بالعودة إلى الكتابات التي تناولت موضوع السلطة وأشكال تنظيمها وممارستها، سواء في الدراسات السوسيولوجية أو السياسية أو الفكرية، ثمة نوع من الالتقاء على تحديدها في نظام الهيمنة الذي تمارسه جماعة داخل المجتمع، وذلك بتوظيف أدوات إيديولوجية وادارية ورقابية قصد حماية موقعها وإعادة إنتاج أشكال التفاوت وعلائق القوى والهيمنة القائمة، بشكل قد لا يكون دائما بممارسة العنف المباشر، بل أساسا بالتشريع وبنيات النظام ومؤسسات الدولة. فإضافة إلى الأجهزة القمعية، حسب تقسيم لوي التوسير، ، تتضمن السلطة أيضا وتمارس عبر الأجهزة الإيديولوجية للدولة، خاصة النظام التعليمي، والنظام والإنتاج الثقافي، والنظام السياسي في جانبه المرتبط بالدولة وبالأحزاب والنقابات والجمعيات...، والحقل الديني ومؤسساته الرسمية والشعبية، ووسائل الاتصال والإعلام... وقد عرف هذا المفهوم بعض التغير والتطور مع المفكر الفرنسي ميشيل فوكو الذي بين كيف أن السلطة هي عبارة عن علاقة شبكية، لا تصدر أو تتمركز في نقطة معينة، بل تتواجد وتتزامن بين قوى وأمكنة لا حصر لها. فهي إستراتيجية تعود إلى تدابير وحيل ووسائل وتقنيات وأجهزة، تخلقها وتدعمها وتدبرها الطبقة السائدة، حيث أن السلطة هي مفعول مجموع مواقعها الإستراتيجية . إن السؤال "ما السلطة" أو ما مصدرها أو أصلها؟ " قد لا يكون في محله، بل ينبغي بالأحرى، كما يقول جيل دولوز، أن نتساءل حول الكيفية التي تتحقق بها أو كيف تمارس نفسها وتظهر إلى الفعل؟ فتظهر ممارسة السلطة كعلاقة بين قوتين، وهي علاقة مجال وصراع أو تأثير وتأثر، كالتحريض والإنتاج والإثارة، باعتبارها مؤثرات فاعلة، والتعرض للتحريض والحث والضرورة لإنتاج الأثر كمؤثرات إستجابية . من هذا المنطلق، يمكننا تعريف السلطة كمجموع الممارسات والإجراءات التي تجري على عدة مسارات ومناحي في المجتمع، وبالمشاركة الفعلية أو الرمزية لعدة مؤسسات وأطراف، قصد الهيمنة والإخضاع، وذلك بتوظيف تدابير وتقنيات وأدوات إيديولوجية ومؤسساتية نافذة. فهي مفعول الإستراتيجية المتعددة المواقع التي تمارسها جماعات معينة والدولة، على مختلف مستويات الحياة السياسية والثقافية، المعرفية والإنتاجية والرمزية والتواصليةوذلك انطلاقا من تصورات ومرجعيات محددة ، ووسائل وأجهزة فاعلة، بهدف إدماج المجتمع وإخضاعه بما يسمح وإعادة إنتاج علائق القوى وحماية مصالح السلطة والأطراف المهيمنة. فالسؤال الذي نطرحه إذن، هو كيفية فك الحصار عن الأمازيغية باعتبارها لغة وثقافة وهوية ،تحتل وضعا دونيا وهامشيا في المغرب نتيجة مفعول السلطة ، وتوظيف مختلف التوضيحات والانتقادات التي استأثر بها هذا الموضوع وذلك في سياق إستراتيجية تترجم إرادة رد الاعتبار للامازيغية وانصافها،إلى اجراءات مؤسساتية وواقع اجتماعي ملموس؟ إن الواقع هو إنتاج السلطة، ونحن في حاجة إلى تدبير جديد لعلائق السلطة، كما يقول فوكو، يسمح بانتظام الحقيقة والسلطة ضمن تشكيلة خطابية وتدبير استراتيجي تستعيد به الهوامش وضعها خارج قانون الإقصاء ،ويحافظ به الواقع على تعدده. كما أن إعادة تفكير الهامش كموقع وجودي وثقافي اختلافي يتطلب نقد الخطابات السائدة التي تحاصره سواء الإيديولوجية أو التيولوجية أو التراثية، ونقد علائق السلطة والإنتاج، ومنح كل مكونات الواقع شروط تطوير أوضاعها عبر اختيارات إنتاجية تكافئية تتفادى أشكال الإقصاء والاصطفاء والهيمنة. إن السلطة حاضرة في جميع الأفعال والممارسات والسلوكات وفي كل مكان، حيث أنها علائق قوى وإنتاج لا تتمركز