"" ظلت المسألة اللغوية بالمغرب في قلب النقاش العمومي منذ الاستقلال، كما أنها لم تنفصل قط عن الرهانات السياسية للسلطة وللفرقاء المختلفين، وارتبطت في جوانب أخرى بإشكالية الهوية والانتماء، وبالوضع اللغوي المغربي الذي يتميز بتعقده بسبب تجاور عدد كبير من اللغات الوطنية والأجنبية في شكل تراتبي انعكس على وظائف تلك اللغات و مكانتها. و بالقدر الذي فرض الإرث الكولونيالي وضعية امتياز للغة الفرنسية في دواليب الدولة و في المجتمع، سعت الحساسيات الوطنية بعد الاستقلال إلى إعادة الاعتبار للغات الوطنية العربية و الأمازيغية، حيث جعلت أحزاب الحركة الوطنية من التعريب أحد مبادئ المنظومة التربوية، كما انبثقت من عمق المجتمع حركة مدنية للتذكير بالمعطى الأمازيغي هوية و لغة و ثقافة، غير أنّ الطريقة التي تمّ بها تدبير التنوع اللغوي المغربي على مدى العقود المنصرمة لم تكن تنحو نحو حلّ الإشكال اللغوي بالوضوح اللازم بقدر ما صنعت وضعية متأزمة يطبعها الإرتباك و التردّد مما أنتج وضعية قلق هوياتي عميق. فالإزدواجية اللغوية عربية فرنسية كانت تخفي وراءها رهانا طبقيا لم يكن في صالح أغلبية المغاربة، و إن كان في صالح أقلية استوعبت في وقت مبكر دور اللغة الفرنسية في الترقي الإجتماعي و الحفاظ على امتيازاتها، كما أن واقع التعدد اللغوي الوطني لم يكن يرضي السلطة و دعاة التعريب الذين كانوا يربطون وحدة الأمة و قوة الدولة بتمركزها و قيامها على وحدة المرجعية في الدين و اللغة و الثقافة الوحيدة، مما أدّى إلى التضحية بالمكون الأمازيغي في إطار مفهوم اختزالي للوطنية، و خلق بالتالي أزمة تواصل عميقة بين الدولة و المجتمع، و أدّى إلى ضعف الإحساس لدى المغاربة بالإنتماء إلى ما هو خصوصي مغربي، كما خلق ضعفا كبيرا لدى المتمدرسين في تعلّم اللغات و إتقانها مما انعكس سلبا على مستوى التمدرس بشكل عام. و إذا كان الخطاب الفرنكوفوني المرتكز إلى قوة اللغة الفرنسية في واقع الإقتصاد و الإدارة المغربيين ينظر إلى اللغة العربية بوصفها لغة كلاسيكية حاملة للتراث الديني على وجه الخصوص و للقيم التقليدية، فإن خطاب التعريب لا يكتفي بربط اللغة الفرنسية بالإستعمار و الهيمنة الأجنبية، و استعمال الدستور للدفاع عن لغة وحيدة للدولة، بل ينظر أيضا إلى اللغة الأمازيغية و إلى الدارجة المغربية بوصفهما تمثلان ما يشبه الضرّة المزعجة لانتشار العربية، أو ضربا من "اللهجات" التي لا تستطيع مواكبة رهانات التحديث و التطور. أما الخطاب الأمازيغي فقد سعى بقوة إلى مواجهة الخطابات الأحادية و إلى الدفاع عن مشروعية التنوع الثقافي و أهميته في التنمية الوطنية، كما تشبث بحق الأمازيغية في البقاء و بمسؤولية الدولة في الحفاظ عليها، معتبرا أن اللغة العربية لا يمكن لها في المغرب أن تلعب كل الأدوار و تؤدي كل الوظائف، و معتمدا في ذلك على ثمرات العلوم الإنسانية و الفكر العالمي الحقوقي الذي تبلور على الخصوص في إطار الأممالمتحدة و اليونسكو و المنتظم الحقوق الدولي. يتضح من هذا بأن المسألة اللغوية إن ظلت إشكالا يشغل النقاش العمومي على مدى الخمسين سنة المنصرمة، فلأن ذلك يرجع إلى عدم نجاعة السياسة المتبعة التي لم تقدم أية حلول فعلية لتدبير التنوع بعقلانية العصر و قيمه، بقدر ما سعت إلى التخطيط لتصفيته عن طريق تذويب مختلف العناصر التي تمثل شكلا لا رسميا للثقافة في بوتقة الإيديولوجيا الرسمية. و قد ترتب عن ذلك سنّ سياسة مفارقة للواقع تبعا لنموذج الدولة الوطنية المركزية الذي تمّ تبنيه و المراهنة عليه في الوحدة و التوحيد، مما نتج عنه حتما ما يمكن نعته ب" تغييب الحاضر و استحضار الغائب" سواء في الدستورالذي لا ينصّ على وجود لغة غير العربية، أو في التعليم المعرّب الذي أضعف تعلم اللغات الأجنبية و خلق الكثير من العقد تجاه الأمازيغية دون التمكين من إجادة العربية. و قد نتج عن ذلك كله قلق هوياتي و تلعثم لساني أظهر المغاربة بمظهر الشعب الذي لا يتقن أية لغة بالتحديد، كما تمخضت عن ذلك القلق اللغوي خطابات التعريب و التمزيغ و الفرنسة ثم أخيرا الدعوة إلى الإنجليزية و إلى استعمال الدارجة، و من المعلوم أن وراء الأطروحات اللغوية خيارات إيديولوجية و رهانات طبقية و أحيانا مشاعر انتماء هوياتية لا تخفى، غير أننا إن كنا نعتبر هذه الخطابات من مظاهر حيوية الحقل الثقافي المغربي، فإنه لا يفوتنا أن نسجل الخاصية التي تميز الخطاب الداعي إلى التعريب و المدافع عن اللغة الرسمية، و التي تجعل منه خطابا إقصائيا لا يخلو من عنف ضدّ عناصر التنوع الأخرى، حيث غالبا ما تتمّ المناداة يتكريس اللغة الوحيدة لغة الدولة من خلال تبخيس قيمة اللغات الأخرى و السعي إلى إلغائها من الخريطة اللغوية للبلاد، و لعلّ تلك هي نقطة الضعف الكبرى في خطاب التعريب المطلق الذي لا يرى من مستقبل للعربية بالمغرب إلا على حساب اللغات الأخرى التي ينبغي إضعافها ثمّ محوها بالتدريج. و لخطاب التعريب المطلق هذا جذور في