هناك حقائق كثيرة عن اللغة والسلوك اللغوي تتطلب تفسيرا لا يكتفي بالقول: إن هذا الخيط، جملة أو ليس جملة نعوم تشومسكي ليس الغرض من هذه البعدية أن نقبض على شيء ما . إذ ليس بعد الأيديولوجيا سوى عماء الفكر. فالأيديولوجيا لم تصنع تاريخ البشر القديم فحسب، بل إنها تصنع مستقبلهم أيضا. لقد انساحت الأيديولوجيا واحتوت عالم البشر ، بعد أن استوعبت كل مخيلتهم. حتى ليبدو أنه متى ما حلم البشر وتخيل أو فكر إلا وفعل ذلك بمنطق الأيديولوجيا. إن التوق إلى ما بعد الأيديولوجيا هو واحدة من أكثر الأوهام رواجا خارج النقد الأيديولوجي. وليس حينئذ من مخرج سوى تصعيد هذا النقد إلى منتهاه ، كي نخفف من عراء الزيف الأيديولوجي ، وشطط الخداع الذي يجعل التخلي عن الأيديولوجيا حتى لحظة نهايتها السيئة أمرا مستفظعا. إن قصارى ما يملكه البشر إزاء الأيديولوجيا، هو تصعيد الوعي بها. الوعي وحده من يخلص الإنسان من بطش الأيديولوجيا واستدراجاتها نحو الوعي الشقي..الحديث إذن عن ما بعد الأيديولوجيا، حديث ليس في محله، إذا ما نظرنا إليه نظرة سطحية ظاهرية. لكن متى ما أدركنا أن أي حديث عن الأيديولوجيا هو نفسه يستدعي الحديث عما بعدها، سندرك أي تصور بعدي هذا الذي نقصده. التصور الحقيقي للأيديولوجيا لا يتم إلا بتصور ما بعدها.أي تصور العماء الذي يترتب على الفراغ الأيديولوجي ، باعتبار الأيديولوجيا ضرورة. نعم لعل السبب الرئيسي الذي دفعنا إلى تخصيص ملف حول الأيديولوجيا، ليس هو التدفق الكبير لخطاب النهايات الذي بات يحتل فراغات الانسحاب الأيديولوجي بمعناه التقليدي، ويتساقط كبديل عن الانتظارات التي لا زالت تؤرق البشرية ، على إثر رضات التحولات الأيدوستراتيجية الكبرى فحسب، بل إن دافعنا كان هو ما لا حظناه من سوء استعمال لهذا المفهوم الذي قلما تستحضر إشكاليته عند الاستعمال..هكذا امتلأت خطاباتنا ومقالاتنا وانتفخ كلامنا وإعلامنا بالحديث عن الأيديولوجيا كما لو كانت محض علم للأفكار أو منظومة فكرية أو تعبير ساذج. والحق أن هذه العبارة التي تطلق عفو الخاطر تختزل أعقد الإشكاليات التي واجهتها ولا تزال المعرفة الإنسانية.. الترجمة والأيديولوجية كان أحرى أن نربط بين الترجمة والأيديولوجيا بدل الربط بينها وبين الفلسفة في تقويم أزمة المنقول الفكري الغربي إلى المجال العربي. إن الذي يتأمل قوة المفاهيم ونفوذ المصطلح في أي ثقافة من الثقافات سوف يدرك لا محالة أن ثمة رابطا موضوعيا بين وضعية المفهوم والمصطلح من جهة ووضعية الثقافة من جهة أخرى. فالمفاهيم والمصطلحات لا تستنبت في أوضاع ثقافية متردية. بل لا مجال لإنتاج المفاهيم والمصطلحات إلا في بيئات ثقافية طليعية ومناخ حضاري حقيقي. إن المصطلحات تجر وراءها حكاية مفاهيم تستمد هي الأخرى اقتدارها ونفوذها من البيئة الحضارية المحيطة. إن المصطلح لا يأتي من فراغ . بل هو صناعة تزدهر في بيئات تنتج المعرفة والصنائع والعلوم. ومن هنا نستطيع أن نقيم مقارنة تاريخية بين ما كان ينتجه العرب في أزمنة تحضرهم وبين ما كتبوه في أزمنة انحطاطهم. إنك تجد أصالة ما أنتجه القدامى تقوم على قدرة كبيرة ومرونة عالية في إبداع المفاهيم ونحت المصطلحات وفق أصولها المقررة . وبينما كان الغرب الناهض لا يزال مدينا لمعجم اصطلاحي كبير أنتجه العرب وفرضوه بقوة تحضرهم على الأمم الأخرى، كما أحصت ذلك زيغريد هونكه، فإن الغرب سرعان ما نهض وارتقى وأمعن في الارتقاء ليستقل بممارسة معرفية وأطوار علمية جعلته يعيد إنتاج المفاهيم ونحت المصطلحات . فانقلبت الآية بعد قرون كي يصبح الغرب هو مصدر أهم المفاهيم والمصطلحات التي تدين بها الثقافات المعاصرة والمجتمعات العلمية. فالمصطلحات والمفاهيم شأنها شأن الحضارات لها لحظات صعود ولحظات نكوص وانكماش. فليس غريبا إذن أن نلاحظ شحة المفاهيم في مجالنا العربي وغياب القدرة على إبداع المصطلحات في ثقافتنا. وقد يبدو الأمر طبيعيا إذا تبين أن بيئاتنا تعاني هشاشة في المنظومة التربوية وفي البنيات الثقافية. إن مجتمعات لا زالت في طور محاربة أشكال الأمية الأبجدية والثقافية والرقمية ، واحتلالها مراتب متأخرة في الانتاج الثقافي لا يمكنها فضلا عن الأسباب الموضوعية الأخرى إنتاج مصطلحات في حجم ما ينتجه الغرب وفي جودة ما ينتجه الغرب. فالتبعية الثقافية للغرب هي حتمية كل الثقافات التي لم تطور نفسها ولم تول البحث العلمي عناية خاصة. وثقافة هذا شأنها ستجد نفسها عالة على مصطلحات ومفاهيم البيئة الأكثر نفوذا وتأثيرا في مجال المعرفة. إن القضية الأساسية لا تكمن في أن نقتبس ونفيد من منتجات الغير مادام أن المفاهيم والمصطلحات مسألة علمية ومعرفية قابلة للأخذ والرد. لكن مشكلتنا أننا لسنا طرفا في إنتاجها ولا حتى أننا قادرون على المساهمة في هذا التراكم العلمي الكبير. وفي ضوء هذه الحقيقة كان للمصطلح في مجتمعاتنا حكاية أخرى لا تقل فظاعة عن عجزنا عن إبداعها. إننا لم نحسن استعارتنا لهذه المصطلحات، إلى حد باتت حرب المصطلحات في المجال العربي تبعث على فوضى عارمة أفسدت الثقافة العربية وحولت جانبا منها إلى مسخ ثقافي، لو أنه قيض لنا أن نرجع هذه المفاهيم إلى مجالاتها الأم لضحكت علينا الأمم . ومع ذلك ما فتئ الكثير من المثقفين لا سيما من لهم خبرة بتفاوت القدرة التعبيرية بين اللغات وخصوصياتها البلاغية، ينبه لخطر التحريف الذي يطال المفاهيم والمصطلحات في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة. هكذا استقبل الفضاء الثقافي العربي أمواجا من المصطلحات عبر أشكال من الترجمة يغلب عليها عدم الاحترافية وقلة الخبرة، مما أوجد شروخا وتخالفا بين الفكرة الواحدة. وتعددت القواميس واختلفت التراجم حتى بات البعض يذكر المصطلح ويثنّي برديفه في القواميس المختلفة ذرءا للشبهة وتأكيدا على المعنى وكثيرا ما يذكر المصطلح المترجم ومعادله الأصل خشية سوء الفهم كما لو أن الترجمة لم تحصل أصلا. وبينما استطاعت الكثير من المصطلحات أن تنزل في البلاد الغربية إلى أحياز التداول شبه العمومي، بات للمصطلح عندنا سلطة قمعية محيطا نفسه بهالة لا تملك مفاتيحها سوى نخبة النخبة فيما قسم من المشتغلين في حقل المعرفة لا زالوا لا يرون من جدوى المصطلح والمفهوم متى استنبت خارج بيئاتنا المصابة بالشلل الثقافي. لقد انقسم المتلقي العربي أمام موجة الاصطلاح الدخيل والمستورد إلى موقفين على طرفي نقيض: قسم أدرك أهمية الاصطلاح والمفاهيم في إنماء المعرفة وتطور العلوم، فتبناها من دون أدنى ضابطة منهجية وشروط. وربما أصبح الأمر في منتهى الشطط مع تمييع التداول الاصطلاحي وتسطيحه باعتباره ألفاظا وليس مفاهيم. وقسم آخر لم ير في ذلك من فائدة سوى أنها رياضة لفظية جوفاء لا تقدم ولا تؤخر في مجال المعرفة والعلم. الموقفان معا يشكلان وجهين متطرفين أضرا ضررا بالغا بالثقافة العربية. لكن من ناحية نستطيع أن نقرأ بعض الحقائق خلف هذا التموقف السيئ من المصطلح. فمن ناحية الأوائل نرى أن المصطلح بات يشكل سلطة معرفية انزاحت به عن مدلولاته الابستيمولوجية. لقد اكتسب المثقف سلطة في المجتمع العربي قد لا تكون تضاهي سلطة المثقف في المجتمع