تقديم ما من شك في أن استمرار اللغة رهين بالاستعمال وبمواقف المتكلمين، وأن السلوك اللغوي الفردي والجماعي هو ما يعكس حقيقة تلك المواقف. وهكذا يلزم رصد مظاهر ذلك السلوك تجاه الخريطة اللغوية القائمة بغية فهم تلك المواقف وفك ما قد يشوبها من لبس، في أفق إمكانية تخيل استراتيجية لغوية منسجمة مع الواقع اللغوي بشكل عام. بعض أوجه حقيقة الوضع اللغوي بالمغرب إن تناول الوضع اللغوي بالمغرب يقتضي تناول تمثلات حقيقة المواقف الجماعية من الخريطة اللغوية القائمة، فهذه التمثلات تتوزع على شكل هرم سوسيولساني توجد على قمته اللغة المفضلة لدى كل جماعة: العربية او الامازيغية او الفرنسية كلغة اجنبية، وقد تكون الاسبانية لغة أجنبية مفضلة لدى البعض كما هو الوضع في بعض مناطق الشمال والجنوب. غير ان هذه الهرمية بهذه الصورة لا تعكس الا وضعا اجتماعيا لغويا واحدا، وهو الوضع المرتبط بالعاطفة والمواقف. ان سلطة كل لغة ومجال استعمالها قد يخلان بتراتبية هذا الهرم، فمستويات استعمال الفرنسية مثلا تختلف عنها في العربية او الامازيغية. من الباحثين والدارسين من ينظر مثلا الى الأمازيغية باعتبارها تمتلك كل المقومات التي تؤهلها لأن تكون لغة التعامل الاداري والتعليمي وفي غيره من المجالات، في حين يرى البعض ان الأمازيغية بهذا الدور هي لغة غير قائمة، وما هو قائم هو لهجات جهوية محلية للأمازيغية"المشتركة" التي تشكل القاسم المشترك بين كل تلك اللهجات. وعلى هذا الأساس فهي على خلاف اللهجات غير مجسدة في الواقع ما دامت لا تستعمل او لا تتوفر على مستعملين. ان كلتي الرؤيتين لا تخلوان من نكهة ايديولوجية حسب موقف اصحابهما من المسألة الامازيغية وموقعهما داخلها او خارجها. وعموما فان اعتبار الامازيغية "لهجة" ينم عن ايديولوجيا لغوية، كما أن اعتبار العربية لغة "دخيلة" قد ينم كذلك عن ايديولوجيا لغوية، والسكوت عن وضع الفرنسية في هذا الخضم ايديولوجيا لغوية صارخة وصادمة كذلك، وفي الخلاف حول حرف كتابة الأمازيغية تعبير عن موقف ايديولوجي ايضا. غير انه ليس اجحافا القول بأن تناول مسألة اللغة الأمازيغية لازال يتطلب المزيد من المجهود من أجل التقعيد والتنميط ومن اجل الوقوف على حقيقة وحدة الأمازيغ اللغوية التي تبقى غير مكتملة حتى وان حاولت "تيفناغ" بلوغ هذا الهدف، فحرف الكتابة لن يكون ذلك القاسم المشترك المنشود، بدليل أن العديد من اللغات في أوربا على سبيل المثال تكتب بالحرف اللاتيني دون أن يعني هذا أن الحرف هو رمز توحد لغوي لدى مستعملي هذه اللغات، بل ان كل لغة حاولت الحفاظ على خصوصياتها بعيدا عن أبجدية الكتابة، بينما بحث منظرو التوحد في جوانب أعم وأشمل، فقد يكون الحرف احد عوامل التوحد، حيث انه كلما وجدت قواسم مشتركة اضافية كلما قوي الشعور بالتوحد والانتساب. يبدو اذن ان مقاربة الوضع اللغوي يستوجب تحليل الايديولوجيا اللغوية سواء على مستوى خطاب النخبة او على مستوى الخطاب المعارض لها او على مستوى المواقف الشعبية من السلوك اللغوي العام. فاللغة العربية تتوزع بين الفصحى والعامية (او العاميات المغربية)، والامازيغية تتوزع بين تشلحيت، تريفيت وتمازيغت (وتفتقد اللغة المعيار على الأقل في الاستعمال اليومي)، وتبقى اللغة الأجنبية لغة مستعملة دونما تمييز من هذا النوع اللهم ما كان من استعمالها على المستوى الرسمي (وثائق ادارية، مراسلات، مجالات الاقتصاد...)