الأيديولوجيا غواية لا بد منها "إنما إلى الأيديولوجيا، إلى تلك الميتافيزيقا الغامضة التي إذ تبحث بأرابة عن العلل الأولى تريد أن تقيم على هذه الأسس تشريع الشعوب، بدلا من أن تكيف القوانين مع معرفة القلب البشري و مع دروس التاريخ، و إنما إلى الإيديولوجيا ينبغي أن نعزو جميع المصائب التي تمتحن فرنسا الجميلة"[1]. كان ذلك مقطعا من الخطاب النابوليوني التاريخي الذي حمل من السخرية بقدر ما حمل من السخط ضد حزب الأيديولوجيين الخارجين توهم من معطف كوندياك. فكانت بمثابة رسالة أرخت للقطيعة الفورية على إثر شهر العسل الذي لم يدم طويلا. حيث جمع بين نابليون و حزب الأيديولوجيين، قبل أن يتهمهم نابليون بالتواطؤ مع كلود فرانسوا دي مالي في مؤامرته الشهيرة[2]. و بذلك سيتحدد الدور الجديد للأيديولوجيين في أقصى اليسار، لتبدأ مسيرة المعارضة على أشدها بين نابوليون و أنصاره المحافظين، أنصار "العبقرية المسيحية" لشاتوبريون من جهة و بين الأيديولوجيين سليلي صالون السيدة هلفسيوس في أوتوي، الضاحية الباريسية التي لا تزال تحتفظ بأنفاس موليير و كوندورسيه و لافونتين و باولو و ذكريات سمرهم الأدبي و الفكري. أولئك الذين سخروا من السياسة القائمة و من الدين و الرياضيات، حتى كانوا بحق كما يقال همزة الوصل بين ميتافيزقا القرن الثامن عشر و الوضعية. يقول دستور دي تراسي : "إن اللاهوت هو فلسفة طفولة العالم، و قد آن الأوان ليخلي مكانه لفلسفة سن رشده، إنه من صنع الخيال، مثله مثل الطبيعيات الرديئة و الميتافيزقا الرديئة اللتين رأتا النور معه في أزمنة الجهالة، بينما تقوم الفلسفة الأخرى على أساس الملاحظة و التجربة"... [3]. لقد زعم بعض الباحثين بأن الايديولوجيا التي ظهرت أول ما ظهرت كمصطلح لغوي في فرنسا، سرعان ما سيمنحها الألمان قيمة مضافة كي تعود إلى فرنسا بوصفها مفهوما جديدا كل الجدة. إيديولوجيا "Idéologie"، كلمة مركبة من idée تعني فكر ولوجي logie، بمعنى علم. لذا فهي تحمل معنى "علم الأفكار". و هو المعنى الأول الذي عرفت به. لكنها سرعان ما صارت بمعنى النظام الفكري أو منظومة الأفكار. أو ما يجعل الدلالة نفسها لمفهوم العقيدة. لكن أيا كان الأمر، فهذا لا يعني أن بعض المواقف من الايديولوجيا رافقتها منذ ظهورها الأول كقوة فكرية سياسية في فرنسا. لا، بل لعل الدلالة القدحية التي لازمتها، لم تولد كاملة مع ماركس، بل كما تبين سابقا، هي واضحة في الخطاب النابوليوني أعلاه. ففي تعريف مادة "أيديولوجيا" في "دائرة معارف الفلسفة" التي أشرف عليها "بول إدواردز" يقول دافيد برايبروك ": "إن مصطلح " الايديولوجيا" لم يبدأ كمصطلح للتهمة، كما أنه في الاستعمال المتداول ينأى بعيدا عن أية مضامين أو تضمينات تفيد معنى التعريض أو الإدانة، فالمصطلح يعادل أو يقابل أية مجموعة مترابطة من المعتقدات السياسية المتسمة ذاتيا. و لكن وفي منتصف الطريق و مع ما خلعه كارل ماركس على المصطلح من استعمال، دل مصطلح "ايديولوجيا" على وعي زائف بالحقائق الاجتماعية والاقتصادية، و وهم أو ضلال جمعي يتقاسم الوقوع فيه أفراد طبقة اجتماعية معينة كما يقال في حق التاريخ المرتبط بوضوح بتلك الطبقة، و هكذا لم يصبح المصطلح مصطلح إهانة و إدانة فحسب، بل مصطلحا ضخمت فيه الإهانة بفعل نظرية مثيرة مهيجة لم يقر بها القرار بعد على مستقر فلسفي"[4]. ولم يفوت دافيد برايبروك الفرصة، للإشارة إلى حقيقة الموقف الماركسي من الايديولوجيا بوصفه موقفا متأثرا إلى حد ما بالموقف النابوليوني البالغ الازدراء. إن إشكالية الايديولوجيا، هي فرع لإشكالية أخرى طالما أرقت الفكر الحديث و حاصرته بسؤال العلاقة وسؤال التأسيس بين الفكر و الواقع. فبينما ساد الرأي في الفلسفة الألمانية، بتبعية الواقع للفكر أو استجابة الواقع للروح المطلق عند هيغل، كان ثمة من عارض ذلك مجترحا مذهبا جديدا يقول بعكس العلاقة والتأسيس. و هذا الرأي قلب وجه العلاقة بين الفكر و الواقع ليجعل الفكر تابعا للواقع و تجليا لظواهره. غير أن الازدهار الايديولوجي الذي سيشهده القرن 19 الذي هو بحق كما وصفه هنري ايكن ب "عصر الايديولوجيا" سيشهد تأملات إضافية لمفهوم الايديولوجيا. يقول هنري دافيد ايكن : "إن ما لم يفهم بالوضوح الكافي ربما هو أن العقائد الأساسية لفلاسفة القرن التاسع عشر، هي أيضا ايديولوجية إلى حد بعيد (...) و لذلك فلا يقتصر رأيي على أن معظم العقائد البارزة و المؤثرة لفلاسفة القرن التاسع عش هي ، في جوهرها، ايديولوجية الطابع فحسب، بل ارى أيضا أنه منذ "كنت" تزايد الوعي بأن المهمة الأولى للنقد الفلسفي لا تمت بصلة إلى "العلم" في أي معنى من المعاني المألوفة لهذا الاصطلاح، بل تمت إلى شيء لا تلائمه غير كلمة "الايديولوجيا"[5]. يمكننا القول، بأن النقد الماركسي للايديولوجيا هو انقلاب ليس على الهيغلية فحسب، بوصفها رؤية مثالية معكوسة، بل هو أيضا ثورة على المنظور الانعكاسي الذي يرى الايديولوجيا تعبيرا وفيا لما يجري في الواقع. لقد كان للإعلان عن طبيعتها التزييفية، صدى جعل النظر إليها فيما بعد يخرج مهزوما من مستوى بحث ماهيتها الانعكاسية إلى مستوى البحث في بنيتها و وظيفتها، أي علاقتها النسبية المحددة وفق إطار اجتماعي معين.الأمر الذي أضفى تعقيدا جديدا على إشكاليتها، و جعلها أساسا لعلم اجتماع المعرفة بامتياز !. منذ نيتشه و فرويد و الأفكار تلقى ازدراءا غير مسبوق في أوربا. إن الأهمية الكبرى التي تسترعي الانتباه فيما قدمه كلاهما، ليس منحصرا في التهوين البادي، من سلطة العقل الذي أنكرا حقيقته المطلقة؛ العقيدة المؤسسة لأسطورة العقل المؤله. بل إن الأهمية المضاعفة لهذا النقد الشرس للعقل يتجلى في ذلك التحجيم إلى حد كبير من وثوقية الفكر الغربي من أحكام العقل بوصفها انعكاسا تاما و صادقا للعالم الخارجي. كان كانط قد استثنى "النومين" من الإمكان العقلي و التفّ على "الترنساندنتالي". لا أقصد أن كانط قد نفى "النومينا" Noumena كواقع مستقل، بل أخرجه من إمكان المعرفة و الفهم. فالفهم لا يعالج إلا ما قدمه الحس عن الواقع في صورة ظواهر، أي الموضوعات التجريبية التي تعرض على الفهم، الشرط الوحيد لتحقق المعرفة. هذا ما عنيناه باستثناء كانط للنومين من الإمكان العقلي، أي العقل النظري. أما عن التفافه على "الترنسندنتالي"، فقصدنا به استثناءه الوجود المتعالي من إمكان العقل النظري، شأنه في ذلك كالنومينا. إلا أنه سرعان ما التف عليه مجددا و أقره بالعقل العملي. و هذا الالتفاف لا يعني أن كانط –حقيقة- لم يكن يدرك خطورة المأزق، بل لعله أدرك أنه لا مناص في كونه الإمكان الوحيد المتاح لمعرفة المتعالي، معرفة قائمة على أساس التصديق الأخلاقي، بعد أن خبر عجز العقل النظري على صياغة دليل على هذا الوجود دون أن يقع في دوامة المفارقة، كما حدث مع الدليل الأنطلوجي مثلا. المنشأ الإشكالي لهذا الالتفاف في تصورنا راجع إلى سريان التقليد الأرسطي و المدرسي نفسه في هذا التقسيم العقلي المثنوي مع كانط، لكن أهميته تبقى بالغة، إذا فعلا، نظرنا إلى ذلك كخطورة نقدية أولى على طريق توسيع مجال العقل، حتى لا يكون المعقول قصرا على النظري.