في نقطة معينة، بل تكون حاضرة على مختلف مجالات وأصعدة اشتغال تلك القوى والآليات المنتجة. وهذا يعني أن تدبير السلطة كإستراتيجية معقدة، في إطار بناء ديمقراطي تعددي وعادل، يجب أن يتجاوز المفهوم السياسي والميتافيزيقي والسيادي الذي يكرس وينتج التراتبيات والتوترات المولدة للتهميش والإقصاء والحظر والتدليس والهيمنة والميز، وذلك بجعل علائق السلطة وآلياتها من أجهزة الدولة والتشريعات النظامية وأداوات الإنتاج الاجتماعي... منتجة للتكافؤ وتعدد الواقع وفق نظام معين للحقيقة وسياسات منصفة وتعاقد فعلي. قد يبدو بأن تصور تدبير استراتيجي لعلائق السلطة وفق هذا النظام وهذا التصور، هو في حد ذاته نفي للسلطة بما هي نظام هيمنة ونتيجة مباشرة للاختلالات والفروق الاجتماعية والثقافية. بيد أن مسعانا هنا، هو توضيح أن إنتاج الواقع في غليانه وتعدده، وفي هوامشه ومراكزه، بما هو مفعول علائق السلطة وقوى الإنتاج التي تتحكم فيه، يمنح إمكانية هامة لتقليص حيز نفوذ السلطة وجبروتها أو إنحرافها، إذا قام على نظام للحقيقة والتكافؤ والتقاسم، وعلى سياسات ديمقراطية في مجالات اللغة والثقافة وتدبير الشان العام ،تمنح مختلف العناصر والمكونات إمكانياة حيازة حريتها وأولويتها ومركزيتها في الحركة والإنتاج والتطور داخل الشروط العامة لقيام مجتمع ديمقراطي حداثي وتعددي. ان الوضع الهامشي الذي تحتله الأمازيغية لغة و ثقافة و هوية في المجال الاجتماعي و الحقل الثقافي و الرمزي بالمغرب ، و مجمل الافكار و المواقف و التصورات التي تشكلت لدى الافراد و المجتمع حيالها، هي محصلة اختيارات تاريخية وسياسات لغوية وثقافية واضحة و حاسمة ، تم تعزيز قراراتها و تصريفها عبر شبكة استراتيجية للسلطة ، همت مختلف قنوات الانتاج الاجتماعي ومؤسسات الدولة وأجهزتها الإيديولوجية ، خاصة المجال التعليمي والنظام السياسي والحقل الديني والانتاج الثقافي والاعلامي. فالسلطة المهيمنة مارست نفوذها عبر عدة مواقع وبتوظيف عدة آليات وقنوات ، اعتمادا على تصورات ايديولوجية لامست مختلف ابعاد الوجود الاجتماعي و الثقافي ، بما في ذلك الوضع والسلوك اللغوي والثقافي، وقضايا الوعي والهوية والمقدس ، بشكل منتج للتصورات والاعتقادات والافكار والقيم ، وضامن لمسعاها في اعادة الانتاج الاجتماعي، و الحفاظ على مصالح الفئات والاطراف الاجتماعية المسيطرة عبر استراتيجية للتحكم والتوجيه و الاستيعاب القسري. نعلم مع لوي التوسير ان الإيديولوجية منظومة من التمثلات ليست لها صلة كبيرة بالوعي . فهي في اغلب الاحيان صور و تصورات لاتفرض ذاتها على معظم الناس إلا كبنيان دون أن تمر بوعيهم. إنها موضوعات ثقافية تدرك وتقبل و تعاني وتعاش، فتفعل فعلها في البشر عبر مسلسل يفلت من أيديهم. فالعديد من الموضوعات والمقولات والسلوكات التي تحكم علاقة المواطنين مع اللغة و الثقافة ومع الامازيغية ،هي نتاج ترويض ايديولوجي اثر بشكل قوي في وعيهم ،كما شكل بشكل اقوى لا وعيهم ومتخيلهم الاجتماعي والرمزي ، حيث صارت تحظى بحضور وتداول يومي وحسي كتمثلات وسلوكات معيشة و بديهية. لقد تجدرت هذه التصورات والبنيات كمؤطرات فعلية في الحياة الاجتماعية، وفعلت فعلها في الانسان بالمغرب عبر مسلسل من التقبل والتمثل والبداهة ،كموضوعات ثقافية وتبادلات وسلوكات اجتماعية لا تمر بالضرورة عبر وعيه، بقدر ما تفرض نفسها ضمن مسارات الانتاج الاجتماعي كصور ومواقف حياتية وتصورات متخيلة وتبادلات معيشية ، وذلك بعد تجديرها وإحاطتها بنسيج من مقومات الاعتقاد