استعاد النقاش حول التعريب حيويته وحركيته. إذ توالت الأحداث والتصريحات في الآونة الأخيرة التي تجعل من قضية التعريب محور التداول الإعلامي والسياسي والتربوي. وقد ارتبط الأمر بمناسبات عديدة نشير إلى بعضها: الأولى هي وفاة مهندس سياسة التعريب في المغرب أو بالأحرى أحد رموزه في السلطة التنفيذية : الدكتور عز الدين العراقي . فقد ربطت جل المقالات التحليلية والتأبينية للعراقي مساره المهني والسياسي بقضية واحدة هي تعريب التعليم . فعلى سبيل المثال أوجزت تيل كيل حياة الدكتور الذي تقلد مناصب عدة وتجول في دواليب السياسة والإدارة في قضية التعريب التي أقدمت عليها الدولة إبان إدارته لوزارة التعليم . وإذا كانت هذه المجلة وربيبتها قد عودتنا على التهجم على كل رموز الهوية الوطنية من ملكية ولغة ودين وأخلاق ... فإنها هذه المرة قد وصلت حد وسم سياسة التعريب بالكارثة لتتساءل عن المسؤول عنها : هل هو العراقي وحده؟ .فالتعريب الذي توقف لأسباب سياسية وليست علمية غدا في مخيال الصحفي ومن ينحو منحاه كارثة أضرت بالقدرة الإبداعية والتعليمية لدى المغاربة . الثانية هي الحرب الاستباقية التي قامت بها العديد من الجمعيات الأمازيغية حين اتهمت المجلس الأعلى للتعليم بنيته التراجع عما تحقق في مجال تدريس الأمازيغية خلال السنوات الأخيرة مهددة بوقفات احتجاجية أمام وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي والأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين. والغريب في الأمر أن النقاش قد انحرف من الدفاع عن الأمازيغية وتدريسها إلى الحرب على التعريب والعربية . حيث اتهم أعضاء المجلس الأعلى بأنهم كما يقول أحدهم يريدون تقديم قرابين للقومية والوهابية !:{إنها التعريب ، هذه الكلمة السحرية العجيبة التي يلغون بسببها العقل والمنطق والدين...إنهم يريدونه مقاطعة مشرقية دون استقلالية ولا خصوصية }. وكأن الخصوصية لا تتحقق إلا برفض العربية والتعريب والإجهاز على الانتماء العربي . الثالثة هي قرار الطيب الشرقاوي وزير الداخلية المغربي، الذي يقضي بضرورة نهج استعمال اللغة العربية في القرارات والمراسيم والتقارير التي تصدرها الوزارة، حيث أمر أطر وموظفي الوزارة باستعمال اللغة العربية في جميع المراسلات والقرارات الإدارية والمناسبات الرسمية. وقد سبق أن ثمنا هذا القرار باعتباره ضرورة حياتية تواصلية أكثر منه تطبيقا لسياسة حكومية . الرابعة هي خرجة الزعماء الاستقلاليين من جديد للدفاع عن سياسة التعريب . ابتدأت بمبادرة المجلس الجماعي لمدينة فاس الأخير الذي أقر كتابة الأسماء باللغة العربية على واجهات المؤسسات، والمتاجر، والمكاتب، والمقاهي، واللوحات الإشهارية. ثم دعوة الأستاذ عباس الفاسي الأمين العام منتخبي حزبه في خطابه أمام اللجنة التنفيذية لجمعية منتخبي حزب الاستقلال إلى تحمل مسؤولية تعريب الحياة العامة ومذكرا بجهود الحزب في تطبيق مقتضيات التعريب منذ توليه إدارة الشأن العام خاصة في وزارات الأوقاف والتعليم والثقافة والصحة والداخلية والعدل والسكنى والتعمير والوزارة الأولى، وداعيا رؤساء الجماعات الاستقلاليين إلى سلوك مسلك شباط بفاس . فهل هذا رجوع إلى تراث الحزب الذي قاد حرب التحرير وتثبيت الهوية الوطنية ونظر لمجتمع العربية ؟ أم هي يقظة متأخرة للأستاذ عباس كنا نتمناها منذ دخوله باب السفراء؟ لا نحب أن ندخل في التأويلات السياسية التي تربط هذه المواقف بشكل الخريطة الحزبية وتحالفاتها ، لكننا قد نجد الجواب عن الإشكالات المطروحة في لفتة لا تخلو من أهمية في خطاب الوزير الأول: المهم هو أن نستعين على قضاء حوائجنا بالكتمان لأن هناك من لا يريد سياسة التعريب. وهذا حقيقي .وبإطلالة عرضية على التعليقات التي تناولت هذا الخطاب سنفهم مقصوده من الكتمان . إن قراءتنا لهذه المناسبات المتناسلة تجعل من التعريب سواء لدى الرافضين أو المدافعين جوهر النقاش اللغوي. وإذا كان رواد الحركة الوطنية قد نظروا إلى القضية باعتبارها قضية وجود وهوية فإن التاريخ أثبت ، وبالملموس ، أن الأمم في مختلف مستوياتها الحضارية تبحث دوما عن الوسيلة الأفضل لتقديم العلم للمتلقي وتنشيط حركية الإبداع والتلقي والتواصل . وحتى في الأمم التي تتعدد لغاتها تجد اتفاقا عرفيا حول لغة وسيطة تجمع بين كل أطياف الشعب ولا تجزؤه . فهل سنظل نكرر الأسطوانة القديمة حول اللغة التي يمكنها أن تنقلنا إلى مجتمع المعرفة وتحافظ على هويتنا الحضارية ؟!.فتعريب التعليم الذي شرع فيه منذ مطلع السبعينيات وتوسع مع بداية الثمانينيات؛ تم إجهاضه حتى رسخ في المخيال الجمعي نسبة الفشل إليه وليس إلى طريقة تدبيره .فالتجربة التراثية تثبت بما لا يدع مجالا للشك قدرة العربية على الاستيعاب والاحتواء والتقديم الأمثل للمعرفة . كما أن حديث الخبراء التشخيصي للحالة اللغوية بالمغرب كما تحيل عليه العروض التي قدمت في الندوة التي نظمها المجلس الأعلى للتعليم حول تدريس اللغات وتعلمها في منظومات التربية والتكوين: مقاربات تشخيصية واستشرافية يؤكد أن الإشكال المتعلق بحضور العربية ليس في القدرة اللسانية بقدر ما يتعلق بالأسلوب الذي تقدم به إلى المتعلم المغربي سواء في المنهاج أو المقاربة البيداغوجية أو الغلاف الزمني المخصص أو كفاءة أطر التدريس أو ظروف التعلم والدعم البيداغوجي . إن الخروج من حالة التذبذب التي تعيشها المدرسة والإدارة المغربيتين لا يمكن أن يكون إلا وفق مسارات أساسية : الأول يأخذ بعين الاعتبار البعد الهوياتي للعربية باعتبارها لغة دستورية ومقدرة إعلاميا وتواصليا في الخطاب الرسمي والشعبي المغربي . حيث يفضل المغاربة التواصل الرسمي بالعربية الفصحى كما تدل عليك الإحصائيات الإعلامية حسب جهاز قياس جمهور التلفزيون ماروك ميتري لشهر يونيو الماضي. ثانيا الحفاظ على الهوية المتعددة للأمة لا يعني افتعال النزاع بين العربية واللغات الوطنية الأخرى وعلى رأسها الأمازيغية أو اعتبار التعريب أداة لاستهدافها بقدر ما يشكل التعريب أداة مواجهة استهداف السيادة اللغوية من اللغات الأجنبية الخارجية بموازاة النهوض باللغات الوطنية الأخرى . ثالثا الانفتاح على المحيط الخارجي ولغاته لا يعني الانسياق وراء ثقافته . وهنا ينبغي التمييز الدائم بين لغة التدريس التي ينبغي أن تكون العربية بدون منازع واللغة المدرسة التي يمكن الانفتاح من خلالها على لغات العالم المختلفة. لهذا سيظل التعريب هو الحل الذي يجمع أجزاء الأمة وينقلها نحو عالم المعرفة .