الفكر المغربي ترجع إلى سنة 1930 تحديدا، و هي السنة التي ترتبط بنشأة الحركة الوطنية السياسية التي قادتها أرستقراطية مدينية مكونة في أغلبها من العائلات المنحدرة من أصول أندلسية، و التي تواجدت في عدد من الحواضر المغربية و خاصة فاس و سلا و الرباط و تطوان. و تؤشر سنة 1930 لصدور ظهير 16 ماي 1930 الداعي إلى إحداث المحاكم العرفية " بالمناطق ذات العوائد البربرية"، و هو القرار الذي اتخذته إدارة الحماية انطلاقا من حسابات استعمارية مرتبطة بموازين قوى تلك المرحلة، حيث كانت للفرنسيين "سياسة عربية" تجاه الأعيان الحضريين و "سياسة يهودية" تجاه اليهود المغاربة و "سياسة مخزنية" تجاه المخزن و العرش، و طبعا سياسة بربرية تجاه القبائل الأمازيغية، و قد سكتت العائلات العربية كليا عن السياسة التي اعتمدتها إدارة الحماية ما بين 1912 و 1924، و الهادفة إلى تأهيل النخب الحضرية و التعاون معها و التي كانت في صالح الفئات التي ينتمي إليها مؤسسو الحركة الوطنية السياسية. نفهم من هذا الأسباب التي جعلت ظهير 16 ماي 1930 يثير رعب الأرستقراطية الحضرية المعرّبة، حيث يترتّب عنه الإعتراف رسميا بالثقافة الأمازيغية ثقافة الأغلبية ممثلة في الأعراف الأمازيغية، الأساس القانوني للديمقراطية المحلية في المناطق التي كان ينعتها المخزن ب " بلاد السيبة"، و هو ما جعل ردّ فعل الوطنيين لا يقف عند حدود تنظيم قراءة اللطيف وتوزيع المناشير ضدّ قرار سلطات الحماية، بل تعدّى ذلك إلى مهاجمة "الأعراف البربرية المتوحشة التي ما أنزل الله بها من سلطان" و التي اعتبرت اختراعا فرنسيا، و إلى المطالبة الصريحة ب "عدم إعطاء أي لهجة من اللهجات البربرية أي صفة رسمية، و من ذلك عدم كتابتها بالحروف اللاتينية" كما ورد في عريضة فاس. و في نفس الوقت انطلقت نخبة الحركة الوطنية في التنظير ل " عروبة المغرب" فكريا و سياسيا في أدبيات و بيانات و كتب كثيرة، حيث أصبحت هذه "العروبة" مرتبطة أشدّ الإرتباط بمصيرهذه النخبة كله، و ذلك لأنّ وعي الوطنيين بانتمائهم إلى "أقلية" عربية، جعلهم يعتبرون رهان التعريب رهانا أساسيا في الحفاظ على وضعية أكثر أمانا في موازين القوى، و ضمان موقع النفوذ و الهيمنة بعد الإستقلال، و هو ما يستوجب عدم إعطاء أية فرصة لثقافة الأغلبية لكي ترسّم داخل دواليب الدولة و في قوانينها، و هذا ما يفسر تبني الوطنيين للنموذج اليعقوبي الفرنسي للوحدة عبر التأحيد L’uniformisation. و لهذا لم ينسوا وهم يوجهون نداءهم ل "المخزن الشريف" حليفهم القديم أن يضعوا النقط على الحروف على الشكل التالي: " إنه إذا فصل البربر عن العرب، يصير العرب في حكم الأقلية أمام ذلك التجييش المنظم . و لا شك أنه إذا ثبتت مقدمة الإنفصال، أن تثبت النتائج المذكورة، و إذ ذاك، لا يبعد اليوم الذي يحل بنا فيه ما حل بأسلافنا في الأندلس" (عريضة الرباط 1930). و أعتقد أنه لا جدوى من استحضار ترسانة ضخمة من النصوص التي كتبها الوطنيون خلال الثلاثينات من القرن الماضي، و الداعية كلها إلى التمكين "للعروبة" على حساب أي مكون وطني آخر مع استعمال مكثف للدين الإسلامي باعتباره عامل توحيد و تعريب في الآن نفسه. لقد تبلورت إيديولوجيا التعريب المطلق إذن لأول مرّة خلال فترة الحماية كردّ فعل على السياسة الإستعمارية التي كانت تحاول إضعاف المخزن و حلفائه بعد استكمال الجيش الفرنسي لاحتلال كل التراب المغربي، و لم تكن هذه الإيديولوجيا الناشئة منفصلة عن رهان طبقي جوهري للأرستقراطية المدينية الأندلسية المنزع، و هو رهان الحفاظ على مكاسب حيوية سواء مع إدارة الحماية عبر اقتراح الإصلاحات، أو بعد الإستقلال اعتمادا على إرساء هياكل الدولة الوطنية المركزية. و لهذا كان ظهير 16 ماي مرعبا في محتواه لهذه الطبقة لأنه كان يعني الإعتراف لأول مرّة من طرف المخزن المركزي بضغط من إدارة الحماية بوجود ثقافة خاصة للأمازيغ خارج الثقافة العربية الإسلامية، الإيديولوجيا الرسمية للمخزن التقليدي. نفهم من هذا الأسباب التي جعلت الأمازيغية بعد الإستقلال تتحول إلى أحد أكبر طابوهات المغرب المستقل، فالمحاربة الشديدة لكل مظاهر الخصوصية الأمازيغية للمغرب، و ربط المغرب ربطا مصيريا بالمشرق الذي تحوّل في برامج التعليم و الإعلام إلى مرجعية ثقافية و روحية أوقعت المغاربة مدّة طويلة في التلمذة الكسولة على بديهيات منظومة ثقافية متهالكة، لم تكن تنفصل عن المطالبة الملحة بتعريب التعليم و الحياة العامة من طرف ورثة خطاب الحركة الوطنية الذين قادتهم خلافاتهم السياسية إلى الإنقسام إلى تيارين، أحدهما محافظ و سلفي و الثاني يساري ثوري لكنهما يلتقيان معا عند مطلب التعريب المطلق، في مواجهة تيارين آخرين أحدهما هو الوريث المباشر لإدارة الحماية ممثلا في النخبة الإدارية و السياسية الفرنكوفونية، و الثاني هو المطالب بإعادة الإعتبار للتنوع الثقافي الوطني و للخصوصية المغربية عامة في مقابل الشرقنة أو التغريب، و كذا للمكون الأمازيغي