والتثبيت الرمزي والإيديولوجي والوجداني، التي تسخر كافة الشروط والموضوعات الاجتماعية والثقافية، خاصة آليات التزييف والتحريف والتقديس والاسطرة. انطلاقا مما قدمناه من توضيحات حول مفهوم السلطة واشكال ومستويات اشتغالها وممارستها،نصل الى تقديم خلاصات تفكيرنا في وضعية الامازيغية بالمغرب ،وامكانية فك الحصار عنها وتبويئها مكانتها العادلة لغة وثقافة وهوية في مغرب المستقبل. _بما أن إستراتيجية تنظيم وممارسة السلطة، ومواقع اشتغالها في محاصرة الامازيغية لغة وثقافة وخطابا على مدى عدة عقود من الزمن همت مستويات وحقول وبنيات متعددة، يتقاطع فيها السياسي والتعليمي والثقافي والديني ، حيث نفذت إلى مختلف مسارات الإنتاج الاجتماعي، ودوالب ومؤسسات الدولة ومجلات التكوين والتوجيه والإنتاج الشعبية منها والعصرية، فإنه من الواضح أن نقد إستراتيجية الهيمنة يطرح بإلحاح أسئلة الشأن العام ومواضيع الديمقراطية والحداثة والجهوية والتنمية، وذلك بشكل يؤكد مدى ارتباط مطلب إعادة الاعتبار للأمازيغية ومسعى تبويئها مكانتها العادلة في الحياة الاجتماعية والمؤسساتية المغربية، بمشروع وورش التغيير والتقدم والانعتاق من القيود والاختيارات التي أفضت إلى وضعية الأزمة التي ورثها المغرب والمغاربة عن القرن العشرين. _ذا كان المطلب الأمازيغي في بدايته انطلق من الوضع اللغوي والثقافي، فإن تحليل ونقد هذا الوضع والتدابير الإدارية والتحريفات الإيديولوجية والإجراءات المؤسساتية التي أفرزته، ونتائجها الاجتماعية ، يتجاوز المسألة اللغوية والثقافية، ويطرح في العمق سؤال الاختيارات السياسية والصراع الاجتماعي، وهذا ما يفند كل محاولة لحصر الموضوع في حدود مشكل لغوي بسيط، ويؤكد تعقد وتشعب نتائجه وحلوله ،بقدر تعقد وتشابك أسبابه وإستراتيجية إنتاجه وتكريسه. _ يلزم التأكيد على العلاقة الشبكية والمعقدة لإستراتيجية السلطة والهيمنة التي مورست على الأمازيغية لغة وثقافة وهوية وإنسانا، وعلى تجدرها العميق في بنيات الفكر والمتخيل ، وفي النظام المؤسساتي والاجتماعي، وعلى حالة التصلب التي تطبع علاقات الاستغلال الإيديولوجي المتبادل ما بين اللغة والدين والدولة ،بما يضمن مصالح الأطراف السياسية والاجتماعية المسيطرة واستمرار الوضع القائم. فكل إمكانية لتصحيح هذا الوضع التاريخي، وتوفير شروط قيام مجتمع ديمقراطي وحداتي تحتل فيه اللغة والثقافة الأمازيغيتان مكانتها ودورهما المنشودين، لا يمكن أن تتحقق وتترجم إلى ممارسة مؤسساتية وإجراء سياسي وواقع ثقافي واجتماعي ملموسين إلا بفك قبضة السلطة المحاصرة وأشكال ممارستها وإستراتيجية استيعابها القسري للأمازيغية. كما أن هذا المسعى الشاق يرتبط بشكل جدلي وتكاملي بقيام المجتمع الديمقراطي والحداثي المنشود. _ان التناول النقدي لموضوع الأمازيغية والسلطة يمتد إلى مختلف أبعاد الإنتاج والخطاب الثقافي والفكري، وإلى صميم البنية الذهنية والمتخيل الاجتماعي، كما أنه يلقى منطلقاته ومؤطراته الفكرية على مدى يتعدى المستوى الاجتماعي الظاهر والتحليل السوسيو ثقافي للواقع الملموس والعوامل التي أفرزته، إلى مستوى المساءلة الفكرية وتحليل ونقد الخطاب الفكري الذي أنتجته وتداولته النخبة المثقفة ذاتها. ويمكن اقتفاء أثر السلطة داخل الخطاب النظري ذاته، وتفعيل وظيفته ودوره الجيو ثقافي في كشف ونقد الخيارات الإيديولوجية وإستراتيجية الهيمنة التي كانت وراء إقصاء اللغة والثقافة الأمازيغيتين على مدى عدة عقود من مجالات الإنتاج الاجتماعي للإنسان