أزمة السلطة وأزمة القانون : إن الأساس المنطقي لهذه القضية يعبر عنه جوهريا بالعبارة التي تقول: حيث إنه قد وجدت مشكلة حقيقية في سن القانون- والمطلوب دائما هو طاعة القانون- فيجب ايجاد جهة معترف بنزاهتها لتقوم بسن القانون، حتى يتسنى للجميع طاعته! ولكن من هي هذه الجهة المنزهة؟ في الماضي لم يكن أحد منزهاً باستثناء الملك، فهو ظل الله على الأرض، وقد اعتقد لنفسه بالنزاهة وشاء أن يقوم بسن القوانين، الامر الذي جلب المتاعب، وفجر المشكلات المعقدة بينه وبين الكنيسة. فالملك من الناحية الوضعية يرى بأنه مصدر التشريعات والقوانين لأنه يجسد السيادة، في الوقت الذي لا ترى له الكنيسة كل هذا، وترى لنفسها الحق في النزاهة من حيث انها كنيسة.إن الصراع بين الملوك والكنيسة واضح وظاهر في جميع الأديان، وقد أخذ شكله حديثا في الصراع بين الساسة ورجال الدين، مما أدى إلى اضطرابات عنيفة أو حروب أهلية طاحنة، بسبب أن رجال الدين يعتقدون بقدرتهم على إرساء دعائم العدل تشريع القوانين العادلة، وتحديد الاخلاق الاجتماعية باستنباطها من الدين. في الوقت الذي يعتقد الساسة فيه بأنهم القادرون على ذلك لمعرفتهم بالاوضاع السياسية العالمية والقضايا الهامة المؤثرة في حياة الناس سياسة واقتصاديا واجتماعا، سلما وحربا، وغير ذلك مما لا يستطيع رجال الدين الالمام به بسبب انكبابهم على دراسة أديانهم وتعصبهم لها، وتكرارهم لما ورد بها. وهكذا لا مجال للحيلولة دون وقوع صراع عنيف بين رجال الدين والساسة، ما دام كل يدعى حق التحكم في غيره من الناس. وما داموا ينظرون إلى المشكلة من زاويتهم هذه التي حصرهم فيها اعتقادهم الطبقي، الذي يوضحه تسليمهم باحتكار السياسة واحتكار الدين. فهم لم يتساءلوا قط، كيف تسنى لمجموعة من الناس- احتكار الدين تحلل ما تشاء وتحرم ما لا تريد! وكيف تسنى لمجموعة أخرى احتكار السياسة.. لتقرر مصير الآخرين؟ إنه إرث ثفيل من الدجل.. والتخلف.. والانحطاط السياسي والاجتماعي. ولا مخرج منه إلا بالخروج من تلك الزاوية التي نظرت من خلالها الطبقات الاحتكارية، إلى مجال فسيح يسمح لعقل الإنسان بالعمل، ولطموحه بالامتداد، الأمر الذي لا مجال للوصول إليه إلا عبر الثورة الشعبية التي تصل الجماهير عن طريقها إلى السلطة، فتلغى بذلك الوصاية على الشعب الى الأبد، ويكون بامكان كل انسان أن يصبح مسئولا عن نفسه دينا ودنياً، حيث لا مجال يومئذ لوسيط بين الانسان والسماء، ولا بين الانسان والارض، فللجميع أن يفترشوا الأرض ويلتحفوا بالسماء، متساوين لا فرق بينهم، يجتهد كل لنفسه ويتحمل مسئوليته بنفسه. إن القانون الذي يضعه جانب من المجتمع كالكنيسة ورجال الدين أو الاحزاب السياسية أو المجالس النيابية أو الحكومات، هو في الواقع قانون زائف يجب أن تحرقه نار الثورة الشعبية، لأنه مجرد قيد صنع لتكبيل الجماهير واستعبادها، ولمنعها من تحقيق ذاتها، وهو إجراء ديكتاتوري غرضه أن يوهن قوة الجماهير الشعبية، وهكذا خسرت الانسانية كلها فرصة إقامة عالم تتحقق فيه آدمية الإنسان، بفعل هذه القوانين التي تسنها أطراف قوية من المجتمع لتفرضها على المجتمع وتقمعه بعد ذلك بها، كما لو أنها تنزيل مقدس من السماء لا يجوز لأحد الخروج عنه. إن الذين أتاحوا الفرصة للغزو الأجنبي، وربطوا أراضي الشعوب النامية بعجلة الامبريالية وقوى الاستغلال ومصالح الاحتكارات العالمية، هم أطراف من المجتمع رأوا أن مصلحتهم ترتبط بتلك القوى، فبادروا للارتباط بها، دون أن تكون شعوب هذه البلاد راضية عن ذلك، بل إنها تتضرر كثيرا من إطلاق يد تلك القوى في بلادها، ورغم ذلك لا يتسنى لأحد في هذه البلدان الرفض أو العمل على تغيير تلك الظروف السيئة، ويعاقب كل من يحاول القيام بعمل من شأنه الاضرار بمصالح الاستعمار والاحتكارات وقوى النفوذ الأجنبية، استنادا إلى قوانين سنتها أطراف هي جزء من المجتمع، جسدت نفسها وصيا على الشعب تسن القوانين وتطبقها عليه، وتتعامل مع من تشاء بالطريقة التي تشاء، دون أن تعير انتباها مهما كان بسيطا لمجاميع الناس الذين عليهم أن يعبروا كل يوم عن ولائهم للجهة المسيطرة صاحبة السيادة في المجتمع.