، غير ان اللغة الاجنبية غير خاضعة لنفس الشروط الموضوعية والاجتماعية والثقافية التي تخضع لها اللغتان العربية والأمازيغية. ذلك ان هاتين الاخيرتين تمثلان لغة القاعدة العريضة من المجتمع المغربي، لغة طبقات شعبية مختلفة من الامازيغ والعرب، فهما لغتان غيرملقنتين في الصف الدراسي بل تشكلان اللغة الأم، تكتسبان في الشارع بقوة المقام والاستعمال والحاجة او في المدرسة بين التلاميذ. عناصر مهددة لوجود لغة ما ليس هنالك من ادنى شك في ان من يعمل على سلامة اللغة وضمان استمرارها هم اهلها الذين نشؤوا في ظلها صغارا وارتاحوا لمعاشرتها كبارا. غير ان اللغة ليست متغيرا يمكن فصله عن الثقافة والسلوكات الاجتماعية الاخرى، فكل التحولات الطارئة على السلوك اللغوي الفردي والجماعي هي في واقع الحال تمظهر للتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها الجماعة اللغوية بفعل المتطلبات المرتبطة بالحاجيات اليومية وبفعل المنافع المرافقة لاستعمال اللغة. لعل اهم العناصر المهددة للغة هو غياب الاهتمام بالتعدد اللغوي على المستوى الجهوي والمحلي، وقد يكون الاهمال عن قصد او عن غير قصد، وفي الحالتين تلك هي زلة كبرى في استراتيجية الحفاظ على اللغة والتعدد اللغوي. ومن العناصر المهددة كذلك ترك اللغات في سباق حر، غير متكافئ في اغلب الاحيان بالنظر الى المتغير الاجتماعي والبشري والجغرافي والثقافي لكل لغة. فكيف يمكن تصور نتائج مثل هذا السباق في ضل الزحف الهائل للغة الانجليزية عبر كل العالم، والتي يتم تسويقها تماما مثل السلع التي توجد في كل بيت وان نآى في قمم الجبال وتخوم الغابات؟ بل هل يمكن تصور مستقبل لغات جهوية ومحلية لا تزال تصارع من اجل البقاء وتناضل من اجل انتزاع اعتراف رسمي؟ ولعل الاخطر من بين عناصر الهدم في ظل الصراع اللغوي اللامتكافئ نفور أهل اللغة من استعمالها في اليومي حتى فيما بينهم، لأن في ذلك تقليصا من مجال تحققها واضعافا من مدى انتشارها. وتلك هي غاية العولمة اللغوية التي في حال نفور اصحاب اللغة من لغتهم ستكون ماحقة للغات الوطنية والمحلية دونما تردد ولا رأفة. كيف يمكن اذن تصور استراتيجة لغوية من اجل التمكن من مواجهة شبح العولمة الذي لا يعترف الا بلغات العلم والتكنلوجيا والتجارة، والذي لاسلطة فيه الا بالتكتل والالتحام؟ هل يكفي الامازيغية مثلا النضال من اجل الدسترة والترسيم على المستوى الوطني؟ ام ان الحال تقتضي نهج اساليب اخرى اكثر واقعية واشد تأثيرا؟ هكذا تبرز الحاجة الى سن سياسات لغوية تهدف الى ابراز الهوية والحفاظ على الموروث الثقافي والتاريخي لمختلف مكونات المجتمع بغية الابقاء على تماسكه رغم تعدده اللغوي وتنوع مرجعياته الثقافية. لكن ومن اجل ان تكون السياسة اللغوية ذات جدوى يلزم ان تكون هنالك علاقة بين ما تطرحه هذه السياسة وشروط الحال السوسيولساني للمجتمع بشكل عام، وغياب هذه العلاقة يعني غياب مخطط لغوي واقعي، وهو ما يعزل السياسة اللغوية نفسها ويقصي الغاية من وجودها. ان الغاية القصوى لاية سياسة لغوية يجب ان تتمحور حول تحويل اللغة الى استعمال طبيعي من طرف شرائح عريضة من المجتمع وتكوين موقف توافقي جماعي من الوضع اللساني بوجه شامل، وهذا هو المؤشر الحقيقي الوحيد على نجاح وفعالية سياسة لغوية ما. أما العناصر الاخرى المرتبطة بجانب التشريع، وبالاعتمادات المرصودة او التي صرفت، وبعدد الندوات واللقاءات، وبمشاركة بعض النخب،...الخ فهي عوامل تظل غير ذات فعالية، وان كانت ذات جدوى، خاصة اذا ما كان المعنيون لا يتحدثون عن اللغة (المعنية بالتشريع) الا في اطار اللقاءات، او حينما يتعلق الامر بالاعتمادات او السفريات او الشخصيات المشاركة (نظرا لوزنها في المجتمع ودورها في الحقل السياسي وربما الاقتصادي). وحتى تقرير تعليمها في المدرسة هو امر غير ذي شأن في ظل هذه الشروط، لأن تلقينها في المدرسة سوف لن يرفع من شأنها في السوق اللغوي العام. وحتى في حالة الدسترة فليس هناك من ضمانات للموازاة بين الجانب التشريعي والجانب الاستعمالي/ المعاملاتي للناطقين بها أوالذين تعلموها على حد سواء، اذا ما تم التركيز فقط على مثالية مطلب الدسترة، لأن تفعيل التدابير السياسية في المجال اللغوي خصوصا