على وجه الخصوص في مقابل التعريب المطلق. و قد كان طبيعيا أن تصطدم إيديولوجيا التعريب المطلق منذ بداية الإستقلال بعقبة أولى هي الواقع المغربي و طبيعة المجتمع ذاته و تركيبته. و في هذا السياق نسوق نصّا لأحد زعماء التيار التعريبي المحافظ و السلفي ممثلا في المرحوم علال الفاسي، حتى نربط الماضي بالحاضر، و نبرز منطلقات و أهداف أعضاء الفريق الإستقلالي الذين عادوا هذه الأيام (أي في سنة 2008 !؟) إلى اقتراح " تعريب الحياة العامة" على البرلمان من جديد. يرجع هذا النصّ الهام إلى سنة 1965، أي عشر سنوات بعد الإستقلال، و هو بعنوان " فعالية اللغة العربية" منشور بمجلة "اللسان العربي" العدد الثالث. و فيه يطرح علال موقفه الحقيقي من وضعية اللغة العربية بالمغرب بوضوح تام وموضوعية نادرا ما نجدها عند "وطنيينا" في مثل هذا الموضوع . استهلّ علال مقاله على الشكل التالي: " قضية العربية في المغرب قضية مزمنة والحق يقال، فهي ليست بنت اليوم ولا ناشئة فقط عن أثر الإستعمار في وطننا، و لكنها في الأصل ناشئة عن تقصير أجدادنا العرب في إكمال مهمة التعريب في المغرب ". إن المشكل إذن هو عدم تعريب المغرب من طرف العرب القدامى (أجداد علال) مما أبقى على وجود "البربرية" بكثافة عاقت تعريب المجتمع في الماضي، وسندع علال يشرح لنا السبب الذي جعل هذه الكثافة تستمر مما أدّى إلى فشل تعريب المغرب كما حدث لبلدان أخرى، يقول : " قلت إن مشكلة العربية في بلادنا مزمنة، و أعني بذلك أن التعريب الذي بدأه أجدادنا لم يتمّ في هذا الوطن، فما يزال قسم من جبال المغرب لا يتكلم العربية و لا يتقن الكلام بها، و هذا على عكس ما انتهى إليه الأمر في كل من تونس و ليبيا و البلاد المشرقية". و طبعا لم يجد علال بدّا من إلقاء اللوم على أجداده العرب الذين لم ينتبهوا إلى وجود "الجبال" أو قصّروا في اقتحامها مما جعلها تظلّ معاقل " للعجمة البريرية"، يضيف قائلا :" إنني أوجّه قبل كل شيء اللوم على أجدادنا من رجال العرب الذين حملوا رسالة الإسلام و العربية لهذا الوطن، فإنهم عوضا عن أن ينكبوا على العمل لإكمال مهمتهم التاريخية المقدسة، شغلوا أنفسهم بالتطاحن على الغنائم و على مقاعد الحكم و خلفوا في وطننا مشاكل اجتماعية لا يمكن أن نتجاهل مصدرها إذا كنا نريد أن نبحث عن الداء و نلتمس له الدواء". و يلاحظ هنا إصرار علال على ربط " رسالة الإسلام" ب " رسالة التعريب"، فبالنسبة له لم يأت أجداده العرب لنشر الديانة الإسلامية فقط بل و لتحويل ساكنة هذه المناطق من هوية إلى أخرى و من لغة إلى أخرى، حيث كان من الخطإ حسب رأيه ترك بعض المناطق معزولة تعيش حياة ثقافية خاصّة، يقول في توضيح ذلك : " وقد زاد في الطين بلة الإضطراب الذي صاحب المغرب في تاريخه كله، و الذي انتهى إلى تباعد الإتصال الفردي بين مختلف الأقاليم المغربية ثم انعزال بعض الجبال التي و إن احتفظت بارتباطها السياسي بالدولة فقد عاشت أجيالا حياة خاصة بها تتطور في دائرة العزلة و تنسى ما عرفته من العربية التي لا يبقى لها وجود في غير المسجد و الكتاب القرآني و على ألسنة بعض الفقهاء". سوف يلاحظ القارئ بأن علال الفاسي لم يستحضر هنا معطيين رئيسيين لتفسير الظاهرة التي يخوض فيها، الأولى أنّ تجذر الثقافة و اللغة لدى الشعوب لا يفسّر بالجبال أو السهول أو بالعامل الجغرافي وحده، الثاني أنّ المرحلة التي يتحدّث عنها عند قدوم العرب لأول مرّة إلى شمال إفريقيا خلال القرن الأول لم تكن تسمح لهم بالإستقرار بالمغرب و بالأحرى تعريب السكان، حيث كانوا في معظمهم يعودون إلى الشرق بعد الغزو، و أما الإستيطان العربي بالمغرب فقد بدأ في ظلّ الدول الأمازيغية (خاصة الموحدون و المرينيون ) التي لم يكن ممكنا بدورها أن تقوم بتعريب المغاربة لأنها كانت تعتمد لغة القوم و ثقافتهم سواء في عصبيتها أو في تعبئتها لمشروعها السياسي. لكن الذي يلفت الإنتباه و يصدم الحسّ الوطني في خطاب علال و ورثته إلى اليوم هو الحديث عن الأمازيغية كما لو أنها عنصر سلبي لأنه يعرقل التعريب الشامل، و لهذا يغيب في كتاباتهم ووثائقهم أي شعور بالإنتماء إلى الأمازيغية كما العربية، يقول علال مساويا بين العجمة الداخلية و الخارجية في مقاربة وضعية العربية: " ثم هاجم الإستعمار التركي سائر بلاد العرب ما عدا المغرب، فأضعف ذلك العربية في مراكز ازدهارها في بغداد و القاهرة و دمشق، في الوقت الذي أفل فيه نجم الإسلام و العربية في الأندلس و بقي المغرب لنفسه يقاوم تيار العجمة الذي يهاجمه من الداخل و من الخارج "، فالعربية الضحية حاصرتها عجمتان داخلية و خارجية و هما معا أجنبيتان عن علال و تفكيره، و تتساويان في أثرهما السلبي على العروبة، عجمة " بربرية" و أخرى تركية. هذه العوامل كلها جعلت العربية في وضعية هشّة بالمغرب إلى أن جاء الإستعمار فاستغل الأوضاع القائمة، يقول علال : " ثم هجم الإستعمار الفرنسي على وطننا فيما هجم عليه من بلاد العرب ووجد نقط الضعف السابقة