مقال “الأمازيغوفوبية وسياسة التعريب” المنشور في موقعكم “نبراس الشباب” يثير عدة قضايا تدعو للمساءلة وتقتضي نقاشا معمقا، وسأركز في هذه المحاورة/ الرد على أهمها وأكبرها، معرضا عن أخرى جزئية وثانوية لا يسمح المقام لبسطها، ولا يتسع المجال للتوقف عندها والتعقيب عليها. لا سر سوى العلم والمعرفة: يتحدث الكاتب إبراهيم المرابط عن نموذج خاص بكل بلد من البلدان التي نهضت بوطنها وحققت ما حققت من التقدم والازدهار... أتساءل بهذا الصدد: ما هو هذا النموذج الخاص المتحدث عنه؟ وما هي خصائصه المميزة؟ وبم يتفرد من حيث تقدمه العلمي والتكنولوجي؟ وهل هناك حقيقة بلد حقق ما حقق من النمو بشيء آخر غير ما حققه به غيره من البلدان؟ أعتقد أن لا شيء سر في الأمر إلا العلم والمعرفة.. ولا شيء سوى العلم والمعرفة... لتعرف مقدار بلوغ أي بلد من التقدم والتطور ابحث عن حجم اهتمامه بالعلم وما يخصصه للتعليم من إمكانات مادية ولوجيستيكية، والموقع الذي يحتله في مخططاته الإستراتيجية.. إن الأمم، يا مرابط، لا تتدرج في مسار النمو إلا بالمعرفة، ولا يعلو شأنها ويسمو قدرها إلا بالعلم. وهذا هو السر الذي أدركته البلدان التي استطاعت أن تصعد مدارج النماء كاليابان والصين وكوريا الجنوبية وتركيا وماليزيا... أما إيران التي اعتبرتها دولة متقدمة وبرزت “كقوة إقليمية رائدة متفوقة في شتى المجالات”، وأنها حققت ” معجزة أبهرت الغرب والشرق معا”( كذا). وليس ذلك كله، كما تقول، ” إلا بتشبثها بثوابتها التاريخية الفارسية” .. فهلا حدثتنا، أخونا المرابط،، عن هذه الثوابت التاريخية الفارسية التي رفعت إيران إلى أعلى عليين وسمقت بها هذا السموق كله الذي أرت إليه؟.. وما هي هذه الثوابت التاريخية والثقافية والحضارية التي عادت إليها العديد من الدول في بلوغ مستوى عال من النمو الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والحقوقي كأمريكا مثلا، أو فرنسا، أو روسيا، أو بريطانيا، أو جارتنا إسبانيا التي كانت إلى حدود منتصف السبعينيات في مستوى المغرب أو أقل منه في الاقتصاد والسياسة ومستوى التنمية البشرية..؟ النزعة الهوياتية .. أو عقدة الأنا والهو: وتذهب عقدة ” الهوية ” و”الخصوصوية ” بصاحبنا مذهبها لتسقطه في شوفينية صارخة عندما يقول بأن أجدادنا المغاربة أسسوا ” لأنفسهم مدرسة دينية خاصة بثقافتهم ومجتمعهم، موصلين راية الإسلام إلى الأقاصي، حاملين هم نشره والدعوة إليه شمالا وجنوبا، وهم في معزل عن عادات الشرق واجتهاداته الخاصة. ما هي هذه المدرسة الدينية الخاصة المشار إليها؟ وفيم تختلف عن بقية بلدان المسلمين في العالم؟ ألا يمكن الحديث- تأسيسا على هذا المنطق في التفكير- عن المدرسة الدينية الخاصة بالمصريين، وأخرى بالشاميين، وثالثة بالعراقيين، ورابعة بالسعوديين وهكذا دواليك.. لمجرد اختلاف مذاهبهم الفقهية وعاداتهم المحلية؟ ألا يمكن كذلك أن نتحدث – بناء على هذا المنطق دائما- عن مدارس متعددة داخل البلد الواحد كمنطقة سوس ومنطقة الريف ومنطقة الوسط في المغرب مثلا لاختلاف تمثلاتهم الدينية وتقاليدهم المحلية؟ إن إشكالية الهوية يطرحها، ليس فقط الأمازيغ، ولكن، أيضا، عامة العرب والمسلمين، في الوطن العربي والإسلامي، بكثير من التهويل والتضخيم، ومقرونة دائما بالخوف من الانصهار والذوبان في الآخر، وبالتالي فقدان الذات الفردية والجماعية ومقوماتها اللغوية والثقافية والحضارية.. إن الهوية ليست مسألة محنطة جامدة ساكنة لا تتحرك.. إنها مكون حي يتجدد باستمرار، وتتقوى وتتفاعل بالانفتاح والتواصل والتثاقف... الهوية لا تحمى ويحافظ عليها كما تحمى البيضة من الفساد، أي بتسييجها وعزلها عن محيطها الخارجي .. إن وسائل حمايتها ومواد تحفيظها هي قوة الفكر والعلم والمعرفة.. التعريبوفوبية: وأصل إلى قضية أخرى من القضايا الحساسة التي تناولتها العديد من الأقلام في وطننا العربي والمغاربي، وأتساءل بشأنها، وبدون الدخول في تفاصيلها وجزئياتها وملابساتها التاريخية وحيثياتها الثقافية، هل هناك ما يمكن أن نسميه حقيقة ” سياسة التعريب ” في المغرب؟ أين تمظهراتها وتجلياتها؟ وأين النتائج التي أسفرت عنها؟ .. ما موقع العربية في تعليمنا؟ وما موقع العربية في إدارتنا؟ وما موقع العربية في مؤسساتنا الثقافية والاقتصادية والإعلامية؟.. أين هي هذه السياسة المسماة ” سياسة التعريب ” في بلادنا؟.. الحقيقة أن ما نراه ونلمسه ونعايشه هو ” الفرنسية ” لا ” التعريب ” .. إن الرابح الكبير في وطننا من هذا الصراع المفتعل بين الأمازيغية والعربية هو الفرنسية. التعريب في المغرب لم يكن سوى إيديولوجية، لا علاقة له بالعربية وبالغيرة عليها وبالرغبة في التمكين لها، وجعلها لغة الوطن بكل ما تحمله الكلمة من معنى بجميع أسلاكه ومستوياته، وفي الإدارة والاقتصاد والإعلام... لم يكن التعريب في المغرب سوى شعار إيديولوجي، أهدافه سياسية بحتة، بعيدة كل البعد عن العلم والمعرفة. والواقع الفعلي والسياسة الجاري تنفيذها في الميدان يؤكد ذلك ويثبته.. ويخطئ من يعتقد أن التعريب هو السبب في تهميش الثقافة الأمازيغية أو محاصرتها ومحاربتها، ومن ثم فتح جبهة ضده وضد كل من يتحدث عنه ويحمل مشروعه، ومعاداة المنادين بضرورة تفعيله والتمكين له في الواقع. إن ما حققه المغاربة، عبر تاريخهم الطويل، من إنجازات وأمجاد سياسية وثقافية وأدبية وناريخية كان بفضل الوافد الإسلامي، ومعه اللغة العربية، على المنطقة، ولم يحب المغاربة لغة أكثر مما أحبوا اللغة العربية، فقد تعلقوا بها تعلقا جوانيا روحانيا، واعتبروها جزءا من كيانهم وهويتهم إلى جانب لغتهم الأصلية الأمازيغية، فأضحى صعبا أن تتهم المغربي بأنه غير عربي، أو أن تخرجه من الدائرة العربية، لن يقبل ذلك أبدا، اللهم إذا استثنينا من انخرط في الحركة الأمازيغية إيديولوجيا أو تأثر بها. تصحيح وتوضيح وليس صحيحا ما ورد في المقال – وهو اقتباس من كتاب..... لأحمد عصيد – أن الفلامانية في بلجيكا ” لم يشرع في لم شتات لهجاتها إلا في أواسط القرن العشرين ” ، إذ الأمر كان قبل هذا التاريخ بعشرات السنين، بحيث صدر منذ سنة ” 1898 قانون المساواة الذي اعترف باللغة الهولندية-الفلامانية لغة رسمية لبلجيكا بجانب الفرنسية ” (1) أما في القرن العشرين، وبالتحديد سنة 1930، فقد “قررت جامعة Ghent الواقعة في القطاع الفلاماني استعمال الهولندية كلغة تعليم ” (2). ثم بعد نضال مستمر جاء ” الأمر الصادر بيوليوز 1973 من “المجلس الثقافي للمجموعة اللغوية الهولندية” القاضي باستخدام الهولندية كلغة وحيدة للتعاملات الرسمية في شمال بلجيكا. وفي دجنبر 1973 صدر تأكيد رسمي بأن اللغة المستخدمة بفلاندرن تسمى رسميا: الهولندية (Nederlands). ” (3) ولولا اللغة الهولندية لما استطاعت الفلامانية(*) أن تصمد أمام قوة اللغة الفرنسية ومؤسساتها وإشعاعها الثقافي في بلجيكا ، فقد فشل التيار الذي حاول بناء لغة معيارية انطلاقا من اللهجات الفلامانية المشتتة في غرب بلجيكا، وجعلها لغة مستقلة عن الهولندية والفرنسية. واستطاع ، في المقابل، التيار المسمى ” الاندماجي ” أ ن يربح رهان تحدي اللغة الفرنسية، بفضل رؤية إستراتيجية عميقة النظر، بحيث كان ” يرى أن التقارب اللغوي الكبير بين شمال بلجيكا وهولندا يملي أن تكون للأمتين لغة موحدة. وبعد جدال طويل انتصر الرأي “الاندماجي” وتم تبني نظام التهجئة الهولندي ” (4). فقد كانت المعطيات يومئذ على الأرض تعطي الإمكانية الكبيرة لتحول بلجيكا كلها إلى اللغة الفرنسية. وهكذا أصبحت الهولندية/ الفلامانية هي لغة ما يقارب 60 بالمائة من ساكنة بلجيكا، و 40 بالمائة يتكلمون الفرنسية ، وما يقارب الواحد بالمائة يتحدثون اللغة الألمانية، حسبما تشير إليه الإحصائيات. وأعرج هنا على مسألة ذات أهمية كبرى تتعلق بترسيم اللغة وبوطنيتها.. فهذه المسألة فيها عدة أوضاع وحالات وليس لها وجه، كما قد يذهب إلى ذلك البعض.. إذ نجد بعض الدول لها لغة رسمية، وهي المنصوص عليها في الدستور، وتكتب بها القوانين، وتستعمل في المراسيم الحكومية والإدارات وغيرها. وهناك دول أخرى ليست لها لغة رسمية كالولايات المتحدةالأمريكية مثلا ، وبالرغم من ذلك فإن اللغة الإنجليزية هي اللغة المعتمدة في البلد.. ولبعض الدول لغات رسمية تعتمد كلها، بصفة إجبارية، في كل القوانين والمراسلات العامة والدفاتر الرسمية.. وفي دول أخرى لغات وطنية غير اللغة الرسمية كما هو الشأن في السنغال، حيث يتكلم السكان اللغة ” الشاوية “، وفي مالي كذلك، حيث يتحدث السكان لغة الغانيين وهي اللغة الأكثر انتشارا في غرب إفريقيا... وفي بلدان أخرى لغة رسمية في منطقة دون بقية البلد، كحال القطلونية في منطقة قطلونيا بإسبانيا... وهكذا (5) ختاما: أود أن أشكر “إبراهيم المرابط” جزيل الشكر على هذا المقال الذي ربما لا يدري مدى أهميته عندي، رغم انتقادي الشديد له وعدم اقتناعي بمجمل ما جاء فيه، وتأتي أهميته بالنسبة لي، من حيث كونه استفزني كثيرا، ودفعني إلى حمل قلمي بعد سنتين ونيف من التوقف عن الكتابة. وعادة أنا لا أكتب من أجل أن أكتب .. لا أحمل قلم الكتابة إلا إذا كان هنالك دافع قوي جدا وضغط شديد للكتابة.. فالكتابة، بالإضافة إلى كونها متعة ولذة لمن خبرها، فهي أيضا معاناة وعذاب وأي معاناة وعذاب ... فألف شكر يا إبراهيم .. الهوامش: (1) مقال في الأنترنيت للدكتور مبارك بلقاسم. (2) نفسه. (3) نفسه. (4) نفسه. (*) واللغة الفلامانية، بالمناسبة، ليست سوى اللغة الهولندية نحوا وصرفا وحتى معجما وتركيبا، فليس هناك من فرق بينهما إلا من حيث النطق ببعض الكلمات، كما يذهب إلى ذلك بعض دارسي هذه اللغة. (5) من ” ويكيبيديا ” الموسوعة الحرة، شبكة الأنترنيت