الغربي. لكنها تظل سلطة على قدر من الأهمية مما جعل التنافس والتباري على موقعية المثقف تشبه إلى حد ما عملية التباري السياسي والانتخابوي في السباق على السلطة. فطروء الفساد على العملية السياسية الهشة في المجتمع العربي يضارعه الفساد الطارئ على التباري على مواقع التسلط الثقافي مما نشأ عنه واقع مزري، جعل المصطلحات تكسب في التداول الثقافي العربي ضربا من الاستهلاك الرمزي بالمعنى السوسيولوجي فيما كان المصطلح يواجه الاحتضار المعرفي وربما لم يعد يملك من شحنة معرفية سوى طاقة كلامية تعزز ما كان أسماه عبد الله العروي بالثرثرة العربية! أما الثواني ممن وقفوا موقفا سلبيا من المصطلح واقتفوا قفوا رفضويا ضد تداوله معلنين الاستكفاء بما تجود به اللغة الطبيعية، فهم على موقف محق من جهة ما يلمسه المرء من فوضى والتباس وضياع المضمون وغربة المفاهيم الجديدة عن المتداول الصناعي والطبيعي في بيئاتنا الثقافية. ففي شروط محكومة بحرب المصطلحات وتعويم الدلالة لصالح عماء المعنى، يجعل ذوي الموقف المذكور على جانب من الصدقية فيما يؤاخذون عليه أرباب المفاهيم الهشة وطلائع التعسف التداولي وفوضى المصطلح. ولو قدر أن نجد فرصة لتأليف كتاب حول الأخطاء الشائعة في الاصطلاح، لكان أهم من الحديث عن الأخطاء الشائعة في التداول اللغوي. غير أن هذا الوجه لا يخفي الخطر الذي يؤسس له أصحاب الموقف السلبي ذاك. إن الموقف الرافض والسلبي من إبداع المفاهيم واستعارت الأجود منها لرفد ثقافتنا بالجديد ومنحها مزيدا من الحيوية ، هو موقف يؤدي إلى موت الصنائع وإعاقة اللغة الصناعية التي هي قوام التواصل والتجديد في المجتمعات العلمية. فمقاييس تقدم المجتمعات تتحدد فيما ينتجه المجتمع العلمي من نماذج معرفية ومفاهيم واصطلاحات ييسر بها تواصله العلمي الأرقى . وليس بالضرورة أن نجعل اللغة الطبيعية المتداولة هي مقياس تقدم المعرفة اللهم إلا بما تملكه هذه اللغة من قدرة و مرونة لاستيعاب المضامين المعرفية والعلمية التي تنتج في مختبرات المجتمع العلمي المعني بتصنيع المعرفة وتطويرها بوتيرة أسرع وبمستويات أعمق. إنني أستطيع أن أضرب مثالا لمواقف متخالفة إزاء المصطلح والمفاهيم وكيفية التعاطي معها في الثقافة العربية. فبينما رأينا أن المثقفين العرب انفتحوا عبر الترجمة على مختلف حقول المعرفة ومعاجمها الاصطلاحية وتبنوا أكثر المفاهيم تداولا في حقل الدراسات الاجتماعية.. وبينما كانوا قد ابتدءوا بممارسة التحليل وفق هذه المفاهيم دون أن يمنحوها فرصة التجذر في المجال الثقافي العربي والوضوح الكافي ، التفت البعض إلى أهمية تقديم المصطلح وبيان المفاهيم بصورة تمكن المتلقي العربي من مزيد استئناس وتمكن من المصطلح. وإذا كانت تلك هي المهمة التي بادر إليها جيل الأوائل حيث يقف على رأسهم عبد الرحمن بدوي الذي أمكنه تقديم الفكر الغربي، تاريخا وأدبا وفلسفة للقارئ العربي وفق لغة متصالحة مع أصول التعبير الطبيعي، حيث جاءت جل ترجماته أو قراءاته التركيبية متواسطة الفهم والتفهيم في مكنة القارئ العربي فهم مضامينها واصطلاحاتها، فإن هذا النمط من التعاطي مع المفاهيم والمصطلحات قلّ ما صمد أمام غواية الانخراط في الجدل الفكري والانتماء إلى صلب النزاعات الأيديولوجية التي جعلت الثقافة العربية تنخرط في صراعات فكرية وأيديولوجية كما لو كانت فرعا محليا لنزعات وصراعات جارية في المجالات الغربية الأم. وقد حاول البعض مواصلة نهج عبد الرحمن بدوي ونظراؤه في فترات متقطعة وبجهود شبه فردية ، نذكر مثالا فقط على ذلك: محاولات جورج طرابيشي مشرقا و محاولات محمد سبيلا وعبد السلام بن عبد العالي مغربا. فإن الغلبة ظلت للنمط الآخر الذي جعل الثقافة العربية تقفز على مرحلة تثبيت المصطلح وتكريس المفاهيم إلى مرحلة الصراع الأيديولوجي المحض. ولو أننا شئنا الوقوف عند وجهتي نظر حيال إشكالية المفاهيم وأزمة الاصطلاح في الثقافة العربية لما رأينا أفضل من الوقوف عند تجربتين مغربيتين: إحداهما تتعلق بوجهة نظر عبد الله العروي ، والأخرى تتعلق بموقف طه عبد الرحمن. وهما في نظري يلخصان الهواجس المعرفية والأيديولوجية إزاء موضوعنا. وهما في نظري أيضا يعكسان مذهبين في الترجمة والاستعارة وعلاقة ذلك بالفلسفة عموما و بالفكر العربي على وجه خاص. لقد كان عبد الله العروي سباقا إلى لفت الأنظار إلى أزمة المفاهيم في الفكر العربي المعاصر. وقد بدا له أن الأمر يتعلق بتحريف تقوده الأيديولوجيا العربية المعاصرة لبعض التيارات الفكرية الغربية. يكفي أن عبد الله العروي رفض الترجمة العربية التي قام بها بعضهم لكتابه" الأيديولوجيا العربية المعاصر" ، وقد بادر بنفسه لإعادة ترجمة كتابه من الأصل الفرنسي إلى اللغة العربية. ويكفي دليلا على ذلك أنه باشر بتقديم سلسلته حول المفاهيم التي شملت مفهوم الأيديولوجيا ومفهوم الحرية ومفهوم الدولة ومفهوم التاريخ ومفهوم العقل ، بصورة فاقت أكثر المحاولات في هذا المجال. وإذا أردنا الاختصار يمكننا معرفة وجهة نظر الباحث من خلال نموذج الايديولوجيا نفسها التي اهتم بها الباحث اهتماما فائقا سواء في مفهوم الايديولوجيا أو باقي مصنفاته التي لم يفتأ ينبه فيها إلى إشكالية المفاهيم والمصطلحات. إن العروي لا يزال يعتبر أن مفهوم الأيديولوجيا يحمل من الدلالات الفكرية والفلسفية والثقافية ما لا يسمح بنحت مصطلح غير الإبقاء عليها والبحث عن وزن عربي لها. لذا سماها" أدلوجة" على وزن أفعولة. ونباهة العروي كامنة هنا في خطر استبدال العبارة بعبارة أخرى قد لا تفي بالغرض. حتى أنه رأى إن كان لا بد من استبدال المصطلح أن نجد معادلا للأيديولوجيا في كلمة" دعوة". ليتبين أن العروي يربط بين الترجمة والمعاني التي يؤديها اللفظ. الترجمة السيئة وهشاشة المفهوم هي واحدة من الإشكاليات التي نبه إليها العروي. وبعد مثال " الأدلوجة" التي كان المرحوم عبد العزيز الحبابي قد وجد لها معادلا صناعيا" الفكرولوجيا" ، انبرى طه عبد الرحمن ليعلن موقفه الرافض لهذا الضرب من الترجمة ، ليعلن معادلا عن الأيديولوجيا بمصطلح أقرب إلى ما كان نحته عبد العزيز الحبابي مع إبدال "لوجيا(logique)" باللاحقة "نية(ism)". إلا أن الملفت للنظر أن المحاولة الطهائية بما استدخلته من مفاهيم وما استقوت به من نماذج معرفية ، كانت قد جعلت من إشكالية الترجمة والمفاهيم صلب إشكاليتها إن لم نقل جوهر مشروعها الموسوم بالتقريب التداولي. وحيث لا أريد الإطناب أكثر في هذا الموضوع، أحب أن ألفت النظر إلى أن استناد الباحث في تأصيل منظوره حول التقريب التداولي بناء على نماذج كابن حزم في كتابه: "التقريب لحد المنطق" ، ووجود مفردات تفيد معنى التداول في النص الغزالي والتيمي والحزمي، ليركب عليها مفهوم التقريب التداولي، ثم يسقط كل الأصول التداولية الحديثة على هذا المفهوم، إنما يدفع بما وجدناه لدى هؤلاء في تعاطيهم الصنعات المذكورة والتعامل معها باصطلاحها كما رأينا ذلك في المعيار للغزالي والتقريب لحد المنطق لابن حزم. إنهم لم يخضعوا عبارة إيساغوجي مثلا لاستبدالات لغوية. بل إن مراد ابن حزم من التقريب لم يكن هو ما رامه صاحب التقريب التداولي من