فحاول الإستفادة منها للقضاء على العربية" . يتضح مما ذكره علال بأنّ مشكلة العربية بالمغرب لم تنشأ عن الإستعمار أو تواجد اللغة الفرنسية كما يعتقد اليوم بعض ورثته، بل كانت مشكلة موجودة على امتداد تاريخ المغرب، و يضيف إليها عاملا على قدر كبير من الأهمية طالما هوجمنا بسببه كلما ذكرناه، و هو مشكلة النسق اللسني ذاته للغة العربية، العامل الذي أضعف حيويتها و جعل منها لغة نخب و أوساط رسمية عبر التاريخ في مختلف الدول و البلدان التي تواجدت بها، يقول علال موضحا ذلك: " و إذا أضفنا إلى هذا و ذاك تلك العلّة التي صاحبت اللغة العربية في كل أنحاء العالم، و هي أنها تطورت في دائرة ضيقة من العلماء و اللغويين و المفكرين، و بمعزل عن عامة الشعب، الأمر الذي أدّى إلى خلق ازدواج لغوي بين لغة الكتابة و لغة الحديث، عرفنا حقيقة الأزمة التي أشرت إليها في مرضنا اللغوي". لم يكتف علال بوصف حالة العربية ووضعيتها في المغرب، بل انتقل إلى اقتراح الحلول على الشكل التالي: " و إنني لأرجو أن يتحد رجالنا على خدمة اللغة العربية و تمهيد الطرق لنموها و تطورها حتى يضمنوا للمغرب و للإسلام فيه حياة عربية موحدة تستكمل ما بدأه أجدادنا من غرس ناجع للعروبة في هذه الأرض الحبيبة، و بذلك تكمل وحدتنا اللغوية التي هي ضرورة لنا و لوحدة العالم العربي كلّه." فخدمة العربية إذن و تعميم التعريب له هدف واضح هو ضمان "حياة عربية" للجميع و قطف ثمار "العروبة" التي غرسها الأجداد، إن الأمر يتجاوز اللغة إلى الهوية، إلى الكيان الدولتي و الإجتماعي كله، و هو نفس الهدف الذي ظلّ يراود ورثة علال حتى اليوم. و بما أنه بقي في نفسه شيء من حتى تجاه "الجبال البربرية" فقد اقترح لها ما يلي: " و ما دمنا نتكلم عن هذا الجانب من جوانب التعريب فيجب أن ننتبه إلى ضرورة العمل على نشر العربية بكل الوسائل المثيرة و التي تدخل في إطار التربية الأساسية و لا سيما في الجبال البربرية. و إني لأقترح على وزارة الأنباء أن تنظم في الإذاعة المغربية برنامجا يوميا لتعليم لغة الكلام العربية عن طريق الأثير ". نفهم من هذا الأسباب التي جعلت الدولة تبقي نسبة البث الإذاعي بالأمازيغية منخفضة إلى أقصى حدّ بأجهزة دفع بدائية في الوقت الذي تمّ فيه تطوير البث و تقويته باللغة العربية، حيث لم يكن يث الأمازيغية يتعدّى تغطية 13 في المائة من التراب الوطني، في الوقت الذي ظل فيه سكان "الجبال البربرية" على مدى نصف قرن ينتظرون أن تكلمهم الدولة بلغتهم و أن يتواصلوا مع ثقافتهم عبر الإذاعة الوطنية، و تفسير ذلك عند علال هو في القاعدة الصارمة التالية: " ليس من المعقول أن يظل المواطنون في جهة ما بحاجة إلى من يخاطبهم بلغة غير لغة الدولة". و لكن من أين استمدّ علال هذه القاعدة ؟ ما هي مرجعيته في ذلك ؟ إنه يوضحها في المثال التالي: " فإذا نظرنا إلى فرنسا نجد أن بها عدّة لغات إقليمية لم يستطع اختيار اللغة الوطنية أن يقضي عليها، و حينما وقع تدوين اللغة الوطنية الفرنسية اقتصر عليها كلغة رسمية و لم يسمح لواحد من اللهجات الأخرى بالتدوين و لا أذن للأقاليم حتى بإصدار جريدة بلغتهم الخاصّة، بل إنهم محوا ما كان مكتوبا بلغة الباسك تعصبا منهم للغة القومية و محافظة على كيانها". يقدّم علال النموذج اليعقوبي الفرنسي الملهم بكثير من الإعتزاز، بل إنّ ما يمكن أن يعدّ اليوم عدوانا شرسا على اللغات و حرب إبادة ضدّها يكتسي لدى علال مشروعية تامة، حيث "التعصب" للغة الرسمية ضدّ غيرها فضيلة، و سيساعدنا هذا كثيرا على فهم الأسباب التي تجعل دعاة التعريب المطلق إلى اليوم يتناولون موضوع التنوع الثقافي و اللغوي الوطني بكثير من التذمر و الحذر عوض الإعتزاز أو الفخر أو النظرة العقلانية المتّزنة. نخلص من قراءتنا لنص علال الفاسي إلى الخلاصات التالية التي تسمح لنا بفهم ما يريده اليوم ورثته و أتباعه من الذين تقدّموا ب " مقترح قانون لتعريب الإدراة و الحياة العامة": أنّ خطاب التعريب المطلق لا يرمي إلى التمكين للغة العربية الرسمية أو تطبيق الدستور بتعريب المراسلات الإدارية كما يحاول ظاهر الخطاب أن يقول، بل إنّ حقيقته هو ما أفصح عنه علال الفاسي قبل 45 سنة، و هو تعريب الهوية عبر بوابة اللغة و الثقافة العربيتين، أي اصطناع هوية أخرى للشعب المغربي ككل تلبية لحاجات الدولة المركزية. أنّ الأمازيغية بمقتضى هذا المنظور تعدّ عائقا غير مرغوب فيه لأنها تعرقل التعريب المطلق المطلوب، و الذي لا يمكن أن يتمّ إلا عبر تصفية التنوع و إماتته بمحاصرته و حرمانه من دعم الدولة و قنواتها الرسمية. و إذا كان علال قد أفصح عن ذلك بالواضح فيما قبل، فإنّ ورثته اليوم قد عبّروا عنه من خلال استهداف التنوع اللغوي الوطني مع اللغة الفرنسية الأجنبية سواء بسواء، و ذلك في مطالبتهم بمنع استعمال أية لغة أخرى غير العربية و الحرف العربي في الإدارة أو اللافتات و الملصقات و الدعوات و المحلات التجارية و الشركات إلخ... أنّ دعاة التعريب