بلجيكا بلد أوروبي يصف نفسه للمسافرين عبر مطار بروكسيل الوطني بكونه قلب أوروبا. سكانه عشرة ملايين ونصف وأكثر من ستة ملايين يتحدثون الهولندية أو الفلامانية (نفس اللغة) والباقي هو فرانكفونيون في الجنوبوبروكسيل مع وجود أقلية صغيرة تتحدث الألمانية (حوالي مائة ألف) في شرق البلاد اقتطعت من ألمانيا بعد معاهدة فرساي. إداريا تعتبر بلجيكا بلدا فدراليا مبنيا على مفهوم الجهوية الموسعة، إذ يتوفر على ثلاث جهات ذات حكم ذاتي موسع إلى حد كبير. ففي الشمال توجد جهة الفلاندرز (فلامانية) و في الجنوب جهة والونيا (فرانكفونية) وفي بروكسيل حيث هي عبارة عن جهة/مدينة تقع في وسط جهة "الفلاندرز" تتمتع بنفس الصلاحيات القانونية للجهتين الأخريين. هذا التقسيم الإداري أوجد لغتين رسميتين (الفرنسية والهولندية) بالإضافة للألمانية كلغة وطنية. والصراع اللغوي في بلجيكا فرض وجود ما يعرف "بالحدود اللغوية" التي تمتد من الشرق إلى الغرب مارة جنوببروكسيل. في شمال هذا الخط اللغة الرسمية الوحيدة هي الهولندية وفي جنوبه اللغة الفرنسية، بينما تشكل بروكسيل استثناء كونها منطقة مزدوجة اللغة إداريا. في الثالث عشر من هذا الشهر سيذهب سبعة ملايين مواطن بلجيكي مضطرين حسب قانون إجبارية التصويت لانتخاب مجلسي النواب والشيوخ. هذه الانتخابات كان من المفروض أن تجرى في السنة القادمة، إلا أن استفحال الأزمة السياسية التي تعصف بالبلد منذ آخر انتخابات نيابية شهدتها سنة 2007 عجلت بهذا الاستحقاق. هذه الانتخابات تبدو وكأنها تؤشر لبداية صيف ساخن قد تكون بداية لمسيرة قد تقود نحو الأسوأ أو ربما استمرارا لأزمة غياب استقرار سياسي في أحسن الحالات. ورغم أن تاريخ هذا البلد يشهد للسياسيين به على تفننهم عبر الأزمات التي واجهت الحكومات المتعاقبة على إيجاد حلول مرضية وتخطي الصعاب، إلا أنه يبدو أنه في الثلاث سنوات الماضية استنفذ هؤلاء السياسيون الكثير من إمكانياتهم في إيجاد مثل هذه الحلول، أو أن الأمر لا يعدو أن يكون تغييرا في أساليب اللعب عبر بروز ساسة جدد من جيل مختلف أكثر جرأة على طرح المشاكل العميقة التي تعانيها بلجيكا وطرح القليل من الحلول التي تصلح لإعادة ذلك الوهج الذي عرف بها الساسة البلجيك على أنهم سادة البراغماتية والمفاوضات التي كانت دوما تفضي لتوافق سياسي. ومن الجانب الآخر تبدو هذه الأزمة وهي كبداية إعلان لشيخوخة بلد ولد قيصريا في ظروف خاصة بالمحيط الأوروبي أكثر من كون ميلاده كانت نتيجة لإرادة الشعب البلجيكي. ومن الجدير بالذكر أن تأسيس مقر الإتحاد الأوروبي ببروكسيل لم يكن محض صدفة بقدر ما هو اعتراف أوروبي صريح وقتئذ للبلجيك بقدرتهم على التآلف الوطني بين المكونات الإثنية والثقافية التي تشكل لحمة البلد وهو الهدف الحقيقي للوحدة الأوروبية في جوهرها. وسقوط هذا المثال البلجيكي سيعني مما يعنيه أن إمكانية تحقيق أوروبا قوية متضامنة ومعترفة بتعددها الثقافي والإثني قد ضرب في الصميم. نظرة تاريخية توصف بلجيكا عادة بكونها كانت دوما ساحة كبيرة للمعارك بين القوى العظمى الأوروبية سواء في العصور الوسطى وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وهذه