جدل الأيديولوجيا والفلسفة الاجتماعية جاءت محاولة نديم البيطار في الأيديولوجيا الانقلابية لتشكل أولى البذور المؤسسة للأيديولوجيا الواصفة عربيا . وهي محاولة سبقت قليلا وبنفس مختلف محاولة عبد الله العروي في مفهوم الأيديولوجيا الذي لم يكن لإضافته أي معنى بعد الذي قدمه نديم البيطار جامعا مانعا، إلا إذا فهمنا المعزى العميق لمفهوم الأيديولوجيا عند العروي؛ حيث جاءت معالجته لا لتعرف المتلقي العربي أي مدلول للأيديولوجيا وجب تمثلها ، بل أساسا جاءت لتمارس اختلافا صامتا وأحيانا معلنا مع محاولة نديم البيطار التي بدت بعد معالجة العروي كما لو أنها معالجة غير بريئة للأيديولوجيا ؛ أي بمثابتها معالجة أيديولوجيا للأيديولوجيا وليست معالجة مفاهيمية ترقى إلى الميتا أيديولوجيا وتتحقق معها المسافة الموضوعية كما تقتضي مهمة بيان المفاهيم. إن ما يسعى إليه د.نديم البيطار، هو تمهيد الطريق بعمل علمي عام، يتغيّا الكشف عن قانون التحولات الاجتماعية و التاريخية الكبرى. إنها عملية مقارناتية تهدف إلى تأهيل العقل العربي لاستيعاب قانون النقلة، و تمثل التمرد على النظم القديمة. ذلك لأن "إدراك البنية الايديولوجية الواحدة أو النموذج الايديولوجي الانقلابي العام لجميع الانقلابات الأساسية الكبرى، هو مدماك أول في بناء أي انقلاب"[1]. على أن الوعي بهذا الشكل الايديولوجي الانقلابي – يردف البيطار-، "هو في حد ذاته نوع من التمرد ضد الوجود العربي الراهن"[2]. هكذا، يبدو البيطار مصمما في مشروعه الأخير، على تحضير الوعي العربي لهذه النقلة، و البحث عن أيديولوجيا انقلابية بديلة. و هذه الايديولوجيا ليست بالضرورة وافدة، و لا هي دخيلة، بل ما يهمه، هو البحث عن بنية الثورات الاجتماعية و عن النموذج الأيديولوجي الانقلابي المناسب القادر على إحداث التحول الاجتماعي. من هنا يبدو و كأن الباحث يحمل تصورا عن الأيديولوجيات الانقلابية كجنس واحد رغم تغاير صفاتها و ملابساتها. البحث عن إيديولوجيا انقلابية بديلة – كما يصفها البيطار- راجع إلى قناعته بعدم الكفاية الأيديولوجية القائمة. و ربما لاستنفاذها أغراضها أو إلى الفراغ الأيديولوجي. طبعا، لا يعني البيطار بالفراغ الأيديولوجي، افتقاد المجتمع إلى الايديولوجيا، بل إنه يعني افتقاده للايديولوجيا الانقلابية. لذا يقول : "دراستي هذه أوحى بها تفكك الوجود العربي، و الفراغ الايديولوجي الذي يلازم الحركة العربية، والاعتقاد بأن أقرب الطرق إلى معالجة التشويه الذي يحيط بها و ما يتبعه من تعثر لهو مقارنة الأدوار الانتقالية الانقلابية في التاريخ و الكشف عما يسود هذه الأدوار من اتجاهات أو سنن..."