[6] إذا كان الأمر كذلك مع كانط ، فإن العقل هو نفسه سيغدو ظاهرة من الظواهر الكونية التي لا تمثل سوى ذلك الشرط الضروري للوجود الإنساني كما زعم نيتشه، أو ذلك الجزء الصغير الطافئ من الكائن على السطح عند فرويد و هو في كل الأحوال، عاجز عن إدراك الصيرورة التي هي سنة العالم، بما أنه مجعول لإدراك الثابت فقط (=عند نيتشه). هذا بالفعل ما جعله يسخر من مزاج الفلاسفة بقوله " : أن يكون الإنسان فيلسوفا، أن يكون مومياء". إن "الصيرورة" هي الحقيقة التي يتعين إدراكها. لكن العقل عاجز عن ذلك، بخلاف الحواس التي لا تكذب في نظره، لأنها تكشف عن الصيرورة. أما العقل فهو عاجز أيما عجز عن ذلك. لهذا لا يخفى نتشه حنقه على الفلاسفة مسخفا أفكارهم قائلا : "تسألوني عن كل ما يتعلق لدى الفلاسفة بالمزاج، إنه مثلا، غياب الحس التاريخي لديهم. حقدهم على فكرة الصيرورة نفسها يعتقدون أنهم يمجدون قضية ما بتجريدها من تاريخها... بتحنيطها. كل ما دبره الفلاسفة منذ ألفيات، لم يكن سوى موميات أفكار، لاشيء حقيقي خرج حيا من بين أيديهم..." [7]. فهو ليس إلا تعبيرا مخاتلا عن حقائق تناقضية تجول في الأعماق السحيقة للإنسان. إنه واجهة مزيفة للعنصر الأهم في طبيعة الكائن؛ "اللاعقل" ! ليست الأفكار و القيم الكبرى في نظر نيتشه سوى اختراع يحمل ختم اولئك الضعفاء الذين بأوهامهم تلك يخفون غلهم و أحقادهم على الأقوياء إنهم بالأحرى يستبدلون حياة الخيال بالحياة الحقة القائمة على الاستجابة لداعي الغريزة و الطبيعة. فالأفكار هي صنيعة أوهام،حيث العقل لا ينتج فكرا حقيقيا إلا إذا عانق الحياة بشروطها المقررة، و تحرر من إيحاءات و حيل الضعفاء. يقول نيتشه : "إن لأخلاق، كما فهمت حتى الآن – كما صاغها شوبنهاور في نهاية المطاف، ك"نفي لإرادة الحياة"- هذه الأخلاق هي غريزة الانحطاط نفسها..." [8]. ليس هذا العقل المنتج للأفكار سوى كتلة من التبريرات التي هي في الوقت ذاته كتلة إشارات تحيل على ذات تخفي خبرة يحتل فيها اللاوعي الجمعي مساحة معتبرة. و ليست "الأنا" Ego إلا ذلك الجانب المقتطع من "اللاوعي " inconscient؛ أي الوسيط أو لنقل كبير المفاوضين الذي نجح في إحراز الحد الممكن من اللياقة الديبلوماسية للتواصل مع الواقع و إكراهاته الخارجية. إن ما يبدو وعيا أو ذاتا "أنا" ليس إلا مساحة صغيرة جدا، قد تطفو بشكل ما إلى سطح الوعي، لكن سكناها الدائمة تظل هي قاع اللاوعي نفسه. إن اللاوعي في نظر فرويد ليس فقط القسم الآخر المكون للذات، بل هو الذات برمتها[9]. مع كارل ماركس، يأخذ نقد الايديولوجيا وضعا مختلفا تماما. و ذلك لأنه رغم محاولته الموازية بين الضرورة التاريخية الاجتماعية للتشكل الايديولوجي، فإن الجانب القدحي في نقده للايديولوجيا هو الذي ظل ساريا في الأدبيات الماركسية. إذ لم تستطع التخفيف من وطأته حتى تلك المحاولة اللينينية شديدة الحماس المتوجة بإعلان ميلاد الايديولوجيا العلمية. و لا يزال لتلك العبارة التي أوردها ماركس في كتابه الشهير "الايديولوجيا الألمانية" صداها حتى اليوم :"ليس الوعي هو الذي يحدد الحياة، بل الحياة هي التي تحدد الوعي"[10]. لقد سعى ماركس جهده للتمييز بين الوعي الصحيح أو الصادق من حيث هو وعي مطابق للواقع، و بين الوعي الذي يعكس صورة مزيفة و مضللة للواقع. و قد أطلق وصف "ايديولوجيا" على هذا المستوى الأخير، من الوعي. ليس جدير بنا الآن بسط نظرية ماركس الكاملة بخصوص "الايديولوجيا"، لكن يكفينا القول أن ثمة لحظة حاسمة في حياة ماركس، و التي لها صلة ما بحرصه الشديد على قلب آراء اليسار الهيغلي بخصوص التاريخ، و نقد الرواسب الفلسفية و التي سماها هو أيديولوجية لعصر الأنوار، و التي لا تزال ثاوية في صلب خطابه الفلسفي. إن الحملة الماركسية على الايديولوجيا، مثلها مثل الحملة الاقتصادية التي تضاعفت في لجة الحجاج ضد الاشتراكيات الطوباوية، كانت قد كلفت الايديولوجيا الماركسية الكثير إذ جعلتها ايديولوجيا مغلقة و حولتها إلى يوتوبيا رثة. الأمر الذي يفسر حجم القراءات المتتالية التي خضعت لها آراء ماركس بهذا الخصوص. و الحال، أن ماركس من ناحية أخرى، اعتبر الايديولوجيا منظومة أفكار تتحدد أهميتها من خلال علاقتها بقوى الإنتاج و علاقاته. إن البنية الفوقية التي هي محل كافة العقائد و الأفكار و القيم التي يدين بها مجتمع ما هي رهينة البنية التحتية، التي هي محل قوى الإنتاج و علاقاته. إن كل نظام اقتصادي تلائمه أيديولوجيا معينة و تتغير هذه الأخيرة تلقائيا متى ما تلاشت المصلحة و حصل تطور في مستوى قوى الإنتاج و علاقاته. و بما أن التطور جارف لكل أشكال الأنظمة الاقتصادية و علاقات الإنتاج، فإن الإيديولوجيا تبدو في وضع الجوال عديم الإقامة، لكن إذا كانت علاقات الإنتاج الاشتراكية هي خاتمة تاريخ التحولات في الأنماط الاقتصادية و علاقات الإنتاج المتطورة، فإنه لا غرو أن يكون للايديولوجيا نهايتها التي تتوقف عندها. و هي بلا شك الايديولوجيا الملائمة لهذا التطور النهائي المرتقب لكن ما يهمنا هنا، هو أن ماركس نفسه يعترف بأهمية الأيديولوجيات السابقة طالما أنها تعبر عن لحظة وئام ضروري مع قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج، حيث هي الحلقة التاريخية الضرورية في التحويل الحتمي نحو علاقات إنتاج اشتراكية. و هكذا بات ماركس شأنه شأن كل الليبراليين داعيا إلى ما يدعون إليه فهم يفعلون ذلك حماية لنظامهم، بينما هو يفعله تسريعا لقطار التحول. يقول دافيد برايبروك بهذا الصدد : "و قد حكم ماركس بالبطلان على هذه الطائفة من الأفكار، لأنها شأن سائر الأيديولوجيات تسيىء فهم الوقائع التاريخية العارضة و الطارئة لحساب الوقائع الدائمة و الثابتة. إلا أن ماركس لا ينكر أنه إذا ما تم التبرؤ من الايديولوجيا و التخلي عنها فإن بواعث الأخذ بالمذهب الرأسمالي تتلاشى و تزول. فهل كان على الطبقة البورجوازية أن تراكم رأس المال إن هي لم تعتبر مدخراتها مكاسب متحصلة لها و لأسرتها ؟"