وحتى إذا قدر للناس أن ترى تلك المنظمات الصديقة لها، فهي مرغمة أن تنعتها بأنها.. المنظمة الشعبية.. وحزب الشعب والجبهة الشعبية.. والديمقراطية.. إلى غير ذلك من النعوت التي يعرف الناس بأنها لا تعبر في الواقع إلا عن نقيض الشعب. ذلك أنها ليست سوى الزعيم الأوحد.. والملك الملوك وكائن المتفوق"سوبرمان".. والطليعة والصفوة. إنه لا سبيل إلى تحقيق الحرية والديمقراطية.. والشعبية، إلا بالشطب على هذه الوضعية كلها بالقضاء على أدوات الحكم التي انتزعت حق التشريع وحق السيادة من الجماهير انتزاعا بالقوة، وإعادة هذا الحق للجماهير الشعبية، لينتهي التزييف ويصبح كل شيء حقيقيا، وتصير الحياة جديرة بأن يحياها الانسان، فتصحح المقولة المغلوطة المكتوبة في أوراق حقوق الانسان التي تنص على حق الحياة للإنسان، لتصبح حق الحياة الجديرة بأن يتمتع بها الانسان. إن الحرية والكرامة حق طبيعي من حقوق الإنسان كمثل حق البقاء تماما، ولا يمكن أن يحل حق البقاء محل بقية الحقوق الطبيعية للإنسان. * إن الفلسطينيين الذين يعيشون تحت ظروف الاحتلال الذي يمارسه الغزاة لبلادهم، لا يحيون حياة جديرة بأن يحياها الإنسان، ر غم أنهم مازالوا على قيد الحياة، كما تنص وثيقة حقوق الانسان. إن الحق المنطقي الذي يجب أن يحوزه الفلسطينيون والحال هذه هو الموت، لأنه أشرف لكرامتهم من حياتهم المهينة تحت الاذلال الذي يمارسه ضدهم المحتلون الغزاة. ولذلك فهم يثورون، فإما أن يموتوا وإما أن يصلوا إلى حياة جديرة بالانسان. * إن الشغيلة يرفضون أيضا حق البقاء هذا الذي يمنحه لهم المجتمع عندما يحل كرب عمل بدلا عن رب العمل الرأسمالي، ويثورون على العلاقة الظالمة التي تجعلهم يتنازلون عن انتاجهم ولا يأخذون إلا ما يبقيهم على قيد الحياة ليواصلوا العمل لصالح رب العمل الجديد. فإما أن تكون الحياة جديرة بالانسان ليتمتع بها أو يكون الموت أفضل منها، وهذا ما يؤدى بأولئك الذين يعيشون أوضاعا سيئة ومتردية إلى القيام بالثورة، بل ان هذا هو سبب القيام بالثورة من الناحية النفسية. * انك تجد أفرادا يعيشون من الناحية المادية حياة رغيدة، لكنهم لا يعيشون رغم ذلك حياة سعيدة، لأنهم يعانون من الناحية المعنوية ظروفا مهنية. مما يدفعهم إلى التضحية بأوضاعهم المادية مقابل النجاح في تحقيق انتصارات معنوية لهم، دون أن يبالوا بالفقر والجوع، الذي يرتبه التدهور المادي، بل إنهم يفضلونه على حياتهم المادية المترفة حين يجدون ظروفا معنوية تحترم الانسان ولا تحرم من حريته وكرامته التي يراها أهم مقومات وجوده في الحياة. * إن ذلك هو ما يدفع الثوريين وأنصار الحرية والتقدم في العالم، إلى مقاومة الارهاب الدولي الذي تمارسه الامبريالية الامريكية على الشعوب، مع ما في ذلك من خسائر مادية مؤكدة، ومن تضحية، لأنهم يرون الحياة ذليلة ومقلقة وغير مرضية وليست جديرة بالانسان، حين لا تتوفر فيها حقوق الشعوب وحرياتها وصيانة مقدساتها، وكرامة أفرادها، فيخوضون الحروب الطويلة ذات التكاليف الباهظة ليصلوا إلى تحقيق طموحاتهم في خلق حياة جديرة بالتمتع بها.وهنا تكون الحاجة ماسة للثورة لتحقيق هذا الطموح وهو ما ندعو إليه الجماهير، لتقوم وحدها بفعل التغيير الثوري، وتحول دون قيام الادعياء من السلطويين والفاشيين والانتهازيين بادعاء تمثيلهم لها وحرصهم عليها.. أو ادعائهم الاحساس باحساساتها، وحرمانها من تأكيد ذاتها.إنه إذا استوعبت الجماهير وقواها الثورية هذه الفلسفة الجماهيرية الجديدة، فإن معنى هذا هو أن عصر الجماهير قد افتتح فعلا.. وقد وضع حجر الأساس لنظام الديمقراطي الحقيقي القائم على سلطة الجماهير الشعبية مباشرة. إن الجماهير الشعبية تكون قد حققت نصرها في المعركة التاريخية الطويلة، التي كانت تخسرها دائما في الماضي رغم تقديمها التضحيات العظيمة من أجل النصر. وهكذا للمرة الأولى تحسم نتيجة معركة الحياة لصالح الجماهير الشعبية فتتحقق حياة جديرة بأن يحياها الانسان، الذي تكون كل المقدرات السياسية والاقتصادية والعسكرية في يده. تلك المقدرات التي يعنى سلبها من يد الجماهير، إصدار حكم باستعبادها لصالح الذين استطاعوا سلب هذه المقدرات. وسيكون