الحقيقة التاريخية ربما كانت راجعة في عمقها إلى طبيعة هذا البلد، إذ أن بلجيكا تشكل الحدود الفاصلة بين عالمين أوروبيين: عالم جرماني بثقافته الساكسونية في الشمال وعالم في الجنوب أساسه ثقافة وروح لاتينية. والصراع بين العالمين لم ينفك منذ أن توسعت روما شمالا حتى احتلال برلين وانهيار النازية، مرورا بكل مآسي أوروبا الكبرى وليس أقلها تدمير روما والحروب الدينية حتى انهيار النابليونية في معركة "واترلو" الشهيرة في بلجيكا نفسها. هذا الصراع عينه نجده يخفت تارة ويعلو طورا في كل الدول التي تتقاسم الحدود بين هذين العالمين سواء في لوكسمبورغ الصغيرة أو سويسرا مرورا عبر الحدود الألمانية الفرنسية التي تغيرت مرات عدة بسبب هذا التزاحم بين ما هو جرماني وبين ما هو لاتيني. إن بلجيكا هي ميلاد لانهيار قوة فرنسا سنة 1815 بعد مؤتمر فيينا لتقاسم الممتلكات الفرنسية بين المنتصرين وكانت مملكة هولندا هي من تولى إدارة هذا البلد تحت عنوان "الأقاليم الهولندية الجنوبية". طبيعة بلجيكاكإقليم يتقاسمه "الوالون" المتحدثون بالفرنسية في الجنوب، وأغلبية من "الفلامان" المتحدثين بالهولندية بلكنة محلية ستؤدي سريعا إلى التصادم مع الإدارة الهولندية. لم يكن هذا التصادم لهذا السبب فقط، فالاختلافات كثيرة بين هولندا بروتستانتية ومحافظة وبين بلجيكا كاثوليكية مشبعة بقيم الثورة الفرنسية وتسودها اللغة الفرنسية (حتى البرجوازية الفلامانية كانت تتحدث اللغة الفرنسية)، بالإضافة إلى أنها كانت تعيش ثورة اقتصادية صناعية،كانت القوانين الهولندية تحد من إمكانية توسعها، وهو ما حدا بالبرجوازية إلى الدفع بالثورة سنة 1830 لتعلن بلجيكا بلدا مستقلا بملكية من أصول ألمانية. أهم جزء من حقيقة الأزمة البلجيكية الحالية تكمن في هذا الحدث نفسه، فهولندا تركت وراءها بلدا بدا وكأنه أنشئ على عجل بأقلية في جنوب غني يسكنه "الوالون" في الجنوب وأغلبية من "الفلامان" الفقراء في الشمال. كون اللغة الفرنسية لغة البرجوازية المحلية وخلفها دولة كبيرة مثل فرنسا سيمثل أكبر عاملين سيؤديان إلى تهميش اللغة والثقافة الفلامانية وتكريس السيطرة السياسية للفرانكفونيين. من هنا بدأ جزء كبير من مأساة بلجيكا الحالية! في تاريخ الأزمة البلجيكية قد يبدو للناظر لحالة الصراع في بلجيكا حاليا أن المسألة اللغوية هي المشكلة الكبرى في هذا البلد وتشكل وقود الأزمة الحالية وهذا صحيح لحد كبير. ولكن المشكلة اللغوية هي فقط قمة جبل الجليد في الأزمة الحالية وقد تخفي معها سنوات كثيرة من الأزمات التي عصفت بعلاقة الجنوب والشمال. ولكن في تاريخ هذا البلد كانت المشكلة اللغوية هي لب الصراع الذي يرجع إلى تاريخ تأسيس الدولة نفسها. وهذه المشكلة يمكن اختصارها بحالة من سيطرة لغة أقلية ممثلة في الفرنسية على اللغة الهولندية وهي لغة الأغلبية، ففي الدستور البلجيكي الأول أقر فيه أن اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية الوحيدة للدولة الناشئة ضاربا عرض الحائط حقيقة كون أغلبية الشعب البلجيكي لا يتحدثون هذه اللغة. الأزمة اللغوية في بلجيكا لم تكن الوحيدة التي