[3]. من الواضح أن الايديولوجيا في نظر البيطار، ليست متولدة على سبيل الصدفة، بل هي نتيجة لمخاض كامل مسبوق بمقدمات، تلعب فيها الفلسفة الاجتماعية أهمية كبرى. هناك بالتالي تطورات فكرية و فلسفية كثيرة سابقة لبروز الايديولوجيا الانقلابية. إن التاريخ هو سلسلة من الثورات التي ساهمت فيها الايديولوجيا الانقلابية. و هذه الأخيرة ما أن تستنفذ أغراضها حتى يتعين عليها إعلان استقالتها و أن تفسح المجال لأيديولوجيا انقلابية أكثر كفاية من الأولى. لكن هذا التحول من أيديولوجيا انقلابية إلى أخرى يرتكز على الفلسفة الاجتماعية، أي ضرورة نهوض فلسفة تساؤلية لتقويض الايديولوجيا التقليدية الميتة، مما يؤدي إلى فلسفة جديدة تتولد عنها ايديولوجيا جديدة. و يبدو أن الأمر الآن أصبح في منتهى المفارقة. إذ لابد من فلسفة معاصرة قوامها التساؤل و التحليل و إطلاق النظر يتولاها الفرد و تتمتع بالدقة و التعقيد و التحليل، الشرط الوحيد لتقويض الايديولوجيا التقليدية. ثم لا يتسنى لهذه الفلسفة الجديدة أن تستمر في صورتها التساؤلية الفردية المعقدة. إذ لابد من أن تتحول إلى أيديولوجيا جماعية تخاطب الوجدان و تبسط الأشياء و تحرك الجماهير. "ثم إن الايديولوجيا الانقلابية ذاتها تميل أيضا إلى التبسيط كدعاية ثورية، فتعتمد الشعارات. لذلك نجد، في كل حركة انقلابية كبرى، مفكرين انقلابيين ينقلون الفكر الفلسفي الاجتماعي إلى أيديولوجيا عامة"[4]. هنا، و في نظر البيطار تكون الايديولوجيا تعبيرا ثوريا عن الفلسفة الاجتماعية، تعبيرا مبسطا. فبقدر ما تحلل وتناقش الفلسفة الاجتماعية تناقش ، بقدر ما تنزع الايديولوجيا إلى" تأكيدات بسيطة صرفة"[5]. يستعرض البيطار من الأمثلة، الكثير، ليؤكد على هذه المفارقة بين الفلسفة الاجتماعية العالمة، والايديولوجيا العامية. فبقدر ما تتمتع الفلسفة الاجتماعية بالعقلانية و المنطق، تقع الايديولوجيا في حضن العاطفة و التشويق. إلا أنه و مادام – الباحث- يسعى إلى البحث عن بنية عامة للايديولجيا الانقلابية، فإنه ينظر إلى هذه الأخيرة نظرة خاصة، بوصفها ضرورة للمجتمع. و ليست مرفوضة طالما هي مناقضة للفلسفة الاجتماعية التي تعبر عنها. ثمة إذن تحريف تقوم به و عليه الايديولوجيا. فهي ليست نزيهة كل النزاهة أمام الفلسفة الاجتماعية التي تشكل مرجعيتها، بل هي محاولة لاستثمرها في عملية التغيير. و في كل الأحوال، فإن أتباع الايديولوجيا الانقلابية لا يدركون هذا المأزق الذي تقع فيه الايديولوجيا لأنهم لا يلتفتون إليه، و ربما لأنهم غير معنيين بذلك أو حسب البيطار، لا يرون هذه التناقضات أو هذا الإبهام، لأنهم لا ينكبون عليه عن طريق عقلي منطقي مستقل، بل تراهم مدفوعين "بحاجة نفسية تتشوق إلى تفسير عام أساسي لعلاقة الفرد مع المجتمع و التاريخ"[6]. إن علاقة المجتمع بالأيديولوجيا، هي علاقة مبنية على مشاعر و أحاسيس و مقاييس أخلاقية. بينما علاقة الإنسان بالفلسفة الاجتماعية، هي علاقة مبنية على أسس فكرية. هكذا نفهم كيف أن إقبال الإنسان على الفلسفة الاجتماعية يتم بدافع فكري و حاجة معرفية. لكن إقباله على الايديولوجيا يتم بدوافع نفسية و ولائية. فلا "يأتي الشيوعيون و الماركسيون إلى الماركسية كعلماء اجتماع، يحاولون الكشف عن تركيب