الذين سلبوا هذه المقدرات اعداء للجماهير الشعبية بغض النظر عن دعايتهم التي سمحوا لأنفسهم بترويجها واستغلالها في ذلك. فسوف يصطدمون بالشعب كلما سلبوا منه سلطته أو ثروته أو سلاحه. وليس للشعب سوى أن يستولي على السلطة أو يقاتلها حتى يدمرها ليخلق من بين اشلائها كيانه الحر السعيد. ولا يمكن للشعب أن يقبل نيابة عنه أو هيمنة عليه، وسيظل يواصل الاصرار على الوصول إلى السلطة حتى يصلها فعلا. وما تشكيل الحركات السياسية والثورية المختلفة وسير آلاف الناس وراءها إلا تعبير عن سعيها المتواصل لتدمير سلطة غيرها عليها، والوصول إلى السلطة مباشرة. فكانت تلك الحركات السياسية والثورية ارهاصات فعليا للثورة الشعبية، ودليلا حقيقيا على جدية السعي الجماهيري للوصول إلى السلطة، حيث يصبح رجل الشارع العادي هو السلطة الفعلية في وطنه وتسقط عنه كل الأدوات القهرية والقمعية التي تحد من فعله.إن مجرد تكوين حزب ومحاولة الوصول إلى السلطة عن طريقه، والوصول إليها فعلا، يدل على أن الجماهير الشعبية تريد الوصول بالفعل إلى السلطة.. وهى بالتالي تتجه كل يوم نحو سلطة وإن كانت لا تمتلك الصيغة العملية لممارستها، لأنها لم تكن تعرف المؤتمرات الشعبية التي تقرر، والجان الشعبية التي تنفذ، مما يجعلها تحجم في كل مرة عن انتزاع السلطة والاحتفاظ بها في يدها، وتبادر إلى إيداعها بيد الأجهزة المستعدة لاستلامها كالأحزاب وغيرها. ولكن بظهور الجان الثورية، وجدت الجماهير الشعبية محرضها الذي سيجعلها تتمسك بالسلطة دون أن تقبل تسليمها تحت أي ظرف، حيث ستقوم اللجان الثورية بتعليم الجماهير أسلوب الحكم الشعبي وأساليب تدمير السلطات التقليدية القاهرة للجماهير. وهكذا ستفرز الجماهير الشعبية القادرين على السير وفق أهدافها، وستكون جاهزة للانقضاض على أعدائها، وقادرة أيضا على إيجاد الطريق المرحلي الذي تنهجه للوصول إلى تلك الأهداف. لقد كنا نرى في الماضي افرادا يقومون بأدوار كان يجب أن تقوم بها الجماهير.. ثم صار الأفراد أحزابا طليعية، واتسعت هذه الطلائع التي تفرزها الجماهير أمامها كمقدمات لتأمين الطريق لها، فتعددت الأحزاب وتكونت الجبهات السياسية الواسعة، وصار من النادر أن ينفرد حزب بالسلطة. إن وراء هذا الاتساع في العمل السياسي الجبهوي والتعدد الحزبي، ارتفاعا لوعى الجماهير وقدرتها على الحركة باتجاه الاستيلاء الكامل على السلطة. إن تثويرا قاعديا جذريا يكمن وراء الاتساع الذي نلاحظه في العمل السياسي العالمي الذي يتسم بالسلمية بدرجة كبيرة. وهو مخاض للثورة الشعبية، التي نعتبرها تكامل التفاعل لوعى الجماهير وطموحها، وأسمى ما تحققه من انجازات في طريق انعتاقها، حيث تتوج بها جميع مراحل نضالها، مسجلة انتصارها التاريخي باستيلائها على ا السلطة والثروة والسلاح، وهو ما تبشر به النظرية العالمية الثالثة الإنسان المعاصر. إننا لا يمكن أن نطعن في أولئك الأفراد الذين جعلوا من انفسهم قنطرة العبور للجماهير نحو أهدافها في السيادة والسعادة.. كما لا يمكن أن نطعن في تلك المنظمات السياسية أو النظريات التي خاضت كفاحا مشرفا على طريق إيصال الشعوب إلى السلطة، وإنما نعتبرها مراحل تاريخية، خاضتها الجماهير معارك أساسية، لتصل إلى بغيتها الفعلية. غير أننا لا نرى لأحد الحق في تمثيل الجماهير وإدارة المعارك نيابة عنها، كما لا نضفي إطار الصدق والمنطق على ادعاءات أولئك الذين يعتقدون بقدرتهم على الاحساس نيابة عنها أو مقدرتهم لاستكناه وجدانها والتعبير عن أمانيها. إن أي فرد- مهما كان مخلصا للجماهير-وأية جماعة، ليس لأي منهما القدرة إطلاقا على التعبير عن أماني الجماهير والإحساس نيابة عنها.. ولا يحق لأي منهما أن يتقمص سيادة الشعب. إن ضروب الدجل التي تواصلت لتقنع الناس بقدرة أشخاص أو طليعة من الاشخاص على الاحساس باحساسهم، والتعبير عن امانيهم، لم تجعل الناس يؤمنون بحق أي كان في التمتع بالسيادة نيابة عنهم وحرمانهم من حقهم فيها. فلم تفلح جميع ضروب الدجل في اقناع الأفراد ليقروا بعدم أحقيتهم للسيادة. فالسيادة مسألة ذاتية تتحقق للأفراد كل بذاته، فإذا لم تتحقق للأفراد، فهي لا يمكن أن