المطلق بالأمس و اليوم قد اعتمدوا دائما مرجعيتين أجنبيتين عن المغرب: مرجعية القومية العربية التي تبنوها منذ زيارة سفيرها شكيب أرسلان للمغرب عام 1930، و مرجعية النموذج الفرنسي اليعقوبي الذي ترسّخ في أذهانهم مع الحماية الفرنسية، فالوطنيون و دعاة التعريب هم بشكل من الأشكال أبناء بررة لفرنسا الأم. أنّ التنوّع الثقافي و اللغوي الوطني ليس كارثة أو فضيحة، بل هو حقيقتنا اليومية التي هي بحاجة إلى تدبير معقلن و رعاية و حماية، و لهذا السبب لا يمكن السكوت عن أولوية الأولويات المستعجلة التي يمثلها الإعتراف الدستوري بهذا التنوع سواء في الهوية أو اللغة أو الثقافة، و هو الإعتراف الذي سيمكّن من وضع الترسانة القانونية الحامية لكل ممتلكاتنا الرمزية بدون استثناء، و عندئذ فقط يمكن التفكير مع ورثة علال الفاسي في الغرامات التي يمكن فرضها على كل من خرق القانون بالمسّ بأحد مكونات إرثنا المشترك. و إذا كان الخطاب الفرنكوفوني المرتكز إلى قوة اللغة الفرنسية في واقع الإقتصاد و الإدارة المغربيين ينظر إلى اللغة العربية بوصفها لغة كلاسيكية حاملة للتراث الديني على وجه الخصوص و للقيم التقليدية، فإن خطاب التعريب لا يكتفي بربط اللغة الفرنسية بالإستعمار و الهيمنة الأجنبية، و استعمال الدستور للدفاع عن لغة وحيدة للدولة، بل ينظر أيضا إلى اللغة الأمازيغية و إلى الدارجة المغربية بوصفهما تمثلان ما يشبه الضرّة المزعجة لانتشار العربية، أو ضربا من "اللهجات" التي لا تستطيع مواكبة رهانات التحديث و التطور. أما الخطاب الأمازيغي فقد سعى بقوة إلى مواجهة الخطابات الأحادية و إلى الدفاع عن مشروعية التنوع الثقافي و أهميته في التنمية الوطنية، كما تشبث بحق الأمازيغية في البقاء و بمسؤولية الدولة في الحفاظ عليها، معتبرا أن اللغة العربية لا يمكن لها في المغرب أن تلعب كل الأدوار و تؤدي كل الوظائف، و معتمدا في ذلك على ثمرات العلوم الإنسانية و الفكر العالمي الحقوقي الذي تبلور على الخصوص في إطار الأممالمتحدة و اليونسكو و المنتظم الحقوق الدولي. يتضح من هذا بأن المسألة اللغوية إن ظلت إشكالا يشغل النقاش العمومي على مدى الخمسين سنة المنصرمة، فلأن ذلك يرجع إلى عدم نجاعة السياسة المتبعة التي لم تقدم أية حلول فعلية لتدبير التنوع بعقلانية العصر و قيمه، بقدر ما سعت إلى التخطيط لتصفيته عن طريق تذويب مختلف العناصر التي تمثل شكلا لا رسميا للثقافة في بوتقة الإيديولوجيا الرسمية. و قد ترتب عن ذلك سنّ سياسة مفارقة للواقع تبعا لنموذج الدولة الوطنية المركزية الذي تمّ تبنيه و المراهنة عليه في الوحدة و التوحيد، مما نتج عنه حتما ما يمكن نعته ب" تغييب الحاضر و استحضار الغائب" سواء في الدستورالذي لا ينصّ على وجود لغة غير العربية، أو في التعليم المعرّب الذي أضعف تعلم اللغات الأجنبية و خلق الكثير من العقد تجاه الأمازيغية دون التمكين من إجادة العربية. و قد نتج عن ذلك كله قلق هوياتي و تلعثم لساني أظهر المغاربة بمظهر الشعب الذي لا يتقن أية لغة بالتحديد، كما تمخضت عن ذلك القلق اللغوي خطابات التعريب و التمزيغ و الفرنسة ثم أخيرا الدعوة إلى الإنجليزية و إلى استعمال الدارجة، و من المعلوم أن وراء الأطروحات اللغوية خيارات إيديولوجية و رهانات طبقية و أحيانا مشاعر انتماء هوياتية لا تخفى، غير أننا إن كنا نعتبر هذه الخطابات من مظاهر حيوية الحقل الثقافي المغربي، فإنه لا يفوتنا أن نسجل الخاصية التي تميز الخطاب الداعي إلى التعريب و المدافع عن اللغة الرسمية، و التي تجعل منه خطابا إقصائيا لا يخلو من عنف ضدّ عناصر التنوع الأخرى، حيث غالبا ما تتمّ المناداة يتكريس اللغة الوحيدة لغة الدولة من خلال تبخيس قيمة اللغات الأخرى و السعي إلى إلغائها من الخريطة اللغوية للبلاد، و لعلّ تلك هي نقطة الضعف الكبرى في خطاب التعريب المطلق الذي لا يرى من مستقبل للعربية بالمغرب إلا على حساب اللغات الأخرى التي ينبغي إضعافها ثمّ محوها بالتدريج. و لخطاب التعريب المطلق هذا جذور في الفكر المغربي ترجع إلى سنة 1930 تحديدا، و هي السنة التي ترتبط بنشأة الحركة الوطنية السياسية التي قادتها أرستقراطية مدينية مكونة في أغلبها من العائلات المنحدرة من أصول أندلسية، و التي تواجدت في عدد من الحواضر المغربية و خاصة فاس و سلا و الرباط و تطوان. و تؤشر سنة 1930 لصدور ظهير 16 ماي 1930 الداعي إلى إحداث المحاكم العرفية " بالمناطق ذات العوائد البربرية"، و هو القرار الذي اتخذته إدارة الحماية انطلاقا من حسابات استعمارية مرتبطة بموازين قوى تلك المرحلة، حيث كانت للفرنسيين "سياسة عربية" تجاه الأعيان الحضريين و "سياسة يهودية" تجاه اليهود المغاربة و "سياسة مخزنية" تجاه المخزن و العرش، و طبعا سياسة بربرية تجاه القبائل الأمازيغية، و قد سكتت العائلات العربية كليا عن السياسة التي اعتمدتها إدارة الحماية ما بين 1912 و 1924، و الهادفة إلى تأهيل النخب الحضرية و التعاون معها و التي