قسمت البلد آنذاك، فمشكلة التعليم وحقوق المواطنة والصراع الاجتماعي بين البرجوازية والطبقة العمالية كانت تخفي حقيقة التهميش التي تتعرض له الفئات الشعبية وبشكل خاص في مناطق الشمال حيث يغلب الاقتصاد الزراعي بالمقارنة مع الجنوب. هذا التهميش ولد رد فعل في الشمال عبر مأسسة التيار القومي الفلاماني من خلال بداياته مع ما عرف "بالحركة الفلامانية" خلال القرن التاسع عشر ومطالبتها بدسترة اللغة الهولندية. خلال الحرب العالمية الأولى سيشهد هذا التيار تسارعا في قوته خصوصا مع أزمة ما عرف "بحركة الجبهة" وهي حركة تولدت لدى أغلبية الجنود "الفلامان" في الجيش الذي كانوا يتلقون أوامر لا يفهمونها من رؤساءهم الفرانكفونيين وهو ما لأدى لحدوث مجازر حقيقية في الجبهات العسكرية راح ضحيتها الآلاف من الجنود. مع ازدياد نفوذ الحركات القومية في أوروبا لما بعد الحرب العالمية الأولى ستظهر أولى الحركات السياسية الفلامانية التي طالبت بالانفصال وهي "الرابطة الوطنية الفلامانية" (VNV). وللإشارة فانه فقط في سنة 1930 حصلت جامعة غانت Gentعلى حق تدريس موادها باللغة الهولندية. حالة التجاذب بين الفرانكفونيين و"الفلامان" ستؤدي بالآلاف من هؤلاء الأخيرين إلى الالتحاق بصفوف قوات الاحتلال الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية والقتال بجانبها، ومباشرة بعد دحر الاحتلال ستبدأ عمليات تصفية طالت الآلاف من "الفلامان" بتهمة التعاون مع الاحتلال مما سيولد حالة من الاحتقان الشعبي خصوصا أن عمليات التصفية طالت الكثير من الأبرياء. مثل هذه الأحداث أدت لتقوية التيار القومي الفلاماني بشكل كبير. حتى مشكلة الملكية التي عرفتها بلجيكا بعد الحرب دخل فيها عامل الصراع بين "الفلامان" و"الوالون" بقوة. فالملك "ليوبولد الثالث" اتهم بمحاباة النازيين ولقيت إمكانية عودته بعد الحرب معارضة قوية أدى لتنظيم استفتاء كاد يتحول لحرب أهلية. "فالفلامان" كانوا مع عودته بينما "الوالون" رفضوها بشدة وحتى انتصار المرحبين بهذه العودة لم يتم تقبله، ولتفادي حمام دم اضطر الملك للتنازل لابنه الملك "بودوان" حفاظا علة وحدة البلد. سنوات الستينات ستكون حافلة بالصراع، إذ أن تصاعد النفوذ الاقتصادي للشمال على حساب ضعف القوة الاقتصادية للجنوب ستؤدي إلى تحول قطب الصراع لصالح الأغلبية الفلامانية. أولى بوادر هذا النجاح تم من خلال ترسيم ما يعرف بالحدود اللغوية بين الشمال والجنوب تفاديا لمزيد من الفرنسة التي يتعرض لها الشمال. وقد ظهرت قوة "الفلامان" من خلال أزمة الجامعة الكاثوليكية بمدينة "لوفن"، فالمدينة فلامانية والجامعة بها تدرس باللغتين إلا أن أغلب الطلبة بها كانوا فرانكفونيين مما خلق حالة صراع مستديمة بين طلبة الجامعة والسكان المحليين انتهى بتقسيم الجامعة وطرد الفرانكفونيين الذي أسسوا جامعة بنفس الاسم إلى الجنوب من الخط اللغوي في "والونيا". هذه الأحداث أدت لعواقب وخيمة على المستوى السياسي إذ أنها أدت لتقسيم الأحزاب السياسية القائمة، الليبراليون والمسيحيون الديمقراطيون والاشتراكيون، على أساس لغوي وهو ما سمح "للفلامان" بالسيطرة على المجريات