الوقوف عند الألفاظ، بل قصد منه صاحبه تيسير المنطق لذوي الأفهام المتواضعة. لذا فهو يقرب المضمون لا يقلب الألفاظ. ثم إنني أعتقد أن لا إشكال في الصيغة التي يستقر عليها الاصطلاح في التداول العربي ما دام لا يشكل نشازا بحسب الموازين التي يقوم عليه التركيب العربي. فمن جهة إننا نجد أن القرآن يشتمل على ما كان سماه بعض العلماء بغير العربي. وهم يقصدون أسماء وعبارات مثل: سندس واستبرق وبرهان وزرابي وغيرها مما هو دخيل على اللسان العربي وكان مصدره فارسيا ونبطيا وروميا وما شابه. والحق إن هذا أكبر دليل على أن المناط في عربية اللسان هو إضفاء الوزن العربي على العبارة. والراجح هنا بما أن القرآن شاهد على أنه أنزل بلسان عربي مبين يدل على أن ما عدّ دخيلا في لسان العرب هو أمر طبيعي تقتضيه مرونة اللغة وحاجتها للتطور. لكنه صار بفعل التداول عربيا. ولو لم يكن عربيا لما استعمله القرآن بموجب أنه عربي مبين. فاللغة هي التراكيب وهي أيضا الأوزان. والمجال العامي يستعمل هذا النوع من التكييف للأسماء الدخيلة بصورة تلقائية. فانظر إلى اللغة الطبيعية ستجدها ضاجة بهذا النوع من التكييف التداولي. ففي لهجاتنا المحلية نحن نلوي ونكيّف الألفاظ الدخيلة فنجعلها جزءا من لغتنا. فنقول مثلا عندنا في اللهجة الدارجة المغربية: السكويلا ، الكوشينا، زالاميط ، برمسيون ، تلفزيون ، الجيدون الخ. وهي عبارات تستجيب لوزن اللهجة المحلية. ونظيره يمكن أن يجري في موازين اللغة العربية الفصحى. لكن إذا كان المجتمع العلمي أحيانا يبقي على هذا الضرب من المصطلحات وينطقها دونما مراعات للوزن العربي ، فذلك مرده إلى إتقان المجتمع العلمي للغات الأجنبية وتداولها في سياق ازدواجية اللسان. ومن جهة يجب أن نركز على المضمون والمفهوم من الاصطلاح، ولا نقف عند أصوله الاشتقاقية لا سيما حينما تتكثف المفاهيم وتخضع لصيرورات تركيبية تضفي عليها مزيدا من المعنى وأحينا يحصل انقلاب في مضامينها يؤدي عكس معناها المتواضع عليه في زمن التعيين. فالمصطلحات تشهد تحولات مضمونية مكثفة ، يصبح من غير المجدي الحديث عن أصول اشتقاق إلا إذا كان الأمر يتعلق بتاريخ المفاهيم وليس بدلالاتها الابستيمولوجية شديدة التحول. الطريقة الطهائية رغم رياضتها اللغوية هي تعبير يحيي موقفا سلبيا قديما من اللغة الصناعية، قوامه رفض الاكتفاء بتكييف المصطلح مع موازين اللغة العربية. ورأيي أن لا مخرج في ما يتعلق باللغة الصناعية أن نتبع طريق القدامى في الترجمة القائمة على نقل المصطلح كما هو وتكييفه مع الوزن العربي الذي تكفله التفعيلة. فالتفعيلة هي مناط تعريب المصطلح وليس أي شيء آخر. فبالاستناد إلى التفعيلة نطور اللغة نفسها ونضبط إيقاع تقدمها بمرونة عالية دون تحريف. فهذا يمنح مرونة أكبر للغة ويحافظ على المضامين الفكرية للمصطلح ويغني المعجم اللغوي الصناعي بالمزيد من الاصطلاح. أما ما يقال عن أن المضمون يجب أن يستبدل مع استبدال اللفظ بما هو مستجيب للمجال التداولي ، فهو في نظري تحريف وتعسف على المصطلح. فالمصطلح إما أن نبدعه نحن أو نحافظ على مضمونه في حالة استعارته. وتبديل مضمونه لن يصبح موضوعا يتعلق بآلية نقل المصطلح بل يصبح موضوعا يتعلق بمعالجة معرفية يجب أن تثبت جدارتها في النقاش الفكري والمعالجة الابستيمولوجيا للمفاهيم وهذا أمر لا يأباه أحد. تطرح هنا إذن مشكلة انتقال المصطلح، و ثقله على اللسان العربي.وتلك مشكلة ليس لأحد أن يحلها على الإطلاق ، سوى أن نخفف من غلوائها ، كما فعل بعضهم وهو يحاول إيجاد المعادل العربي لمصطلح أيديولوجيا. وكما مرّ معنا ، اقترح عبد الله العروي قبل فترة كلمة "أدلوجة". وبعد ذلك استعمل د.طه عبد الرحمان كلمة فكرانية دون أن ننسى اقتراحا سابقا للراحل عبد العزيز الحبابي: فكرولوجية . والحقيقة أن الاقتراحين يحيلان إلى اتجاهين وذوقين في الترجمة، ليس هاهنا مجال بحثهما. إنها الأيديولوجيا مرة أخرى تحضر بقوة في التعبير عن نفسها. لكن يمكنني القول بأن اقتراح العروي كان وجيها فيما اقتراح الفكرانية كمعادل عربي للأيديولوجيا يحتاج إلى تأمل. فهو يقوم على استسهال كبير لمشكلة المفاهيم والمصطلحات وما يتصل بها من متواليات مفاهيمية وما يتفرع عنها من استشكالات يناقض أصل التثبت في الترجمة بحسب المنحى الذي سلكه صاحب فقه الفلسفة بناء على أيديولوجيا التقريب التداولي. إن مذهب طه في الترجمة وتحدبدا ترجمة أيديولوجيا هو مذهب أيديولوجي بامتياز. يتضح ذلك من خلال الدفع بالخلاف مع المقترح العروي السابق في الزمان وفي الإشتغال ، مخالفة من دون مرجح ، سوى الاستناد إلى التشقيق اللغوي، دون استحضار الحمولة المفهومية والإشكالية للعبارة. في حين تبقي الصيغة العروية حافظة للمضمون الإشكالي للمفهوم مع تقيد مبدع في مراعاة الوزن العربي . وهو الاختيار المبني على وعي تاريخي وفلسفي واستيعاب للنقد الأيديولوجي. هذا في حين تبدو الترجمة الطاهائية رغم تمسكها بالاستبدال العربي ، ليست إلا تعاطيا حرفيا مع المفهوم ، إذ يتضح عموما أن الطريقة المذكورة في الترجمة تترنح بين التساهل والتشديد، بحسب موقف انتقائي تتحكم به حالات المترجم، ومدى استيعابه للإشكالية المعرفية للمفاهيم..فأما منحى التساهل فمثاله فرض مصطلح فكرانية ترجمة للأيديولوجيا.وأما منحى التشديد و التعقيد الذي يصل أحيانا إلى درجة الإعجاز والتعجيز، فمثاله ترجمة جملة الكوجيتو الديكارتي بخلاف ما تم تداوله وفق صيغة الخضيري:" أنا أفكر إذن أنا موجود".وكان مختار صاحب فقه الفلسفة، صيغة أخرى هي: "انظر تجد"..وكما أننا في مناقشة سابقة ، في محلها، لصيغة :"انظر تجد" ، اعتبرناها مخالفة للمدعى ، فهي من حيث التقريب التداولي لو سلكنا معيار الترجمة المعكوسة، فسنجد أول معنى يتبادر منها إلى الذهن هو : qui cherche trouve ، وهي تعني: "من بحث وجد" .ليس ذلك فقط من حيث أن كلمات الجملة المذكورة تحمل نفس المعنى انظر ، تأتي أيضا في اللغات اللاتينية بمعنى ابحث وفتش ، (chercher) ،يستعمل في الانجليزية صيغة look for، بمعنى بحث عن ..في اللغة العربية تأتي بمعنى فكر وتأمل ورأى وبصر وانتظر .. ، ووجد ، تأتي بمعنى(trouver) أجل ليس هذا فحسب ، بل إن ثمة تركيبا متداولا في اللغة الفرنسية كما يدل عليه المثل المعروف: qui cherche trouve.نعم ، يمكننا القول بصيغة " انظر تجد" ، لكن هذا يفترض تسليم المتلقي بكل الإسقاط المتكلف المذكور، والذي لم يكن ليحضر في بال أي مترجم أو قارئ لأولى الصيغ الترجمية للكوجيتو تحت تأثير المجال التداولي..بل هذا أكبر دليل على غرابتها، لأنها لو كانت تداولية لحضرت في وجدان اللغويين عفو الخاطر. فكذلك نجدنا مضطرين هنا لتدارك الهنات الترجمية للاستاذ طه عبد الرحمان وهي هنات تصبح أمرا فظيعا، لما ندرك أن صاحب فقه الفلسفة هو لغوي كبير و محقق دقيق حيث إن ترجمة أيديولوجيا إلى فكرانية توقعنا في مأزق فلسفي وفي خلط مفاهيمي وفي اشتراك لفظي. وهذا ما يعني أنها ترجمة لا تقوم على الاستيعاب التاريخي للمفهوم ولا على إشكالية النقد الأيديولوجي ولا على الاجتهاد القائم على استفراغ الجهد في التشقيق، على الرغم من أن وضع صيغة "انظر تجد" رافقها رغم الهنات الترجمية المذكورة من النكات ما أمتع به الباحث قراءه برياضة لغوية ومنطقانية لا يلوى لها ذراع.