كانت في صالح الفئات التي ينتمي إليها مؤسسو الحركة الوطنية السياسية. نفهم من هذا الأسباب التي جعلت ظهير 16 ماي 1930 يثير رعب الأرستقراطية الحضرية المعرّبة، حيث يترتّب عنه الإعتراف رسميا بالثقافة الأمازيغية ثقافة الأغلبية ممثلة في الأعراف الأمازيغية، الأساس القانوني للديمقراطية المحلية في المناطق التي كان ينعتها المخزن ب " بلاد السيبة"، و هو ما جعل ردّ فعل الوطنيين لا يقف عند حدود تنظيم قراءة اللطيف وتوزيع المناشير ضدّ قرار سلطات الحماية، بل تعدّى ذلك إلى مهاجمة "الأعراف البربرية المتوحشة التي ما أنزل الله بها من سلطان" و التي اعتبرت اختراعا فرنسيا، و إلى المطالبة الصريحة ب "عدم إعطاء أي لهجة من اللهجات البربرية أي صفة رسمية، و من ذلك عدم كتابتها بالحروف اللاتينية" كما ورد في عريضة فاس. و في نفس الوقت انطلقت نخبة الحركة الوطنية في التنظير ل " عروبة المغرب" فكريا و سياسيا في أدبيات و بيانات و كتب كثيرة، حيث أصبحت هذه "العروبة" مرتبطة أشدّ الإرتباط بمصيرهذه النخبة كله، و ذلك لأنّ وعي الوطنيين بانتمائهم إلى "أقلية" عربية، جعلهم يعتبرون رهان التعريب رهانا أساسيا في الحفاظ على وضعية أكثر أمانا في موازين القوى، و ضمان موقع النفوذ و الهيمنة بعد الإستقلال، و هو ما يستوجب عدم إعطاء أية فرصة لثقافة الأغلبية لكي ترسّم داخل دواليب الدولة و في قوانينها، و هذا ما يفسر تبني الوطنيين للنموذج اليعقوبي الفرنسي للوحدة عبر التأحيد L’uniformisation. و لهذا لم ينسوا وهم يوجهون نداءهم ل "المخزن الشريف" حليفهم القديم أن يضعوا النقط على الحروف على الشكل التالي: " إنه إذا فصل البربر عن العرب، يصير العرب في حكم الأقلية أمام ذلك التجييش المنظم . و لا شك أنه إذا ثبتت مقدمة الإنفصال، أن تثبت النتائج المذكورة، و إذ ذاك، لا يبعد اليوم الذي يحل بنا فيه ما حل بأسلافنا في الأندلس" (عريضة الرباط 1930). و أعتقد أنه لا جدوى من استحضار ترسانة ضخمة من النصوص التي كتبها الوطنيون خلال الثلاثينات من القرن الماضي، و الداعية كلها إلى التمكين "للعروبة" على حساب أي مكون وطني آخر مع استعمال مكثف للدين الإسلامي باعتباره عامل توحيد و تعريب في الآن نفسه. لقد تبلورت إيديولوجيا التعريب المطلق إذن لأول مرّة خلال فترة الحماية كردّ فعل على السياسة الإستعمارية التي كانت تحاول إضعاف المخزن و حلفائه بعد استكمال الجيش الفرنسي لاحتلال كل التراب المغربي، و لم تكن هذه الإيديولوجيا الناشئة منفصلة عن رهان طبقي جوهري للأرستقراطية المدينية الأندلسية المنزع، و هو رهان الحفاظ على مكاسب حيوية سواء مع إدارة الحماية عبر اقتراح الإصلاحات، أو بعد الإستقلال اعتمادا على إرساء هياكل الدولة الوطنية المركزية. و لهذا كان ظهير 16 ماي مرعبا في محتواه لهذه الطبقة لأنه كان يعني الإعتراف لأول مرّة من طرف المخزن المركزي بضغط من إدارة الحماية بوجود ثقافة خاصة للأمازيغ خارج الثقافة العربية الإسلامية، الإيديولوجيا الرسمية للمخزن التقليدي. نفهم من هذا الأسباب التي جعلت الأمازيغية بعد الإستقلال تتحول إلى أحد أكبر طابوهات المغرب المستقل، فالمحاربة الشديدة لكل مظاهر الخصوصية الأمازيغية للمغرب، و ربط المغرب ربطا مصيريا بالمشرق الذي تحوّل في برامج التعليم و الإعلام إلى مرجعية ثقافية و روحية أوقعت المغاربة مدّة طويلة في التلمذة الكسولة على بديهيات منظومة ثقافية متهالكة، لم تكن تنفصل عن المطالبة الملحة بتعريب التعليم و الحياة العامة من طرف ورثة خطاب الحركة الوطنية الذين قادتهم خلافاتهم السياسية إلى الإنقسام إلى تيارين، أحدهما محافظ و سلفي و الثاني يساري ثوري لكنهما يلتقيان معا عند مطلب التعريب المطلق، في مواجهة تيارين آخرين أحدهما هو الوريث المباشر لإدارة الحماية ممثلا في النخبة الإدارية و السياسية الفرنكوفونية، و الثاني هو المطالب بإعادة الإعتبار للتنوع الثقافي الوطني و للخصوصية المغربية عامة في مقابل الشرقنة أو التغريب، و كذا للمكون الأمازيغي على وجه الخصوص في مقابل التعريب المطلق. و قد كان طبيعيا أن تصطدم إيديولوجيا التعريب المطلق منذ بداية الإستقلال بعقبة أولى هي الواقع المغربي و طبيعة المجتمع ذاته و تركيبته. و في هذا السياق نسوق نصّا لأحد زعماء التيار التعريبي المحافظ و السلفي ممثلا في المرحوم علال الفاسي، حتى نربط الماضي بالحاضر، و نبرز منطلقات و أهداف أعضاء الفريق الإستقلالي الذين عادوا هذه الأيام (أي في سنة 2008 !؟) إلى اقتراح " تعريب الحياة العامة" على البرلمان من جديد. يرجع هذا النصّ الهام إلى سنة 1965، أي عشر سنوات بعد الإستقلال، و هو بعنوان " فعالية اللغة العربية" منشور بمجلة "اللسان العربي" العدد الثالث. و فيه يطرح علال موقفه الحقيقي من وضعية اللغة العربية بالمغرب بوضوح تام وموضوعية نادرا ما نجدها عند "وطنيينا" في مثل هذا الموضوع . استهلّ علال مقاله على الشكل التالي: " قضية العربية في المغرب