المجتمع، أو عن حركته و منطقها، إذ إنهم لو أتوا بهذه الصفة، لضاقوا، مثل غيرهم ذرعا، في كلمة استمان، باعوجاج أفكارهم، و التواء مبادئها، و بفكرها المتذبذب المجرد، و بإبهامها اللاضروري. و لكنهم يأتون إليها كمؤمنين يتشوقون إلى الإيمان بسنن العالم المخبوءة التي تعمل لمصلحتهم"[7]. يدرك البيطار هذا الفارق الكبير بين الفلسفة الاجتماعية و بين الايديولوجيا. بل إن ما يثير الناس في الفلسفة الاجتماعية هو مايثير مشاعرهم و عواطفهم، و ربما الايديولوجيا ساهمت في تضخم بعض الجوانب من هذه الفلسفة الاجتماعية. فكلنا يدرك أن أفكار ماركس ليست أكثر علمية من برودون أو غيره، بل هي في ذاتها تنطوي على الكثير من النقائض. لكن الايديولوجيين، أمثال لينين، يستطيعون إظهارها في صورة منظومة علمية قطعية الدلالة. فالذي يلفت الانتباه هنا، هو أن البيطار يستند إلى منظورات عدة اجتماعية و سيكولوجية... لفهم طبيعة و فعالية الايديولوجيا الانقلابية. فقيمة هذه الأخيرة التي تفوق قيمة الفلسفة الاجتماعية ليست في مستوى الحجة أو في مقدار كاشفيتها عن الواقع، بل في قدرتها على النفاذ إلى أعماق الجماهير و امتلاك ناصية المحرومين و احتوائها على قدر هائل من الباعثية. فالفلسفة الاجتماعية – حسب البيطار- تستطيع أن تمارس تغالبها المنطقي من خلال امتلاكها الحجة والقدرة على دحر الأفكار السائدة. و لكنها لا تستطيع امتلاك الأعماق النفسية أو مغالبة المقاومة العاطفية مثلما يحدث مع الايديولوجيا[8]. و بما أن الفلسفة الاجتماعية تستنفذ جهدها في النظر، فهي عاجزة عن توليد الفاعلية. إنها تقبل بالمشاركة الفكرية ، على خلاف الايديولوجيا التي تقبل بالمشاركة العاطفية، لذا نراها تنأى عن النظر مستبعدة النقد[9]. يتحدث البيطار عن ثلاثة مستويات للدورة الانقلابية العامة هي : - مستوى الفلسفة الاجتماعية. - مستوى الايديولوجيا الانقلابية. - مستوى اللاهوت. تمثل الفلسفة الاجتماعية لحظة التساءل الأكبر الذي يستهدف الإطاحة بالنظم التقليدية حالما تتحول هذه الفلسفة إلى أيديولوجيا انقلابية. لكن هذه الايديولوجيا سرعان ما تفقد انقلابيتها فتدخل في دور اللاهوت، لذا يدخل الانسان مرحلة انتقالية جديدة. و د.البيطار يعتبر المجتمع اللاهوتي من حيث هو مجتمع بالنتيجة لا يسمح بنقد الأسس، كل مجتمع دينيا، بل هذا ينطبق على كل الايديولوجيات بوصفها تقدم نفسها ديانات جديدة و عقائد بديلة. الايديولوجيا من منظور البيطار، ضرورة اجتماعية ملازمة لوجود الإنسان. الأمر الذي يوضح موقفه من الايديولوجيا كقدر إنساني غير قابل للزوال. فستبقى "هذه المواقف الايديولوجية ظاهرة ملازمة للإنسان، حتى في مجتمع يتوصل إلى حل جميع حاجاته المادية، الفيزيولوجية، الاجتماعية، السياسية أو التكنولوجية..."