يغلب عليه طابع الضعف والبطء والارتباك ايضا، فمن المعلوم انه رغم سن تشريعات بضرورة تعريب المدرسة والادارة المغربيتين فان الواقع اليومي يثبت عكس ذلك، فكثير من المعاملات الادارية لازالت تتم باللغة الاجنبية، وتعريب التعليم لا زال يشهد ارتباكا رهيبا. فأهم ما يلزم العمل من اجله هو الاقرار بواجب الاحترام والتقدير للغة المقصودة، وبدون هذا الاحترام لن يضيف التشريع شيئا، بل لربما يحيي الشعور المنزايد بالانتماء لدى الاطراف الاخرى، بينما الهدف يجب ان يكون المشاركة والاشراك، وليس التجافي والاقصاء. وبلوغ هذه الغاية يقتضي العمل على ايجاد اطار عام يضم جميع الاطراف وكل الاطياف، حيث لا فرق ولا تمايز بينها الا فيما يخص اللغة التي يتكلمونها مع العشيرة وحسب الفضاء المكاني، باحساس متزايد بالتعالي عن الانتماءات الاثنوثقافية الضيقة. واذا ما انخرط الجميع تحت هذا الاطار وصدق به ولم ينزلق الى الاعتقاد فقط باحد مكونات ثقافة المجتمع، فالنتيجة هي الالتحام والوئام وليس التجافي والخصام. أضف الى هذا ان الاتصال او الصراع لا يتحقق بين اللغات بل بين مستعملي اللغات، ذلك ان التنوع اللغوي لا يقود بالضرورة الى أي صراع لغوي ما لم تتداخل عناصر ايديولوجية ضمن هذا التنوع. فلقد وجدت على ارض المغرب منذ عصور سحيقة، بفعل انتشار الاسلام، اللغة العربية الى جانب الامازيغية، ولم يكن هذا مثار نزاع بينهما، بل كان هنالك من العرب من تعلم الامازيغية فاستمزغ، ومن الامازيغ من تعلم العربية فاستعرب، وكان ذلك بدافع الحاجة وتبعا للضرورة التي كانت تفرض التواصل والتفاعل من اجل التفاهم. واليوم كذلك، وعلى سبيل التأكيد على هذا الموقف الوطني الجماعي، حينما يشاهد المغاربة احدى مباريات المنتخب المغربي في محل عمومي فانه لا يثار السؤال حول هذا اللاعب اوذاك، هل هو عربي ام امازيغي، فمثل هذا السؤال غير حاضر في سيكولوجية المتفرج الذي لا يعلم الا انه مغربي دونما تمييز ولا مفاضلة. هذا حينما يركن الى السليقة والطبع، بعيدا عن أي طابع ايديولوجي وفوق كل تأثير سياسي او طائفي. فالهزائم والانتصارات والافراح والاحزان والآمال والتطلعات هي بدورها مكونات اساسية في المرجعية العامة التي تحكم الشعب بوجه عام، وتقوي لديه الشعور بالانتماء الوطني رغم تعدد المكونات الثقافية (لغة، دين، عرق). ويبقى ما هو اهم في استراتيجية صون اللغة والحفاظ عليها كلغة تواصل بالمعنى الشامل للتواصل هو الحرص على توريث اللغة ونقلها من جيل الى جيل، وذلك بصون الجانب الاستعمالي التداولي داخل الاسرة والعشيرة وداخل الجماعة والفضاء المكاني. خاتمة كيفما كان الحال ففي المغرب لغتان متجذرتان: العربية بجميع تمظهراتها والامازيغية بتعدد تصنيفاتها، ولا ينبغي التفريق بينهما الا في مجال الاستعمال، ومجال الاستعمال هذا هو ما يمنح اللغة تمييزا وتمايزا عن لغات اخرى، بحسب التوزيع الثقافي والاجتماعي داخل المجتمع. وهكذا فالدور المنوط بالامازيغية او الدارجة المغربية هو غير ذات الدور الذي تضطلع به اللغة العربية الفصيحة او الفصحى او الأمازيغية "المشتركة"، اذ ليس هناك من احد يمكنه ادعاء اكتساب العربية الفصحى او الفصيحة تماما كما يكتسب الامازيغية او احدى العاميات العربية المغربية، اذ كل واحدة منهما تشكل اللغة الام بينما العربية الفصحى يتعلمها الطفل العربي كما الامازيغي في المدرسة . وهكذا فالتعدد اللغوي لا يعني باية حال الصراع اللغوي، ولا ينبغي ان يكون في خدمة "فرق تسد". ذلك لان من خطورة هذا الصراع انه يحد من النمو الاقتصادي وانه يعرقل العملية السياسية ويضعف الموروث الثقافي ويفرق بين مكوناته، وهو ما يقف في الاخير في وجه التنمية البشرية المستديمة التي يحتاجها المجتمع ايما حاجة، ويسعى اليها للحاق بالركب السائردون ان يلوي على صراع.