السياسية في البلد اعتبارا لمستوى تمثيليتهم العددية هذا بجانب قوتهم الإقتصادية. وللإشارة فقط فإن آخر وزير أول فرانكفوني حكم بلجيكا يعود لسنة 1974. عناوين الأزمة الحالية إن تصاعد قوة "الفلامان" الاقتصادية والسياسية وأغلبيتهم العددية سمح للتيار القومي الفلاماني بإيجاد ركيزة يستند عليها في مطالبه القومية. واستنادا لهذه القوة أصبح التيار القومي لديه خلفيات سياسية واقتصادية وأصبحت المطالبة بمزيد من الصلاحيات داخل إطار الدولة الفديرالية هو المطلب المشترك لكل الأحزاب الفلامانية ما عدا الحزب العنصري المصلحة الفلامانية Vlaams Belang الذي يطالب بتقسيم بلجيكا وإنشاء دولة "فلامانية" بلا مقدمات وحزب "التحالف الفلاماني الجديد " N-VA الذي يطالب بدولة كونفدرالية. أخطر ما أنتجته محصلة الأزمات البلجيكية هو بلقنة الخريطة السياسية، ففي بلجيكا لا يوجد حزب وطنى إنما كل الأحزاب جهوية، لذلك فهذه الأحزاب لا يعنيها غير الناخب الذي يوجد في الجهة التي تقدم فيها لوائحها الانتخابية وإهمال أية مطالب للناخب في الجهة الأخرى. هذه البلقنة أدت لإنتاج حالة استقطاب سياسية شديدة وهو ما يسمح للأحزاب القومية وخصوصا في الشمال على اللعب على وتر الحمولة التاريخية في العلاقات بين المجموعتين اللغويتين. فرغم أن العائلات السياسية الاشتراكية والمسيحية الديمقراطية بالإضافة للعائلة الليبرالية سيطرت على المجريات السياسية لمدة طويلة جدا، إلا أن الأزمات المتوالية بين المكونين اللغويين أدت لبروز أحزاب بدأت صغيرة وكبرت مع كبر الأزمة. وحتى هذه العائلات فقدت كل الصلات التي كان يجمعها على المستوى الإيديولوجي وأصبح الهاجس لديها هو ترضية الناخب إما الفرانكفوني أو الفلاماني وأصبح من العادي جدا أن تتشكل الحكومات من أطياف مختلفة من كلا الجانبين بعيدا عن أي تناغم سياسي. في واقع الأزمة الحالية في بلجيكا هناك ثلاث عناوين بارزة لها: الإصلاحات الدستورية وقضيةBHV ومصير بروكسيل. الإصلاحات الدستورية تشكل هذه النقطة أكبر مشكلة تواجها بلجيكا حاليا، والغريب أن كل الأحزاب في الشمال كما في الجنوب متفقة على مبدأ هذه الإصلاحات، إلا أن هذه الغرابة تنتفي في فهم كل طرف لتفاصيل هذه الإصلاحات. فأحزاب الشمال تطالب القيام بإصلاحات جذرية في هياكل الدولة البلجيكية وهذه المطالب تتبناها الأحزاب الفلامانية الديمقراطية. وهي مطالب تعني مما تعنيه إعطاء صلاحيات أوسع مما هي الآن للجهات في ميادين التشغيل والتأمين الاجتماعي والضرائب. هذه المطالب تجد توجسا حقيقيا من قبل الأحزاب الفرانكفونية خصوصا مبدأ تقسيم التأمين الاجتماعي وهو تخوف مشروع خصوصا أن جزءا كبيرا من الإعانات الاجتماعية والتأمين الصحي يدفعه "الفلامان" عبر ما يعرف بالتحويلات الجهوية التي تصل إلى 12 مليار يورو سنويا يدفعها دافع الضرائب في "فلاندرز" "لوالونيا" عبر نظام الإعانات الفدرالية. وتتخوف الأحزاب الفرانكفونية من وجود نية لبداية تقسيم الدولة عبر خلق شمال غني وجنوب فقير وبداية تأسيس لنظام كنفدرالي كما يطالب بذلك حزب "التحالف الفلاماني الجديد" اكبر المرشحين للفوز بهذه الانتخابات. ويزداد