[10]. من هنا، إذا تبين أن البيطار يرى إلى الأيديولوجيا و أهميتها بقدر ما تملكه من فاعلية انقلابية، فإنه لا يرى أي أهمية أو بالأحرى حكم بعبثية القيام بنقدها و محاولة تقويضها. ذلك لأن هذا النقد لن يأتي ثماره البثة لحظة قوة الايديولوجيا. بل إن الإقدام على نقد الايديولوجيا في عز انقلابيتها، يعبر عن جهل كبير بروحها و قواعدها الأساسية. لكنه يعترف للنقد العقلي أن يأتي أكله لحظة قصور الايديولوجيا و نهاية دورتها و حين فقدها قدرتها على التغيير، "عندئذ يمكن للاعتراض أن يأتي نتائج كبرى و يصبح في الواقع ضرورة"[11]. إن ثمة ما لم يلتفت إليه البيطار؛ أن النقد العقلي هنا يستقي مشروعيته، ليس بوصفه كاشفا عن نقائض الايديولوجيا –تلك النقائض المولودة معها بل بوصفه محركا و مثيرا للاسئلة التي من شأنها تقويض الوضع القائم. إن قيمتها ها هنا ليست علمية أو عقلية، بل قيمتها في محركيتها الدافعة للدورة بالدخول في مرحلة جديدة و اكتشاف ايديولوجيا انقلابية جديدة. سرعان ما سيواجهها المصير نفسه، و سرعان ما تتنكر بدورها لأسئلة الفلسفة الاجتماعية بمجرد أن تسود و تهيمن على النفوس و المشاعر. و هذا معناه، أن الاعتراض العلمي على الايديولوجيا لحظة انهيارها ضرورة ايديولوجية، لا علمية ! هكذا، نفهم بأن دور الفلسفة الاجتماعية و تساؤلاتها النقذية المحرجة هي بمثابة وصفة آنية لإعادة الحركة إلى مجراها الطبيعي. و كأننا هنا بصدد انتقام نقدي تتولاه الفلسفة الاجتماعية ضد الايديولوجيا العجوز لحظة نزعها الأخير، لكنها تدرك أنها – أي الفلسفة الاجتماعية- لا تفعل سوى أنها تمهد لإيديولوجيا انقلابية أشد فاعلية من تلك. و حينما يحل المطلق يجب أن يغيب التساؤل. فالايديولوجيا الانقلابية في نظر البيطار، تقدم نفسها كمطلق. و ذلك شرط ضروري للحركة الانقلابية لأن "هذا الشكل وحده يستطيع أن يؤكد الإيمان بنصرها"[12]. فالولاء للايديولوجيا الانقلابية لا يتم إلا إذا توفر قدر من الإيمان التام بها، و إذا حدث ذلك، فإن المجتمع لن يستفيد من هذه الحركة. و هذه الحركة في نظر البيطار مستدامة لأنها دورات متعاقبة، فلا وجود إذن للفراغ. يمكننا القول، أن هذه الديمومة في مشوار و أطوار الايديولوجيات الانقلابية المتعاقبة ليس راجعا إلى عوامل اجتماعية و تاريخية، بل هو نابع من هذا التمزق الكبير الذي هو حقيقة في وجود الإنسان. إنه ذات تناقضية وجدت في العالم دون اختيار منها و تغادره دون ذلك أيضا. إنها داخل حتمية لا تملك أمامها سوى هذا التجاوز ذي الطبيعة السيكولوجية – التعويضية-، متجسدة في النزوع إلى تركيب الايديولوجيا الانقلابية. هي حاجة سيكولوجية منبعها نزعة الانفلات من فكي التناقض الملازم للوجود الإنساني، إنها بالتالي تحمل في طياتها هذا التناقض و تستصحب في أعماقها حقيقة هذا التمزق. فهي مساوقة لهذا القلق. و لماذا لا نقول إنها في حد ذاتها التفاف على هذا القلق. فهلا عنينا بذلك أنها – إضافة إلى ما أكدناه سابقا من كونها مرض اللغة – مرض الاجتماع أيضا؟ تتأكد نسبية الايديولوجيا في نظر البيطار – على الرغم من أنها تقدم نفسها بصفتها المطلقة – من خلال خضوعها لتلك الأطوار المذكورة. أي أنها شأنها شأن الحضارات و الكائنات الحية، تشهد نشوءا و ارتقاءا و شيخوخة أو اضمحلالا. يصفها البيطار قائلا : "الايديولوجيا الانقلابية هي خروج على عالم المتناقضات التي تحيط بالانسان. ففي دنيا التحرر الكلي التي تولدها، يحاول الانقلاب، عن طريق الصراع، و الفكر، و الارهاب، و الاستشهاد، و العنف، أن يخرج من العالم الممزق المبعثر، و أن يخلق القيم التي يتشوق إليها. أما أن لا يتميز الإنسان أو المجتمع بإيديولوجية ديناميكية، فأمر لا يعني اعتدالا، بل في رأي جاسبرز "فراغا"[13]. لكنه أيا كان الأمر، فلن يعدو تحررا ناقصا. فالانسان يستطيع "أن يتغلب على ذلك التغرب" و رأيناه، في الواقع، يحقق ذلك سيكولوجيا، أثناء تجربته التاريخية في تجاوز إيديولوجي انقلابي. و لكن تجاوزه كان دائما جزئيا، لا يمتد إلى جميع أشكال التغرب أو الوحدة، و هو نسبي لا يمكن أن يكون نهائيا أو مطلقا"[14]. إن التجاوز الانقلابي يقوم على افتراض ماضي سعيد و مستقبل واعد. المستقبل هو عودة إلى الماضي التليد ما قبل تاريخي . إن عدو الايديولوجيا الانقلابية بهذا المعنى، هو الحاضر. لعل ثمة ما هو مشترك بين كافة الايديولوجيات الانقلابية مهما بدا الفرق بينها و مهما تباعدت أطوارها و تكاثرت، هو الحنين الوحيد ذاته و المجتمع الواحد عينه. إن هدف الايديولوجيا الانقلابية و غايتها أن تفرض صورة إنسانية جديدة تسعى بلا كلل لفرضها على الواقع. الأمر الذي يجعلها تفقد الكثير من العقلانية، بل اعتمادها عناصر أسطورية و استنادها على قوة الشعار. تضعنا دراسة البيطار أمام إشكالية أخرى، تتصل بعلاقة العنف بالايديولوجيا حيث أبانت عن أنها تحمل شحنات راديكالية، يسعى لإيجاد تبرير يشرعن ممارسة العنف باسم الايديولوجيا. هذا العنف لا حدود له طالما له ما يسوغه، تلك الصورة المثلى التي تسعى الايديولوجيا إلى تحقيقها. فلا يخفى أن أمام الايديولوجيا الانقلابية مهمة كبرى تجعلها في مواجهة الايديولوجيا التقليدية المستنفذة أغراضها، و لكنها تشكل معارضة صلبة تعيق مشروع الاييديولوجيا الانقلابية. الأمر الذي يؤدي إلى قيام هذه الأخيرة بسحق كل ما يعترضها. إن المسألة ليست مسألة عنف أو آليات قمع في حد ذاتها، بل المسألة، وفق أي غاية يتم ممارسة هذا العنف. و ها هنا نجدنا أمام مكيافيلية صريحة، إذ الغاية النبيلة التي تبشر بها الايديولوجيا الانقلابية تبرر كل المقدمات العنيفة التي تنهض عليها. لقد كانت المقصلة –يقول البيطار- "حتى الثورة الفرنسية، رمزا دائما للظلم و الاستبداد، و لكن اليعقوبيين رأوا فيها رمزا جديدا، عندما أصبحت في خدمة الثورة، لأنها تحولت آنذاك إلى خدمة العدالة و الحرية (...) كان العنف اليعقوبي الانقلابي يمثل يمثل الحرية و العدالة في نظر القائمين به..."