أقول :أن طه حينما ترجم الأيديولوجيا بهذا الشكل وقع في المزالق التالية: إنها ترجمة تخفي الأبعاد الإشكالية للمصطلح. فهو يقدمها بمعناها التقليدي المتجاوز بوصفها منظومة أفكار أو معتقدات.ولا يمكن استحضار هذه الإشكالية المفهومية إلا بالإبقاء على المصطلح كما هو مع إخضاعه للوزن اللغوي المحلي كما هو عرف سائر اللغات وكما هو عرف اللغة العربية مع الأسماء والمصطلحات المنقولة .فإذا كان ذلك وجهة نظر أنصار التقريب التداولي من التراث العربي ممن كان لهم فهم متردد ومهجوس بموقف سلبي مسبق من الصنعات الجديدة، بدءا بالغزالي وانتهاء بابن حزم ، فإن رواد الصنعة من أهل التراث أنفسهم لم يجدوا مشاحة في نقل العبارات الجديدة ومنحها وزنا عربيا حفاظا على مضمونها العلمي والفلسفي، كما فعل الفارابي وابن سينا وجمهور الحكماء المسلمين إزاء مفاهيم منقولة كالاستقسات والهيولى ..ومثله ما سارت عليه عادة العرب في الترجمة والنقول ومما أقره القرآن الكريم يوم استعمل من الأسماء ما لم يكن من العربية بحسب الأصل الوضعي، ما فجر نقاشا شهيرا حول وجود غير العربي في القرآن. والحق أن القرآن الذي وصف نفسه بأنه كتاب عربي، قصد بذلك الإقرار بالبعد الانسيابي للغة. معترفا بأن معيار عروبة الكلمة هو الوزن والتداول.فليس الإقرار مختصا بما كان وضعا طبيعيا تعيينيا، بل إن المتعين تعينا بحسب التداول، مشمول أيضا..فالقرآن استعمل كلمة برهان وسندس واستبرق وزرابي..وكان من الممكن من خلال التشدد والمبالغة أن يقال: لما هذا و قد كان أولى بموجب التقريب التداولي المزعوم أن يقال بسط بدل زرابي أو دليل بدل برهان..وما شابه. ولم يتدخل القرآن في بعث العرب المسلمين على الاختصاص بالاصطلاح استبدالا، بل يكفي في عروبة المصطلح خضوعه لمقتضى الوزن العربي. ومثل ذلك ظل رائجا في لغة العرب..فهل كان ابن عربي مخالفا لمقتضى قواعد التقريب التداولي لما سمى كتابه المعروف: ترجمان الأشواق، وقد علمت أن كلمة ترجمان ليست من أصل عربي..وقس على ذلك كلمات من قبيل: زنديق ، وزنج ، وغيرها مما داخل اللسان العربي واستقر في لغة العرب بفعل التداول التعيني كما لا يخفى. أقول: إن كان هذا مما تحصل وتقرر في اللغة الطبيعية فهو من باب الأولوية مجزئ في الاصطلاح والتداول الصناعي. ولم يمنح القرآن العرب المسلمين حق التميز بالاصطلاح إلا فيما كان مورد تداول أخلاقي، كقوله تعالى:" لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا"..وهو مجرد تدخل اقتضاه وضع أخلاقي للأسباب المذكورة في محلها..فهذا خارج موضوعا عن الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، أو الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، بما أن مواد التفكير ومقدمات التفلسف ومفاهيمه هي أمر عقلي محض مهما تلبست بمحمولات المجال التداولي الذي انبثقت وتكاملت داخله.فعملية الإبداع إن كنا لا بد فاعلين ، عليها أن تصطنع مفاهيمها الخاصة ابتداءا ، لا أن نسطوا على ما اصطنعه الغير ونسقط عليه إكراهات مجال لم تنشأ فيه ولا قبل له بها ولا قبل لها به. يتعين على عملية الإبداع للمفاهيم أن تنطلق من أصل المفاهيم والفكر، لا من خلال ممارسة الأستذة على مفاهيم من صنع الغير، فالإبداع هو أمر جعلي بسيط وليس مركبا..وأيا كان اللأمر فالمنتج بالجعل البسيط هو أشرف من المنتج بالجعل المركب. وهذا هو المبدأ الأول للمعرفة؛ لنقل حق المعرفة الموجب للاعتراف.وأن التفكير في الأيديولوجيا ليس من اختصاص مجال دون آخر، فهو يتعلق بظاهرة كونية تخص المعرفة والفكر والإنسان ومطابقة الواقع وعدمه. هذا ناهيك عن أن الاستناد على آراء الغزالي وابن حزم وابن تيمية في بناء أيديولوجيا المجال التداولي وقواعد التقريب التداولي ، حاكي عن موقف تراثي معين وليس عن موقف كل التراث.. وفي تعميم هذه القواعد تغليب لتراث على آخر بلا مرجح، بل هو نفسه موضوعا للنقد الأيديولوجي للتراث. إن ترجمة أيديولوجيا بالفكرانية ، يسقطنا في اشتراك لفظي ، والتباسات تحرم اللغة العربية من جملة مفاهيم مشتقة من كلمة فكرة idee في اللغات اللاتينية ، نظير idealisme..idealite..ideisme..ideat..ideation..ideologie.وقد تكون ترجمة كهذه أنسب معادل عربي لمفهوم ideisme.أي الفكروية وقد اعتاد البعض أن يفرز اللاحقة ism عن مطلق النسبة الطبيعية ، بمعاوضة صناعية ، بإضافة الألف والنون على المصدر كهيئة المثنى قبل النسبة ، نظير تقليداني ، فكراني، علماني، شكلاني..على وزن "فعلاني"... هنا تكون الترجمة المذكورة توحي بهذا الخلط بين idiologieوideisme.هذا في حين أن الأيديولوجيا هي نظرية للعمل..تصبح الأيديولوجيا نقيضا للفكرانية بمعنى: ideisme ، من حيث وفاء الأيديولوجيا هو لمصلحة الحامل الأيديولوجي وليس للفكرة. لهذا السبب تحديدا استحسنا ورجحنا الصيغة العروية:" أدلوجة" ،لأسباب هي : أن العروي سلك مسلكا أصيلا في عرف اللغات وفي عرف التداول العربي الذي جعل الفلاسفة العرب لا يترددون أمام المفاهيم الجديدة التي جاءتهم من الخارج بإخضاعها للوزن العربي درءا للاستثقال. من ناحية أخرى ، جاءت كلمة "أدلوجة" على وزن أفعولة . هذا مع أن العروي افترض معادلا لها في اللغة العربية دونما تحمس كبير لهذا الاختيار، وهو كلمة: دعوة . فيتضح أن العروي كان مهتما بالمضمون الإشكالي لمفهوم الأيديولوجيا أكثر من المعنى الحرفي للمصطلح. ولا عليك من محاولة اعتبار دلج في العربية تحمل معنى قدحيا لأن هذا النزاع بلا موضوع . فالعروي لم ينخرط في هذا الجدل اللغوي العقيم لأنه لا يقف موقفا قدحيا من الايديولوجيا ولكنه يقف موقفا من غوايتها. واتفاقا جاء الوزن موافقا لمعنى لغوي ليس حتما هو المقصود بقدر ما قصد العروي إلى إيجاد الوزن العربي للفظ أيديولوجيا. وأن الطريقة الحزمية التي تمثّلها الأستاذ طه وبالغ فيها في أيديولوجيا التقريب التداولي، تكون أشبه بأن يشتري رجل عربي سيارة ثم بسبب وضرورة المجال التداولي يفرض إعادة صياغتها بدفع سقفها إلى الأعلى كالسنام ويضع لها لجاما ويجعل منها جملا رغما عن أنفها. وحتما مثل هذا التمسيخ لمنجزات الفكر الإنساني الحديث لن يجدي شيئا ، ولن تصبح السيارة جملا..بل المطلوب أن نرقى نحن إلى مستوى استعمال السيارة، فنشق الطرق السيارة ونضع نظام المرور..هذا ما عنيت به في مناسبة أخرى بضرورة أن ترقى الفاهمة إلى مستوى المفهوم وليس العكس.غير أننا نجد عكس ذلك في الأيديولوجيا التداولية، حيث يتنزل المفهوم ويمسخ ويجرف باتجاه الفاهمة.وهذا فيه حكم تعسفي ، يفرض على المعرفة العربية أن لا تتطور باتجاه الإشكاليات الكبرى التي يطرحها الفكر الإنساني، وأن لا تغتني بالتراكم الذي تشهده علوم الإنسان..إنها حالة من التداول المغلق والتمثل اللغواني والمنطقاني الصوري الدائري المفرغ من المحتوى الفلسفي والمعرفي . هذا معناه أن صيغة العروي في تقديرنا تحافظ على المنظور الإشكالي للمفهوم ولا تنظر فقط إلى المعنى اللغوي.فتبين إذن أن ترجمة د.