هذا التخوف حينما يؤكد زعيم الحزب بارت دي ويفر انه لن يدخل أية حكومة لا تتبني مطلب هذه الإصلاحات خصوصا وأنه شخص عرف عنه عناده الشديد والتجربة السابقة دلت على انه مستعد للذهاب لأبعد مدى حتى إن أدى الأمر لتقسيم البلد. قضية BHV قضية BHV هي اختصار لوضع بروكسيل-هال-فيلفورد وهي مقاطعة انتخابية وقضائية أوجدت مع مفاوضات التسوية حول حقوق الفرانكفونيين في ضواحي بروكسيل العاصمة بحيث أنها تسمح لهؤلاء المقيمين على أراضي فلامانية بالتصويت على قوائم فرانكفونية مرشحة في هذه المقاطعة الأهم في المقاطعات الانتخابية البلجيكية حيث يمثلها 22 عضوا في البرلمان. كما يسمح لهم هذا الوضع بالتقاضي باللغة الفرنسية أو اللغة الهولندية وهو إمتياز غير متوفر في باقي بلجيكا. كما أن هذه المقاطعة -باسثناء بروكسيل- هي إداريا تابعة لإقليم "البرابانت" الفلاماني وهو ما يشكل سابقة على المستوى الدستوري وقد أقر "المجلس الدستوري للدولة" بعدم قانونية هذا التقسيم وهو ما يطالب "الفلامان" بتطبيقه فورا وتوحيد إقليم "البرابانت" كمقاطعة انتخابية موحدة. هذه المطالب تلقي معارضة شديدة من قبل الأحزاب الفرانكفونية لأنها تعني ببساطة أن أصوات ناخبيهم المتحدثين بالفرنسيين في ضواحي بروكسيل ستذهب بشكل أو بآخر "للفلامان" وهو ما يعني خسارة مقاعد انتخابية لهم. وأولى الخطوات التي يطالب بها "الفلامان" هي إلغاء ما يعرف بنظام التسهيلات اللغوية في الضواحي للفراكفونيين بحيث يحق لهؤلاء الحصول على وثائقهم الإدارية باللغة الفرنسية بدعوى أن هذه التسهيلات مؤقتة بطبيعتها وأن على الجميع احترام مبدأ رسمية اللغة الفلامانية على جميع التراب الفلاماني. قضية بروكسيل بروكسيل هي أكبر مدينة في بلجيكا وهي مدينة فسيفساء وتجمع الكثير من المتناقضات، فهي غنية وفي نفس الآن فقيرة جدا. مدينة أغلب سكانها من المتحدثين بالفرنسية وهي تضم أكبر نسبة من المهاجرين ويكفي أن عدد سكانها من أصول مغربية يتجاوز 130 ألفا بالإضافة ل 125 جنسية مختلفة. مدينة يقصدها حولي 400 ألف شخص للعمل بها يوميا أغلبيتهم الساحقة من "الفلامان" ، لذلك ففي شوارعها يتحدث الناس الفرنسية والريفية والدارجة وفي إداراتها تسيطر اللغة الهولندية، لكن هؤلاء العاملين بها يدفعون ضرائبهم حيث يسكنون لا حيث يعملون وهو ما يحرم هذه المدينة/الجهة من الملايير التي تذهب للجهتين الأخريين. وبروكسيل مدينة ككل المدن لكنها قد تكون الوحيدة التي تتوفر على برلمان وحكومة وتسعة عشر مجلسا بلديا ووزارة للفلاحة مع انه لا فلاحة لديها! مشكلة هذه المدينة أنها تاريخيا مدينة فلامانية وهي قلب إقليم "البرابانت" لكنها تعرضت للفرنسة خلال أزيد من 140 عاما من الهيمنة الفرانكفونية وهو شيء لم ينسه "الفلامان" ولذلك فهم مصرون على جعلها عاصمة لهم بالرغم من نسبتهم الضئيلة بها. والمشكلة الأكبر أنها لا تستطيع التمدد والتطور ككل المدن فهي على شكل جزيرة وسط "فلاندرز". والسياسيون "الفلامان" لا ينكرون بأن أسلافهم ارتكبوا خطأ جسيما حينما سمحوا بإنشاء هذه المدينة الجهة خصوصا مع ظهور كم من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بها