[15]. إن منطق العنف الذي يمارس باسم الايديولوجيا الانقلابية، يخضع لدياليكتيك خارج المعايير الأخلاقية و أحكام الضمير. فالتحول وفق هذا المنظور، يتطلب منسوبا كبيرا من الضحايا. و مع ذلك، لا يمكن لدموع الأطفال و عذابات الشيوخ و النساء، أن تمنع من رؤية تلك الصياغة الواعدة التي تسعى الايديولوجيا لفرضها على الاجتماع. إن هؤلاء الانقلابيين، رسل العنف الانقلابي، هم كائنات متفائلة، لكن العقبات التي تحول دونهم و تحقيق هذه الأهداف التي يرونها نبيلة تحرضهم على أن يسلكوا مسلك العنف لإرغام التاريخ على القبول بخيارهم. فها هنا يكون العنف في رأي منظر الايديولوجيا الانقلابية، ملازما للتمرد الايديولوجي. إنه ضرورة، بها تقوم الحياة، و يمضي التقدم و التطور قدما. فليست الحرية طبيعية، جبلية، و إنما العنف و إرادة القوة هما الأمر الطبيعي. من هنا "تفرض ضرورة العمل الثوري على الثوريين و الانقلابيين اللجوء إلى العنف، مهما نفرت أنفسهم منه. وصف كثيرون كأكتون أو لورانس، و كوستلر هذه الناحية، و بينوا كيف أن ضرورات العمل الثوري أو السياسي تفسد حتى القديسين. رأى لورانس أن الأفراد يستطيعون أن يصبحوا، و أن يبقوا قديسين، طالما يظلون منعزلين في فرديتهم، و لكن كل قديس يصبح إنسانا شريرا عندما يتصل بذات الناس الجماعية..."[16]. على الرغم من أن البيطار يدرك تماما بأن الايديولوجيا، من حيث هي ضرورة ترافق الاجتماع، و هي ضامن تحوله و انقلابه، تنزل رتبة العقيدة أو الدين. إذ يتعبد الايديولوجيون بايديولوجياتهم تعبد المؤمن بديانته، إلا أنه يحمل التصور التهويني نفسه للدين، مستصحبا المنظور الغربي التقليدي، النتشي و الماركسي و الوجودي. عن هذا التشابه بين الأديان و الايديولوجيا. يقول البيطار : "لقد رأينا حتى الآن الأديان التقليدية، أو ما أسميناه بالأديان الغيبية، تلتقي مع الايديولوجيات العلمانية الانقلابية الحدثة، على الرغم من إلحادها، في طبيعتها، و في المقاصد و الأهداف التي تبغيها، و في التجربة السيكولوجية الأخلاقية التي تولدها، فالطبيعة واحدة، و المقاصد متماثلة من حيث الشكل و إن اختلفت في المصدر"[17]. تظهر تناقضات البيطار التي ربما لها علاقة بتلك الأخلاط الايديولوجية التي حشدها للدفاع عن موقفه الإيجابي من الايديولوجيا الانقلابية، و هي ايديولوجيات متنافية متدابرة، كلفت البيطار جهدا كبيرا للتوليف بينها – و ربما أحيانا اضطر إلى التلفيق بينها- في جملة من النقائض، أهمها، أنه بما أن الباحث حشد ما فيه الكفاية من الأدلة لتعريف الإنسان تعريفا وجوديا قلقا، و على الرغم من تسليمه للتشابه بين الأديان و الايديولوجيات مع أننا نرى بين الإثنين فرقا كبيرا سنبحثه لاحقا من حيث الوظيفة. إلا أنه سرعان ما يعود ليؤكد بالقول :"القول إن الإنسان يحتاج إلى الدين يعني، ضمنا على الأقل، أن الدين يحمل نعمة و بركة للإنسان، لأنه يطمئن الإنسان على مصيره، لكن هذا القول يمسخ الحقيقة، لأن العنصر الأساسي في التجربة الدينية هو البؤس الديني. فالمؤمن لا يعرف إذا ما كان بين الذين ينجبون أو بين الذين يهلكون، لهذا فهو يحيا بكآبة مستمرة، إن صح فيه الإيمان، لأنه يجد نفسه وجها لوجه أمام اللانهاية، أمام إله يخلق، يحكم، يهدم، يعدم..."