قضية مزمنة والحق يقال، فهي ليست بنت اليوم ولا ناشئة فقط عن أثر الإستعمار في وطننا، و لكنها في الأصل ناشئة عن تقصير أجدادنا العرب في إكمال مهمة التعريب في المغرب ". إن المشكل إذن هو عدم تعريب المغرب من طرف العرب القدامى (أجداد علال) مما أبقى على وجود "البربرية" بكثافة عاقت تعريب المجتمع في الماضي، وسندع علال يشرح لنا السبب الذي جعل هذه الكثافة تستمر مما أدّى إلى فشل تعريب المغرب كما حدث لبلدان أخرى، يقول : " قلت إن مشكلة العربية في بلادنا مزمنة، و أعني بذلك أن التعريب الذي بدأه أجدادنا لم يتمّ في هذا الوطن، فما يزال قسم من جبال المغرب لا يتكلم العربية و لا يتقن الكلام بها، و هذا على عكس ما انتهى إليه الأمر في كل من تونس و ليبيا و البلاد المشرقية". و طبعا لم يجد علال بدّا من إلقاء اللوم على أجداده العرب الذين لم ينتبهوا إلى وجود "الجبال" أو قصّروا في اقتحامها مما جعلها تظلّ معاقل " للعجمة البريرية"، يضيف قائلا :" إنني أوجّه قبل كل شيء اللوم على أجدادنا من رجال العرب الذين حملوا رسالة الإسلام و العربية لهذا الوطن، فإنهم عوضا عن أن ينكبوا على العمل لإكمال مهمتهم التاريخية المقدسة، شغلوا أنفسهم بالتطاحن على الغنائم و على مقاعد الحكم و خلفوا في وطننا مشاكل اجتماعية لا يمكن أن نتجاهل مصدرها إذا كنا نريد أن نبحث عن الداء و نلتمس له الدواء". و يلاحظ هنا إصرار علال على ربط " رسالة الإسلام" ب " رسالة التعريب"، فبالنسبة له لم يأت أجداده العرب لنشر الديانة الإسلامية فقط بل و لتحويل ساكنة هذه المناطق من هوية إلى أخرى و من لغة إلى أخرى، حيث كان من الخطإ حسب رأيه ترك بعض المناطق معزولة تعيش حياة ثقافية خاصّة، يقول في توضيح ذلك : " وقد زاد في الطين بلة الإضطراب الذي صاحب المغرب في تاريخه كله، و الذي انتهى إلى تباعد الإتصال الفردي بين مختلف الأقاليم المغربية ثم انعزال بعض الجبال التي و إن احتفظت بارتباطها السياسي بالدولة فقد عاشت أجيالا حياة خاصة بها تتطور في دائرة العزلة و تنسى ما عرفته من العربية التي لا يبقى لها وجود في غير المسجد و الكتاب القرآني و على ألسنة بعض الفقهاء". سوف يلاحظ القارئ بأن علال الفاسي لم يستحضر هنا معطيين رئيسيين لتفسير الظاهرة التي يخوض فيها، الأولى أنّ تجذر الثقافة و اللغة لدى الشعوب لا يفسّر بالجبال أو السهول أو بالعامل الجغرافي وحده، الثاني أنّ المرحلة التي يتحدّث عنها عند قدوم العرب لأول مرّة إلى شمال إفريقيا خلال القرن الأول لم تكن تسمح لهم بالإستقرار بالمغرب و بالأحرى تعريب السكان، حيث كانوا في معظمهم يعودون إلى الشرق بعد الغزو، و أما الإستيطان العربي بالمغرب فقد بدأ في ظلّ الدول الأمازيغية (خاصة الموحدون و المرينيون ) التي لم يكن ممكنا بدورها أن تقوم بتعريب المغاربة لأنها كانت تعتمد لغة القوم و ثقافتهم سواء في عصبيتها أو في تعبئتها لمشروعها السياسي. لكن الذي يلفت الإنتباه و يصدم الحسّ الوطني في خطاب علال و ورثته إلى اليوم هو الحديث عن الأمازيغية كما لو أنها عنصر سلبي لأنه يعرقل التعريب الشامل، و لهذا يغيب في كتاباتهم ووثائقهم أي شعور بالإنتماء إلى الأمازيغية كما العربية، يقول علال مساويا بين العجمة الداخلية و الخارجية في مقاربة وضعية العربية: " ثم هاجم الإستعمار التركي سائر بلاد العرب ما عدا المغرب، فأضعف ذلك العربية في مراكز ازدهارها في بغداد و القاهرة و دمشق، في الوقت الذي أفل فيه نجم الإسلام و العربية في الأندلس و بقي المغرب لنفسه يقاوم تيار العجمة الذي يهاجمه من الداخل و من الخارج "، فالعربية الضحية حاصرتها عجمتان داخلية و خارجية و هما معا أجنبيتان عن علال و تفكيره، و تتساويان في أثرهما السلبي على العروبة، عجمة " بربرية" و أخرى تركية. هذه العوامل كلها جعلت العربية في وضعية هشّة بالمغرب إلى أن جاء الإستعمار فاستغل الأوضاع القائمة، يقول علال : " ثم هجم الإستعمار الفرنسي على وطننا فيما هجم عليه من بلاد العرب ووجد نقط الضعف السابقة فحاول الإستفادة منها للقضاء على العربية" . يتضح مما ذكره علال بأنّ مشكلة العربية بالمغرب لم تنشأ عن الإستعمار أو تواجد اللغة الفرنسية كما يعتقد اليوم بعض ورثته، بل كانت مشكلة موجودة على امتداد تاريخ المغرب، و يضيف إليها عاملا على قدر كبير من الأهمية طالما هوجمنا بسببه كلما ذكرناه، و هو مشكلة النسق اللسني ذاته للغة العربية، العامل الذي أضعف حيويتها و جعل منها لغة نخب و أوساط رسمية عبر التاريخ في مختلف الدول و البلدان التي تواجدت بها، يقول علال موضحا ذلك: " و إذا أضفنا إلى هذا و ذاك تلك العلّة التي صاحبت اللغة العربية في كل أنحاء العالم، و هي أنها تطورت في دائرة ضيقة من العلماء و اللغويين و المفكرين، و بمعزل عن عامة الشعب، الأمر الذي أدّى إلى خلق ازدواج لغوي بين لغة الكتابة و لغة الحديث، عرفنا حقيقة الأزمة التي أشرت إليها في مرضنا اللغوي". لم يكتف علال بوصف حالة العربية