وارتفاع نسبة الإجرام بشكل غير مسبوق ولذلك فكثير من الأحزاب الفلامانية ترى ضرورة إلغاء وضع بروكسيل كجهة. من جهتها تجد الأحزاب الفرانكفونية في بروكسيل مسمار جحا وتطالب بتوسيع حدود المدينة/ الجهة لتتلاصق مع حدود "والونيا" جنوبا في حال أصر "الفلامان" على الانتهاء من قضيةBHV وإعادة الوضع لطبيعته واستعدادا للأسوأ إذا قرر "الفلامان" تقسيم بلجيكا، ومطالب الفرانكفونيين هذه يراها الفلامان من قبل سابع المستحيلات! أفق الأزمة كل المؤشرات توحي بأن الناخبين البلجيك مقدمون على انتخابات تاريخية يوم 13 من يونيو قد تحدد مصير بلدهم للأبد. ويسير هؤلاء الناخبون نحو صناديق الاقتراع وهم متيقنون بأنهم ليس في استطاعتهم تغيير الكثير من واقع الأزمة الحالية، فالنظام الانتخابي البلجيكي بني على مبدأ وجود التوافق بين الشركاء في الشمال والجنوب للحكم على المستوى الفدرالي. وفي غياب هذا التوافق يصبح البلد مشلولا وهو ما يعني مزيدا من حطب الوقود للأحزاب الداعية للانفصال وهو ما تأكد الآن بتزعم حزب "التحالف الفلاماني الجديد" N-VA لكل نتائج سبر الآراء بحيث تمنحه المرتبة الأولى من بين الأحزاب الفلامانية وحتى على المستوى الوطني، وبالتالي تمنحه القدرة على عرقلة أي تشكيل للحكومة فيما بعد الانتخابات. فقد جرى العرف على ضرورة توفر الأحزاب المشاركة في حكومة وطنية على أغلبية في الجهة التي تنتمي إليها وهو ما سيكون عسيرا توفره في حال أكدت صناديق الاقتراع مثل هذه التوقعات. لقد شارك رئيس هذا الحزب بارت دي ويفر Bart De Wever في تكتل انتخابي مع حزب CD&V ورئيس الحكومة المستقيل، وحين وجده متلكئا في المطالبة بإصلاحات هيكلية خلال مفاوضات تشكيل الحكومة لم يتردد في الخروج من هذا التحالف وأدى الأمر بالتالي إلى استقالة الوزير الأول. وهذه الشخصية السياسية لديها من الشعبية السياسية الجارفة ما يسمح له بالتربع على قائمة السياسيين الأكثر شعبية بفارق كبير عن أقرب منافسيه. الأحزاب الفرانكفونية تنظر بقلق كبير لتصاعد المد القومي في الشمال وأصبحت في خطاباتها أكثر تقبلا لفكرة الإصلاحات التي طالبت بها الأحزاب الفلامانية التقليدية لكن ترفض رفضا قاطعا مطالب حزب N-VA وهو شيء يتأسف له الكثير من المعتدلين من الساسة "الفلامان" الذي يرون أن الفرانكفونيين فوتوا فرصة التوصل لاتفاق برفضهم لمقترحات الوسيط الفديرالي في أزمة BHV وبالتالي أعطوا فرصة كبيرة لتقدم الأحزاب القومية الفلامانية. زعيم حزب N-VA بادر إلى تهيئة الأجواء لإمكانية تحقيق فوز كبير يوم الأحد وذلك عبر دعوة الصحافة العالمية والتأكيد على أن حزبه ليس بحزب انفصالي ولكنه أصر على مبدأ النظام الكنفدرالي كحل للأزمة في بلجيكا وهو أمر يوحي بان على الفرانكفونيين تقديم الكثير من التنازلات السياسية في حال استعداد هذا الحزب الدخول في تحالف حكومي و إلا فالجواب عند رئيسه موجود دائما، فقد سئل خلال احتدام الأزمة السياسية في بلجيكا سنة 2007 وخلال أزمة تشكيل الحكومة الأولى حول إمكانية أن تستمر الأزمة طويلا فرد باقتضاب بأنه ليس لديه مشكلة في ذلك حتى لو قسمت بلجيكا نفسها! [email protected]