طه هي الترجمة الحرفية، وهذا بخلاف مدعى "فقه الفلسفة". يضعنا الاشتغال الميتا أيديولوجي أمام إشكالية العلاقة بين المنطق والأيديولوجيا. ولعله أيسر على الباحث أن يبحث في منطق الأيديولوجيا أو أيديولوجيا المنطق من أن يبحث في علاقة الأيديولوجيا بالمنطق بالمعنى الصناعي. ويمكننا حسم هذا الموضوع ببيان وجه الافتراق بين الأمرين من جهتين: فمن جهة الوظيفة ، فإن الأيديولوجيا وإن شاركت المنطق موضوع الفكر، فهي لا تهتم بترتيب المقدمات على النحو البرهاني المجزي للوصول إلى المجهول.فعادة ما تستند الأيديولوجيا إلى ما هو حجاجي، إلى حد تكاد تشبه فيه منطق الأسطورة ، هذا إذا لم نقل إن الأسطورة في مبناها وغايتها هي أيديولوجيا المجتمع القديم( البدائي).وأما من جهة الغاية، فإذا كان غاية المنطق صون الفكر من الخطأ وتمييز هذا الأخير عن أشكال التفكير الأخرى من وهم وخيال ، فإن الأيديولوجيا تقع غايتها خارج المعرفة، فهي وظيفة اجتماعية، وليست المعرفة إلا وسيلتها.وهذا التبني الوسيلي للمعرفة لا يعني أنه تبني لمقتضى الباعث العملي للمعرفة نفسها، بل نعني أن الأيديولوجيا تجعل من المصلحة الاجتماعية ومن الفعل الاجتماعي معيارا لصحة الفكرة، بل ويمكن التدخل في إعادة صياغة النظرية لتستجيب للمصلحة.فالمعيار في الصدق والكذب ليس هو منطق الفكرة بل هو منطق المصلحة، أي منطق مصلحة الحامل الإجتماعي للأيديولوجيا.هكذا بإمكان الأيديولوجيا أن تتوسل بالخيال والوهم لإثبات صدقها ، فهي باستنادها إلى أدوات الحجاج ، تطلب الإقناع ، وليس صدق مقولاتها. نعم تصبح الأيديولوجيا منطقية متى كانت المصلحة تقتضي ذلك..وقد بات أمرا مواتيا لبعض الأيديولوجيات بأن وصفت نفسها بالعلمية. وكان ذلك توظيفا في غاية الحذاقة، انقلابا على أيديولوجيات بائدة ظلت محكومة بنمط من التفكير تقليدي أو طوباوي. لكن مثل هذا الادعاء كذبته الوقائع يوم أصبحت هذه الأيديولوجيات العلمية المزعومة عائقا أمام فعل المطابقة ومعاقرة الواقع..أصبح زيفها واضحا ودخلت في مرحلة الكذب، أي الوقاحة الأيديولوجية.لم يكن هم الأيديولوجيا العلموية المزعومة انتصارا للعلم وللمنطق، بل كان الهدف هو تحقيق الانتصار على أيديولوجيات سابقة ، وبالتالي من أجل الإقناع أكثر.الأيديولوجيا العلموية استغلت مرحلة سيادة النمط العلمي على الفكر العالمي،تماما مثلما استغلت الأيديولوجيات الطوباوية عالما ساده النمط الفكري الخرافي أو الطوباوي..ليست الأيديولوجيا هي التي تنتج النموذج المعرفي بل قصاراها استغلال النموذج المعرفي و فرضه وإعادة إنتاجه والدعوة إليه. ففي كل أيديولوجيا ، قد نقف على آثار منطقية ، كما في المنطق قد نقف على ما هو ضروري التصديق به من دون برهان، كالاستقراء ، وشرائط الحد التي يتعذر معها تعريف بعض الأشياء إلا على سبيل المسامحة والتقريب اللفظي، ما يجعل شرائط الحد المنطقي أمرا أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. وبما أن المنطق علم يزعم صون الفكر عن الخطأ، وفن ترتيب المقدمات، فهو كعلم يدافع عن نفسه بوصفه الطريق الوحيد للمعرفة الصحيحة. وعليه ، فهو يحاجج ويسعى إلى الإقناع كما فعل أهل الصناعة الأوائل في مفتتح حديثهم عن المنطق. ففي المنطق أيضا نقف على آثار للوهم والخيال والمسامحة وإرادة الإقناع. طبعا كل هذا ناتج عن أن الأيديولوجيا رفيقة الإنسان المفكر، تحل معه حيثما حل وترتحل معه حيثما ارتحل ..تعاقر فكره متى فكر وكيفما فكر، فليس له إلا أن يفكر أيديولوجيا، بقليل من الزيف أو كثير من الزيف. لا تعني الوظيفة التزييفية للأيديولوجيا أنها كاذبة.فعملية التزييف تتم بصورة لا واعية . لكن متى تصبح الأيديولوجيا كاذبة ، أي تمارس التزييف العاري بوعي وتصميم تامين؟ إنه موعد قيامتها..فالأيديولوجيا بعد أن تستنفذ أغراضها وتتنكر للمعرفة التي نشأت في أحضانها قبل أن تتحول إلى نظرية للعمل، يجعلها غير قادرة على إخفاء التزييف ، بل تزييفها لم يعد مبررا لأنه ضد المصالح التي هي مناط مشروعية التزييف البنيوي للأيديولوجيا .فتبدأ تمارس دورها بصورة مفضوحة،ويبدأ حاملها الحزبي أو ..أو..يظهر مزيدا من الكذب حيث لا مخرج للأيديولوجيا في طور الشيخوخة إلا بأن تكذب وتكذب حتى يكفر بها الجمهور وتصبح متهمة ومدانة فينقلب السحر على الساحر ، فتظهر فيها بعض مظاهر الهروب إلى الأمام، كأن يصبح الماركسي الشيوعي ليبراليا جديدا..أو أن يصبح القومجي أصوليا متطرفا أو الأصولي المتطرف لقلاقا من شدة انقضاضه على شعارات الحوار واحترام الآخر بينما هو هو نفسه مشكلة التواصل . الأيديولوجيا اليوم: العولمة الاقتصادية دخلت الأيديولوجيا عالم الاقتصاد، ليس بوصفها نظرية للعمل ، محرضة ومعبئة في اتجاه الإنتاج والعمل..على غرار ما كان بحثه ماكس ويبر بخصوص علاقة البروتستانتية بالعمل وعلاقة التقشفية الكالفانية ومبدأ بيروث بما يؤكد على البعد العملي للاعتقادات وتأثيرها في العملية الاقتصادية..لكن ما لم يبحث في الموضوع هو كيف أن الأيديولوجيا هنا دخلت إلى عملية الإنتاج والتوزيع بكل عبقريتها التزييفية. يحتاج العقل المنتج إلى مثل وأفكار لإقناع العامل بحتمية نمط الإنتاج ولو في شروط مجحفة..وكذلك يحتاج إلى أفكار مزيفة لإقناعه بأن عملية التوزيع أمر لا علاقة له بالعمل والجهد الذي يبذله العامل..كل الظلم الاقتصادي والنهب العاري للقيمة المضافة مبرر ومقنع، وهذا يحتاج أن تعاقر الأيديولوجيا الاقتصاد، وتمده بمزيد من الخيال والتزييف والإقناع.إن الأيديولوجيا الاقتصادية المهيمنة على العالم اليوم، تقوم على جملة مسلمات، وكثير من المغالطات، هو أن النهب الصريح للقيمة المضافة حق ، للمالك،وهذا يقتضي استدعاء تصور جديد لتراتبية الاجتماع العبودي بشكل جديد وذوق أكثر نعومة وأقل عراء وتوحشا..على المالك أن يعمل كيف يشاء ويمر من حيث يشاء..وليس للعامل المرتهن لحتمية العمل وشروطه ونمط الإنتاج وغلبه، المعين سلفا، إلا طريق واحد: أن ينتج قيمة مضافة ويسلم بحق المالك في وضع اليد عليها..هذا النمط الجديد من عبودية الإنسان للإنسان يتطلب أيديولوجيا مزيفة تؤمن شكلا من القناع يحجب فظاعات هذا النمط المدمر للوجود الإنساني وأيضا قدرا من الاقتناع بعالم تراتبي قسري..واليوم تتدفق شعارات العولمة الاقتصادية بأيديولوجتها المزيفة التي باتت أكثر وضوحا من السابق..تظهر العولمة للمتلقي عالما من المثل ، مستثمرة قوة الحلم الذي يجتاح عالم البؤساء ، لتبشرهم بجنة عدن على أرض يتهددها التلوث والكوارث الإنسانية و البيئية أكثر من أي وقت مضى..لتمرير مشاريع جهنمية تقتل كل سياسة اجتماعية ، وتجعل العالم ملكا للأقوى اقتصادا في عملية مولنة مكشوفة للاقتصاد..إذا كان الإنسان هو آخر ما تفكر فيه العولمة الاقتصادية التي يسعى باروناتها لنسف كل ما له علاقة بالتكلفة الاجتماعية، أي بحقوق الإنسان وحقوق البيئة والتنمية المستدامة، فإن أول مظاهرها الايديولوجية الاحتفالية هي الإنسان.