحكم الشمولي، إذ طبع الحياة السياسية في تونس بطابعه،و سجل الدولة في السجل العقاري باسمه منذ نصف قرن بالتمام. وقد تحول هذا الحزب إلى جهاز أيديولوجي تستمد منه السلطة مشروعيتها الضرورية، إذ لا بد من مشروعية ما، وهو من ثم لا يقوم على حراسة "الأيديولوجية الحداثوية " للسلطة التونسية والذود عنها فحسب، بل يترصد "أعداء الشعب" داخل الحزب وخارجه، فيصير نسقاً لإنتاج المخبرين الذين هم حواس الجهاز ونهاياته العصبية، ونسقاً لإنتاج القيم غير الديمقراطية، وتعميمها، نسقاً لتنميط المواطنين، من أعضائه ومن غير أعضائه، وتحويلهم إلى كائنات توتاليتارية. والأيديولوجية، كما هو معروف، أحد أركان النظام الشمولي الثلاثة، الركنان الآخران هما القمع والإعلام. لقد كان خطاب بن علي خطابا عقائديا محنّطا مخشّبا قائم على سياسة راني فهمتكم. لا يتحوّل مع التحوّلات الاجتماعيّة. لا ينظر إلى المستقبل، بل إلى الماضي فقط. لا يبحث في حلّ المشاغل المستحدثة، بل يرجعك إلى إطار مرجعي عام عليك أن تجد فيه الحلول: وحدة الأمة، تطبيق الشريعة، انتصار البروليتاريا، تحقيق نقاوة عرق، العودة إلى مجد أمة... إلى غير ذلك من الشعارات المعروفة، والشيوعيين، والنازيين، والفاشيين، وغيرهم. هذا الخطاب لا يخدم الدّيمقراطية. إنه يعطلها. لا وفاق حول المبادئ والقيم. لا إمكانية للمفاوضة، لا إمكانية للاختلاف. كان هذا الخطاب هو السائد. لا خطاب غيره. كان في تونس خطابا رافضا، كان خطابا لا يخدم المعارضة، ولا يخدم التعدديّة. كان صراعا بخطاب مختزل، عقائدي. الحكم الشمولي، كما علمتنا جميع التجارب المشابهة في بلدان المنظومة السوفيتية السابقة، وفي بلدان العالم الثالث، إما أن يكون بتمامه أو لا يكون، والجهاز الأيديولوجي ركن أساسي من أركانه، وجزء رئيس من أجزاء منظومته. ولهذه، فإن الخيارات الأيديولوجية والسياسية للنخبة التونسية، هي تعبير عن مصالح طبقية محددة. فهل سيتخلى من يستأثرون بالمصالح والإمتيازات ونعم وحلاوة السلطة في تونس عن كل هذا إكراما ً لعيون "الشعب" وحباً بالإصلاح ورغبة في التقدم؟ يبقى في الأخير أن نشير إلى أنه رغم الإصلاحات التي حاول الرئيس "بن علي" جاهدا أن يدخلها على النظام ليفي بالوعود التي قدمها للشعب التونسي، إثر انقلابه الأبيض، والتي شكلت برنامج عمله، الذي على أساسه وضع فيه الشعب ثقته، لبناء جمهورية الغد، من إيلاء المؤسسات مكانتها وتوفير أسباب الديمقراطية المسؤولة في ظل حياة سياسية متطورة ومنظمة، وإعطاء مفهوم جديد للدولة في إطار العصرنة والحداثة، والإنفتاح، بالرغم إذن من كل هذه الأمور الإيجابية والتي توحي بالرغبة في التخلص من كل عيوب وشوائب النظام القديم، إلا أن تونس لم تتمكن بعد من تجاوز ظاهرة المأسسة الشكلية للحياة الحزبية، بسيادة التعددية وهيمنة الحزب الحاكم على مجموع المؤسسات والبنيات، وبالتالي تضيق الديمقراطية الحقة، وتتقيد الحرية السياسية، لتسود الديكتاتورية الحزبية. رحيل الرئيس التونسي ومغادرته البلاد جاء بعد شلل قبضته الحديدية على مجريات الأمور في البلاد وتفشي الفساد في البلاد فرغم ما حققته تونس من تنمية اقتصادية إلا أن ثمارها لم يستفد منها الشعب التونسي بل تركزت في أيد الطغمة الحاكمة. ورغم أن النظام في تونس كان حليفا مهما للغرب في الحرب على الارهاب ،لكن ذلك لم يكن سببا لكسب التعاطف الدولي خصوصا الأمريكي مع محنة الرئيس بن علي الذي رسم نظاما ديمقراطيا من روق. الدستور التونسي ينص ضمن فصله ال 57 على كون شغور منصب رئيس الجمهورية يفضي لاجتماع المجلس الدستوري بشكل فوري لتكليف رئيس البرلمان بتسيير مقاليد السلطة ضمن مدة أدناها 45 يوما وأقصاها 60 يوما تُعقب بتنظيم انتخابات