تتحقق خلافا لذلك. وهذا لا يناقض أبداً قيام أفراد معينين بتنفيذ إرادة الجماهير حين يكون هؤلاء الأفراد مؤهلين لذلك وقادرين عليه، ومطلوبا منهم القيام به. كما تفعل اللجان الشعبية التي تختارها الجماهير من بين القادرين على تأدية الاعمال التي تريد الجماهير انجازها وتكلفها بتنفيذ برامجها، وتتابعها وتحاسبها. ولها صلاحية إلغائها واستبدالها. مثال:- حين يقرر مؤتمر شعبي أساسي بناء مدرسة فإنه يكلف مجموعة من المهندسين وعمال البناء ببنائها. فالقرار من الجماهير، وهو إرادتها الحرة، وقد رأت أن أعضاء المؤتمر ليسوا قادرين جميعا على القيام بهذا العمل، الذي يحتاج تخصصا وخبرة ومقدرة، ولكن هذا العدد من المهندسين والبنائين يملك الكيفية التي يستطيع أن ينفذ عن طريقها إرادة الجماهير. فالنيابة لا يمكن أن تكون حيث الارادة والسيادة حق لكل الناس. ولعل المغالطة الكبرى في هذا هي استغلال المقدرة التي تتوفر لدى بعض الافراد، ليقال بعد ذلك، بعدم قدرة الناس على ممارسة إرادتها وسيادتها، والصحيح هو:إنه"لا نيابة عن الشعب والتمثيل تدجيل". لأنه لا قدرة لأحد على التعبير عن أماني الجماهير، هذا مع الاقرار بوجود القدرة لدى أفراد على تنفيذ رغباتها المعلنة. فلا يستطيع أحد الدخول إلى ذات جميع الأفراد، كل فرد على حده، ليشعر بمشاعرهم ويحس باحساسهم، أما حين تعبر الناس عن مشاعرها وتعلن أمانيها، فإن الأفراد الذين يملكون القدرة على تنفيذها يكون وجودهم لازما لذلك. ولقد استخدمت النظم السياسية الخلط بين صياغة الأماني الشعبية- التي هي حق الشعب نفسه-وبين القدرة على تنفيذها، لغرض فرض ديكتاتورية تنتزع حق الجماهير في ممارسة سيادتها على مقدراتها بحجة عجزها الفني عن تنفيذ البرامج المترتبة على قراراتها السيادية. ورغم هذا الخلط المقصود أحيانا، فإن الفرق وأضح ولا يحتاج إلى كثير تمعن لإدراكه، فحين نطلب إلى الناس انتخاب نائب عنها، إنما نقوم في الواقع بتزوير إرادتها وتزييف المعادلة المطروحة بجملتها.. حيث إن معنى هذا الانتخاب هو إن الشعب غائب أو غير قادر على ممارسة السيادة وان هذا الشخص المنتخب يستطيع معرفة ما يدور في أذهان العاجزين عن ممارسة السيادة وهو يشعر بمشاعرهم ويحس بإحساسهم، فيحكم نيابة عنهم. إن هذه الفكرة هي أساس الديمقراطية المعاصرة، وهي سبب فشلها أيضا، فها هي تحتضر مخلفة وراءها حربا شنيعة بين الشعوب، وصراعا اجتماعيا داميا بين الطبقات، وانهيارا شديدا لحضارة الإنسان، وخطرا أكيدا يتهدد حاضر العالم ومستقبله. إن برلمانات أوربا وحكوماتها حين توافق على نصب الصواريخ الاستراتيجية وتوزيع الأسلحة الذرية وربما قنابل النيترون الامريكية في بلدان غرب أوربا، تواجهها في نفس الوقت جماهيرها الشعبية بالرفض والاستنكار والمظاهرات، مما يجعلنا نتأكد فعليا بأن الجماهير في واد وحكامها ونوابها في واد آخر، وانه لا علاقة بين قرارات البرلمانات والحكومات وبين إرادة الجماهير ورغباتها. حيث يقوم الحكام والنواب بتنفيذ سياسة ليست سياسة الجماهير الشعبية، وحتى حين تقوم الجماهير بالرفض والاستنكار لا تواجه الا بالاستهزاء والقمع. إنه لا مصلحة لشعب من شعوب أوربا في نشر قواعد الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية من ذوات المدى المتوسط ولا غيرها من أسلحة الدمار الشامل التي تخزن في أراضى الشعوب الاوربية. ولا مصلحة لأي شعب في توزيع القواعد العسكرية على خريطة وطنه ليفقد بعد ذلك حريته ومصالحه الوطنية. ولكن الأحزاب الحاكمة في تلك البلدان، والقوى المتسلطة على جماهيرها الشعبية هي التي تقرر ذلك وتنفذه كترتيبات خاصة بها وسياسة مقررة لديها لمصالحها الذاتية، ولو كانت ضد وجود الجماهير ذاتها. إن هذا لا يجب أن يختلط منطقيا مع اختيار الجماهير الشعبية لموظفين يملكون المقدرة على تنفيذ رغباتها التي اعلنتها بنفسها بشكل مباشر ومحدد. كما لا يجب أن تستمر المغالطة التي تخلط بين القدرة على تنفيذ أماني الجماهير، وبين الادعاء بمعرفة النواب لأمانيها نيابة عنها بعد إرغامها على الغياب. وهكذا نسمع بأن الجماهير تحب الزعماء والحكام، ولا تتردد في تقديم نفسها للموت من أجلهم، لماذا؟ وتكون الإجابة دائما: لأنهم يعبرون عن أمانيها، ويحسون بإحساسها.إن هذا بالنسبة للعالم المعاصر يعتبر أمرا عاديا تقرأه كل صباح عبر الصحافة وتسمعه من الاذاعة، ويواجهك عبر المنشور السياسي، الذي يؤكد بأن حزب كذا، أو الزعيم الفلاني هو الذي يحس بإحساسكم ويعبر عن أمانيكم.."إن الزعيم يشعر كما تشعرون ويحلم كما تحلمون" إنه دجل مفضوح في الحقيقة، إذليس بإمكان أحد أن يحس باحساس أحد آخر ولا يحلم باحلامه ولا يتمنى نفس أمانيه. ولكن عالمنا المعاصر وهو عالم الدكتاتورية لاشك، يجد تبريرا لها، رغم ارتفاع مستوى الوعي لدى الناس، ورغم ما تم إحرازه من إنجازات علمية عظيمة..ومن الطبيعي أن تشعر الجماهير المضللة والتي جرى استغفالها، بأن حكامها يشعرون لها أو يتمنون عنها، ولكن أولئك الحكام لا يمكنهم أن يصدقوا دجلا كهذا.. أو ينطلي عليهم. إن اعتي الدكتاتوريين والفاشيين هم أولئك الذين توهموا أن مثل هذا الامر قد يتحقق لهم، فكانوا لفرط غرورهم يعتبرون أنفسهم هم الجماهير.. ويعتبرون الجماهير العدو الأساسي للجماهير نفسها. فإذا ما تحول الزعيم إلى معبود للجماهير أو إله لها، فإن الجماهير هي الخاسر الوحيد..إن خسارة الأمة الألمانية كانت بسبب تأله هتلر.. وخسارة الجماهير الصينية كانت بسبب قناعات ماوتسى تونغ، التي سلم فيها بأنه قادر على الاحساس بإحساس الجماهير.. ولعل خسارة الجماهير العربية بعد موت عبد الناصر كانت بسبب قيامه بتحقيق مصالحها نيابة عنها، مما عودها على التسليم لآخرين، فقادها الآخرون إلى خسائر فادحة. هل يعبر الثوار عن أماني الجماهير؟ إن الثوار لا يدعون بأنهم يقومون بالثورة لأنهم يحسون باحساس الجماهير أو يعبرون عن أمانيها أو يحلمون باحلامها.. إن خطأ جسيما يحدث حينئذ، يتحول الثوار بعده إلى دجالين يستغفلون الجماهير بقصد السيطرة عليها والتحكم فيها. إن الثوار يؤمنون بأنهم لا يعبرون عن أماني الجماهير ولا يحسون باحساسها ولا يحلمون باحلامها. بل إن الجماهير تعبر بنفسها عن أمانيها وتحس باحساسها وتحلم باحلامها.. وتحكم نفسها دون قيود ودون وصاية أو هيمنة من أحد. إن دور الثوار دائما هو تمكين الجماهير من التعبير بنفسها عن تطلعاتها وأمانيها مباشرة، وحصر السلطة في يدها لتصدر قراراتها وتضع برامجها وفق ما تراه لنفسها، وتختار بعد ذلك بنفسها من ينفذ سياستها تنفيذا حرفيا، ويكون من حقها عزله ومراقبته وتوجيهه واستبداله بغيره.فيصبح الشعب هو الرئيس وهو الحاكم، ملغيا بذلك الحكومات التقليدية المتعارف عليها، والتي صار عليها أن تمارس الفشل مرات عديدة في اليوم الواحد، وتقدر نجاحها الوحيد بقاءها في السلطة مدة أطول. لقد حققت الحكومات التقليدية بقاءها في السلطة بالظلم والقهر وباستخدام القوة مثبتة أقدامها على هرم مرتفع من جماجم البشر، يجسد المعاناة التاريخية التي عانتها الجماهير الشعبية عقب فقدانها لسلطة على يد سارقيها من الحكام القاهرين أو المستغلين والدجالين.فلم يكن من السهولة اقناع الجماهير بالقهر والاستغلال، ولكن جميع أنواع الاستغفال والخداع البشرى وعمليات السلب للامكانات المادية والمعنوية كانت قد مورست ضد الجماهير لارغامها على حياة (بيولوجية) منحطة يتناولون فيها طعامهم الغث و يتكاثرون فقط، متخلين مرغمين عن حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية لصالح الحكام الهمج والدجالين، ليفرضوا ديكتاتوريتهم على العالم والتاريخ جميعا.. بل لنصل إلى عصر نرى فيه الحكومة التقليدية القهرية نموذجا اعتياديا ومناسبا دون حرج. لقد حقق حكام مثل" فرانكو" نجاحهم الوحيد وهو البقاء في السلطة إلى آخر حياتهم، ولكنهم بقوا بالحديد والنار.إن الانسان يقبل التطويع.. ويتقهقر إذا واجهه الموت بل هو قابل للافناء، ليبقى الحكام في الحكم بلا منازع، هذا هو النجاح من وجهة نظر الحاكمين، أما من وجهتنا فان ما نبحث عنه هو تحقيق حياة جديرة بالتمتع بها.. أم أن هذه الحياة مستحيلة؟. هل تتحقق آدمية الانسان.. أم أن ذلك بعيد المنال؟ هذه القضية هي جوهر الاختلاف بين أنظمة الحكم المتعددة عبر خريطة العالم وبين النظام الجماهيري. فلقد تعودت الناس الأسلوب القديم في الحياة السياسية، واعتقدت أنه النموذج الوحيد القابل للتطبيق، حتى إذا قدمنا النظام الجماهيري الجديد، لم يعد بالسهولة استيعابه وفهم قواعده فهما سليما، حيث الناس يقيسونه بمقاييس المجتمع التقليدي القديم، فلا يستسيغون مثلا أن مجتمعا يقيم دولة دون رئيس.. ودون حكومة حديدية متحكمة قاهرة فوقه.. فإذا تحققت ثورة تقدمية واتخذت نهجا جماهيريا، فإن الصفة التي تطلق عليها هي الدكتاتورية، تشبيها لها بالانقلابات التي تحدث في هرم السلطة ويطلق عليها لفظ ثورة. دون أن يكلف أحد نفسه مشقة الاطلاع على الطرح الفكري والتطبيق العملي للشعارات الجماهيرية المرفوعة التي تحدد.. بأن السلطة للشعب.. والديمقراطية هي الحكم الشعبي.. وإن البيت لساكنه. وإن الثوار الجماهيريين لا يؤمنون بأنهم يعبرون عن الشعب لكنهم يؤمنون بأن الشعب يعبر عن نفسه. وإن واجبهم هو تحريض الجماهير الشعبية على خلق الظرف التاريخي الذي يمكنها من التعبير عن أمانيها مباشرة واختيار من ينفذ قراراتها، وكذلك مساعدة الجماهير الشعبية ودفعها لتحقيق ذلك بالاستيلاء على كامل السلطة ومصادر القوة في المجتمع. إن الثوار الجماهيريين هم مجرد دعاة.. ومعلمين ومبشرين بحياة جديرة بالإنسان، ولائقة بحضارة نظيفة وسليمة يعيش الانسان في ظلها حرا وسعيدا. * وفي المجتمع الجماهيري يكون الشعب هو رئيس الدولة، فضد من تكون الاحتجاجات أو المظاهرات؟ وضد من تنظم الأحزاب السياسية؟ هل هي ضد رئيس الدولة، الشعب؟.. لسلبه سلطاته، وهو أمر لا يتجرأ أحد على اعلانه! أم هي ضد الثورة الجماهيرية؟ حيث يقوم الذين تضرروا من سيادة الشعب وهيمنته على مقدراته، بمحاولة ضرب الظرف التاريخي الذي مكن الجماهير من التحرر والتعبير عن أمانيها وأحلامها بنفسها، لينصبوا أنفسهم حكاما ومعبرين عن أماني الجماهير وأحلامها. إن العمل ضد سيادة الشعب وسيطرته على السلطة هو عمل خياني قذر لا مبرر له، إلا الانحطاط الأخلاقي والتدهور الروحي الذي يعانيه أفراد أنانيون، تدفعهم مصالحهم الخاصة، وجهلهم بالقيم الثورية والمثل النبيلة، التي تجعل أفرادا آخرين في المقابل يضحون بمصالحهم وبأنفسهم من أجل الجماهير الشعبية ولحماية سلطتها وتأكيد سيادتها. إن صراع الأدوات السياسية التقليدية على السلطة بأشكاله العديدة، من انقلابات.. ومظاهرات.. واطاحة.. واسقاط برلمانات.. وسحب ثقة من حكومات وتنصيب أخرى، هو صراع عابث لا جدوى منه، ولايهم الجماهير الشعبية في شيء اطلاقا، لأنه مجرد صراع سلطوي ببن أدوات سلطوية.. تديره لتنتصر فيه واحدة وتلغى الأخريات، بمعزل عن الجماهير الشعبية، التي سنكون خاسرا دائما لا أمل له في الخلاص. إن الصراع الجدي الوحيد هو صراع الجماهير الشعبية ضد جميع أدوات الحكم- من أفضل أداة حكم إلى أسوئها- بما في ذلك الأدوات الصديقة للجماهير. لأن الصراع لم يعد يستهدف فرز النافع من غير النافع من تلك الأدوات، ولكنه يستهدف ايصال الجماهير إلى السلطة وإلغاء سلطة الأدوات.إن انتصار أداة حكم ووصولها إلى السلطة يعني قيام الدكتاتورية وسقوط الجماهير الشعبية في فبضة سلطة ليست بيدها. فإذا كانت الأداة المنتصرة معادية للجماهير، فإن حكمها المعادي معروف منذ البداية ولاخلاف فيه، أما حين تكون الأداة المنتصرة صديقة للجماهير، فإنها ستمارس الدكتاتورية باسم الجماهير وباسم مصالحها وستفشل في تقمص هذا الدور حتما مما يقلبها إلى أداة قمع تصطدم بالجماهير عند بروز التناقض بين احساس الجماهير واحساسها. إن الأداة السلطوية الصديقة للجماهير تعتبر نفسها مسئولة عن الاحساس نيابة عن الجماهير، وإن احساسها وتطلعاتها جميعا لصالح الجماهير، والمنطقي هو أن للجماهير احساسها الخاص، بل من المستحيل أن يحس أحد باحساس آخر مهما كان قريبا منه. وحين تكتشف الأداة السلطوية أن احساس الجماهير مختلف عنها فهي تعتبره موقفا عدوانيا ضد السلطة الصديقة للجماهير وبالتالي عملا معاديا للجماهير، ومن هنا يتوفر المبرر لضرب الجماهير ذاتها. إن المشكل ليس صراعا مجردا بين أدوات الحكم الصديقة للجماهير والأدوات المعادية لها، بل هو صراع فعلى بين جميع هذه الأدوات- الصديقة