يعيدنا الأمر مرة أخرى إلى ذلك الشكل الأجوف والكاذب للأنسنة الشكلية التي ابتكرتها انشائيات الصالونات البورجوازية ، التي أثارت بنفاقها وازدواجيتها حفيظة نيتشه وبعد ذلك بفترة ميشيل فوكو ، كي يعلن موت هذا الشكل المزيف من الأنسنة موت الإنسان مثلما أعلن الأول موت الإله ، الإله المزيف الذي اخترعه خيال الإقطاعيين والبطريركيين ، حراس الجور والعبودية ودين قتل الإنسان وملاحقة العلماء .. بهذا التزييف لواقع العولمة وأحلام قراصنة الحقوق الاجتماعية والبيئية، وهم مجرمون في حق الإنسانية إلى حد الفحش، تكون العولمة تمارس خدعتها الكبرى ضد الإنسانية ..هناك واقع ينذر بالدمار وشعارات تبشر بشروق الوفرة..غير أن أيديولوجيا العولمة تبدو أكثر وقاحة من حيث هي معاندة في رفضها الوقائع ..لقد استقبلها العالم على إيقاع الطرد الوحشي لأفواج من العمال وتسريحهم وقبول جيل من الشغيلة بلا شروط ولا حقوق..وثمة تراجع كبير على مستوى الإنفاق الاجتماعي مما زاد المجتمعات فقرا وبطالة واضطرابا اجتماعيا وجريمة ..لكن اللسان الطويل لأنصار العولمة بمعناها الأيديولوجي الفج، لم ينقطع بعد ، بمقص الفظاعة اليومية لضحايا تساقط الشروط والعقود وتراجع الحقوق. كل أيديولوجيا لا تقر بالعدالة الإجتماعية ، هي أيديولوجيا خادعة ، تضيف إلى زيفها البنيوي والوظيفي خداعا أنكى وأمر..ولذا قد يكون من مفارقات الليبرالية أن تقدم نفسها بوصفها نظاما ضامنا للعدالة الإجتماعية..في أوربا التي ظلت حتى حين تعيش على امتيازات السياسة الإجتماعية ، التي ألفت بها قلوب الشعوب الأوربية، الذين وضعتهم استراتيجية الحرب الباردة كأكياس رمل ضد التهديد الباليستي السوفياتي. لقد كانت السياسة الإجتماعية التي بدت كمرحلة ذهبية في أوربا ، من فضائل الحرب الباردة والتهديد السوفياتي لأوربا..أمر سرعان ما دلت عليه الوقائع فور نهاية التهديد المذكور مع سقوط المعسكر الشرقي. والواقع أن ثمة ما هو أعظم من سقوط سور برلين، إنه السقوط الدراماتيكي للسياسة الإجتماعية في أوربا ، حيث باتت الأمركة بديلا عن السياسة الإجتماعية ، لا بل عودة بأوربا إلى أحضان الفيكتورية ، برسم التاتشيرية والريغانية التي أعادت إلى الواجهة كل ذلك الإرث من الكراهية للقيود الاجتماعية على الاقتصاد، مع العولمة ، التي يقودها رباط مقدس، بين فرسان المولنة الاقتصادية واليمين المسيحي، على إيقاع حروب تتهدد النوع بأكثر وسائل الدمار فتكا وبأنعم الشعارات الايديولوجية، كذبا وخداعا..قد تكون الديمقراطية والليبرالية بمعناها الفلسفي حاجبة لكل هذه الفظاعات التي ترتكبها النظم الليبرالية الجديدة في حق الإنسانية، وهي نفسها الديمقراطيات والفلسفات الحرة عديمة الوجود في العوالم الأخرى التي تجعل كل نضال ضد هذا الشكل المتوحش للبرالية أمرا غير مجدي.من هنا أحب أن أشير إلى البدائل المطروحة،كيف ينزاح النضال ضد التوحش الليبرالي إلى حرب ضد الديموقراطية والفكر الحر..ففي أيديولوجياتنا البديلة ، نشجب الليبرالية الاقتصادية ونشجب الاحتكار والربا ، ونفتخر بأن الاقتصاد الإسلامي ناهض على العدالة الاجتماعية، غير أن أي طرح من هذا القبيل لن ينفع إذا كانت تجارب المسلمين والهيئات الاسلامية لا تقدم نموذجا للعدالة الاجتماعية..ففي كل مكان ترانا نشجب الليبرالية لكننا في معاملاتنا المالية نتصرف كلبراليين صغار..ومنا من ينافسهم في الأسواق العالمية..حتى المؤسسات الدينية تعاني من هذا التحدي..هناك سوء توزيع، وهناك احتكار وتداول بيني محصور للمال الشرعي..وارتهان للحزبية والولاء الحزبي والعصبية في التوزيع..إننا في العالم العربي والإسلامي لم نحرر لا الأسواق ولا الإنسان، ولا حتى كسبنا عدالة في التوزيع على شرط الاستسلام لانسداد آفاق الحرية الاقتصادية و المدنية..فبدائلنا ليست بالضرورة بعيدة من حتمية الزيف الأيديولوجي.تلك هي المشكلة، أن نوضع بين خيارين أحلاهما مر.ففي نقدنا للبرالية تنزاح أمواج الاعتراضات التي لها مطالب تتنكر لكل ما هو مكتسب إنساني وما هو نقطة قوة في النظم الليبرالية ، أقصد الديمقراطية وحقوق الإنسان . كل ما حولنا يحمل تصميم الأيديولوجيا ويحيل عليها..وحق على المعرفة أن تتساءل أمام هذا التدفق الأيديولوجي الثاوي في أنطولوجيا كائن لا يحسن أن يفكر إلا زيفا..حق على المعرفة أن تتساءل: أين المفر؟. إن الأيديولوجيا تعترف بأكذوبتها فقط حينما تشيخ . تتدخل المعرفة كطبيب لإسعاف الفكر وتزويده بحقنة لتقوية مناعته..حينها تنتعش الأيديولوجيا من جديد ؛لتنشأ وتترعرع وتطغى ثم تشيخ مرة أخرى..ليس للأيديولوجيا خلود ..إنها حالة من نشوء وارتقاء الأيديولوجيات..تكيفها وانمساخها ، ولما لا نقول أيضا، تناسخها. لقد أعطت الدولة الحديثة شكلا جديدا للفعل السياسي ، قائما على التعددية الحزبية، لتنشئ بذلك تعويضا سوسيو تاريخيا عن التعددية القبائلية . ويساوق مفهوم الحزبية العصبية ، حيث لا أحزاب بلا عصبية. ولا عصبية من دون أيديولوجيا . تنشأ داخل الأحزاب ، لا سيما المتقادمة المعمرة آفة العصبية المؤدلجة التي تأخذ في النمو إلى حد الشطط. تملأ الأيديولوجيا رؤوس المنتمين فتنتفخ بطلسمات أيديولوجية تزيد على المقدار العقلاني الذي يحفظ للفرد المنتمي حريته وقدرته على التفكير الحر، متى ما استنفذت أيديولوجية الحزب أغراضها..وتنتهي المؤنة الأيديولوجية في زحمة التكرار والروتين ويبدأ موسم الاستيقاظ من تخديرها وتتضخم المشكلات والتحديات والتساؤلات التي تصيب الأيديولوجيا في نهاية المطاف بالوهن ، فتصبح كعجوز شمطاء مخرفة هاذية لا تحسن سوى الثرثرة ومضغ الكلام ، وأحيانا تلوذ بالانتحار..تأتي حالات على الأحزاب السياسية ، يتعرض منتموها إلى وضع مرضي خطير ، تتنامى فيهم حالة التواهم بين المنتمين ..يتساكنون ، أي يسكن بعضهم إلى بعض بحذر..كذلك يسكن كل منهم روع الآخر ويطمئنه بصدق دعوته. ظاهرة التواهم هي واحدة من أعراض مرض التدليج المتضخم الذي يجعل الحزبي الصادق ، من لا يحسن التساؤل أو التفكير الحر. فعدو الحز بوية المغلقة هو التفكير الحر. والأعداء البارزون للحزبويين هم المفكرون الأحرار.المنتمي الحزبي الذي لم يدرك أفول الأيديولوجيات المزمنة ويظل يغتدي من نفايات الأيديولوجيات المقبورة ، هو شخصية مستلبة ومخدرة وسلبية بامتياز. ثمة من الأحزاب العصبانية من يسلك أهلها بذكاء عملية استقطاب مستدام لشباب غفل لم يغادروا غرارتهم..وهم بذلك أذكى من غيرهم لأنهم يدركون أن طاقة أيديولوجيتهم لا تستطيع إنعاش سقف عمري معين..إنها ضرب من المنشطات الوقتية سرعان ما يفيق الإنسان من مفعولها التخديري بفعل التقدم في العمر وتراكم الخبرة..تلك الأيديولوجيات يكون الزمن كفيلا ببيان هزالها..فالأيديولوجيا التي لا تستطيع أن تصمد أمام تقدم العمر هي بالأحرى أيديولوجيات طفالية لا يمكن أن ترضي إلا الأطفال.ولعله من الحكمة بمكان أن الوحي نفسه لا يختار من الأنبياء إلا أهل الأربعين: هو سن النضج الذي لا يمكن أن ينساق فيه الإنسان إلى أي اختيار فكري بسرعة ونزق..الأربعون ضمانة وحماية من النزق الأيديولوجي والوعي الشقي.ما الحل إذن؟ على الأحزاب السياسية أن تدرك جدل الأيديولوجيا والزمن. وأن تدرك أن الأيديولوجيا تحتاج إلى تدبير وإنعاش مستمرين ، أي إلى قوة معرفية تتدارك هزال الأيديولوجيا باستمرار. إنه فعل الوعي والحذر المعرفي المستدام . وهذا أمر لا يمكن أن يقوم به الإيديولوجيون ، بل هو دور النقاد المعرفيين. وهذا معناه أن الأحزاب السياسية عليها أن تقلل من ذهانها العصبوي لتقبل في داخلها بمنتمين ليس بالضرورة أن تمتلكهم كلا..