[11]. صراع الأفكار أم ديكتاتوريا الوعي الشقي إن تاريخ الصراع البشري، هو تاريخ الصراع الايديولوجي. صدام بين أدعياء المعرفة المطلقة و الشمولية. إذا كان الواقع الذي تزعم الايديولوجيات تمثيله خير تمثيل، فلماذا هذا التناقض و التنافر بين أنماطها و أشكالها المختلفة. هل يمكننا اعتبار ذلك انعكاسا لصراع الواقع الممثول مع نفسه. فلا شك في أن تنامي الصراع الايديولوجي هو أبرز مؤشر على ضحالة القول بالتمثيل التام الذي تزعمه النظرية الانعكاسية، لكن ما حصل و ما يحصل دائما هو ضرب من إرادة السيطرة يمليها واقع التغالب على مصالح اجتماعية معينة. و بالتأكيد الايديولوجيون هم أبعد الناس عن أن يدركوا هذه الحقيقة الكامنة خلف الباعث الايديولوجي. إذا كانت "الايديولوجيا" تمثل واقعا قائما بذاته له شروطه و يظفر ببنيته، فهي تظل من الناحية الأخرى محاولة الفكر - تلك المحاولة المستحيلة- لتمثيل الواقع على وجه أتم. إنها من هذه الناحية واقع مستقل و ليس تعبيرا عن واقع ممثول. إن حربا بين أشكال الايديولوجيات، هي حرب من أجل فرض وقائع متخيلة على واقع فعلي. أو هي محاولة لاستئصال ايديولوجيات أخرى على سبيل المنافسة للاستئثار بالحكومة على الواقع الفعلي. إنها حرب وقائع مختلفة لكنها و بلحاظ الواقع الفعلي الذي تمثله، هي أقنعة تبريرية، أو وقائع وهمية كما مر معنا. بالنسبة إلى هيغل الفكر لا يمثل الحقيقة المطلقة تلك التي لا يتسنى لنا إلا القبض على مرحلة ما من مراحل تطورها، في هذا المسار التاريخي الذي يمثل مجال تكاملها (أي الحقيقة). و عليه، إذا كانت الايديولوجيا دائما تقدم نفسها كانعكاس تام للواقع المطلق، فإن هذا المستوى من الوعي بالايديولوجيا و بمطلق الأفكار هو وضيع للغاية. إننا لا يمكننا إدراك شيء سوى ال"آن". أما الحقيقة فهي آنات في تطور مستمر. إن وعينا الحقيقي لا يتعدى الآن. و الحقيقة لا تعدو أن تكون حسب هيغل دائما، تجليا لروح التاريخ في حقبة ما. و هذا يفرض علينا تمثل روح كل عصر. لأن الحكم على عصر مهماا بلغ في القدم، من خلال فكر معاصر، لا يوصلنا إلى فهم حقيقي، فلكل عصر تجلّي خاص به لهذه الروح فهو منسجم مع عصره و منطقي. فالتاريخ هو بحث عن الحرية. و متى ما تطورت هذه الأخيرة و أصبح لها معنى ناميا كان ذلك إيذانا بتحول جديد. فمن الذي جعل الثورة الفرنسية التي ثمنها هيغل و الفلاسفة الألمان، تصبح مع نابليون واقعا ديكتاتوريا أبشع من سلفه. لعل السبب من المنظور الهيغلي هو إرادة تطبيق مفاهيم ذهنية على واقع متمنع. و إنزال أفكار العقل المجرد على الواقع المشروط. إنها نتيجة تمنع الواقع المحصور عن الفكر الموسع. و بما أن الفكر يستطيع أن يتعقل أفكارا لا نهائية بينما الواقع بالضرورة نهائي، فإن هذا الإختلاف بين الطموح اللانهائي و الشروط النهائية هو منشأ الوعي الشقي La conscience malheureuse.[12]. إننا لا نملك أمام هذه التحولات –أو بالأحرى هذه التجليات- إلا الصمت. لعل هذا الموقف الذي يكاد يبدو عدميا للغاية، يحضر بصورة خفية في الموقف الماركسي بخصوص تثمين الايديولوجيا البورجوازية بوصفها، المنظومة الملائمة للنظام الرأسمالي من جهة، وهذا موقف منطقي – إذ المنطق من المنظور الهيغلي ليس سوى هذه الملاءمة الآنية-. و من جهة أخرى لأنها تمثل الحلقة التاريخية الضرورية في التحويل التاريخي المنشود عند ماركس، و هذا موقف تاريخي. و لو أننا أدركنا الدعوة الهيغلية إلى ضرورة تعليق الوعي المعاصر لحظة تفكرنا في المجتمعات المختلفة الحقب التاريخية، لعرفنا أنها دعوة للمعايشة و الاستئناس بوقائعها قصد القبض على حقيقة الروح التاريخية المتجلية فيها. فإن ضرورات القراءة الهيغلية تفرض على الباحث أن يكون إقطاعيا كالإقطاعيين في المجتمع الإقطاعي، و ليبراليا كالليبراليين في المجتمع الرأسمالي كما لاحظنا ذلك واضحا في الموقف الماركسي من الايديولوجيا الليبرالية. واضح تماما، أن التطور الذي أحرزه نقد "الايديولوجيا"، لم يكن سوى محاولات إكمالية أو مخاتلات و التفافات لم تستطع أن تحقق قطائع بحجم المناحي التي سلكتها عمليات نقد الايديولوجيا. يمكننا فقط الحديث عن ثلاث قطائع حقيقية في مسار نقد الايديولوجيا : القطيعة الأولى : حينما قطع الفلاسفة الألمان مع المفهوم الفرنسي للايديولوجيا بوصفها علما للأفكار، أو كما تراءت ل"دستوت دي تراسي" واضع كتاب "عناصر الايديولوجيا" و أحد أبرز المنظرين الايديولوجيين، باعتبارها علما لدراسة الملكات الإنسانية[13]. أصبح للايديولوجيا معنى انعكاسيا. القطيعة الثانية : حينما قلب ماركس المنظور الهيغلي للانعكاس و التجلي. القطيعة الثالثة : حينما شكك نقاد الايديولوجيا و نقاد العقل في إمكان الانعكاس و التمثل، جاعلين من الايديولوجيا واقعا قائما بذاته. مؤكد أن بين هذه القطائع، انتعشت آراء كثيرة و تراكم فكر كثير. سأعود إلى الموقف الماركسي، لكن هذه المرة مع ناقد مغامر، نذر حياته لإعادة عرض الموروث الماركسي على أسس علمية-لا أيديولوجية-. لكن كيف و إلى أي حد أمكنه القبض على العلمي في النقد الماركسي للايديولوجيا. أعني بذلك الفيلسوف الفرنسي المعاصر: "لوي التوسير". لقد ساد الاعتقاد كما بينا سابقا، بأن الايديولوجيا هي المرادف الطبيعي للوهم. من حيث نظر إليها بوصفها، ليست فقط غير كاشفة عن الواقع، بل بوصفها مزيفة له، إنها بالأحرى بديل وهمي عن الواقع و منظومة فكرية تصرف الذهن عن الواقع الحقيقي بواسطة التبرير أو التعويض بالوهم. إنهم لم يسلموا لها بالحد الأدنى من هذه الكاشفية و لم يعترفوا لها بأي صلة بالواقع. إنها بالتالي مفارقة أو تقنية مخاتلة لتزييف الواقع و الالتفاف على حقائقه. و لكن السؤال الذي يجدر بنا طرحه هنا : إذا كانت الايديولوجيا حقا، هي صورة مشوهة أو مزيفة للواقع. بوصف هذا الأخير منظوما على نحو سنني منطقي، في حين الأولى منظومة على نحو مغالطي، إذا كان هذا هو الواقع بالفعل، فلماذا كل هذا التأثير الذي تحدثه الايديولوجيا. و هل بمقدور أحدنا الاستغناء عنها. و هل تأثيرها على الوقائع مصداق تأثير عالم الذهن على الواقع؟ إن الايديولوجيا هي العلاقة الممكنة بين الفكر و الواقع. فهي بهذا المعنى تمثل أهم ابتكارات العقل الإنساني. إذ لعله من المناسب أن نعرف الإنسان مجازا، بذلك الحيوان الايديولوجي، فيما أن الواقع لا يقدم أشياء بالدقة الممكنة كما نتصورها ذهنا، فإن الايديولوجيا تقرب ما بعد و تدقق ما امتنع عن الدقة. فهي من هذه الناحية نظم إكمالي للواقع. و بما أن العجز عن إدراك الواقع و استحالة تصوره كما هو أمر حاصل، فإن أهمية الايديولوجيا، وظيفية و ليس كاشفية. فإذا نظرنا إليها من حيث وظيفتها، توقفنا عن اعتبارها انعكاسا للواقع، بل هي نفسها تصبح واقعا و إنشاءا جديدا فالذي يبدو أن الايديولوجيا بوجهيها، هي منظومة أفكار أو لنقل بالأحرى منظومة رموز تحيل على حقائق أخرى و من هنا، أيا كان وجهها – مزيفة أم مطابقة- فهي صادقة من حيث أنها تحيل على حقائق. على هذا الأساس يتضح مليا بأن ماركس أو نيتشه أو فرويد... مهما تحدثوا عن زيف الأفكار و وهميتها، فإن ثمة ما يؤكد على أنهم رأوا إليها رموزا محيلة على حقائق باطنة. فالايديولوجيا الصادقة نفسها –كما تأكد ابستمولوجيا- لا تقدم الواقع كما هو. بل لعلها تزيفه و تخفيه. فهي بهذا المعنى ليست مناقضة للمعرفة، بل هي عائق من عوائقها. إنها كاذبة بمقدار ما تخفيه أو تزيفه. و لا تختلف عن الايديولوجيا المزيفة الكاذبة إلا بمقدار كاشفيتها و مرتبة إظهارها للوقائع. لكن يظل شيء ما خفيا و مغلوطا. إذن الايديولوجيا أيا كان مستوى علميتها –تجوزا- لا يمكن إلا أن تكون مزيفة بلحاظ كاشفيتها. لكننا إذا نظرنا إليها كوظيفة و منظومة رموز محيلة على وقائع، فإنها تكون إيديولوجيا صادقة بمقدار ما تمثله من وظيفة. لا بل هي صادقة متى ما اعتبرناها مفتاحا لفهم ما تنطوي عليه في العمق من حقائق. فالايديولوجيا مهما بلغ زيفها، هي إذن صادقة في العمق، صادقة الوظيفة، و يظهر ذلك بشكل أوضح متى ما اتخذناها موضوعا "للتأويل". نفهم من ذلك، أن الايديولوجيا أيا كانت وظيفتها و حقيقتها، هي "شر لابد منه". بل هي قدر الكائن بوصفه مفكرا. و لعله من عجيب الصدف أنني اكتشفت بعد استعمالي لهذه العبارة أن الاستاذ علي حرب كان قد استعملها في مناسبة أخرى. والحق أن مثل هذا التوافق الذي يحدث كثيرا في مثل هذه الموارد يعزز قوة ومصداقية الحكم.إن هذا التعبير الذي جاء في الأثر ويقصد به ذم المرأة مع أن هذا الذم ليس فقط مناقضا للموقف الاخلاقي من المرأة ، بل هو غير ممكن ومستحيل، لأن ذم المرأة لا يتحقق إلا عبر ذم الرجل، فكان أحرى أن نتحدث عن مثالب الرجل ومثالب المرأة ، إذن ، لكان ذلك أهون إنما يلحظ في هذا التمثيل ما تملكه الأيديولوجيا من قدرة لا نهائية على فعل الغواية، وما تبديه الأيديولوجيا من استدراج وفتنة وتبرج ، يجعل الأيديولوجيين الواقعين في فخ غوايتها، في حالة من الوله والسكر والهيام.إنهم حقا في حالة المسكون بحب ليلى العذري. والحق أن أمثال هؤلاء المنخطفين بسحر الأيديولوجيا معذورون عذر هؤلاء الهائمين في سحر الغواية أو الحب العذري..قد يفيقون أحيانا وقد يوقعهم الوعي الشقي في فخ الإنتحارأحيانا أخرى . فالتعبيرأعلاه يلخص النكتة المذكورة في المقام. فحيثما استعصى الواقع و تمنع عن الظهور التام، فإن الفكر لا يسلم بهذا الانحصار، بل إنه يعوض ما تمنع من الواقع عن الظهور التام بوقائع وهمية. إن الفكر الإنساني لا يقبل بالفراغ –أو كما قيل إذا غابت الآلهة حلت الأشباح-. و إذن لا يمكننا و الحال هذه أن نتحدث عن الايديولوجيا كانعكاس تام و تمثل خالص للواقع. فمثل هذا المنظور الميتافيزيقي للايديولوجيا يجعلها معطى نهائيا غير قابل للتطور أو غير قابل للاتساع و الانكماش. في حين الايديولوجيا تتسع و تنكمش بمقدار كشفيتها للواقع أو قوة وظيفتها. إنها ليست مزيفة للواقع إلا من حيث هي ذات طبيعة تعويضية. بهذا المعنى، نستطيع الإجابة على السؤال السابق. أي الايديولوجيا كوظيفة. و هي فضلا عن ذلك تعويض عن الجهل الذي يتربص بالمعرفة، و أداة للاطمئنان. فهل يمكننا – و الحال هذه- القول بأن الايديولوجيا هي مرض اللغة !؟. لوي التوسير : الوعي المتخيل أو في البدء كانت الايديولوجيا! . القراءة الألتوسيرية للايديولوجيا، هي في الواقع قراءة التفافية من الطراز الرفيع. فلا يزال هذا الأخير يحمل التصور الماركسي القدحي التقليدي للايديولوجيا. لكأنها أشبه ما تكون بغدة سرطانية تنهك جسم المعرفة. لكن مهما كان الأمر، فإن ألتوسير لا يمكنه البتة أن يجلب الترياق للمفارقة التي وضعهم فيها ماركس بخصوص زيف الايديولوجيا و استحقاقها الاجتماعي – التاريخي. إنها و كما قلنا سابقا : "شر لابد منه"!. يتبين الموقف السلبي التهويني الالتوسيري للايديولوجيا من خلال نعته المتكرر لكثير من الاتجاهات و المذاهب الفلسفية و الفكرية بالايديولوجيا متى ما جرى الحديث عنها في سياق التشكيك في علميتها. كوصفه أفكار ماركس الشاب بالايديولوجيا. أو نعته البنيوية –التي ظلت سنده الرئيسي في أهم نقوضه على الايديولوجيا نفسها- بالايديولوجيا. ومثل ذلك قاله في حق الاتنولوجيا (=اتنولوجيا ليفي ستراوس)[14]. لكن ما يميز القراءة الألتوسيرية، هي هذه القدرة و المرونة على النقائض، ما يوحي بشجاعتها على اقتحام الممنوع و انفتاحها الإشكالي. إذا كانت الايديولوجيا عند التوسير تحمل الخصائص الماركسية التقليدية، بكونها قناعا و إضلالا و تزييفا للواقع، فلماذا كل هذا الالتفاف؟. يبدو أن التوسير أدرك عمق نفوذ الايديولوجيا و حتميتها. و بأنها بقدر ما تزيف الواقع بقدر ما تحقق وجودها كضرورة لا مفر منها فهي كالعنصر أو الهواء الذي نتنفسه[15]. نتساءل بدورنا، هل التضليل ضرورة إيديولوجية، و شرط انتهاضها بوظيفتها؟. أجل، هذا ما يؤكده ألتوسير، فالايديولوجيا هي لازمة للمجتمع الطبقي، و هي نظام من التمثلات يحظى بوجود ما و دور تاريخي معين، فلا يعقل أن يخلو منها مجتمع ما إلا إذا تعلق الأمر بمجتمع طوباوي، فحتى المجتمع الشيوعي – الذي يفترض أن تغيب عنه الطبقات- لا يمكن أن يستغني عن الايديولوجيا. قد تكون الايديولوجيا المسيطرة هي ايديولوجيا الطبقة المسيطرة. و الحقيقة أن الايديولوجيا في مثل هذه الحالة تهدف حماية مصالح هذه الطبقة و توطيد هيمنتها الدائمة. و هي في الآن نفسه مطالبة بإقناع الطبقة الأخرى بالاستمرار في خدمة مصالح الطبقة المسيطرة. إنها تمارس ضربا من الإضلال، لكنه إضلال مقنع لا يمكن للطبقة المهيمنة ذاتها أن تتحرر منه، لا بل ربما لا يمكنها أن تكذبه، لأنها أول من يصدق الأكذوبة الايديولوجية. فشرط استمرار البنية و شرط الاندماج يقوم على الايديولوجيا و يتحقق بها. إذا كانت الايديولوجيا هي من يحدد كل شيء في المجتمع و هي من ينظم و يعيد نظم الاجتماع، فأين دور "الأنا" و أي مجال سيبقى للإرادة الحرة؟. لقد التف التوسير بما فيه الكفاية على العامل الاقتصادي، بوصفه المحدد الوحيد و الأساسي للنشاط الفكري، لكي يمنح للايديولوجيا شرف الاشتراك في التحكم بالمجتمع أي باعتبارها تملك من التأثير ما يفوق بكثير المدى الذي تصوره لها أولئك الماركسيون الذين لم يتحرروا من تأثير المنظور الايديولوجي. فإنه لم يقص العامل الاقتصادي بصورة نهائية – و إلا لما كان ماركسيا- بل منحه امتيازا خاصا داخل ثلاثية الفعل المتكامل في نطاق ما أسماه Over-determination؛ حيث يخول العامل الاقتصادي امتيازا أساسيا في عملية التأثير فالعامل الاقتصادي هو الفاعل الأساسي، أي نعم، لكن تأثيره ذاك لا يتم إلا من خلال الجهاز