والمعادية- من جهة، وبين الجماهير الشعبية من جهة أخرى. إن انتصار أية أداة حكم ووصولها إلى السلطة يعنى هزيمة الجماهير الشعبية، وبالتالي هزيمة الحرية والديمقراطية، لأن انتصار أداة حكم يعنى قيام الدكتاتورية، مهما كانت هذه الأداة صديقة للجماهير. أما إذا انتصرت الجماهير فإن ذلك يعنى انتصار الديمقراطية. ويكون واجب الثوار هو اذكاء الصراع. وتفجيره في كل مكان، ملقين بثقلهم وقوتهم إلى جانب الجماهير الشعبية مما يؤدى إلى هزيمة جميع أدوات الحكم، صانعين من هزيمة الدكتاتورية انتصار الجماهير الشعبية التاريخي وانتصار الديمقراطية. * إن هذا الطرح ليس جديدا من حيث المنطق التفسيري(الفلسفي) فهو أمنية الانسان وتطلعه منذ كان، ولو راجعنا وجهات النظر الفلسفية عبر التاريخ لوجدناها تحمل هذا المعنى أو شيئا مقاربا له.. فحتى(هوبز) الفيلسوف الانجليزي المعروف بمناصرته للملكية ضد الجمهورية، والذي تعتبره الدراسات الفلسفية والاجتماعية نصيرا للملوك ومعاديا للجماهير الشعبية، كان قد نادى في واقع الأمر بأن السلطة لا يمكن أن تتجزأ. وهو ما فسر له تفسيرا سطحيا، فاعتبر مناصرا للملوك، في حين أنه قال بعدم جدوى مشاركة الملك في السلطة.. ولقد وقف(هوبز) ضد البرلمان الذي شارك الملك تشارلز السلطة في بريطانيا بسبب تحليله الخاص عن عدم تجزؤ السلطة. وثبت بعد ذلك صدق تحليله حين أدى تجزؤ السلطة إلى حرب أهلية في بريطانيا.عرف(هوبز) أن الملك يجسد السلطة- في ذلك الوقت- وإنه لا فائدة من تقسيم السلطة وتدريجها بحسب الاختصاصات، لأن المسألة ليست كما يراها المحللون السياسيون، بل هي أعمق من ذلك كثيرأ، فالصراع الجاري حاليا كانت تفاعلاته قد تراكمت منذ أن تجزأت السلطة ببن الملك والنواب. والحل العلمي والسليم هو أن تمارس السلطة ككل من طرف جهة واحدة.. وحيث لم يكن الشعب مطروحا كأداة حكم في المجتمعات القديمة، وليس من الممكن أن يتنحى الملك لأحد، طرح هوبز الملك وحده أداة للسلطة. ولم يحظ طرحه هذا الا بتفسيرات سطحية وصمته بأنه مضاد للديمقراطية، لأنه مضاد للنواب!. وبأنه داعية للدكتاتورية بسبب دعوته إلى انفراد الملك بالسلطة، ولكن صار بإمكاننا الآن أن نقول بعدم تجزئة السلطة، وإن السيادة لا يمكن أن تتجزأ، وإن أية تجزئة لها هي تحطيم لها. ولكننا نطرح أن تتجسد السلطة والسيادة في الشعب، بأن تقوم الجماهير الشعبية بإلغاء أية أداة للسلطة من ملوك ونواب.. وأحزاب. ان الحزب جزء من الشعب وسيادة الشعب لا يمكن تجزئتها، فحين يدعى حزب بأنه يمثل السيادة فهو في الواقع يحطمها ويدمرها. فالسيادة تمارس كاملة.. أولا تمارس.. فإما أن تمارسها الجماهير، وتكون سيادة حقيقية وكاملة، أو تزيف بممارسة فرد لها أو بممارسة حزب أو جبهة أو مجموعة أحزاب. ان تحديد أداة السيادة تحديدا لا يقبل المشاركة هو الحل السليم، فلا توجد مشاركة شعبية في السلطة، فإما أن يمارس الشعب السلطة كاملة.. وإما أن يمارسها غيره.. ولا وسط على الاطلاق. فسيادة الشعب لا تتجزأ ولا يمكن التنازل عنها أو عن جزء منها. ولذلك يكون الحل العلمي السليم هو أن يمارس الشعب سيادته كاملة وينفذ سلطته مطلقة دون شريك له فيها. فلا يجوز مثلا أن يؤتى بفرد، ويمنح نسبة في السلطة والسيادة 25% مثلا لأنه ممتاز ومخلص أو متفوق. ولا يجوز أن يؤتى بجهة ما وتمنح أي قدر من السلطة مهما كان ضئيلا ومهما كانت الأسباب الداعية إلى ذلك. فإذا حدث شيء من هذا فليس سوى عبث لا يجب أن يستمر حتى ليوم واحد. إن رؤيا(هوبز) عن السلطة صحيحة من الناحية النظرية، فقد ثبتت استحالة تجزئة السلطة وتجزئة ممارسة السيادة. خاصة وإن الذين يمارسون السيادة سيتكفلون بسن القوانين، ومن المعروف في نظرية القانون(إن القانون تجب طاعته)، ويحاسب أولئك الخارجون عن القانون والمخالفون لنصوصه كمجرمين، وهى مشكلة معقدة أخرى تضاف إلى المشكلة التي ذكرناها وهي تجزئة السيادة. إن المواطن الخارج عن القانون والمتمرد عليه لديه المبررات التي تجعله يفعل ذلك، دون أن يسمح بوصمه بالأجرام وبالخروج عن العدالة. فلماذا يخرج المواطن عن القانون؟ فلو كان القانون شيئا جميلا، فلماذا لا يتبعه المواطن؟ إن المواطن حقيقة يحس بالتناقض بينه وبين القانون ويرى بأنه غير عادل، وبالتالي لا تجب طاعته وإنما يجب التمرد عليه ومخالفته. لكن القوانين تقول بارغام هذا المواطن على طاعتها، ولو بقطع رأسه واعدامه. إن اغتصاب الطاعة هنا رغم أنف الجماهير الشعبية هو يحد ذاته أزمة حقيقية لا يمكن تجاهلها في الفكر السياسي والاجتماعي. إن آلاف الناس يموتون كعقاب لهم على خروجهم عن القوانين، وهم يسألون لماذا يجب أن نطيع القوانين؟. فيجابون.. لأنها عادلة! إن الناس يسلمون معنا بأن(القانون يجب أن يطاع) ولكن هل معنى هذا أن القانون لا خطأ فيه؟ ولكنهم يقولون هل المطلوب منا مثلا:- أن نطيع تلك القوانين التي صنعها النواب والوزراء والحكام والأمراء؟ وباعوا بها أوطاننا وكرامتنا وحرياتنا، وصاغوا خلالها مصالحهم المادية مواد محددة وبنودا مبوبة.. ووضعوا أنفسهم في وضع الحصانة القانونية التي لا يجوز المساس بها لا قولا ولا عملا كالعبارة التي ترد عادة في بعض الدساتير" الملك مضون.. وغير مسئول" أو "ظل الله في الأرض" أو كتلك الاتفاقيات المجحفة التي تفرضها دولة كبرى على شعب صغير، أو كتلك القوانين السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.. التي تمايز بين الطبقات، وتجعل طبقة تعمل كعبد لطبقة أخرى وتضع أراضي الدولة كلها ملكا لطبقة محدودة من أفراد المجتمع. وقوانين العمل وعقود الايجار التي تمنح حقوق العمال والأجراء لآخرين لاحق لهم فيها... الخ. هل يطلب إلينا أن نطيع القوانين؟ هل أعمل عشر ساعات وأسمح لآخر وفقا للقانون أن يسرق منها خمساً؟ هل أسمح لنفسي بالبقاء في الصحراء بلا مأوى، وموارد بلادي كلها حكر على عدد محدود من الناس، فإذا حاولت الحصول على بيت، ساقوني إلى للمحكمة وحوكمت بالسرقة لأنني اعتديت على عمارة الرأسمالي، الذي يملك عشرات العمارات من ثروة بلادي وعرق عمالها؟.. كيف تطاع مثل هذه القوانين؟ إن الناس في الواقع لا يرون مبررا لطاعة القوانين سوى الخوف! وإذا لم يكن كذلك، فكيف نفسر قبول الناس للقوانين التي تصدر عن حزب يستولي على السلطة متضمنة أنه صاحب البلد بلا منازع؟. وإن رئيس الحزب هو رئيس الدولة وقائد الجيوش، الذي بيده مفاتيح كل شيء. ولو خالفه أي من المواطنين أو حتى استفسر عن هذه الوضعية غير المنطقية، اعتبر بالقانون متمردا ومعارضا ومعاديا. إن الخرف وحده هو الذي يجعل الناس تطيع القوانين رغم عدم اقتناعها بها. بينما تطالبهم كتب الأديان السماوية والوضعية وعلوم الاجتماع والتاريخ والنفس كلها، بطاعة القانون، لأنه عادل. ولكن الناس يعرفون بأن القوانين ليست عادلة. وقد وضعتها أدوات مشكوك بنزاهتها، وليست مؤهلة بطبيعتها لوضع قوانين عادلة. * فمن أين يأتي القانون العادل الذي تجب طاعته، ونعامل الناس وفقا لمضامينه؟.. إنه القانون الذي يصنعه الناس بأنفسهم لأنفسهم. فيضعون قوانينهم المعبرة عن مشاعرهم وأحاسيسهم والمتضمنة لأمانيهم وطموحاتهم. حاملة رؤاهم للحياة الخبرة التي يرغبون. وحين يصوغ الانسان القانون بنفسه ولنفسه، فإنه لا يجد مبررا لعدم طاعته، لأنه سيكون في نفس الوقت قادرا على تعديله وإلغائه أيضاً، فلا شيء يجبره على اتباعه سوى رغبته في تطبيق القانون ذاته. * ولكن كيف يتسنى ذلك من الناحية العلمية؟ أي كيف يمكن للجماهير الشعبية أن تصوغ كلها قانونها الذي تريده، لكي تطيعه؟ لقد أصبح هذا ممكنا من الناحية العلمية عن طريق المؤتمرات الشعبية، حيث تقسم الجماهير الشعبية نفسها جغرافيا إلى مؤتمرات شعبية، ويعرض الأمر عليها فيكون لجميع الأفراد حقهم في ابداء وجهات نظرهم، ليصاغ بعد ذلك قانون جماعي من خلاصة آراء جميع المؤتمرات الشعبية، فيكون هذا هو القانون العام الذي سيطيعه الناس لأنهم صنعوه لأنفسهم برغبتهم فلا يعارضونه ولا يتمردون عليه، ولا يشكون في مصدر تشريعه، فإذا ظهر خطأ بعد ذلك في هذا القانون فإن المواطنين الذين صاغوه أنفسهم يملكون حق تعديله ونقضه وإلغائه، أو استبداله بقانون غيره. إنها الطريقة الوحيدة لمعالجة أزمة القانون علاجا حقيقيا ومنطقيا. وهى الوسيلة الوحيدة أيضاً لبناء حياة جديرة بأن يتمتع بها الإنسان.