أي منتمون أحرار. إن مشكلة الأحزاب السياسية في العالم كله وخاصة في العالم الثالث ،أنها أحزاب لا تقبل بالمنتمين الأحرار.أي تكفر بالنقد الذاتي..إنها أحزاب تحتقر مفكريها ومثقفيها وتستهين بالنقد..فهل يمكن للأحزاب السياسية أن تتحول إلى مختبر نقدي ومعرفي تتعايش فيه المعرفة والنقد الأيديولوجي ..أليس ذلك على الأقل سيجنبها الحالة الانقسامية القبلية التي تحكي عن وحدة النمط العصبوي الحزبي القبلي..ألسنا في مثل هذه الحالة في حاجة إلى أنثروبولوجيا حزبية ، تجعل الدولة الوطنية الحديثة موضوعا للأنثروبولوجيا، وليس موضوعا لعلم السياسة. ليست الأحزاب السياسية وحدها من عاقرت الأيديولوجيا في عز عراءها. فالمثقفون لا سيما في العالم العربي هم سادة التدليج وخبراءه..فالعقل العربي لم يعد يخجل من هذا الشكل من المعاقرة الأيديولوجية العارية ، في غياب الرقيب الجمعي الواعي وفي لحظة تسلطن المثقف الأيديولوجي الكدحي وليس الحر الاستعارة نيتشية .ثمة مثقفون اليوم حولوا الممارسة الثقافية والفكرية والنقدية إلى كانتون وزوايا وأحزاب مغلقة تستند إلى كتل جماهيرية وأنصار وأتباع وحواريين تستقوي بهم في تغالبها المرضي مع نظرائها، قمعا للنقد وقمعا للحوار وقمعا للاجتهاد. إذا كانت الأيديولوجيا مرض الفكر وآفته ، فإن وراء الأيديولوجيا كائن مركب هو صانعها..إن الإنسان هو المسؤول عن مرضه وعن أيديولوجياه..بل هناك من صنوف هذه الأيديولوجيات ما يكرس تخلفا مزمنا في عالمنا العربي. حيث ما صدقنا أن بدت السياسة تجد رشدها رويدا رويدا تكيفا مع التحولات العالمية والإكراهات التي أرغمت أنوفا على أن تنظر في نفوسها بعض الشيء ولو بخجل وإحساس بالهزيمة في الحقيقة ، هزيمة من ؟ هل هزيمتنا أن بدأنا نفكر في ذواتنا..يا لمفارقة المجال العربي وتاريخيته الغبراء ، حتى انبرى من المثقفين وأصحاب المشاريع المزيفة المغررة للعقل العربي أن بدأوا يحتلون مكان المستبد، يبشرون بالرأي الواحد والمصير الواحد كما هو في مخيلة متورمة بحصرها التعسفي. من سوء حظنا في العالم العربي أن صناع أوهامنا الايديولوجية وصناع مثلنا الحالمة مستبدون غارقون في وحل الشرور الدنيا ..وقد شهدنا كيف هللت ذات مرة ، أيديولوجيا ديكتاتور العراق المخلوع الذي جعل الشعوب العربية تحلم بمثل سرقها من مخزون هذا المتداول ..وقد هلل معه مثقفون أيديولوجيون كثير ، أخفوا بمدائحهم الوجه الوحشي لطاغية العراق الذي جلب الويلات على شعبه المعذب، احتلالا وحروبا وحصارا..قبل فترة فقط كان طاغية العراق رمزا نحتته الأيديولوجيا العربية وحشت به مخيلة السواد المخترم من الأغلبية المقهورة والأمية والمستعبدة في هذا الليل العربي الذي طال ومللناه ..ووحدها الأيديولوجيات العربية تملك هذه الجرأة النادرة في صناعة الطواغيت واللعب على الحبال..حتى بات كل شيء له نصيب من هذا الزيف ، ديمقراطيات مزيفة ..تنمية مزيفة..معارضة مزيفة..جهاد مزيف ..مقاومة مزيفة..بكاء مزيف ..أفراح مزيفة..كل شئ مزيف..فمعركة العقل العربي هي اليوم ضد الزيف ..أي ضد التدليج وتقيؤاته..وضد نزيف الزيف ومرض الفكر وهواجس المثقف الأيديولوجي الهائم في سلطنته المرعبة و الإرهابية و الاستئصالية العبثية .حيث لا فكر يعلو على خدمة الإنسان ونصرة المظلومين والمعذبين..ووحده المثقف العربي المأخوذ بلعبة التدليج والتكوثر الوهمي، المزيف للواقع الممجد للطغيان المتزلف لصانعي المقابر الجماعية المتطلع البصر والبصيرة إلى كوبونات من مسروقات شعب جائع تأكله المالاريا..هذا الضرب المؤدلج من المثقفين العرب، هم أبشع صورة عن خطر الهذيان الأيديولوجي ، وزيف الأيديولوجيا العربية المعاصرة. فهل نقول أنها نهاية المثقف الأيديولوجي العربي؟ ليس المقصود هنا بالأيديولوجي، المثقف الثوروي حصرا؛ بل المقصود بالأيديولوجي هنا المعنى القدحي . أي المثقف الانتهازي العربي عديم الضمير غير الحر..يستوي في ذلك أن يكون ثورويا أو متلبرلا..فليس المرددون الممضون على بياض للدجل الأيديولوجي النيوليبرالي الكاذب المستكبر المدمر للشعوب ، أكثر فقدانا للحرية من ثوروي لا يضيع فرصة للنهب ومد اليد للأسياد لقاء ما يقدمه أو يقوله أو يكتبه.. وهؤلاء وأمثالهم هم من تورطوا في الكوبونات..هم إيديولوجيو الكوبونات الذين شكلوا وسيشكلون دوما دروعا للطغيان والاستبداد..أمثالهم لا يمكن أن ينتعشوا إلا في ظل الطغيان..فهم لا يجدون حاجتهم لأن يكونوا أحرارا أو يروا من حولهم يتمتع بكامل حريته..ليس الطغيان فردي بل هو جماعي يساهم فيه مثقفون مستبدون انتهازيون أنذال أيضا..لقد كشفت فضيحة الكوبونات على الوضع الفظيع والمرضي للمثقف العربي ، ذلك ما نسميه بفضيحة الأيديولوجيات العربية. الضحالة الوجودية والانمساخ السياسوي؛ ثمن موت الأيديولوجيات الحية. تموت الأيديولوجيا في مشهد وإن كان ممعنا في رفض التجدد، فهي تكره الفراغ..تتحول الأحزاب السياسية والفعل السياسي ، إلى تشظي سياسوي ، فتفرز التربة الفاسدة من هذا اليراع السياسوي اللاهث وراء أتفه المصالح من الحالمين ، يفسدون الحياة السياسية ويزيدونها ضلالا وهياما..يصبح الفعل السياسي مشهدا يفيض بالحماقات ويتكاثر حوله كذابون يعوضون رحيل الأيديولوجيا التي مهما قيل عن زيفها فهي تصون حاملها من الكذب العاري والتزييف الفاضح..فمتى اختفت الأيديولوجيا الحية من المشهد السياسي حتى تنقض مواكب القطا على المشهد، وتبدأ رحلة الضحالة السياسوية، فيزداد الناس عزوفا عن السياسة ، فتمارس عليهم كأقبح ما تكون السياسة جرما ونفاقا. الإعلام أو الميديولوجيا وأما عن الإعلام فحدث ولا حرج..الزيف بلغ مبلغه مستعينا بشيطان التقنية الإعلامية..ملايين الطيبين من هذا الشعب العربي فاغرة فاها أمام شاشة تقذف بحمم الأكاذيب والصور الخادعة المزيفة..يتغذى مشاهدونا الأعزاء على كل أشكال الطبيخ الأيديولوجي..سوق معروضة على آخر طراز من الزيف والتضليل..طغاة يصاغون في هذا المخبر الإعلامي الفاسد في صورة ملائكة الرحمان..ورجال أخيار يمسخهم الإعلام نفسه إلى أشرار. الفرجة الإعلامية لم تعد سوى وجبة ميديولوجية ، نأكلها ونتقيؤها ، وكل منا يجب أن يقول لجليسه: حظ سعيد! هذا حال الأحزاب السياسية ، فما بال الحركات الإسلامية؛ هل هي حقا بمنأى عن مرض الأيديولوجيا؟ هل نصمت ولا نتحدث عن مرضها..هل هي معصومة هل هي تنظيم ملائكي ..