الايديولوجي. Over-determination أو بالتعبير الفرنسي الأصلي Surdetermination. ترجمها البعض حرفيا إلى العربية ب: الحتمية المفرطة، أو بنية: البنى الكامنة، الترجمتان معا تؤديان جانبا من المعنى. فقد وجد التوسير في هذا المفهوم مندوحة للتخلص من موقفين : الأول يتعلق بالمنزع الاقتصادي للماركسية الرثة التي ترى أن العامل الوحيد المؤثر و المسؤول عن التحويل الاجتماعي، هو العامل الاقتصادي أو التناقضات الجارية = = في المستوى الاقتصادي. أما الموقف الثاني، فهو الموقف التفريطي الذي يكاد يهمل نهائيا العامل الاقتصادي في عملية التحويل هذه. فمن جهة، أعطى للجهازين السياسي والايديولوجي دورا مؤثرا إلى جانب الجهاز الاقتصادي، إذ أن كل التناقضات الجارية في البنى الأخرى، يرى ألتوسير أن عملية التحويل الاجتماعي هي نتيجة لتناقضات مختلفة. ليس فقط تناقضات اقتصادية، بل أيضا تناقضات سياسية و أيدولوجية. إذن، فما أسماه ألتوسير "Surdeterminé" يعني تداخل مجموعة مؤثرات في الحدث الواح[16]د. إذا كان التوسير كما ذكرنا قد التف بما فيه الكفاية على العامل الاقتصادي فلا نفهم من هذا الانفتاح على الايديولوجية معنى مغازلة النشاط العقلي أو مذهب الفعل، بل لم يكن ذلك الالتفاف سوى عملية معقدة لتعميق المنظور الحتمي في المجال الاجتماعي. ليس للايديولوجيا تأثير خارج الجهازين السياسي والاقتصادي. فهذا الثالوث يؤلف نسقا متعاضدا، يلعب فيه الجهاز الايديولوجي دور المنظم. يمكننا القول، بأن الايديولوجيا هي العنصر الناظم و المنظم في آن معا. ليس غريبا أن يلعب الجهاز الايديولوجي دور الناظم و المقنن للنشاط الواعي تماما، كالدور الذي حدده سيغموند فرويد ل"الأنا". فهذا ليس أنا خالصا منفكا عن الارتهان Désaliené، بل هو مرسي التوازن من أجل الاندماج. هذا التشاكل يبدو واضحا لما يستعير ألتوسير من جاك لاكان – و هو على كل حال فرويدي المنحى- مفهوم الوعي المتخيل La conscience imaginaire، ليفسر من خلاله صورة الأنا و حلول الأنا المتخيل بديلا عنها. واضح هنا التأثير الفرويدي في هذا التصور الألتوسيري للايديولوجيا. إنها نظام من التمثلات مهما بدت واعية، فهي في حقيقتها محكومة بشروط و محددات لا واعية[17]. لكننا نشعر و كأننا نحن من يتحكم بتغيير أوضاعنا في حين نحن لسنا سوى منفذين لأحكام مسبقة. إنه وعي خادع. تماما هو أشبه ب"الأنا" الخادع أو تمظهر لذات بواسطة الآخر في المرحلة المرآتية عند جاك لاكان. إن المرحلة المرآتية أو Stade du miroire، حسب جاك لاكان، هي لحظة اكتشاف الطفل صورته. هذا الاكتشاف الذي يتم بواسطة الآخر. إذن نفهم من ذلك، أن الذات عاجزة عن التعرف على صورتها إلا من خلال الآخر. مما يجعل الأنا كما يؤكد "لاكان" مرتهنة للخيال. إن الأنا يظهر من خلال الآخر، أي أن علاقته مع صورته هي علاقة مخيالية. من هنا، الأنا المتخيلة، أو الوعي المتخيل. و جدير بالذكر أن جاك لاكان قد قدم فكرته عن المرحلة المرآتية ضمن ورقة بحث في المؤتمر الدولي للتحليل النفسي- مارينباد، 1936- حيث بموجب ذلك انضم إلى هذا المجمع.[18]. يولد الإنسان إذن في عالم ملؤه الأفكار و المؤسسات الجاهزة قبل وجود هذا الأخير. إن الايديولوجيا توجد قبله من دون شك. و حين ولادته يتعين عليه التكيف مع هذا العالم و الخضوع لإشاراته و رموزه و عقائده. و يتولى الجهاز الايديولوجي مهمة تنميط الكائن و توجيهه للاندماج بصورة أتوماتيكية في النسيج الاجتماعي. إنه في أفضل حالات ابتكاره و فعله و نشاطه يتوهم أنه حر، و أنه يفكر، في حين ثمة بنية جاهزة تعبر عن نفسها من خلاله، و تظهر أناه من خلالها. يمكننا بناء على ما سبق، القول : في البدء كانت الايديولوجيا. و كما مر معنا أيضا ندرك أن التزييف لم يعد مرتبطا بالواقع (=الموضوع)، بل بالأنا أيضا ثمة إذن وظيفة إضلالية- و هي للأسف وفق هذا المنظور ضرورية - تمارس على الذات و على الموضوع و تلك هي إذن كبرى المفارقات التي أنتجها النقد الماركسي- الالتوسيري للايديولوجيا، و ذلك المرض العضال الذي لم يزل يتربص بجسم المعرفة.! في بنية الايديولوجيا : الايديولوجيا كأسطورة للمجتمع الحديث إذا كانت الايديولوجيا حقا إفرازا ضروريا للمجتمع، بها يقوم المجتمع و ينتظم و يستمر. و إذا كانت هي التعبير عن مصلحة الفئة المهيمنة في التراتبية الاجتماعية كما يقرر ماركس و يؤكد ألتوسير،[19] و إذا كانت المجتمعات لا تملك الاستغناء عنها حتى لحظة اندكاك الطبقات كما نفهم من مجازات ألتوسير، فهل يمكننا الحديث عن ايديولوجيا المجتمع الطبيعي- الموسوم في الانثربولوجيا الكلاسيكية بالمجتمع البدائي أو الوحشي-. هل يمكننا جريا على اصطلاحهم أن نفترض وجود ايديولوجيا "بدائية". يقول محمد حسين دكروب بهذا الخصوص :"نستطيع القول بصددها أن الايديولوجيا "البدائية" إذا صح التعبير، هي ايديولوجيا غير مكتوبة، إنها نص معاش و هي بهذه الصفة تحديدا عرف و تقليد" [20]. و إذا كان الجواب بالإيجاب، فأي دور و أي وظيفة تظفر بها في نسق جماعي موسوم باللاتاريخي!؟. من المؤكد أن المنظور الذي تنهض عليه القراءة ال"ستراوسية" للمجتمع الطبيعي "البدائي" و تأويله لأساطيره، لن يلقى –بأي حال من الأحوال- رضا التوسير بل سيثير اشمئزازه و حنقه تجاه ما أسماه " الايديولوجيا الإتنولوجية "Idiologie Ethnologique"[21]. إذا كانت القراءة الألتوسيرية الجارية على وفق المنظور الماركسي – أيا بلغت التفافات ألتوسير على العامل الاقتصادي- ترى في الجهاز الاقتصادي، البنية الأساسية. و أن التحولات التي تجري على المجتمع ما هي إلا تحولات في أفق التراتبية البنيانية نفسها، حيث يحتل الجهاز الاقتصادي فيها دائما و إلى الأبد العنصر الأساس، فإنها بذلك قد استبعدت إمكان قيام مجتمع تاريخي، قديما كان أم حاضرا أم آجلا، على بنية تراتبية مغايرة. لكن ما يغيض ألتوسير من هذه "الايديولوجيا الاتنولوجية" - و التي أفقدته صوابه إلى حد اتهام ستراوس بالجهل-[22] هو قناعة ليفي ستراوس بتميز المجتمع "البدائي" بنيانيا. فستراوس لا يتصور المجتمع "البدائي" مسلوبا من بنيته - و هو أحد أبرز البنيويين المعاصرين- بل قصارى ما هنالك، أنه يخالف المنظور الماركسي- الألتوسيري في تراتبية البنى الاجتماعية و ماهية "بنية البنى". إن بنية المجتمع "البدائي" هي بنية القرابة. فهذه الأخيرة حلت محل الإنتاج في المجتمع الحديث. إذا كان هناك ما يبرر حكم ستراوس الأخير، كونه اعتمد مسلك المعايشة و تأويل الأسطورة، فإن ألتوسير و بناءا على مسبقاته الماركسية في تاريخه و كونية النسق التراتبي الاجتماعي و الدور الاقتصادي المميز داخله، لن يرى في هذا الحكم سوى محاولة لاستثناء المجتمع "البدائي" من التاريخ البشري و الحكم عليه بالبدائية المطلقة ثمة بلا شك حوار طرشان.! تحت عنوان "بنية الأساطير" من كتابه "الانتربولوجيا البنيانية"، يرى ستراوس إلى أحكام من أسماهم بمؤسسي الانتربولوجيا الدينية –تايلور و فريز و دوركهايم- بقليل من الاحتفال. فأحكامهم هي متقادمة و استنادهم إلى المنظور السيكولوجي لم يكن موفقا، و ذلك لسبب آخر، كونهم ليسوا نفسانيين بالتخصص. أما ستراوس فإنه يلاحظ أن الأسطورة تهتم بأحداث الماضي و بالنشأة الأولى. ذاك القديم الذي يحضر دائما في الحاضر و المستقبل على أن أهم ما يورده ستراوس في سياق تقريبه لهذا الغموض، أنه "ليس ثمة ما هو أشبه بالفكر الأسطوري من الايديولوجيا السياسية"[23]. التقريب الذي قدمه ستراوس بهذا الصدد يتعلق بحدث تاريخي كبير؛ "الثورة الفرنسية". هذه الأخيرة بالنسبة إلى رجل السياسة أو أولئك الذي يصغون إليه – و خلافا للمؤرخ- هي حقيقة من مستوى مختلف كونها سلسلة أحداث قديمة و أيضا نظاما يساهم في تفسير البنية الاجتماعية لفرنسا المعاصرة[24]. الايديولوجيا إذن، هي أسطورة المجتمع المعاصر، فحتى و إن بدت لبعضهم أنها أسطورة وضيعة أو مرضية (=لا بلاتين)، فإنها ستظل تؤدي وظيفتها كاملة و تملأ الشغار الناجم عن غياب – أو لنقل بالأحرى تحول- الأسطورة. تؤدي الايديولوجيا وظيفة مزدوجة، ففي المنظور الألتوسيري، الايديولوجيا المهيمنة تعمل على حماية النسق و ضمان استمراريته. و طبيعي أن لهذه الوظيفة هدفين : ضمان مصلحة الفئة المهيمنة التي تعبر عن هذه الايديولوجيا، و إقناع الفئة المهيمن عليها بالقبول و الإنصياع لهذه السيطرة و أداء دورها على أفضل وجه، باعتباره يعبر عن مصلحتها أيضا. الايديولوجيا إذن، بنية تناقضية، و هذا التناقض بين الإيجاب و السلب.. الخير و الشر؛ هو في الحقيقة طبيعة في بنية الحداثة نفسها. بهذا المعنى تغدو الايديولوجيا هياما فاوستيا أشبه ما يكون ببنية أسطورية منشطرة على نفسها. تقدم الايديولوجيا نفسها بوصفها بنية منسجمة و وظيفة منطقية. لكن الوجه الآخر لها - و الذي عادة ما تفضحه ممارستها- يؤكد على أنها بنية تناقضية و وظيفة مزدوجة. ليس غريبا أن تلعب الايديولوجيا دورا تخريبيا و بنائيا في آن واحد. إن الايديولوجيا البورجوازية يمكنها أن تكون تخريبا في أوربا تسيل مداد ماركس و تذكي قريحته الثورية، لكنها –الايديولوجيا نفسها- قد تحظى بمباركة ماركس، بوصفها ايديولوجيا بناءة في آسيا أو إفريقيا. أو كما عبر عنها : "أمام انجلترا مهمة مزدوجة تنجزها في الهند. الأولى تدميرية، و الثانية توليدية، إزالة المجتمع الأسيوي القديم و وضع الأسس المادية للمجتمع الغربي في آسيا"[25]. في الحقيقة، إذا لاحظنا التشاكل الممكن الذي أقامه ستراوس بين الايديولوجيا و الأسطورة، سوف ندرك الحقيقة المزدوجة للايديولوجيا ليس فقط من حيث كونها وظيفة، بل من حيث كونها بنية على وشك الإنشطار التام. يتبين ذلك بوضوح في أفضل مثال عن أسطورة "الأرنب البري ذي الشفاه الشرماء".[26] فهو كائن مزدوج، شرير بقدر ما هو عبقري. و سنلاحظ أنها البنية ذاتها تتكرر في أسطورة فاوست الحديثة : نبل الغايات و شرانية الوسائل. الملاك و الشيطان المتعايشان داخل الذات الواحدة. التشاكل القائم إذن بين الأسطورة و الايديولوجيا يتعين أن يكون تشاكلا من جميع الجهات. فالبنية التناقضية للايديولوجيا يمكن تلمسها جليا في الأسطورة أعلاها، التي يقول عنها ستراوس : إنه أحيانا (أي الأرنب البري) معبود بالغ الحكمة يتولى مسؤولية تنظيم شؤون الكون و هو أحيانا أخرى مهرج مضحك ينتقل من حظ عاثر إلى آخر"[27]. و بما أن التوأمين (الطيب و الشرير) لم ينقسما نهائيا، فالسمتان ستظلان ثاويتين معا في الشخص الواحد"[28]. لم يقف التشابه عند ستراوس بين الأسطورة و الايديولوجيا السياسية من حيث " الوظيفة"، فقد أقام تشاكلا بينها و بين "الموسيقى" من حيث "البنية". إذا كان الجامع بين الأسطورة و الايديولوجيا – بلحاظ الوظيفة- هو التماسك و الاندماج الجماعي، فإن الجامع بين الأسطورة و الموسيقى –بلحاظ البنية- هو المعنى الكلياني. يقول ليفي ستراوس بهذا الصدد : "علينا بالتالي قراءة الأسطورة و كأننا بهذا القدر أو ذاك نقرأ نص أوركسترا. فلا ندركه مقطعا بعد آخر، بل صفحة كلية بعد صفحة (...) علينا ألا نقرأ من اليسار إلى اليمين، بل نقرأ عموديا في الوقت ذاته، من الأعلى إلى الأسفل. ينبغي أن نفهم كيف تشكل الصفحة الواحدة مجموعا كليا. و بدون معاملة الأسطورة كنص أوركسترالي – يكتب مقطعا إثر آخر- لن يكون في وسعنا فهمها كمجموع كلي و استخلاص معناها"[29]. إذا كان الصوت و المعنى – كما يقرر دوسوسور و يؤكد جاكبسون – هما قوام اللغة، فإن الأسطورة ظاهرة لغوية بامتياز. لا بل إنها كاللاشعور مبنية على شاكلة اللغة. أو ربما ذهبنا بعيدا مع لاكان فاعتبرنا كل ما هو بنيوي هو لغة من حيث أن "لابنية إلا للغة أو باللغة" (=لاكان)[30]. فسندرك لا محالة بأن المقومين معا (=الصوت و المعنى) حاضران في الأسطورة و الموسيقى. و الفارق فقط من وجهة نظر ليفي ستراوس هو في درجة التكثيف. حيث يتكثف المعنى في الأسطورة بقدر ما يتكثف الصوت في الموسيقى. إذا أخذنا بعين الإعتبار هذا التشاكل الكبيربين البنيتين، استنتجنا تشاكلا آخر بالتلازم، بين الايديولوجيا و الموسيقى من حيث البنية. لكن ما درجة التكثيف إذن، إن نحن سلمنا بوجود المقومين معا (=الصوت و المعنى=) في الايديولوجيا، من حيث هي مبنينة على شاكلة اللغة، إذا كان التكثيف المعنوي في الأسطورة هو مناط تميزها عن الموسيقى ذات التكثيف الصوتي، فما الذي يتكثف في الايديولوجيا، الصوت أم المعنى، أم أنهما يبرزان على قدر سواء؟ الايديولوجيا في "منظورية" كارل مانهايم يدرك بول ريكور خطورة المغامرة التي يخوضها و هو يسعى لوضع حل للمشكل الايديولوجي، مع احتفاظه بالمنظور التهويني ذاته للايديولوجيا و طبيعتها الإضلالية. و بتأثير من كارل مانهايم يسعى ريكور إلى تركيز نظره على الوظيفة الحقيقية للايديولوجيا. أجل، إن قراءة ريكور هي في الحقيقة قراءة منوعة و مزيدة في الآن نفسه على منظور كارل مانهايم، كما لخصها هذا الأخير بوضوح في أشهر كتبه "الايديولوجيا و الطوبا". تأخذ الايديولوجيا عند مانهايم – الذي استصحب إلى حد ما الإرث الماركسي- معنيين : - المعنى الكلي (=الايديولوجيا الكلية) و هو يتعلق بالنسق الفكري في كليته و علاقته بالوضع الاجتماعي. أو بتعبيره هو : "البنية العامة لروح حقبة تاريخية أو طبقة اجتماعية"[31]. - المعنى الخاص (=الايديولوجيا الجزئية)؛ " التي تنطبق على بعض مزاعم الخصوم و تطرح مشكلا سيكولوجيا"[32] أو "المنظومات الفكرية الفعالة في الميدان السياسي"[33]. يشير جورج غورفيتش إلى أهم المؤاخذات على نظرية مانهايم المعرفية كالآتي : -1أنها بقيت نظرية أسيرة ابتسارات تزعم أن كل أفق سوسيولوجي من شأنه أن ينال من صلاحية المعرفة ذاتها. -2 تتسم نظريته بهيمنة المسألة الايديولوجية. -3يعتبر أن النخبة المثقفة خليقة بإلغاء المفاعيل الاجتماعية للمعرفة. -4حصره الأنواع المعرفية بالمعرفة السياسية المشدودة بدورها إلى المعرفة الفلسفية[34]. لكن ما يبدو هنا، أن كارل مانهايم يملك دفع هذه الملاحظات بمبررات أقرب إلى الوجدان من هذه الاستشكالات، لسبب بسيط، وهو أنه انطلق منها كإشكاليات حاضرة في تحليله للمشكل الايديولوجي. لا ينفي مانهايم وجود ذلك المائز الظاهري ما بين الايديولوجيا و الطوبا حتى لو سلم بأنهما معا تشتركان في مجاوزة الواقع أو عدم امتلاكه. فبينما الايديولوجيا – في نظر خصومها- هي وعد بالمستحيل (=وعد باللاواقع المتوقع). هكذا، إذا كانت الليبرالية –كايديولوجيا في نظر الاشتراكيين- تناقض منطق التطور، فإن الاشتراكية –كطوبا في نظر الليبراليين- تناقض منطق الحاضر بمجاوزة الواقع. التهمتان معا صحيحتان، و لإيجاد تفسير لهذه المفارقة، حتى لا تكون الايديولوجيا و الطوبا معا ينطويان على معايير ذاتية للترجيح، لا مناص من الاستسلام للمنظور النسبوي. و الحق، أن مانهايم سوف يقلب المعادلة، ليقيم فكرته على أساس نسبي يقوم على المنظور و ليس العكس. لذا أسمى منحاه ب : المنظورية perspectivisme. متفاديا بذلك تهمة "النسبوية" – التي مع ذلك اتهم بها كما رأينا- المنظورية تختلف عن النسبية في نظر مانهايم، لأن هذه الأخيرة فيها شيء من الميل إلى الاعتقاد بالحقيقة المطلقة. في حين يقوم المنظور على أساس استحالة امتلاك هذه الحقيقة. و بناءا عليه، فإن الايديولوجيا و الطوبا كليهما صفتان ممكنتان لكل نظام فكري بحسب وضعه التاريخي و إطاره الاجتماعي. ليست الايديولوجيا أو الطوبا إذن صفتين مطلقتين، بل هما صفتان ممكنتان، قد تخلعا على النظام الفكري الواحد، لكن في أطوار تاريخية و أوضاع اجتماعية مختلفة. و عليه، ليس ثمة مائز حقيقي للايديولوجيا عن الطوبا في هذا المنظور "المنظوري" عند مانهايم إزاء الواقع سوى ما يفرضه وضعهما التاريخي و الاجتماعي. و لكنهما معا يظلان يمثلان وعيا مغشوشا للواقع. إن "المنظورية" في رأي مانهايم – خلافا للنسبوية- كفيلة بأن تقيم العلم في المجال الاجتماعي. فالنزعة الديمقراطية الشديدة عند مانهايم، هي ما دفعه للاستعاضة بالمنظورية عن النسبية، باعتبار تلك أساس تحرر الإنسان. من هنا دور النخبة المثقفة التحررية القادرة على التحرر من الأطر الاجتماعية للمعرفة[35]. و القادرة على ممارسة النقد – لنقل بتعبيرنا- النقد المزدوج الذي بقدر ما يستفيد من النقد البيني لمختلف المنظومات الفكرية، فإنه لا يتقيد ببداهاتها باعتبار أن كل تلك البداهات و الأطر هي عارضة على الواقع، بوصفه متغيرا. و المعرفة الموضوعية إذن تتجلى في عملية إدراك هذه النظم المعرفية بوصفها محددات آنية. فهي في ذاتها تحظى بالقدر ذاته من الانسجام الداخلي. لكن قيمتها النهائية ليست في مدى مطابقتها للواقع، بل بلحظتها التاريخية و وضعها الاجتماعي و عليه، فإن موقف مانهايم من الايديولوجيا – و إن كان يحمل أختاما هيغلية و ماركسية إلى حد ما- إلا أنه يختلف بشكل لافت للنظر مع وثوقيتهما. فنزعته الديمقراطية ستدفعه للاعتقاد بأهمية علم السياسة بالنسبة للنخبة المثقفة المتحررة، للذود عن الديمقراطية الاجتماعية[36]. فلم تعد الايديولوجيا هي البؤرة المهيمنة على نظرية مانهايم، حيث أصبحت أرضية إقلاع مناسبة لعلم اجتماعيات الثقافة، بل سوف تكون بؤرة للعلوم السياسية أيضا. مع بول ريكور : الايديولوجيا من منظور أنطولوجي .! بناء عليه، نستطيع استيعاب القراءة الجديدة التي ستنهض على هذا المنظور المانهايمي، أقصد المعالجة التي قدمها بول ريكور ضمن قراءة متعددة الأبعاد. لقد وسع مانهايم من مفهوم الايديولوجيا و عمل على تضخيمه ليجعل منه البؤرة الإشكالية في اجتماعيات الثقافة و علم السياسة. ليس ثمة فكر خارج عن قانون "المنظورية". ما يجعل الأفكار عموما واقعة في مأزق "الزيف" الايديولوجي مهما اكتسبت هذه الأخيرة من استحقاقات وظيفية تاريخية و اجتماعية. و بناءا عليه، لا ينوي ريكور إعادة النظر في حقيقة الايديولوجيا من حيث أنها إضلالية بلحاظ علاقتها بالواقع الذي تزعم التعبير عنه –و ليس بلحاظ تكوينها الداخلي أو معيارها الذاتي- فما هو مهم بالنسبة إلى ريكور في منظورية مانهايم، هي تلك الصفة التي يتعين أن يتحلى بها المثقف الحر أو الانتلجونسيا المتحررة من ضغوط الأطر الاجتماعية للمعرفة و محدداتها. طبعا لن يكون في وسع ريكور الاقتناع بالموضوعية المطلقة، لكنه سيحاول أن يفهم الايديولوجيا من خلال زوايا متعددة، التحرر الممكن الذي يجعل الانتلجونسيا قادرة على الإمساك بالواقع الموضوعي، ليس من حيث كون الايديولوجيا انعكاسا له أو تعبيرا عن أشيائه، بل بوصفها هي نفسها – لو صح قولنا- حدثا واقعا. و هذا لا يعدم أن تكون الايديولوجيا – إذا اعتبرناها نصا- لها أشياءها و تلك مقايسة منا على موقف ريكور نفسه من النص. النص الذي يملك خاصية الانفكاك و إعادة الانبناء. أي إمكانية تجدد التناص بناءا عليه، يصبح للنص عالمه الآخر خارج القصود و التمثلات. بل يصبح له أشياءه les choses du texte،[37] التي يتعين الالتفات إليها. هذا الموقف الريكوري من النص يحضر بشكل أو بآخر في موقفه من الايديولوجيا- إذا سلمنا بكونها نصا مفتوحا له عالمه المختلف و أشياءه الممكنة- كمعطى يتيعن النظر إليه من زوايا مختلفة. تطمح هذه المقاربة للايديولوجيا إلى تحرير المقاربة الماركسية نفسها من الحصر الذي آلت إليه. فالمفهوم الماركسي للايديولوجيا لم يقطع نهائيا مع الثنائيات المفهومية الميتافيزيقية من قبيل النظرية و الممارسة أو الواقع و المتخيل. و هذه العملية – تحرير المفهوم من هذا الحصر- لا يتم إلا عبر إيجاد مفهوم ثالث، أي الوسيط الرمزي، الثاوي في الفعل الانساني، الذي هو خليط من التمثل و الخيال. فالجماعة التاريخية حينما تكون صورة عن نفسها، فهي تعي وجودها عبر هذه التمثلات، التي يلعب فيها المخيال الجماعي دورا كبيرا. هذا المخيال الجماعي ذي النشاط المكثف و المزدوج فهو تارة يحيل على البنية التناقضية للجماعة التاريخية، و تارة أخرى يحيل على الهوية الجماعية المنسجمة. أي، تارة يعمل بصورة مساوقة للايديولوجيا، و تارة يعمل بصورة مساوقة، للطوبا. لكن أيا كان الأمر، فالمنظور التأويلي عند ريكور لا يرى في هذه الصورة سوى تأويل مستمر للحدث أو جملة