رئاسية. الوضع الحالي في البلاد، ينطبق عليه الفصل 57 من الدستور، حيث يشير إلى عجز تام لرئيس الجمهورية، بما أنه غادر البلاد فارا، وينص على أن يتولى رئيس مجلس النواب مهام الرئاسة، لمدة 45 يوما. مجمل القول أن الانتفاضة التي اندلعت شرارتها من سيدي بوزيد كانت غير متوقعة من حيث التوقيت والمضمون والأشكال. وكان الحكم يعتقد أنه أفلح في استخدام الأساليب الوقائية التي فككت مصادر المعارضة السياسية والنقابية وسدت جميع منافذ التمرد وأقفلت المجال الإعلامي ومساحات الحركة التي كانت متاحة للمجتمع المدني. غير أن تلك العسكرة لم تؤد سوى لمزيد من العنف لدى فيضان الكأس بنزول قطرة انتحار الشاب بوعزيزي على سطحها. بهذا المعنى غيرت الانتفاضة وجه تونس لأنها فتحت الأفق أمام تغييرات سياسية ومؤسسية إذا ما اقتنصت المعارضة الفرصة التاريخية المتاحة بعد هذا الزلزال الاجتماعي غير المسبوق. ومن المؤكد أن المعارضة تذكر حصاد الصك الأبيض الذي أعطي للحكم الجديد بعد الإطاحة بالرئيس الراحل الحبيب بورقيبة سنة 1987، لما تتعاطى مع مستجدات 2011 وما سيتلوها. * باحث في العلاقات الدولية،الرباط الهوامش: - توفيق المديني، اتحاد المغرب العربي بين الاحياء والتأجيل، ،دراسة تاريخية سياسية، منشورات اتحاد كتاب العرب،دمشق، سوريا 2006, - فدوى مرابط: السلطة التنفيذية في دول من المغرب العربي، المغرب/الجزائر/تونس، موريتانيا، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، كلية الحقوق، جامعة محمد الأول، 2005. - فدوى مرابط: السلطة التنفيذية في بلدان المغرب العربي، دراسة قانونية مقارنة، سلسلة أطروحات الدكتوراه، (86)،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت،لبنان،آب/أغسطس 2010. - حميد حنون خالد الساعدي: الوظيفة التنفيذية لرئيس الدولة في النظام الرئاسي، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، كلية الحقوق، جامعة عين شمس، مصر، 1981 - أحمد إدريس: الوزير الأول في دول المغرب العربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق، الرباط ،1992 - سيدي محمد ولد سيد آب - الوظيفة التشريعية في دول المغرب العربي -منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية - سلسلة مؤلفات وأعمال جامعية - عدد 25 /2001 - محمد بوبوش: التكامل المغاربي: المعوقات والآفاق، في: صعوبات وآفاق تفعيل اتحاد المغرب العربي أشغال الندوة التي نظمتها كلية الحقوق بوجدة ومعهد الدراسات الافريقية جامعة محمد الخامس السويسي، ومؤسسة هانس سايدل، 21/22 أبريل 2008. - سيد عبد المجيد – اضطرابات الخبز في تونس وديموقراطية النخبة- السياسة الدولية –عدد76 –أبريل1984 –ص:137 -140 . - -P BALTA,Tunisie, Le creuset maghrébin, in le grand Maghreb des indépendance à l'an 2000, édition la découverte, Paris,1990,p73 - يمينة هكو المسؤولية السياسية للسلطة التنفيذية في دول المغرب العربي، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، كلية الحقوق، جامعة محمد الأول، 2005 - المختار بدري – قراءة في الانتخابات التونسية – قضايا دولية – أبريل .1994 - صلاح العقاد - البورقيبية ومستقبل تونس - السياسة الدولية - عدد27 يناير 1972 - النص الحرفي لإعلان المجلس الدستوري بتاريخ 15/01/2011 - الفصل 56 و57 من الدستور التونسي لسنة 1959, (نقح الفصل 56 بالقانون الدستوري عدد 51لسنة 2002 المؤرخ في 1 جوان 2002 ) ونقح الفصل 57 بالقانون الدستوري عدد 88 لسنة 1988 المؤرخ في 25 جويلية 1988 وبالقانون الدستوري عدد 51لسنة 2002 المؤرخ في 1 جوان 2002) - الصادق شعبان:النظام السياسي التونسي:نظرة متجددة،الدار العربية للكتاب 2005.