ووضعيتها في المغرب، بل انتقل إلى اقتراح الحلول على الشكل التالي: " و إنني لأرجو أن يتحد رجالنا على خدمة اللغة العربية و تمهيد الطرق لنموها و تطورها حتى يضمنوا للمغرب و للإسلام فيه حياة عربية موحدة تستكمل ما بدأه أجدادنا من غرس ناجع للعروبة في هذه الأرض الحبيبة، و بذلك تكمل وحدتنا اللغوية التي هي ضرورة لنا و لوحدة العالم العربي كلّه." فخدمة العربية إذن و تعميم التعريب له هدف واضح هو ضمان "حياة عربية" للجميع و قطف ثمار "العروبة" التي غرسها الأجداد، إن الأمر يتجاوز اللغة إلى الهوية، إلى الكيان الدولتي و الإجتماعي كله، و هو نفس الهدف الذي ظلّ يراود ورثة علال حتى اليوم. و بما أنه بقي في نفسه شيء من حتى تجاه "الجبال البربرية" فقد اقترح لها ما يلي: " و ما دمنا نتكلم عن هذا الجانب من جوانب التعريب فيجب أن ننتبه إلى ضرورة العمل على نشر العربية بكل الوسائل المثيرة و التي تدخل في إطار التربية الأساسية و لا سيما في الجبال البربرية. و إني لأقترح على وزارة الأنباء أن تنظم في الإذاعة المغربية برنامجا يوميا لتعليم لغة الكلام العربية عن طريق الأثير ". نفهم من هذا الأسباب التي جعلت الدولة تبقي نسبة البث الإذاعي بالأمازيغية منخفضة إلى أقصى حدّ بأجهزة دفع بدائية في الوقت الذي تمّ فيه تطوير البث و تقويته باللغة العربية، حيث لم يكن يث الأمازيغية يتعدّى تغطية 13 في المائة من التراب الوطني، في الوقت الذي ظل فيه سكان "الجبال البربرية" على مدى نصف قرن ينتظرون أن تكلمهم الدولة بلغتهم و أن يتواصلوا مع ثقافتهم عبر الإذاعة الوطنية، و تفسير ذلك عند علال هو في القاعدة الصارمة التالية: " ليس من المعقول أن يظل المواطنون في جهة ما بحاجة إلى من يخاطبهم بلغة غير لغة الدولة". و لكن من أين استمدّ علال هذه القاعدة ؟ ما هي مرجعيته في ذلك ؟ إنه يوضحها في المثال التالي: " فإذا نظرنا إلى فرنسا نجد أن بها عدّة لغات إقليمية لم يستطع اختيار اللغة الوطنية أن يقضي عليها، و حينما وقع تدوين اللغة الوطنية الفرنسية اقتصر عليها كلغة رسمية و لم يسمح لواحد من اللهجات الأخرى بالتدوين و لا أذن للأقاليم حتى بإصدار جريدة بلغتهم الخاصّة، بل إنهم محوا ما كان مكتوبا بلغة الباسك تعصبا منهم للغة القومية و محافظة على كيانها". يقدّم علال النموذج اليعقوبي الفرنسي الملهم بكثير من الإعتزاز، بل إنّ ما يمكن أن يعدّ اليوم عدوانا شرسا على اللغات و حرب إبادة ضدّها يكتسي لدى علال مشروعية تامة، حيث "التعصب" للغة الرسمية ضدّ غيرها فضيلة، و سيساعدنا هذا كثيرا على فهم الأسباب التي تجعل دعاة التعريب المطلق إلى اليوم يتناولون موضوع التنوع الثقافي و اللغوي الوطني بكثير من التذمر و الحذر عوض الإعتزاز أو الفخر أو النظرة العقلانية المتّزنة. نخلص من قراءتنا لنص علال الفاسي إلى الخلاصات التالية التي تسمح لنا بفهم ما يريده اليوم ورثته و أتباعه من الذين تقدّموا ب " مقترح قانون لتعريب الإدراة و الحياة العامة": أنّ خطاب التعريب المطلق لا يرمي إلى التمكين للغة العربية الرسمية أو تطبيق الدستور بتعريب المراسلات الإدارية كما يحاول ظاهر الخطاب أن يقول، بل إنّ حقيقته هو ما أفصح عنه علال الفاسي قبل 45 سنة، و هو تعريب الهوية عبر بوابة اللغة و الثقافة العربيتين، أي اصطناع هوية أخرى للشعب المغربي ككل تلبية لحاجات الدولة المركزية. أنّ الأمازيغية بمقتضى هذا المنظور تعدّ عائقا غير مرغوب فيه لأنها تعرقل التعريب المطلق المطلوب، و الذي لا يمكن أن يتمّ إلا عبر تصفية التنوع و إماتته بمحاصرته و حرمانه من دعم الدولة و قنواتها الرسمية. و إذا كان علال قد أفصح عن ذلك بالواضح فيما قبل، فإنّ ورثته اليوم قد عبّروا عنه من خلال استهداف التنوع اللغوي الوطني مع اللغة الفرنسية الأجنبية سواء بسواء، و ذلك في مطالبتهم بمنع استعمال أية لغة أخرى غير العربية و الحرف العربي في الإدارة أو اللافتات و الملصقات و الدعوات و المحلات التجارية و الشركات إلخ... أنّ دعاة التعريب المطلق بالأمس و اليوم قد اعتمدوا دائما مرجعيتين أجنبيتين عن المغرب: مرجعية القومية العربية التي تبنوها منذ زيارة سفيرها شكيب أرسلان للمغرب عام 1930، و مرجعية النموذج الفرنسي اليعقوبي الذي ترسّخ في أذهانهم مع الحماية الفرنسية، فالوطنيون و دعاة التعريب هم بشكل من الأشكال أبناء بررة لفرنسا الأم. أنّ التنوّع الثقافي و اللغوي الوطني ليس كارثة أو فضيحة، بل هو حقيقتنا اليومية التي هي بحاجة إلى تدبير معقلن و رعاية و حماية، و لهذا السبب لا يمكن السكوت عن أولوية الأولويات المستعجلة التي يمثلها الإعتراف الدستوري بهذا التنوع سواء في الهوية أو اللغة أو الثقافة، و هو الإعتراف الذي سيمكّن من وضع الترسانة القانونية الحامية لكل ممتلكاتنا الرمزية بدون استثناء، و عندئذ فقط يمكن التفكير مع ورثة علال الفاسي في الغرامات التي يمكن فرضها على كل من خرق القانون بالمسّ بأحد مكونات إرثنا المشترك.