الأحداث المؤسسة لهوية الجماعة التاريخية. من هنا تغدو الايديولوجيا نفسها تأويلا. إن لها وظيفة استحضار و نمذجة الحدث – فهي بهذا المعنى مشروع ارتجاع تأويلي- و وصل للذاكرة الجماعية بالحدث المستعاد تأويلا. إن عملية استحضار الحدث المؤسس و استصحاب فعاليته، هو ما يمكن الجماعة التاريخية من الاندماج و استمرارية هويتها. من هنا تبرز أهمية الوظيفة الايديولوجية من حيث هي ذاك الوسيط الرمزي الذي تتم من خلاله عملية الإدماج. حضور الحدث ايديولوجيا[38] في الوعي كفيل بتعيين النسق و حفظ انسجامه. ثمة في منظور ريكور ثلاث وظائف للايديولوجيا : إدماجية و تبريرية و تزييفية. إذا كانت الايديولوجيا حقا مثلت ذلك الوسيط الرمزي المسؤول عن وظيفة دمج الجماعة في هويتها التاريخية و شرعنة وجودها على وفق هذه الصورة، فإن ثمة وظيفة ثالثة محايثة، هي الجانب غير السوي – المرضي- الملازم للوظيفتين : الإدماجية و التبريرية. هذا الوجه الإضلالي الملازم، بل المحايث للوظيفتين، هو ما يدفع بعملية الخداع إلى ما لا نهاية. ما يجعل الايديولوجيا ذاتها سلطة لا نقدية[39]. و ذلك حقا، ما يجعلها منظومة معلقة و جامدة. إن الايديولوجيا بناءا على ما سلف، ستسقط لا محالة في فخ الهيمنة و تصبح هذه الأخيرة أداة فرضها. مع ريكور سيتضح إلى حد ما المائز الوظيفي لكل من الايديولوجيا و الطوبا، كما أشار إلى ذلك أيضا كارل مانهايم كما أسلفنا ذلك لأن الايديولوجيا سيؤول أمرها إلى تحديد مساحة مقننة للإرغام الفكري، يلعب فيها الخداع دورا بارزا. و ذلك استنادا إلى سلطة الإقناع و سلطة الواقع الاجتماعي القائم. في حين تبدو الطوبا ثورة و تهديدا للأوضاع القائمة. إن وجودها في الحقل ذاته الذي تهيمن عليه سلطة الايديولوجيا و في ظل إكراهات الأطر الاجتماعية، يجعلها حقا، تمثل تمردا يذكي حلم كيانات مغلقة على كبوتات و إرغامات، الأمر الذي يؤدي إلى قيام خطاب عنفي و دموي[40]. ثمة ما يرفضه ريكور في "منظورية" مانهايم، و هو تلك الطوبا الحالمة التي أحاط بها هذا الأخير تصوره لوضعية الانتليجونسيا المتحررة من إكراهات الوضع الاجتماعية و محددات الايديولوجيا المعبر عنه. و مع إدراك هذا الأخير للمشكل الايديولوجي من الناحية الابستمولوجية، حيث تعميمها على مطلق الأفكار، قد يسحب من تحت أقدامنا كل أرضية صلبة ممكنة للنظر الموضوعي و المتحرر إلى الايديولوجيا. إنه من هذه الناحية لا يوافق على إمكانية النقد الجذري[41]. لكنه في الوقت ذاته لن يقبل بالنسبة المطلقة أو ما يمكننا نعته ب "استحالة العلم". فمع تسليمنا بالتناهي الأنطلوجي –الهيدغيري- لأن ريكور يرى ضرورة أن يدخل هذا التناهي في صميم بناء المعرفة الاجتماعية، و أن لا يكون عائقا معرفيا. و هذا كفيل بطرد المحدد الوضعاني لمفهوم العلم – في المجال الاجتماعي- ما يؤدي إلى إمكانية العلم- ضمن حدود التناهي- كشرط أنطولوجي- بعيدا عن ادعاء الإحاطة المطلقة و النقد الجذري و بعيدا عن سد الطريق أمام المعرفة و الاستسلام إلى دعوة استحالة العلم. إنه تأسيس فقط لإمكان المعرفة التقريبية. فذلك هو المخرج الممكن للمعرفة بناءا على الإمكان الانطولوجي نفسه من حيث هو إمكان متناهي. لقد استطاع ريكور حقا، أن يتفادى مأزق الايديولوجيا، و تحديد إشكالية الوظيفة الإضلالية لها. متوسلا بالمحدد الانطولوجي، ليجعل بذلك النقد الايديولوجي رهين النقد الانطولوجي. لكن، ترى إلى أي حد استطاع ريكور التحرر من شيطان الايديولوجيا و خداعها. وإلى أي حد يمكننا اعتبار المحدد الأنطولوجي الهيدغيري نفسه واقعا خارج نطاق خداع الايديولوجيا و معافى من مرضها المزمن !؟. يمكننا، بعد هذه الجولة المقتضبة حول وجهات النظر المختلفة بخصوص الايديولوجيا كمفهوم و وظيفة و أهم الإشكالات التي يطرحها النقد الأيديولوجي، أن نخرج بخلاصة مفادها التالي : أن للايديولوجيا وظيفة تؤديها على وجه الضرورة. أن للايديولوجيا علاقة بالأطر الاجتماعية للمعرفة. أن زيف الايديولوجيا هو الوجه المرضي من وظائفها. كونه يمثل الوجه المرضي من وظائفها، لا يعني إمكانية استئصاله، طالما أن الوظيفة الإضلالية للايديولوجيا محايثة لوظيفتها : الإدماجية و التبريرية. ينتج عن شمول الايديولوجيا لكل أشكال التفكير الممكنة، إشكالية زيف المعرفة و استحالة النقد الجذري. و النتيجة : استفحال الاضطراب المعرفي و سريان القلق الفكري. تشكل الأفكار الحالمة-الطوباوية- إزعاجا و تهديدا للمجال المهيمن عليه إيديولوجيا. و النتيجة، أن تعلق المجتمع المقموع بهذا الحلم يوشك أن يربك الواقع الاجتماعي بخطاب عنفي أو دموي. إن الحديث عن علم مناضل و علم بورجوازي مقابله كما ذهب لينين يجعل من النقد الايديولوجي الماركسي- كما يذهب ريكور- مجرد أيديولوجيا. فنخلص أخيرا إلى التساؤل التالي: إذا كانت الأيديولوجيا لازمة الفكر. وإذا كان الضلال جزء من وظيفتها؛ أي أن قدر الفكر البشري أن يكون ضلاليا. فمن يصون الحقيقة ياترى. وهل يمكننا اعتبار ذلك أسد الأدلة على حاجة البشر إلى معيار لتصحيح الفكر من خطر السقوط في الضلال الملازم واللابدي للفكر الانساني؟ وهل يمكن القول، أن نقد الايديولوجيا كان قد قدم دليلا غير مباشر على ضرورة الوظيفة الإرشادية للوحي في قبال الوظيفة الإضلالية للأيديولوجيا؟ لكن يبقى مع ذلك السؤال مفتوحا : هل المقصود بذلك : الوحي في نفس الأمر ، أم أن الأمر يتعلق بالخطاب الوحياني، أعني مجمل الأفكار التي كونها المؤمنون حول الوحي. أليس ما يبدو خطابا وحيانيا هو نفسه ملحق بالخطاب الأيديولوجي ؟! بل لعل الأيديولوجيات البشرية الوحيانية هي أكثرإضلالا من حيث تدرعها بسلطة الوحي ووظيفته. لذا توجب إخضاعها للنقد المستدام . ثم هل ارتفع إيقاع الفكر العربي والإسلامي المعاصر إلى مستوى هذا التحدي؟! تلك تساؤلات تفرض على العقل العربي والفكر الإسلامي المعاصر مزيدا من العمق وكثيرا من الأناة وقليلا من التسرع في بناء الأحكام. لا سيما لما ندرك أننا جئنا إلى عالم متخم بالغواية الأيديولوجية. فليس من المبالغة في شيء، إن قلنا أننا غارقون حتى الأذقان في بحر من الأيديولوجيا. فالأيديولوجيا وجدت قبلنا وستبقى بعدنا.إن قصة الإنسان الحر ، هي قصة صمود في وجه الغواية الأيديولوجية. بل ، هي قصة غرام بين الفكر والأيديولوجيا، ينجح أحيانا و ينتهي إلى الفشل أحيانا أخرى.فمن ينقد الكائن من سكرات الأيديولوجيا؟ أم أن الحل في أن لا يفكر الكائن.حيث كلما فكر، فكر أيديولوجيا. أليس ذلك يكفي لأن نقول إن الإنسان كائن أيديولوجي خطاء؟! [email protected] mailto:[email protected] أنقر هنا للاطلاع على هوامش الموضوع http://www.hespress.com/?browser=view&EgyxpID=19061