[18]. مع أن الايديولوجيا كما ذكرنا سابقا هي التفاف تخييلي على الواقع، و مسخ للحقيقة و معانقة للوهم. إن الطمأنينة نبتت هي الأخرى داخل الأديان. و في تعريف البيطار للإنسان، بوصفه كائنا انقلابيا – معيدا بذلك صياغة كوجيتو للايديولوجيا الانقلابية : أنا انقلابي إذن أنا موجود – تأكيد على أنه وقع في مأزق التعريف الوجوداني لألبير كامو، حيث ينفي فكرة الايديولوجيا بوصفها على نقيض الأديان، توحي بالاطمئنان و تعبر عن الحقيقة. لم يقف البيطار الذي حشد للدفاع عن الايديولوجيا وقفة متأنية لفهم الظاهرة الدينية، والتمييز بين تجربتين تختلفان في ديناميكيتهما. بل اقتصر على الأحكام المسبقة، مستعيرا كل النعوت والأوصاف الغربية الحكومة بشروط ومناخات معلومة في تاريخ الصراع بين طلائع التقدم والنهضة و بين الكنيسة ورجال الدين. وعليه، فإن د.نديم البيطار، لم يستطع أن يقدم قراءة جديدة تنطوي على قيمة مضافة، على صعيد اللغة الواصفة للايديولوجيا، بل سلك مسلك التحشيد و المبالغة إلى حد الملل، لأقوال و أفكار غربية ذات اتجاهات مختلفة و أحيانا متناقضة. إنه بتعبير آخر، ترجمة لما أنتجه النقد الأيديولوجي الغربي بإشكالياته و حقائقه التداولية، بالإضافة إلى ترجيحه لموقفه الثوروي الانقلابي الذي حكم فترة صعود الأيديولوجيات الانقلابية في العالم العربي. حتى أنه يمكننا الحديث عن شجرة نسب لهذه المحاولة النقدية للبيطار، تكشف ليس عن أنها تعود إلى أصول النقد الأيديولوجي الغربي بكل اتجاهاته المتخالفة فحسب، بل لنكشف إلى أي حد خلت من اجتهاد عربي و من إضافة تذكر على ما جاء به الموروث النقدي الغربي. ليس الفارق بين مقاربة البيطار والعروي أصل تمثل مفهومها في منشأ تشكل القول الأيديولوجي ، فالعروي هو أيضا يتمثل فهما تمثليّا لها ، غير أن الفارق هنا أن العروي يقدم فهما يتميز بالاستقامة المعرفية بينما بدت محاولة البيطار كأنها أتون لصهر ما ظل مختلفا ومتناقضا من مفاهيم الايديولوجيا. وعليه ، إذا كان موقف البيطار حاشدا ومحشدا وهو فعل أيديولوجي بامتياز فإن موقف العروي جاء مقتصدا وقاصدا بامتياز؛ وهذا سنقف عليه في مناسبة أخرى. ------------------------- [1] د.نديم البيطار، الايديولوجية الانقلابية، ص 8 ط.نيسان 2000م-بيروت [2] المصدر السابق، ص 9 [3] المصدر السابق، ص 41 [4] المصدر السابق، ص 63 [5] المصدر السابق، ص 63 [6] المصدر السابق، ص 64 [7] المصدر السابق، ص 66 [8] المصدر السابق، ص 67 [9] المصدر السابق، ص 69 [10] المصدر السابق، ص 122 [11] المصدر السابق، ص 123 [12] المصدر السابق، ص 127 [13] المصدر السابق، ص 147 [14] المصدر السابق، ص 148 [15] المصدر السابق، ص 438 [16] المصدر السابق، ص 462 [17] المصدر السابق، ص 507 [18] المصدر السابق، ص 528 [email protected]