من قال ذلك ؟! أن يتأسلم المرء وينتسب لدين لا يعني أنه بمنأى عن مرض الأيديولوجية. فما أكثر الذين يطلبون الزعامة والمجد الشخصي استغلالا للدين. الأمر ليس حصرا في العلماء الذين هم على الأقل يزهدون ولا يبالون بعالم الأنوار الساطعة. بل الأمر يتعلق بمثقفين ومفكرين يتلبسون بمسوح ديني فيما الخور يأكل قلوبهم وعقولهم ولا يزهدون في إلباس الحقائق أمراضهم الشخصية. إن أخطر الأيديولوجيات هي تلك التي تتستر بالدين ومجاله التداولي احتيالا على العقل المسلم فيما هي لا تسلم للتعاليم العميقة لهذا الدين نفسه. في البدء لا بد من قولها: " فلا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيهم إن لم يسمعوها". لقد أصاب الحركات الإسلامية وأنا لا أقصد بها خطاب يعض التنظيمات الإسلامية، فحسب بل أقصد أيضا ، خطاب بعض الإسلاميين الذين سقطوا سهوا في ساحة الحركة الإسلامية وبين ليلة وضحاها أصبحوا يأصلون لها مناهج خادعة للإيقاع بها في عصر لا يسمح باللّغونة العقيمة من هذا المرض ما جعلها ترث كل أعراض الهذيان البارنوياني الذي أصاب الأحزاب والتنظيمات الشمولية المغلقة. قيادات تنزع إلى الهيمنة على الأرواح والعقول التي إنما بعث الأنبياء ليثيروها لا ليسيطروا عليها :" لست عليهم بمسيطر".."لست عليهم بجبار". .الأنبياء أنفسهم لم يمارسوا في حق أتباعهم ما يمارسه قزم سياسي في هذا الزمان ..فهم ليسوا مسيطرين ولا جبابرة. الرمز يفكر عن القاعدة ، وفي بجاحة النوكى يقبل الأتباع بكل ما يصدر عنه بلا رجعة ولا نقاش ولا مساءلة..إنها قيادات ترتكب أكبر جريمة ضد نهج الأنبياء؛ أي: "ليثيروا لهم دفائن العقول"..من حيث تضع سقوفا للتفكير ضد أتباعها الذين ضمن لهم الشرع الحق في أن يخرقوا السماوات والأرض بسلطان عقولهم.. مفارقات المؤدلجين أو أيديولوجيا الموت.. تلك هي المفارقة، أن تعدك الأيديولوجيا بالحياة وفي الوقت نفسه تحرضك على ضرب قبيح من الموت الأناني، قوامه بديل متخيل للفردوس الأعلى؛ معاوضة عن بؤس المعاش ، على حساب حياة الأبرياء والنفوس المحترمة. هي صورة عن شاب قطط ، انتفخ رأسه بأيديولوجيا زائفة تضخم فيه إحساسا ذهاني ، على أن كل من حوله كفار وأن الجنة له وحده، وللعصبة التي ترى أن الطريق إلى الجنة لا تكلف أكثر من مجرد تكفير المسلمين وقتل الأبرياء. ويكفي التعلق بشعارات مقرصنة لاستعمالها غطاءا تبريريا، كالجهاد، بسطحية فقهية عمياء ، جهاد لا يبقي ولا يذر، لتصريف كل أشكال هذه الحماقات.تصور أن شخصا مؤدلجا بهذا المعنى السخيف توجه إلى حيث يفجر نفسه في سوق أو مكان مقدس أو في جنازة .. عبث بالأرواح البريئة ، موت أناني ، يشتري فيه المنتحر جنة الرحمان التي لا يعاوضها إلا العمل الصالح ومعرفة أرحم الراحمين والسفر في الملكوت ، بدم ونفوس بريئة. إنه من السهل أن تحشى رؤوس هؤلاء الغفل الذين يستهينون بالحياة في سبيل أحلام بائسة وأفكار مزيفة وتحت طائلة التخدير بأيديولوجيا الموت الرخيص واللامعنى، لكن من الصعب حشوها بأفكار بناءة ايجابية تعيد لها جمالية الحياة رغم كل معاناتها وبؤس معاشها..لست أنت من يصنع قيامته وقيامة العالم..أنت مطالب بالإحسان في العمل..فأن يكون المرء حلس بيته أفضل ألف مرة من أن يخرج للناس بهذا الفكر المنكر والمرعب..أيديولوجيات القتل البارد..القتل المرضي..هي أكثر أشكال الأيديولوجيات مدعاة للشفقة..فهل تقاوم بالعنف المضاد وبالتدبير الأمني؟ لا ، إنها حالة تعالج بوسائل متظافرة ، كلها تمر عبر وسيلة الوسائل الناجعة : ألا وهي سياسة التثقيف، وهي سياسة لا يمكن أن تنجح إلا في ظل مناخ حر ترعاه نظم حرة تؤمن بالحوار الاجتماعي وحق المواطنة ، دولة للحق و القانون والحريات وحقوق الإنسان، بقواعدها المشهودة لا بترديدات غارقة في معميات الإنشاء الثوروي الرث. يبدو المتعصبون للوهلة الأولى كأصحاب أيديولوجيا متطرفة غير متسامحة. والحق أن المتعصبين والإرهابيين متسامحون في قناعاتهم وإدراكهم حيث لا يكلفون أنفسهم عناء الغور في الوجوه المحتملة للموضوعات والأحكام، فيكتفون بالنزر القليل من المعرفة ولا يستفرغون الجهد عند الدليل..إنهم يخفون كسلهم المعرفي بالتظاهر بالجهاد، فيكفرون الناس بسهولة منقطعة النظير ، ومع ذلك هم غير متسامحين في قناعتهم تلك. الجهاد غير المحفوف بشرائطه الموضوعية وأحكامه الشرعية تعويضا عن تقاعس منكر في جهاد المعرفة وما تتطلبه من إعمال نظر واستفراغ للجهد..المكفرون هم أصحاب أيديولوجيا رخوة ورثة ، يظهر غباؤها للوهلة الأولى..لذا وبما أنها أيديولوجيا كاذبة عارية مفضوحة تفتقر إلى قدرة الإقناع ، تراهم يعوضون ذلك بالعنف والإرهاب والكراهية.. شهد العالم تحولا كبيرا على إثر سقوط المعسكر الشرقي ، السقوط الذي كان منتظرا منذ سعت الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى سياسة الإنهاك واستنزاف الاقتصاد السوفياتي عبر التصعيد في سباق التسلح الذي بلغ نهايته مع إطلاق مشروع حرب النجوم في الحقبة الريغانية..لقد تبلورت رؤية استراتيجية أمريكية جديدة في سياق البحث عن عدو خارجي يعوض فراغ السقوط الأحمر، ويبرر استمرارية استراتيجية التدخل والانتشار الأمريكي تعبيرا عن اللحظة الولسونية .أظهرت حينئذ كافة الكتابات والتقارير الأمريكية أن العدو المفترض والأنسب للاستراتيجيا الأمريكية بعد الحرب الباردة هو الإسلام، وتحديدا الإسلام السياسي.في سياق تعميق القناعة بضرورة التحول برسم النموذج الاستراتيجي الجديد، تداعت الأحداث بشكل يكاد يكون مطردا إلى حد الانفجار، فكانت واقعة الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة بداية التنفيذ العملي لهذه الاستراتيجية الجديدة..كانت ثمة استدراجات من هذا القبيل ازدهر معها خطاب أيديولوجي تمركز حول مسألة الإرهاب..فجأة أصبح الإرهاب لغة العالم كما لو أنه لم يحدث في يوم من الأيام ، ولا عاقره تاريخ البشر قط..وقد رافقت هذا التدفق الميديولوجي أوهام لا تقل عن كل الأوهام التي سبقت في المتخيل الأمريكي رداءة ووقاحة إلى درجة الاختزال الشديد.لم يكن الأمر يتعلق بالصدق والكذب كما تسعى وسائل الإعلام للتعبير عنه ..فالمسألة تتعلق باستراتيجيا وأيديولوجيا تهيئ المناخات النفسية والثقافية والذوقية لاستقبال نموذج جديدة في الفعل السياسي والاستراتيجي الأمريكي.فجأة وجدنا أنفسنا في العالم العربي والإسلامي مرتهنين لأبشع صور الانتقال التاريخي الذي تصنعه قوة الإرهاب، إرهاب استراتيجي مناور ، وإرهاب فوضوي عارم..إرهاب الدولة التي تمارس الإرهاب باسم الشرعية الدولية مستغلة نفوذها وقدرتها على الضغط..وإرهاب يفتقد لتلك الشروط، لذا يبدو إرهابا عاريا وفاقدا للمشروعية..وبما أن الحديث عن الأيديولوجيا الأمريكية مما أصبح واضحا للعالم بعد أن أصبح من الصعب الإقناع به حتى الرأي العام الأوربي والأمريكي ، فلنقف عند الإرهاب الديني الذي تمارسه بعض الحركات الإسلامية التكفيرية طلبا للنقد الذاتي الفريضة الغائبة لقد فعلت الحركات المذكورة ذلك دائما حتى لما كانت حليفا موضوعيا للاستراتيجيا الأمريكية إبان الحرب الباردة. فعلته في حق المسلمين ولا تزال تفعل مثل ذلك في العراق ، مرة بدعوى التترس بالمسلمين في أجهل تخريج فقهي وللأسف حدثني مرة عن شرعية التترس بالأبرياء أحد رموز اللغوانيات المعاصرة وتارة بحجة أنهم من عامة المسلمين أو المخالفين ، وهم على أية حال في نظرها مسلمون من الدرجة الثانية أو ربما حسبوهم كفارا خارجين عن الملة.فإذا أصبح الإرهابيون اليوم يصفون حساباتهم ويواجهون استحقاقات المرحلة القادمة ، فلن يكون الأمر أكثر مما قد يقال، أنها صحون إبليس تكسر بعضها. [email protected] mailto:[email protected] شرط في رؤية عالم أكثر نصاعة! ""