المغربي، ومن حياته الثقافية العرفانية وأفقه المعرفي والفكري والإبداعي . _ نقد وفك قبضة السلطة وإستراتيجيتها الشبكية ودعاماتها الإيديولوجية التي أفرزت الوضع المتأزم الراهن، يعني تبديد منطق وآليات الهيمنة وصياغة مشروع سياسي لغوي وثقافي وتعليمي ديمقراطي، يمنح الأمازيغية شروط الإنتاج الاجتماعي عبر أنظمة التنشئة والتعليم والثقافة والإعلام. بيد أنه تبين أن تحقيق إدماج الأمازيغية عبر المواقع والمسارات الإستراتيجية للإنتاج الاجتماعي، وفي إطار شبكة السلطة والمؤسسات القائمة وما يرتبط بها من بنية علائقية ونظام للاستيعاب والمقاومة، هو عمل ضئيل النتائج وطويل الأمد وصعب المنال والتحقيق، مما يطرح بإلحاح ضرورة التفكير في الشروط الضرورية والمدخلات الكبرى والفاعلة لتحقيق هذا الانتقال. فالاعتقاد في إمكانية تقييم وضع الأمازيغية وجعلها تحظى بمكانتها الفعلية في فضاء المجتمع عبر إدماج متردد ومحاصر في أنظمة التربية والتعليم والإعلام، لا يعدو أن يكون في الوقت الراهن وداخل بنيات السلطة السائدة، سوى إجراءا شكليا وهشا داخل إستراتيجية استيعابية جديدة، حيث لن تتعدى نتائجه التي تتطلب عقودا من الزمن،الحفاض على الامازيغية كموروث يؤتث ذاكرة المجتمع ومجال نفود اللغة والثقافة والهوية المهيمنة. - بما أن الوضعية الدونية للأمازيغية وإقصاءها هو نتيجة لواقع فعلي وللهيمنة والإجماع المضمر لدى النخب، وهو إجراء غير معلن يتم تصريفه وممارسته عبر إستراتيجية السلطة وأجهزتها الإيديولوجية التي تتظاهر كثيرا بحيادها أو حرصها على الأمازيغية، وأن وضع الثقافة الأمازيغية، كما يقول أ. بوكوس، هو رهين بطبيعة ودرجة الوعي لدى الأمازيغ، إضافة إلى أن الإيديولوجية المهيمنة على مدى نصف قرن فعلت فعلها في البشر عبر مسلسل يفلت من أبديهم ومن وعيهم حتى، فنظرا لكل هذه الأسباب فإنه من غير الممكن تصور حلول وكيفية جعل الأمازيغية تحظى بدورها الحيوي ومكانتها العادلة في فضاء الإنتاج الاجتماعي اعتمادا على الرهان الرمزي وإعادة تشكيل وترتيب السوق الثقافية واللغوية. إن الأمر يتطلب تعاقدا اجتماعيا وثقافيا، يحدث رجة وعي وشعور بما يخلخل النزاعات الإيديولوجية المناوئة ومفعولها المتجدر في وعي ولا وعي الأفراد والنخب،و بما يتيح انخراط الأطراف السياسية والاجتماعية المهيمنة في إدماج فعلي للأمازيغية يترجم بالملموس إرادتها في تصحيح اختياراتها ومواقفها التاريخية، ومنح الأمازيغية لغة وثقافة وهوية موقعها ودورها الفاعل في سياق قيام مجتمع ديمقراطي وتعددي وحداثي. إن التعاقد الذي نتصوره ونقترحه لا يمكن أن يحصل عبر إدماج متعثر للأمازيغية في نظام وبينات متصلبة ومؤسسات محكومة بدهنيات مقاومة، ولا بخطاب إعلان النوايا أو سياسة الكرم المزعوم لبعض الأطراف، ذلك أن التعاقد المطلوب يتطلب الإنصاف والمصالحة ورجة تصحيحية اعتمادا على إجراءين أساسيين: - تقديم الدولة المغربية لاعتذار رسمي عن انتهاكاتها واختياراتها التاريخية التي سببت في الإبادة الثقافية للأمازيغية وإفراز الوضع الراهن المتأزم، مع ما يصاحب طبيعة هذا الإجراء من تسخير كافة إمكانيات الدولة ومؤسساتها وأجهزتها لتنفيذ قرار سياسي حازم، وتعاقد فعلي من منطلق أولوية وطنية. - التنصيص على رسمية اللغة الأمازيغية، وتغيير الفقرات والاختيارات التي تتنافى وأمازيغية المغرب في نص دستور ديمقراطي شكلا ومضمونا. الاحالات الى - ج.دولوز، المعرفة والسلطة، ص.31.و ص.78. - أ.بوكوس، الأمازيغية والسياسة اللغوية والثقافية بالمغرب، ص.89. ""